نقوس المهدي
كاتب
مـدخـل:
إنّ أهمّ المدن التى ذكرتها حكايات ألف ليلة وليلة هى المدن الحضرية القريبة من البحار والأنهار، والمليئة بالعمران والبساتين، والحمّامات والأسواق والحانات التجارية. وحكايات ألف ليلة وليلة هى حكايات المدينة العربية الإسلامية فى أوج نموّها المعرفى والحضارى فى العصر الوسيط، ومثاقفتها وعلاقاتها مع المدن الأخرى، والحضارات الأخرى الهندية والفارسية والصينية، وإن ابتعدت هذه الحكايات عن المدن المزدهرة، فإنّها لا تبتعد عن بنية هذه المدن إلاّ لتنتقل إلى مدن أسطورية وجزر تبدو غاية فى الجمال، وكأنها الصورة الندية لهذه المدن. يقول أحد الرواة واصفاً إحدى هذه الجزر: " فنظروا إلى تلك الجزيرة فرأوا فيها أشجاراً وأنهاراً وثماراً وبساتين، وفيها من جميع الفواكه والأنهار من تحت تلك الأشجار، وهى كأنّها الجنّة". وعموماً تبدو المدن التى يصل إليها الرّواة كأنّها جنان الأرض، من حيث التشكيل العمرانى، ونشاط الحركة التجارية، وجمال النساء اللاتى يصفهنّ الرّواة بالأقمار المشعّة.
غير أنّ المدن التى وصفتها حكايات ألف ليلة وليلة ليست مدناً مدينية تماماً، بل تبدو علاقاتها علاقات بدوية، على الرغم من استهجان الراوى المدينى لعلاقات البادية، فحتى بغداد المركزية أو البصرة المدينة الحضرية المهمّة فى الليالى لا تخلو تماماً من علاقات البداوة وقيمها.
لقد كان رواة ألف ليلة وليلة وَلِعين بوصف المدن الكبيرة والارتحال إليها، فى حين أنّ المدن الصغيرة لم تكن إلاّ محطّات سفر، يرتاح فيها الأبطال والتجّار، أو طرقاً إجبارية يضطرّ السرد للمرور بها للوصول إلى المدينة المركز الحلم، التى تحتضن الأبطال وتعطيهم المال والشهرة والنساء، وكل ما لذّ وطاب.
لخراسان وبغداد والبصرة الصدارة فى الليالى، وتأتى بعدها من حيث الأهمية القاهرة ودمشق، هاتان المدينتان المهمّتان اللتان لعبتا أدواراً سياسية وتجارية مهمّة فى الدولة العربية الإسلامية. فدمشق كانت عاصمة للدولة العربية ـ أيام الأمويين ـ التى بسطت هيبتها على جميع بلاد أواسط آسية (فى التركستان)، وغربى الهند (باكستان اليوم)، وعلى شمال القارة الأفريقية، وعلى شبه جزيرة إيبيرية (إسبانية والبرتغال)، حتى أنّ الزحف العربى اجتاز جبال البرانس إلى فرنسة، ووصل إلى مدينة تور فى الشمال الغربى من فرنسة.
أمّا القاهرة فقد " مثّلت عاصمة المدنية" فى ليالى ألف ليلة، إذ كانت "مصر تجذب التجار لا ليثروا من التجارة فيها ولكن ليروا مظاهر المدنية والخصب والثراء". إلاّ أنّ مركزية القاهرة فى الليالى أهمّ بكثير من دمشق، على الرّغم من أنّ دمشق فى التاريخ كانت عاصمة للخلافة الإسلامية، وكانت أكثر مركزية من القاهرة. ولا ندرى ما السبب الرئيس الذى جعل الرّواة يحتفون بالقاهرة أكثر من دمشق، إلاّ أنّه يمكن القول: إنّ "الإضافات الأخيرة التى أُضيفت إلى هذا الكتاب (كتاب ألف ليلة وليلة) الضخم حدثت فى مصر، والراجح أنّ ذلك كان فى أواخر عهد المماليك، ولعلها وُضِعت فى القاهرة (...) وهذا الرأى يمكن استنتاجه (...) من لغة هذا الجزء (الإضافات) فهى تشبه اللغة العربية فى عصورها المتأخّرة وتقرب فى كثير من الوجوه من اللغة المصرية الدارجة". ولأنّ هذه الإضافات حدثت فى القاهرة، فقد كان نصيب القاهرة فى هذه الحكايات أكبر من نصيب دمشق، لأنّه من الطبيعى أن يسجّل الرواة أخبار مدينتهم قبل المدن الأخرى، وعلى الرّغم من ذلك فإن ّ ثمّة إشارات غير قليلة فى الليالى إلى أهمية دمشق ومركزيتها أيام الدولة الأموية، وهذه الإشارات تجعلها تتفوق على مدن أخرى كثيرة، ومنها: الكوفة والقدس والإسكندرية وحلب وصنعاء وفاس، وغيرها من المدن العربية والأجنبية الأخرى الواردة فى الليالى، والتى لا تتعدّى أن تكون محطات لاستراحات قصيرة جداً.
