نقوس المهدي
كاتب
ظهراً كان الوقت ، ومن الباحة الخارجية لمقهى " ديلا بايكس " كنتٌ أتخذٌ مجلساً ، أتابع حركة الحياة الباريسية بأبهتها ، ورثاثتها ، مندهشاً بتأثير ما تناولت من شراب لرؤية المشاهد الغريبة للكبرياء ، والفقر علىَ السواء يمرّان من أمامي عندما سمعت من يناديني باسمي .. استدرت ! فإذا بي أشاهد السيد " ما شيسون " .
لقد مرّ ما يقرب من عشر سنوات علىَ فراقنا منذ أن كنا صديقين تجمعنا الدراسة بكليةٍ واحدة في جامعة أكسفورد .. ولشدّ سروري لمشاهدته مددتٌ يدي مصافحاً ، مصافحاً بحرارة وود ..لقد كنا متقاربين في الطول والضخامة ، لكنه كان أكثر وسامة ، وذا معنويات عالية ، وجديراً بالاحترام .. تنبأنا آنذاك بأنه سيصبح شخصية مرموقة في المستقبل إن كف ّ قليلاً عن المبالغة والكذب ، بيدَ أننا كنا معجبين به ومأخوذين بالصراحة الفائقة التي يتمتع بها .
في هذا اللقاء ؛ وبعد هذا الزمن الطويل من الفراق ألفيته مختلفاً ، إذْ بدا لي قلقاً ومرتبكاً كأن شيئاً ما يجعله مرتاباً ومتشككاً .. لم يقفز إلى ظني فعل السياسة التي ربمّا تكون أثرت به إنما خمَنّت السبب إمرأة ما ، لهذا سألته في ما إذا كان متزوجاً أم ما زال أعزبَ ..
•- لم أفهم المرأة فهماً كافياً لحد الآن .
•- يا عزيزي جيرالد - أجبته - المرأة التي نعنيها هي التي تُحَبٌّ لا التي تٌفهَمٌ .
•- لا يمكن أن أحب ما لم أثق .
•- أظنّ أن غموضاً ما في حياتك ، يا جيرالد - قلتٌ مندهشاً - أُفضي بما لديك .
•- دعنا نذهب في جولةٍ فالازدحام شديد هنا - هيا ..
نهضنا وخرجنا .. وسمعته يقول :
_ دع تلك العربة الصفراء ، لنستأجر أية عربة أخرى .. لتكن الخضراء الداكنة تلك ..
بدقائق كنا نتخذ درباً باتجاه " المادلاين " .
•- إلى أين سنذهب ؟ .. سألته
•- إلى أي مكان تفضِّله .. إلى المطعم في " بويس " سنتعشىَ هناك وتحكي لي عن نفسك .
•- أريد أن أسمع منك أولاً - قلت ٌ - أفصح عمّا تحتفظ به .
لحظتها أخرج حافظةً صغيرة ، إستلّها من جيبه ، قدّمها لي .. من داخلها أظهرتُ صورةً لأمرأةٍ طويلة القوام ، نحيلة ، شعرها طليق وعيناها كبيرتان تضمران شيئاً ما مبهماً .
•- ما رأيك بهكذا وجه ؟ ..سألني ، ثم أكمل : " أتراه يبعث علىَ الثقة ؟ "
شرعتُ أتفحصه باهتمام فبدا لي كأنه وجهٌ لمخلوقٍ يخفي سرّاً كبيراً ، لا أستطيع التكهّن إن كان شرّاً أم خيراً .. فالابتسامة الباهتة المتراقصة عبر الشفتين رغم رقِّتها لا تشي بعذوبة حقيقية .
•- حسناً ! صرخ نافذ الصبر " ما رأيك ؟ "
•- لها ابتسامة تضمر شيئاً مخيفاً .. هذا رأي فافصِح بما لديك عنها .
•- ليس الآن ، إترك ذلك لما بعد العشاء .
