عزت القمحاوي - الأثر الأسير!

مرة أخرى يتجدد الجدل حول 'ألف ليلة وليلة' الأثر الأعظم في الأدب العربي وربما نقول باطمئنان (استنادا إلى شهادات كبار المستفيدين منها) إنه الأعظم في آداب العالم.

طبعة جديدة أصدرتها هيئة قصور الثقافة المصرية تصويرا عن طبعة بولاق التي حققها شيخ أزهري في القرن التاسع عشر أثارت غيرة مجموعة من المحامين على أخلاق المجتمع فتقدموا ببلاغ للنائب العام.

الطريف أن كل البلاغات ضد الإبداع في العقود المصرية القديمة تنطلق من استنكار إنفاق أموال الشعب على طباعة هذه الأعمال الحاضة من وجهة نظرهم على الفجور!

الطريف أن طباعة عمل أدبي تكلف خزانة الدولة أقل من ألفي دولار، بينما تهدى الأراضي للمستثمرين القتلة بالمليارات للقاتل أو للمسثمر الواحد، ولا يعتبر محتسبو الأجر والثواب هذا تبديدا لأموال الشعب المنسي من الفاسدين ومدعي الفضيلة سواء بسواء.

من الغريب أن يكون في مصر الآن من يلتفت إلى كلمة في كتاب، بينما تهتز البلاد على كف عفريت.

وغريب أيضا أن يعودوا إلى استهداف شهرزاد بعد حكم تاريخي لقاض مستنير عام 1986 قال في حيثياه إن من تثيره ألف ليلة وليلة جاهل تافه. وقد جاء الحكم بعد أن تطوع ضابط في بوليس الآداب بمصادرة الطبعة البيروتية لخطورتها على قيم الشباب المصري.

***

منذ حكم الثمانينات جرت في نهر النشر أحبار كثيرة، وصارت ألف ليلة متاحة على الإنترنت في عدد كبير من المواقع، وامتلأ الفضاء العربي بأفلام الجنس. ومع ذلك عادت الطبعة الورقية هدفا لطالبي الشهرة من المحامين أو محتسبي الأجر والثواب عن طريق الإيقاع بالنص الذي يبدو أنه سيظل أسيرا لضيق الأفق، تتوالد البلاغات ضده كما تتوالد حكاياته، لكن هذه المطاردة صارت حكاية مملة بلا متعة، ولا فائدة إلا جعلنا فرجة أمام الأمم؛ فأمة تضم من يعادون أهم أثر أدبي فيها بهذا الدأب لا بد أن تكون أمة منتحرة، لا يحتاج أعداؤها إلى مفجري القطارات ومحطات المترو لكي يبرهنوا على هذه الحقيقة.

ومثل تيمات الليالي وجمله المفتاحية المتكررة التي تدل على النص وتؤكد حكمة حكاياته، صارت هناك جمل مفتاح وتيمات متكررة في البلاغات الطائشة التي تبدأ عادة بـ 'فوجئنا بوجود ألفاظ ..الخ'.

المحتسبون السعداء ذوو الرأي الرشيد دائما ما يفاجأون من نص عمره من عمر اللغة العربية نفسها، أو أقل قليلا.

وهم يرون كلمات في نص يقرأه من يقدر على حمل مفاتيحه، بينما لا يفاجئهم الاستمناء الذي يمارسه واعظو الفضائيات في الوسيلة الأكثر جماهيرية، حيث يتحدثون عن تفاصيل المجامعات وأوضاعها وحدود الملاعبات (الحلال) ردا على أسئلة السائلات خصوصا. وما يفعله هؤلاء على الهواء بهذا القدر من الميل أو ذاك موجود نصا في كتب الفقه.

لا حياء في الدين، ولا حياء في العلم. الحياء في الأدب فقط، وفي ألف ليلة بالذات، فما هذه المفارقة المضحكة؟

مع كل هذا لا نستطيع أن نحجر على رأي محامين أو حتى رأي كتاب سبق أن استهدفوا النص الأكثر جمالا في تاريخ الأدب، لكننا يجب أن نأسف على حال التعليم الذي لم يؤهل هؤلاء المتعلمين لتذوق الجمال في حكايات ألف ليلة.

لا يوجد نص واحد في نصوص التعليم قبل الجامعي أو كتب النحو في مصر (لا أعرف حال المناهج العربية الأخرى) يشير إلى ألف ليلة أو يشرح للطلاب غناها الفني، على الرغم من كل ما كتب حولها ابتداء من سهير القلماوي حتى المغربيين الأكثر إبداعا بين من كتبوا عن ألف ليلة: جمال الدين بن شيخ وعبدالفتاح كيليطو.

العجيب أن ظاهرة العداء لألف ليلة لم تبدأ إلا في منتصف سبعينيات القرن العشرين، والطبعة المتهمة اليوم هي نفسها طبعة المطابع الأميرية في القرن التاسع عشر، وهي التي استثمرتها إحدى دور النشر البيروتية على مدى عقود طويلة، مشكورة فأتاحت النص، لكن الطبعة وجدت عام 1985 من فوجئ بما تحتوي من ألفاظ!

' ' '

لا يرى المحتسبون الذين تخرجوا في مدارسنا السعيدة في النص إلا بعض الكلمات الجنسية، التي يمكن أن نصادف أضعافها على الطرقات في الفضاء الواقعي والافتراضي، وقنوات التليفزيون التي تجلب أو تتحدى الملل.

لا يزالون يتفاجأون من ألف ليلة بالذات، لأن أحدا لم يعدهم ليستقبلوا على النحو الصحيح أكثر النصوص العربية ديمقراطية وتعددا في المعنى، لأنه من صنع مخيلات متعددة أغنت الحكايات على مر تاريخ لا نعرف له بداية محددة.

معذورون لأن أحدا لم يتطوع بتعريفهم بألف ليلة التي ليست مجرد حكايات لجلب النوم، وليست نصا عن عبودية المرأة أو عن الخوف أو عن خلاعة الحكام أو اشتهاءات الفقراء المؤجلة.

لم يقل لهم أحد إنها طاقة الحلم والخيال في أدبنا، وربما قالوا لهم، ولهذا يطاردونها، لأن ضفافها الحرة تتحدى وتعري واقعنا الأسير.


* عن جريدة القدس العربي
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...