ويلاحظ أنّ حكايات القاهرة لا تنتمى تحديداً إلى فضاءات القاهرة، بل إنّ الرّواة كانوا يعرفون أهمية بغداد المركز، ولذا فقد بدأوا بسرد الحكاية من القاهرة، ثم ارتحل أبطالهم مع ارتحال السرد إلى بغداد المركز. وهكذا تنتهى بعض حكايات (القاهرة) فى بغداد، كحكاية "علاء الدين أبى الشامات"، وحكاية "على الزيبق المصرى"، وحكاية "على المصرى وزواجه ببنت ملك بغداد".
وقد اعتبر الدّارسون أنّ الحكايات المصرية أضافها رواة محترفون إلى كتاب ألف ليلة وليلة، وقد عمل هؤلاء الرّواة على تضخيم حجم الكتاب بقصص عربية فيها الكثير من التقاليد الإسلامية، والأساطير الفرعونية والسير اليهودية فى آن، واعتبروا أنّ هذه الحكايات مرّت فى ثلاثة أطوار:
1 ـ الطور الفاطمي: وفيه رُوِيت حكايات متأثّرة بالطلاسم والسحر والجن.
2 ـ الطور الأيوّبي: وفيه رويت قصص البطولة والحروب.
3 ـ الطور المملوكي: وتسجّل حكايات هذا الطور أخبار المدن والشطّار.
ولم تسهم الإضافات الأخيرة إلى كتاب ألف ليلة وليلة، من قبل الرّواة المصريين، فى ترجيح كفّة القاهرة على بغداد، لأنّ بغداد تمثّل الكلّ الحضارى والمعرفى المزدهر للدولة الإسلامية، ولأنّها تتربّع على عرش المجد السياسى فى التوسّع والنفوذ والقوّة، يضاف إلى ذلك "أنّ القصاص المصرى إذا تحدّث عن مصر ـ وهو منها وفيها ـ تحدّث عمّا يرى، وعبّر عمّا يسمع (...) أمّا إذا تكلم عن بغداد فإنما يتأثّر بعوامل أربعة: يتأثّر بما وُضِع من الأقاصيص الجميلة فى بغداد، ويتأثّر بما ملأ الآذان وشغل الأذهان عن عظمة بغداد وأبّهة الخلافة، ويتأثّر بما ركّب الله فى طباع الناس من تقديس الماضى، وتعظيم البعيد، ويتأثّر بجهله أحداث التاريخ وتطوّر الأمم، فيأبى وهو فى القرن العاشر من الهجرة أن يعترف بموت "الرشيد" ومصرع "بغداد" ونكبة المجد الأثيل".
ومن البديهى أن نقول إنّ بغداد المركزية فى الليالى، والأولى فى الحضارة العربية الإسلامية، فى العهد العباسى، تتفوّق على دمشق، لا من حيث عدد الحكايات فحسب، بل من مستويات عديدة أخرى، كنموّ الأحداث وتشعبها، وحركة الأبطال، وحركة الوحدات السردية منها وإليها، وتشعب الملامح الاجتماعية والسياسية والثقافية التى امتازت بها بغداد، وتعدّد الفضاءات المكانية وأهميتها فى بناء حكايات بغداد، وقدرة بغداد هذه المدينة المنفتحة حضارياً على استيعاب الأقوام والشعوب ومن جنسيات مختلفة، وعلى التفاعل معها، واحتضانها.