بعدما قدّم النادل القهوة وما طلبنا من سكائر توجهت لجيرالد ليتحدث عما وعدني به .. نهض ؛ خطا ذارعاً الغرفة جيئة وذهابا ، ثم عاد إلى كرسيه يغوص فيه ليبدأ الحكاية التالية :
في أحد المساءات ، كعادتي كنت أتمشىَ راجلاً في شارع " بوند " كان الوقت يقرب من الخامسة عصراً عندما حدث اصطدام مروري لعربتين سببَّ توقفاً لحركة السير .. بجوار خطوط عبور المشاة ثمة عربة صفراء صغيرة تقف لا أدري لماذا استرعت انتباهي . وفيما كنت أخطو عابراً تصالبت نظراتي على الوجه الذي عرضته عليك في الصورة.. لم أتمكن من نسيانه ، فقد تمرّكز في الذاكرة ورحتُ تلك الليلة أفكر فيه . استطال هذا التفكير إلى اليوم التالي ، ما جعلني أتجولٌ باحثاً في الطرقات لعليّ ألمح العربة الصفراء مارقة أو متوقفة ؛ لكن الخيبة كانت نهاية مطافاتي .. فإستسلمتٌ إلى اعتقاد أن ما رأيت لم يكن إلاّ حلماً مرّ وانقضىَ .
بعد أسبوع تلقيتٌ دعوةً من السيدة " دي لاستيل " لتناول العشاء في بيتها .. ! استقبلتني في الساعة الثامنة مساءً ، مكثنا حتىَ الثامنة والنصف منتظرين تقديم العشاء .. أخيراً دخل علينا الخادم معلناً وصول السيدة " آلروي " .
وكانت المفاجأة الصاعقة فقد دخلت علينا من كنت أبحث عنها .. وكان الحظ ضاحكاً معي إذ طُلِبَ مني مصاحبتها للعشاء ، رفيقان يجلسان متقابلين ...
بعد الانتهاء توجهت بكلام تملأه البراءة : اعتقد أنني شاهدتكِ في شارع " بوند " قبل أيام ، يا سيدة " آلروي.. "بغتة إمتقع وجهُها وشحِب .. وبصوتٍ هامس خفيض ردّت :
- لا تتكلم بصوتٍ مسموع ، أرجوك ، قد يسمعك الآخرون .
طوقتني التعاسة .. سريعاً نفذَت إلى داخلي .. يالها من بداية مُحبطة ، ولتدارك الأمر رفعتُ صوتي محاولاً التحدُّث عن مسرحيات فرنسية إظهاراً لعمومية الكلام ، كانَ حديثُها مقتضباً تُظهر خوفَ استماع الآخرين لنا .. تلك اللحظة قادني الغباء للوقوع في حبّها ؛ زاد من ذلك طبيعة الغموض الذي يلف شخصيتها .. وقبل أن تبرح المكان عرضتُ عليها رغبة اللقاء ثانية ، ترددّت للحظةٍ تاركةً نظراتها تتجوّل بارتياب قبل أن تقول " نعم " غداً في الخامسة إلاّ ربعاً .
آن خرجتْ اتجهتُ إلى السيدة " دي لاستيل " أسالها عمّا تعرف عن السيدة " آلروي " فأعلمتني بأنها أرملة تمتلك بيتاً جميلاً في " بارك لين " .
في اليوم التالي ، وفي الوقت المحدد وصلتُ فلم أجدها . قيلَ لي خرَجتْ ، ذلك ما أشعرني بالأسى وأربكني .. توجهتٌ إلى النادي .. وهناك كتبتُ لها رسالة أُجدد رغبتي في زيارتها ، طالباً موعدأً آخر ، لكنّي لم أتلقَّ رداً رغم الأيام العديدة التي مرّت .. وفي يومٍ وردتني ملاحظة بأنها ستكون في البيت يوم الأحد الساعة الرابعة ؛ مع فائق الشكر والتقدير خاتمة معبرة ، تقول " الرجاء لا تكتب لي علىَ محل سكني ، وسوف أشرح لك عندما نلتقي ."
