مصطفى الكيلاني - سردية الرغبة أو الجسد القامع.. الجسد المنقمِع في حكاية من ''ألف ليلة وليلة''

نبدأ عملنا الاستدلالي، هنا، بالحكاية، لأنها مجال لاشتغال المخيال الجمعي، إذ الراوي في ''ألف ليلة وليلة'' رواة بعد أن مرّت الحكاية الإطارية وتوالدت عبر الأزمنة بدءا من نواتها الأولى الهندية ومرورا بالترجمة الفارسية، فالعربية الإسلامية ضمن مختلف المراحل إذ تعالقت فيها ذوات ثقافية متعددة بضرب من التناص الواسع العميق، حيث العجيب الأسطوري الهندي القديم وعوالم التخييل الفارسية والعربية الإسلامية.

فتنطلق الحكاية بحدث العِشق: ''وقد تعلّق قلبها بحب عبد أسود فافتض بكارتها وأولعت بالنكاح، فكانت لا تصبر عنه ساعة..''.

كذا الرغبة، كما يرتئيها الراوي الجمعي الذكري، هي حال غير عادية، نراها لا تفارق بدءا بين العشق والجنس.

ولأن الرغبة طاقة من الحياة وإليها فقد تعاظمت تدريجيا نتيجة انفتاح الجسد على أشده واستحالة تحقيق الإرواء لتستحيل بذلك إلى قيد، إلى نقيض الرغبة ذاتها نتيجة العطش الدائم رغم مُحاولات تلبيتها باستمرار عند تكرار الفعل الجنسي.

إن افتضاض العبد لبكارة ابنة السلطان هو من قبيل الانتصار المؤقت للحال الإيروسية الجسدانية الدالة على حرية ما ضد مجتمع يفارق بين السادة والعبيد.

إلا أن منظور الشهوة أزال الحد الفارق بين الجنسين في اتجاه وبين طبقتين اجتماعيتين في اتجاه آخر كي تؤسس الحكاية لمتخيل يهدم كل الثوابت القيمية من دينية سائدة واجتماعية سلطوية. وحجة الراوي على هذا البوْح فيض الرغبة العارم وجنون الشهوة وفقدان الإرادة أمام قوى الجسد الحيوية التي لا تقاوم، ومنظور الجسد الأنثوي الذي هو أداء لإرواء جنسي لا يتحقق في المخيال الذكري. هذه الحال المتفاقمة جنسا، كما أراد المخيال الذكري وصفها عند الحكم على مطلق الأنوثة استلزمت استشارة ''ابنة السلطان'' للقهرمانة التي نصحتها في طور ثان من تنامي الرغبة وجنون الشهوة معاشرة قِرد تجسيدًا حكائيا للمثل الشائع، ''أنكح من قرد''.

وبهذا التحول في مسار الرغبة استعادت الشهوة بدائيتها عند إرجاع المرأة - الإنسان إلى الطبيعة الحيوانية، إلى واقع العري المتكرر. وإذا العقل (نصيحة القهرمانة) يمثل استجابة لنداء الجسد ومسايرة لطاقته الحيوية المتدفقة بعنف لافت للنظر. وتتفاقم الشهوة عند وصف حال المرأة الربوخ ليتدخل العقل مرة ثانية، إلا أنه عقل مختلف عن سابقه، ذلك أن قتل الجزار للقرد وقرار الزواج بالمرأة لسترها واستمرار حال الشهوة المتفاقمة لدى هذه المرأة تطلبت تدخل ''إحدى العجائز'' ممن خبرن ''نار الشهوة''.

وإن شجع العقل الأول على تلبية الرغبة ومحاولة تحقيق الإشباع الجنسي، فإن العقل الثاني سار في اتجاه مختلف عن اتجاه العقل الأول بأن توصل إلى دواء: ''فأتيت لها بما طلبته، فوضعته في القدر ووضعت القدر على النار وغلته غليانا قويا، ثم أمرتني بنكاح الصبية فنكحتها إلى أن غشى عليها، فحملتها العجوز وهي لا تشعر وألقت فرجها على فم القدر فصعد دخانه حتى دخل فرجها، فنزل منه شيء تأملته فإذا هو دودتان، إحداهما سوداء والأخرى صفراء..''.