وفى هذه الدراسة أحاول أن أتبين ملامحها، التى لا يذكرها الرّواة تحديداً، بل يستبدلونها بمدينة مصر التى هى مدينة القاهرة، لأن الرواة عندما يذكرون مدناً مصرية أخرى فإنهم يحدّدونها، كالإسكندرية والقليوبية ودمياط، وأن أتبين ملامحها، وبعضاً من بنيتها المعرفية والاجتماعية والسياسية والتجارية، منطلقاً من نصّ الليالى نفسه، ومعتمداً فى آن بعض الخلفيات المرجعية التاريخية التى ذكرت هذه المدينة..
يتّفق الدارسون على أنّ كتاب ألف ليلة وليلة يتكون من طبقات متعددة، وإحدى هذه الطبقات كُتبت فى بغداد وأخرى كتبت فى مصر. والطبقة المصرية أُضِيفت إلى الكتاب فى زمن متأخر، فـ "الأقاصيص الهينة الجيدة السبك التى تمثّل حياة الطبقة الوسطى وتقوم على مشكلة من مشكلات الحب ويكون حلّها على يد الخليفة هى من الطبقة البغدادية، وأمّا حكايات الصعاليك وحكايات الجن ـ وهذه فى الغالب ضعيفة الأسلوب ـ فهى من طبقة مصرية متأخّرة". إنّ ما يميز حكايات ألف ليلة وليلة فى طبقتها المصرية كما يرى أحد الدارسين، وجود عنصر المغامرات فى بنية أحداثها "التى تعتمد المكر والحيلة من جانب والمنافسة السياسية الحادة من جانب آخر". على أن الدارس، مهما كان دقيقاً، لا يستطيع أن يصنّف خصائص معينة ودقيقة للطبقة المصرية، تميزها عن البغدادية أو الهندية أو الفارسية، لأنّ معظم الحكايات تلتقى فى معظم بنياتها التركيبية، التى تتشابه من حيث الحيلة والمكر والقتل والدهاء والجوارى الجميلات، ورجال السلطة السفّاحين، والملوك والأمراء الذين يتطاحنون حروباً مدمّرة فى تنافساتهم السياسية. فالطور البغدادى يتداخل مع الطور القاهرى، ويتزامن معه، والسارد الذى يكون فى بغداد سرعان ما ينتقل إلى القاهرة، وبالعكس، كما فى حكاية "على الزيبق المصرى ودليلة المحتالة"، والذى يكون فى القاهرة سرعان ما ينتقل إلى بغداد، بوحداته السردية كما فى حكاية "علاء الدين أبى الشامات" ، وقد "كان القصاص المصرى يعتمد على ما يصدر عن بغداد من الأقاصيص الموضوعة والمنقولة، والرّوايات القديمة الصحيحة والمدخولة، ثم يضيف إلى ذلك ما تُنوقل فى مصر وما تجمّع من الأخبار من التجار والرحالين والبحارين، فقد كان هؤلاء بعد عودتهم من البلدان النازحة يدوّنون ما رأوا من الأعاجيب".
ويمكن بشيء من التقريب القول: إنّ الطريقة التى يمكنها أن تلقى الضوء لمعرفة الطور القاهرى، ولو بشكل نسبى، هى متابعة السارد وهو يحدد الأماكن الواقعية التى يصل إليها الأبطال، أو يسمّى بعض أحيائها، أو يحدد أسماء حكّامها الحقيقيين فى الأزمنة التى حكموا فيها، وسيساعدنا أيضاً، فى تحديد هذه الحكايات لغة الحكاية التى تنهل فى تركيبتها من لهجة المدينة، لأنّ هذه اللهجة من شأنها "أن تقودنا إلى أصل النص"، فالحكايات التى تذكر المدن المصرية تحتفظ بلهجة عامية، لا تزال معروفة فى مصر حتى الآن. على أنّ ذكر الشخصية المقرونة بمكان معين، أو بزمان يدور الأبطال فى فضائه التاريخى، ليس دليلاً كافياً لمعرفة أصل الحكاية، أو الطبقة التى تنتمى إليها، فعلى سبيل المثال نجد أن الحكاية التي" تُقال عن الرشيد قد تكون أُلفّت بعده بقرون، أو حتى أُلِفّت قبله بقرون وأُضيف إليها اسمه إضافة مفتعلة عندما أراد القاصّ أن ينزل هذه القصّة القديمة إلى جوّ المسلمين فسمّى الملك القديم هارون الرشيد، ولم يجد من سامعيه تحرّجاً ولم يقدّر أنّ قوماً سيتساءلون ويخضعون قصصه، الذى ألفّه ليؤدّى غرضاً آخر، لقوانين العقل والواقع والحق".