ذلك الأحد الجميل استقبلتني .. ودودةً كانت وبجمالٍ أخّاذ .. وعندما ودّعتها خارجاً تمنّتْ أن أُعنون رسالتي القادمة إلى " السيدة فوكس " ، مديرة مكتبة ويتاكرز " في " كرين ستريت " قالت ثمة أسباب تدفعني إلى عدم إستلام أية رسالة في بيتي . "
مرّ فصلٌ كاملٍ كانت علاقتي بها رائعة ، لم أرَ منها غير المعاملة اللطيفة ، بيد أنَّ جوَّ الغموض ظل ملازماً لشخصيتها ؛ وكثيراً ما راودني اعتقاد وقوعها تحت سطوةِ رجلٍ ما ، غير أن هذا الاعتقاد سرعان ما كان يتبدّد ، وكان صعباً عليّ الوصول إلى استنتاج قاطع بشأنها لهذا قررتٌ مفاتحتها ، عارضاً طلبي في الاقتران بها ، شارحاً تقهقري وتدهور صحتي من هذه العلاقة السرّية اللامنتهية ، فكتبت لها رسالة أعرض رغبتي بلقائها الاثنين القادم ، في الساعة السادسة .. أجابتني بالإيجاب ، وقتها طرتُ إلى السماء السابعة للبهجة .. لقد أحببتها بحق ؛ لكنّ الغموض هو ما كان يربكني ، بل يدنيني من الجنون .. ولقد حالفني الحظ لمرةٍ .
•- واكتشفت السرّ ؟ .. قلت مندفعاً .
•- بل أخافني .. ولك أن تحكم علىَ ذلك بنفسك .
ذلك الاثنين القادم لبّيتُ دعوةً وجّهها لي عميّ لتناول الغداء معه ، وعميّ كما تعلم يسكن في " ريجنت بارك " .. ولكي أختصر الطريق للوصول إلى شارع " بيكادليّ " سلكت شوارع فرعية متواضعة الحال والسمعة .. وهناك كانت المفاجأة .. إذ لمحتٌ السيدة " آلروي " تخطو مُسرعةً وقد وضعت علىَ وجهها خماراً لإخفاء ملامحها ؛ حتىَ إذا وصًلَت آخر بيتٍ ارتقت درجاته المعدودات ، مستخرجةً مفتاحاً ألقمته الباب ودخلتْ .
هنا يكمن السر قلت في سرّي " أسرعتٌ متفحصاً البيت ، كان بيتاً من تلك البيوت المؤثثة والمعدّة للتأجير المؤقت .. وعلىَ إحدى درجات السلم شاهدت منديلها الذي سقط منها .. إلتقطته دسسته في جيبي ، ثم رحت أفكر كيف ساتصرّف .. توجهتٌ إلىَ النادي ، وفي الساعة السادسة طلبتٌ ملاقاتها .
مُضطجعة علىَ الاريكة أبصرتها ، ترتدي فستاناً جميلاً يجسّد جمالها الباذخ : " مسرورةٌ جداً للقائِك "، قالت - " لم أبرح البيت طوال اليوم "
حدّقت بها مندهشاً ، تلك اللحظة سحبتُ منديلها من جيبي وعرضته إزاءها .
•- خذي سقطَ منك في " كومر ستريت " هذه الظهيرة ، ياسيدة آلروي ..خاطبتُها برباطة ِجأشٍ .
تطلّعت إليَّ مرتعبةً ، ولم تمد يدها لاستلامه .
•- ماذا كنتِ تفعلين هناك ؟ .. سألتها .
•- بأيّ حقّ تسالني ؟.
•- بحقّ الرجل الذي أحبَّكِ .. جئتُ إلى هنا لأعرض عليك رغبتي في الأقتران بكِ .
أخفّت وجهها بكفّيها وانفجرت بالبكاء .
•- يجب أن تردّي علىَ تساؤلي ؟
نهضَت .. تطلعت في وجهي قبل أن تقول :
•- ياسيد مارشيسون ، لا شيْ أخبركَ به .
•- هل ذهبتِ لتلتقي شخصاً ما ؟ صرختُ " ذلك هو الغموض الذي تتخفيّن وراءه ؛ أليس كذلك ؟
شحبَ وجهها وأصفر .
•- لم أذهب لأقابل أحداً .
•- "إنطقي بالحقيقة إن استطعتِ ".. صرختُ بها .
•- لقد قلتها .