إن الحال الإروسية واحدة، وإن تعددت وضعياتها، إلا أن العقل المتصل بها مختلف بين عقل إغوائي وآخر استشفائي، إذ الأول قريب من الطبيعة محايث للأصل، والثاني متعال على الطبيعة، حجاجي يفسر جوع المرأة الجنسي ''بدودتين''، الأولى تربت من نكاح العبيد والثانية من نكاح القرد..''، وقد جرت العادة في الممارسة الطقوسية الإسلامية أن تعالج ''النجاسة الكبرى'' بـ ''الطهارة الكبرى''، بالماء تحديدًا. غير أن الماء استلزم في هذه الحكاية النار لتغليته ثم إخراج الدودتين من فرج المرأة، مثلما تطلب الوضع الطبيعي أو حال الزنا المتكرر الرجوع إلى المؤسسة (الزواج) وتلجيم الشهوة بتوجيه الرغبة وإخضاعها لأحكام العقل الثاني.

إلا أن موصوف الجسد الأنثوي، في تقديرنا، هو انعكاس لحال الذكورة الساردة، إذ العطش أو الجوع الجنسي في الأساس والمرجع، هو من الذكورة وإليها، والقصد الواعي واللاواعي من تضخيم الحال الإيروسية في الاتجاه الآخر إنما هو التنفيس بعض الشيء عن مكبوت الحال الإيروسية الذكرية وإضمارها عند تنقيلها من الذكورة إلى مجال الأنوثة. لذا، تبدو المرأة طيفا لجسدية الذكر، للرغبة المكبوتة، للشهوة الحبيسة، لشيطنة الآخر عند إكساب الراوي الذكري صفة العقل، بل إن ''شهرزاد''، إن تصدرت فعل السرد، فهي في المحصل النهائي وجه آخر للذكورة، ربما بمحاولة استعادة البعض من زمن الطفولة الذكرية المفقود منذ فطام المشيمة، فالرضاع بحلم الحكاية والمرأة الساردة (شهرزاد) والجسد الأنثوي كما يرد تضخيما لحال وتحريما لوضع وحرية تمارس أو ''لشر'' ينشد كي تعود للعقل (من العقال أو القيد) سلطته وتطوع الرغبة مثلما تدجن الشهوة ضمن مملكة العادة والتقليد والمؤسسة: ''فلما أفاقت استمرت معي مدة وهي لا تطلب النكاح، وقد صرف الله عنها تلك الحالة وتعجبت من ذلك، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح''.

كذا تنقمع الحكاية بعد أن فتحت لها هامشا من الحرية تبين أنها في صميم الزيغ عن القيمة الدينية المرجعية وفي صميم ''النجاسة الكبرى''.

لذا مثلت خاتمة الحكاية عودة إلى المتن، إلى سلطة البدء والمرجع حيث السياسة والدين يتداخلان في منظومة حاكمة واحدة.

والحرية التي مارسها الجسد الأنثوي طيلة الحكاية هي حال استثنائية عارضة، حتى لكأن المحكي بأكمله جملة اعتراض في نص بياضي تنكشف بعض حروفه عند الانتهاء، ومفاده التسليم بخير وشر ثابتين.

إن محور الحكاية الدلالي مدفوع بالحال الإيروسية التي تجسدت على وجه الخصوص في ''إيروسية الأجساد''، على حد عبارة جورج باتاي، في غياب ''إيروسية القلوب'' (العشق) و''إيروسية المقدس'' وإن اقتربت خاتمة الحكاية منها بعد أن شفيت المرأة من داء الشهوة المتفاقمة والتخلص من ''الدودتين'' .

كذا الإغماء الذي يصيب المرأة أيضا عند كل مواقعة هو إثبات للحد الواصل بين الحياة والموت، كأن يقارب فعل التواصل الجنسي لحظة الموت.

وإذا الجسد، بهذا المتخيل، طيف وإن تفاقمت حالات التشهي لديه، كأن تتعاظم الشهوة بتهويل من الذات الذكرية المتمثلة للآخر الأنثوي. وبهذا الاستيهام (fantasme) يسفر الوصف الحكائي عن الرغبة الجنسية الذكرية تتماهى والرغبة الجنسية للأنثى بضرب من التواصل الجنسي المحكوم بزمنية الحكاية ليتسع بذلك هامش حرية الوصف والتمثل ثم يضيق كي يسفر انتهاء عن واقع الانفصال الكينوني الذي هو في صميم الكائنات الحية المركبة الفاقدة لأصلها الأول البسيط والباحثة لها باستمرار عن هذا الأصل بالعنف الماثل في الفعل الجنسي ذاته، وبفشل التواصل المتكرر ومحاولة التماهي مع الآخر بالعنف العاشق حد مقاربة لحظة الموت أو القتل أو الانتحار أو التعويض عن طريق الحال الإيروسية المتعالية برمزية المقدس المشروط بواقعية الأصل في ما بدا لدى الاعتقاد الديني ''مدنسا'' لا بد من مغالبته وتجاوز حدوده وقيوده.

مصطفى الكيلاني*
*أكاديمي من تونس


* djazairnews
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...