وفى دراستى لملامح القاهرة فى حكايات ألف ليلة وليلة التى وصفتها، سأعتمد بالدرجة الأولى، فى تحديد حكايات الطبقة المصرية، المسمّيات المكانية للمدن المصرية وأحيائها، من دون أن أجدنى مضّطراً للخوض فى الآراء الكثيرة المتشعّبة والمتضاربة التى تؤكّد أو تنفى أو ترجّح أنّ هذه الحكاية أو تلك قاهرية أو بغدادية، أو هندية أو فارسية، لأنّ دراستى ستنطلق من الفضاء المكانى، وأهمّ ملامحه، وعلاقات شخوصه، ودور هؤلاء الشخوص فى تحديد سمات المكان وهم يصفونه، أو يتعايشون معه. وفى البداية تجدر الإشارة إلى أنّ الرّواة لا يذكرون القاهرة فى جميع الحكايات إلاّ مرّتين، وهم يستعيضون عنها باسم مصر، أو مصر القديمة، وهم يعنون بها القاهرة، لأنهم عندما يذكرون مصر فإنّهم يذكرون أحياء حقيقية لا تزال معروفة حتى الآن بالأسماء نفسها فى القاهرة المعاصرة، ومن هذه الأحياء:القليوبية، وخان مسرور، وباب زويلة، والحبّانية، وبين القصرين، وحى البنداقيين، وحارة اليمانية والجودرية، وميدان الفيل، وباب النصر، وحى العادلية.
أمّا حكايات القاهرة فى الليالى فهي: حكاية "الوزير نور الدين مع أخيه شمس الدين"، وهى داخلة ضمن حكاية "هارون الرشيد مع الصياد"، وتجرى حوادثها فى مصر والبصرة، وحكاية "النصرانى لملك الصين" ، وهى ضمن حكاية "الأحدب وملك الصين" ، وحكاية "علاء الدين أبى الشامات"، وهى مصرية وبغدادية فى آن، وحكاية "وردان الجزّار"، وهى فى زمن الحاكم بأمر الله، وحكاية "الملك الناصر والولاة الثلاثة"، وحكاية "علاء الدين والى قوص مع أحد اللصوص"، وحكاية "الرجل البغدادى الذى سافر إلى مصر لأجل ما رآه فى الحلم"، وفيها يرتحل السرد من بغداد إلى القاهرة، ثم يعود إلى بغداد، وحكاية "الحاكم بأمر الله مع الرجل الكريم"، وحكاية "على المصرى وزواجه ببنت ملك بغداد"، وكما يظهر من عنوان الحكاية، فإنّ الشخصية المصرية فيها ترتحل من القاهرة لتستقرّ ببغداد، وحكاية "جودر ابن التاجر عمر وأخويه"، وحكاية " على الزيبق المصرى ودليلة المحتالة"، وحوادثها فى القاهرة وبغداد، وحكاية "سيف الملوك وبديعة الجمال"، وهى داخلة ضمن حكاية "التاجر حسن مع الملك محمد بن سبائك" ، وحكاية "معروف الإسكافى وزوجته فاطمة العرّة"، وحكاية "الأمير شجاع الدين مع الرجل الصعيدى".
إذا كانت بغداد فى ألف ليلة وليلة قد نالت حظوة كبيرة عند الرّواة، باعتبارها مدينة مركزية للسياسة والسطوة والعلم والمعرفة والترف والرفاهية، فإنّ حظّ القاهرة بالرّغم من حكاياتها الكثيرة أقلّ من حظّ بغداد، إذ يصورّها الرّواة على أنّها مدينة "للاحتيال والشطارة والشعوذة والجهل"، ويمكن القول إنها تحتّل المرتبة الثالثة بين فضاءات المدن العربية فى ألف ليلة وليلة، بعد بغداد والبصرة، لكنّ هذه المدينة بالرّغم من أنها فضاء للاحتيال بامتياز، فإنّ عليها قسمات وملامح جمالية غير قليلة، فهى قريبة إلى القلب وعزيزة على النفس، وفضاء لمتعة العين والقلب: "فليس على وجه الأرض أحسن منها". ومن ملامحها: أنّ الحياة فيها طيبة، وأنها تجمع كل ما تطمح إليه ملذّات النفس البشرية، التقية والمارقة، وسكانها محلّ صدق، كما يذكر أحد الشعراء:
أأرحل من مصر وطيب نعيمها = وأى مكان بعدها لى شائق؟
بلاد تشوق العين و القلب بهجة = وتجمع ما يهوى تقى ومارق
وإخوان صدق يجمع الفضل شملهم = مجالسهم مما حووه حدائق
أسكان مصر إن قضى الله بالنوى = فثمّ عهود بيننا ومواثق
ومن صفاتها، أنها "مدينة مصر المحروسة" و "مدينة مصر السعيدة"، والمدينة التى يقصدها الراوى هنا، هى القاهرة تحديداً.