تلك اللحظة كنت تحت سطوة الجنون ، لا أعرف ما فهت به ، لكني متأكد قلت عنها ولها الكثير ثم أندفعت تاركاً البيت .. في اليوم التالي بعثَت لي رسالة ورددتُ عليها بجوابٍ مغلق ، سافرتُ بعدها إلى " النرويج " ، وعدتٌ بعد شهر .. أول شيء قرأته في صحف باريس هو خبر موت السيدة " آلروي " بعدما أصيبت بنزلة برد أثناء حضورها حفلة الأوبرا ، وماتت في غضون خمسة أيام .. أغلقتٌ كلّ شيء على نفسي ولم ألتقِ أحداً .. لقد أحببتها بولهٍ كبير ، ، بل أحببتها بجنون .. " نعم " سمعته يقول " في أحد الأيام ذهبتُ إلىَ " كومر ستريت " إلىَ ذلك البيت .. طرقتُ الباب ففتحته إمرأة ذات مظهرٍ يبعث علىَ الاحترام .. أخبرتني أنَّ غرف الاستقبال مؤجرّة لإمرأةٍ " لم أرها منذ ثلاثة أشهر "
•- هل هذه هي ؟ .. أظهرتُ الصورةَ أمامها .
•- نعم ، يا سيدي ! .. قالت " متىَ ستعود ؟ "
•- لن تعود أبداً .. لقد ماتت .. هل كانت تلتقي شخصا ما عندما تجِيء إلى هنا ؟
طمأنتني المرأةُ قائلةً :
•- كانت تأتي بكلّ بساطةٍ إلى غرفة الاستقبال تجلس تقرأ كتباً ، وفي بعض الأحيان تتناول الشاي وتبرح المكان .
أعطيتها بعض النقود وخرجت ..
•- والآن ماذا يعني لك كلّ ذلك ؟ .. ألا تعتقد أن المرأة صادقة ؟
•- بلىَ .
•- إذاً لماذا كانت السيدة " آلروي " تذهب إلى هناك ؟
•- عزيزي جيرالد - قلتُ - ببساطةٍ ، كانت السيدة آلروي مولعة برغبة أن تبدو غامضة .. وما استئجارها الغرفة إلاّ لغرض تحقيق سعادةٍ ، بذهابها إلى هناك متبرقعةً بخمارٍ ومتخيّلةً نفسها بطلةً .. لكنها في الواقع مثل " أبو الهول ".. بلا سر .
لقد مرّ ما يقرب من عشر سنوات علىَ فراقنا منذ أن كنا صديقين تجمعنا الدراسة بكليةٍ واحدة في جامعة أكسفورد .. ولشدّ سروري لمشاهدته مددتٌ يدي مصافحاً ، مصافحاً بحرارة وود ..لقد كنا متقاربين في الطول والضخامة ، لكنه كان أكثر وسامة ، وذا معنويات عالية ، وجديراً بالاحترام .. تنبأنا آنذاك بأنه سيصبح شخصية مرموقة في المستقبل إن كف ّ قليلاً عن المبالغة والكذب ، بيدَ أننا كنا معجبين به ومأخوذين بالصراحة الفائقة التي يتمتع بها .
في هذا اللقاء ؛ وبعد هذا الزمن الطويل من الفراق ألفيته مختلفاً ، إذْ بدا لي قلقاً ومرتبكاً كأن شيئاً ما يجعله مرتاباً ومتشككاً .. لم يقفز إلى ظني فعل السياسة التي ربمّا تكون أثرت به إنما خمَنّت السبب إمرأة ما ، لهذا سألته في ما إذا كان متزوجاً أم ما زال أعزبَ ..
•- لم أفهم المرأة فهماً كافياً لحد الآن .
•- يا عزيزي جيرالد - أجبته - المرأة التي نعنيها هي التي تُحَبٌّ لا التي تٌفهَمٌ .
•- لا يمكن أن أحب ما لم أثق .
•- أظنّ أن غموضاً ما في حياتك ، يا جيرالد - قلتٌ مندهشاً - أُفضي بما لديك .
•- دعنا نذهب في جولةٍ فالازدحام شديد هنا - هيا ..
نهضنا وخرجنا .. وسمعته يقول :
_ دع تلك العربة الصفراء ، لنستأجر أية عربة أخرى .. لتكن الخضراء الداكنة تلك ..
بدقائق كنا نتخذ درباً باتجاه " المادلاين " .
•- إلى أين سنذهب ؟ .. سألته
•- إلى أي مكان تفضِّله .. إلى المطعم في " بويس " سنتعشىَ هناك وتحكي لي عن نفسك .
•- أريد أن أسمع منك أولاً - قلت ٌ - أفصح عمّا تحتفظ به .
لحظتها أخرج حافظةً صغيرة ، إستلّها من جيبه ، قدّمها لي .. من داخلها أظهرتُ صورةً لأمرأةٍ طويلة القوام ، نحيلة ، شعرها طليق وعيناها كبيرتان تضمران شيئاً ما مبهماً .
•- ما رأيك بهكذا وجه ؟ ..سألني ، ثم أكمل : " أتراه يبعث علىَ الثقة ؟ "
شرعتُ أتفحصه باهتمام فبدا لي كأنه وجهٌ لمخلوقٍ يخفي سرّاً كبيراً ، لا أستطيع التكهّن إن كان شرّاً أم خيراً .. فالابتسامة الباهتة المتراقصة عبر الشفتين رغم رقِّتها لا تشي بعذوبة حقيقية .
•- حسناً ! صرخ نافذ الصبر " ما رأيك ؟ "
•- لها ابتسامة تضمر شيئاً مخيفاً .. هذا رأي فافصِح بما لديك عنها .
•- ليس الآن ، إترك ذلك لما بعد العشاء .
بعدما قدّم النادل القهوة وما طلبنا من سكائر توجهت لجيرالد ليتحدث عما وعدني به .. نهض ؛ خطا ذارعاً الغرفة جيئة وذهابا ، ثم عاد إلى كرسيه يغوص فيه ليبدأ الحكاية التالية :
في أحد المساءات ، كعادتي كنت أتمشىَ راجلاً في شارع " بوند " كان الوقت يقرب من الخامسة عصراً عندما حدث اصطدام مروري لعربتين سببَّ توقفاً لحركة السير .. بجوار خطوط عبور المشاة ثمة عربة صفراء صغيرة تقف لا أدري لماذا استرعت انتباهي . وفيما كنت أخطو عابراً تصالبت نظراتي على الوجه الذي عرضته عليك في الصورة.. لم أتمكن من نسيانه ، فقد تمرّكز في الذاكرة ورحتُ تلك الليلة أفكر فيه . استطال هذا التفكير إلى اليوم التالي ، ما جعلني أتجولٌ باحثاً في الطرقات لعليّ ألمح العربة الصفراء مارقة أو متوقفة ؛ لكن الخيبة كانت نهاية مطافاتي .. فإستسلمتٌ إلى اعتقاد أن ما رأيت لم يكن إلاّ حلماً مرّ وانقضىَ .
بعد أسبوع تلقيتٌ دعوةً من السيدة " دي لاستيل " لتناول العشاء في بيتها .. ! استقبلتني في الساعة الثامنة مساءً ، مكثنا حتىَ الثامنة والنصف منتظرين تقديم العشاء .. أخيراً دخل علينا الخادم معلناً وصول السيدة " آلروي " .
وكانت المفاجأة الصاعقة فقد دخلت علينا من كنت أبحث عنها .. وكان الحظ ضاحكاً معي إذ طُلِبَ مني مصاحبتها للعشاء ، رفيقان يجلسان متقابلين ...
بعد الانتهاء توجهت بكلام تملأه البراءة : اعتقد أنني شاهدتكِ في شارع " بوند " قبل أيام ، يا سيدة " آلروي.. "بغتة إمتقع وجهُها وشحِب .. وبصوتٍ هامس خفيض ردّت :
- لا تتكلم بصوتٍ مسموع ، أرجوك ، قد يسمعك الآخرون .