والقاهرة فى بعض حكايات ألف ليلة وليلة مدينة تجارية مزدهرة، وتجّارها أثرياء مترفون حتى التخمة: "كان بمدينة مصر رجل تاجر، وكان عنده شيء كثير من مال ونقود وجواهر ومعادن وأملاك لا تُحصى." لكنّ الرّاوى العاشق لبغداد ذات الشهرة التجارية التى لا تُضاهى، لا يستطيع أن يتخلّص من سحرها وجاذبيتها، وهو يصف ثراء التّجار فى القاهرة، بل يؤكّد أنهم يعودون بجذورهم إلى أصول بغدادية. فالتاجر المصرى الغنى صاحب الأموال التى لا تحصى "كان اسمه حسناً الجوهرى البغدادى".
ومن مظاهر ثراء التّجار فى مصر وأبّهتهم، ما نقرؤه عن شمس الدين والد علاء الدين أبى الشامات، فهو "صاحب خدم وحشم وعبيد وجوار ومماليك ومال كثير". وما يلاحظ على أولاد هؤلاء التّجار أنّ فضاء القاهرة بكلّ شساعته وجمال نسائه لا يغريهم بدوام العيش فيه، فابن التاجر حسن البغدادى، المدعو بـ "على المصرى" ، وعلاء الدين أبو الشامات ابن التاجر شمس الدين، يرفضان العيش فى القاهرة بالرغم من ثرائها الأسطورى، ويرتحلان إلى بغداد المركز ليستقرّا هناك بقية حياتهما. وهذا الارتحال عائد إلى أضواء الشهرة والثراء التى عاشتها بغداد المركزية.
ويقدّم الرّاوى تجّار مصر فى صورة مليئة بالكرم، وبخاصة فى علاقاتهم المتميزة مع رجال السلطة. فها هو أحد تجّار مصر الأثرياء الذى يملك مائة جارية، يكرم الخليفة الحاكم بأمر الله وجنوده، عندما ينزلون فى بستانه، ويطعمهم جميعاً مما أرسلته إليه جواريه المائة من طعام، إذ أخرج الرجل: "مائة بساط ومائة نطع ومائة وسادة ومائة طبق من الفاكهة، ومائة جام ملآن حلوى ومائة زبدية ملأى بالشرابات السكرية "، ثم قدّمها للخليفة وحرّاسه. ويقول الرّاوي: إنّ الخليفة الحاكم بأمر الله سجد "شكراً لله تعالى وقال: الحمد الله الذى جعل فى رعايانا من وسّع الله عليه حتى يطعم الخليفة وعسكره من غير استعداد لهم، من فاضل طعامه".
وصعايدة مصر هم الآخرون كرماء فى ألف ليلة وليلة، ويذكر الرّاوى أن متولّى القاهرة الأمير شجاع الدين محمد نزل وأعوانه عند رجل من أهل الصعيد، وباتوا عنده، فأكرمهم خير إكرام، وقدّم لهم كل ما يليق بهم.
إنّ صورة رجال مصر الكرماء فى الليالى لها خلفية تاريخية واقعية تسجّلها بعض المصادر التاريخية والاجتماعية، إذ يذكر ابن خلدون أنّ أهل مصر "أكثر صدقة وإيثاراً من جميع أهل الأمصار". ويتعاطف الرّاوى مع رجال مصر، وبطبيعة الحال يفضّلهم على رجال الإفرنج، انطلاقاً من أيديولوجيته الإسلامية، ويدفع نساء رجال الإفرنج إلى ترك أزواجهنّ محبّة برجال مصر، ففى حكاية "الأمير شجاع الدين مع الرجل الصعيدى" ، يتزوّج أحد رجال الصعيد امرأة إفرنجية جميلة، من سبايا نساء الإفرنج ـ أيام الحروب الصليبية ـ وعندما تُعقد الهدنة بين المسلمين والإفرنج لتبادل سبايا الطرفين وفقاً لمعاهدات وقف الحرب، يحضرون المرأة الإفرنجية، ويسألها رسول ملك الإفرنج، بحضور الملك الناصر وزوجها الصعيدي: "أتروحين إلى بلادك أم إلى زوجك فقد فكّ الله أسرك أنت وغيرك. فقالت للسلطان: أنا قد أسلمت وتزوّجت وحملت كما ترون وما بقيت الإفرنج تنتفع بى، فقال الرسول: أيما أحبّ إليك أهذا المسلم أو زوجك الفارس فلان؟ فقالت كما قالت للسلطان".