طوقتني التعاسة .. سريعاً نفذَت إلى داخلي .. يالها من بداية مُحبطة ، ولتدارك الأمر رفعتُ صوتي محاولاً التحدُّث عن مسرحيات فرنسية إظهاراً لعمومية الكلام ، كانَ حديثُها مقتضباً تُظهر خوفَ استماع الآخرين لنا .. تلك اللحظة قادني الغباء للوقوع في حبّها ؛ زاد من ذلك طبيعة الغموض الذي يلف شخصيتها .. وقبل أن تبرح المكان عرضتُ عليها رغبة اللقاء ثانية ، ترددّت للحظةٍ تاركةً نظراتها تتجوّل بارتياب قبل أن تقول " نعم " غداً في الخامسة إلاّ ربعاً .
آن خرجتْ اتجهتُ إلى السيدة " دي لاستيل " أسالها عمّا تعرف عن السيدة " آلروي " فأعلمتني بأنها أرملة تمتلك بيتاً جميلاً في " بارك لين " .
في اليوم التالي ، وفي الوقت المحدد وصلتُ فلم أجدها . قيلَ لي خرَجتْ ، ذلك ما أشعرني بالأسى وأربكني .. توجهتٌ إلى النادي .. وهناك كتبتُ لها رسالة أُجدد رغبتي في زيارتها ، طالباً موعدأً آخر ، لكنّي لم أتلقَّ رداً رغم الأيام العديدة التي مرّت .. وفي يومٍ وردتني ملاحظة بأنها ستكون في البيت يوم الأحد الساعة الرابعة ؛ مع فائق الشكر والتقدير خاتمة معبرة ، تقول " الرجاء لا تكتب لي علىَ محل سكني ، وسوف أشرح لك عندما نلتقي ."
ذلك الأحد الجميل استقبلتني .. ودودةً كانت وبجمالٍ أخّاذ .. وعندما ودّعتها خارجاً تمنّتْ أن أُعنون رسالتي القادمة إلى " السيدة فوكس " ، مديرة مكتبة ويتاكرز " في " كرين ستريت " قالت ثمة أسباب تدفعني إلى عدم إستلام أية رسالة في بيتي . "
مرّ فصلٌ كاملٍ كانت علاقتي بها رائعة ، لم أرَ منها غير المعاملة اللطيفة ، بيد أنَّ جوَّ الغموض ظل ملازماً لشخصيتها ؛ وكثيراً ما راودني اعتقاد وقوعها تحت سطوةِ رجلٍ ما ، غير أن هذا الاعتقاد سرعان ما كان يتبدّد ، وكان صعباً عليّ الوصول إلى استنتاج قاطع بشأنها لهذا قررتٌ مفاتحتها ، عارضاً طلبي في الاقتران بها ، شارحاً تقهقري وتدهور صحتي من هذه العلاقة السرّية اللامنتهية ، فكتبت لها رسالة أعرض رغبتي بلقائها الاثنين القادم ، في الساعة السادسة .. أجابتني بالإيجاب ، وقتها طرتُ إلى السماء السابعة للبهجة .. لقد أحببتها بحق ؛ لكنّ الغموض هو ما كان يربكني ، بل يدنيني من الجنون .. ولقد حالفني الحظ لمرةٍ .
•- واكتشفت السرّ ؟ .. قلت مندفعاً .
•- بل أخافني .. ولك أن تحكم علىَ ذلك بنفسك .
ذلك الاثنين القادم لبّيتُ دعوةً وجّهها لي عميّ لتناول الغداء معه ، وعميّ كما تعلم يسكن في " ريجنت بارك " .. ولكي أختصر الطريق للوصول إلى شارع " بيكادليّ " سلكت شوارع فرعية متواضعة الحال والسمعة .. وهناك كانت المفاجأة .. إذ لمحتٌ السيدة " آلروي " تخطو مُسرعةً وقد وضعت علىَ وجهها خماراً لإخفاء ملامحها ؛ حتىَ إذا وصًلَت آخر بيتٍ ارتقت درجاته المعدودات ، مستخرجةً مفتاحاً ألقمته الباب ودخلتْ .
هنا يكمن السر قلت في سرّي " أسرعتٌ متفحصاً البيت ، كان بيتاً من تلك البيوت المؤثثة والمعدّة للتأجير المؤقت .. وعلىَ إحدى درجات السلم شاهدت منديلها الذي سقط منها .. إلتقطته دسسته في جيبي ، ثم رحت أفكر كيف ساتصرّف .. توجهتٌ إلىَ النادي ، وفي الساعة السادسة طلبتٌ ملاقاتها .
مُضطجعة علىَ الاريكة أبصرتها ، ترتدي فستاناً جميلاً يجسّد جمالها الباذخ : " مسرورةٌ جداً للقائِك "، قالت - " لم أبرح البيت طوال اليوم "
حدّقت بها مندهشاً ، تلك اللحظة سحبتُ منديلها من جيبي وعرضته إزاءها .
•- خذي سقطَ منك في " كومر ستريت " هذه الظهيرة ، ياسيدة آلروي ..خاطبتُها برباطة ِجأشٍ .
تطلّعت إليَّ مرتعبةً ، ولم تمد يدها لاستلامه .
•- ماذا كنتِ تفعلين هناك ؟ .. سألتها .
•- بأيّ حقّ تسالني ؟.
•- بحقّ الرجل الذي أحبَّكِ .. جئتُ إلى هنا لأعرض عليك رغبتي في الأقتران بكِ .
أخفّت وجهها بكفّيها وانفجرت بالبكاء .
•- يجب أن تردّي علىَ تساؤلي ؟
نهضَت .. تطلعت في وجهي قبل أن تقول :
•- ياسيد مارشيسون ، لا شيْ أخبركَ به .
•- هل ذهبتِ لتلتقي شخصاً ما ؟ صرختُ " ذلك هو الغموض الذي تتخفيّن وراءه ؛ أليس كذلك ؟
شحبَ وجهها وأصفر .
•- لم أذهب لأقابل أحداً .
•- "إنطقي بالحقيقة إن استطعتِ ".. صرختُ بها .
•- لقد قلتها .
تلك اللحظة كنت تحت سطوة الجنون ، لا أعرف ما فهت به ، لكني متأكد قلت عنها ولها الكثير ثم أندفعت تاركاً البيت .. في اليوم التالي بعثَت لي رسالة ورددتُ عليها بجوابٍ مغلق ، سافرتُ بعدها إلى " النرويج " ، وعدتٌ بعد شهر .. أول شيء قرأته في صحف باريس هو خبر موت السيدة " آلروي " بعدما أصيبت بنزلة برد أثناء حضورها حفلة الأوبرا ، وماتت في غضون خمسة أيام .. أغلقتٌ كلّ شيء على نفسي ولم ألتقِ أحداً .. لقد أحببتها بولهٍ كبير ، ، بل أحببتها بجنون .. " نعم " سمعته يقول " في أحد الأيام ذهبتُ إلىَ " كومر ستريت " إلىَ ذلك البيت .. طرقتُ الباب ففتحته إمرأة ذات مظهرٍ يبعث علىَ الاحترام .. أخبرتني أنَّ غرف الاستقبال مؤجرّة لإمرأةٍ " لم أرها منذ ثلاثة أشهر "
•- هل هذه هي ؟ .. أظهرتُ الصورةَ أمامها .
•- نعم ، يا سيدي ! .. قالت " متىَ ستعود ؟ "
•- لن تعود أبداً .. لقد ماتت .. هل كانت تلتقي شخصا ما عندما تجِيء إلى هنا ؟
طمأنتني المرأةُ قائلةً :
•- كانت تأتي بكلّ بساطةٍ إلى غرفة الاستقبال تجلس تقرأ كتباً ، وفي بعض الأحيان تتناول الشاي وتبرح المكان .
أعطيتها بعض النقود وخرجت ..
•- والآن ماذا يعني لك كلّ ذلك ؟ .. ألا تعتقد أن المرأة صادقة ؟
•- بلىَ .
•- إذاً لماذا كانت السيدة " آلروي " تذهب إلى هناك ؟
•- عزيزي جيرالد - قلتُ - ببساطةٍ ، كانت السيدة آلروي مولعة برغبة أن تبدو غامضة .. وما استئجارها الغرفة إلاّ لغرض تحقيق سعادةٍ ، بذهابها إلى هناك متبرقعةً بخمارٍ ومتخيّلةً نفسها بطلةً .. لكنها في الواقع مثل " أبو الهول ".. بلا سر .