أمّا الصورة النقيضة لصورة ثراء التجار الفاحش فى القاهرة، فهى صورة المهمّشين اقتصادياً ومالياً، فمقابل الثراء الفاحش هناك الفقر المدقع، فأرباب المهن الدونية يتضوّرون جوعاً، مقارنة بالتجار الأثرياء، ولعلّ صورة معروف الإسكافى تجسّد حال هؤلاء المهمّشين، فقد "قعد فى الدكان إلى نصف النهار، فلم يأته شغل ولم يكن معه من حقّ الخبز شيء ثم إنه مرّ على دكان الكنافى ووقف باهتاً واغرورقت عيناه بالدموع ".
إنّ دراسة نصوص الليالى المتباعدة فى الزمان والمكان، والعادات والطباع والأخلاق، من شأنها أن تجعل الباحث لا يركن إلى نتائج دقيقة وثابتة أو متشابهة، لأنّ رواة الليالى المتعددين متناقضون فى رؤيتهم للحياة بعلاقاتها وقيمها، وكذلك نجد أنّ المدن والشخوص التى يصفونها، هى الأخرى مليئة بالتناقض أيضاً. وربما قد تكون ثمّة قواسم مشتركة بين الحكايات من حيث الأحداث والغايات، من جهة، وبين ملامح الشخوص ورؤيتها من جهة أخرى، لكنّ هذه القواسم تظلّ قابلة لشروخ وثغرات عديدة. ومن هذه الثغرات يبرز المتغاير، فإذا كان أحد الرّواة قد وقف مع الأمراء والأميرات، والأبطال التجار المغامرين، وحقّق لهم كل ما يطمحون إليه، فإنّ راوياً آخر وقف مع إسكافى فقير (معروف الإسكافى)، ونقله من حيه الفقير بمصر، إلى مدينة (اختيان الختن)، وأكرمه وسخّر له خاتم "شبيك لبيك أنا بين يديك" ، ثم جعله ملكاً على مدينة (اختيان الختن). وإذا كان راوٍ آخر قد رأى أنّ المرأة شرّ مطلق، فهى الزانية فى طبعها، والماكرة فى حياتها، فإنّ راوياً آخر قد رآها مليئة بالنبل والكرم والطهارة.
وإذا كان أحد رواة ألف ليلة وليلة يذكر أنه "كان فى مصر سلطان عدل وإحسان"، فإنّ راوياً آخر، انطلاقاً من فكرة الثنائيات الضدّية التى يركّز عليها معظم رواة ألف ليلة وليلة، يذكر أنه كان فى مصر ملك يسمى شمس الدولة، يعذّب الناس ظلماً، ويغتصب ممتلكاتهم قهراً، إذ أرسل هذا الملك "إلى أخوى جودر وجاء بهما ورماهما تحت العذاب، (...) وأخذ الخرجين منهما ووضعهما فى السجن". وإذا كان ظلم الحكام مستشرياً فى مصر، شأنها شأن كل مدن ألف ليلة وليلة وبلدانها، فإنّ هذا لا يمنع من أن تكون هناك شريحة تنتمى إلى السلطة، وتتحلّى بالكرم والنبل، ويؤلمها ما يعانى منه المظلومون والبؤساء فى مصر، وهذا ما نلمسه فى حكاية: "معروف الإسكافى وزوجته فاطمة العرّة"، إذ إنّ القاضى فطن إلى مكر زوجة معروف الإسكافى، فأنصفه منها، وتصدّق عليه: "وكان ذلك القاضى من أهل الخير، فأخرج له ربع دينار". ولا يعنى إذا كان هذا القاضى عادلاً، أنّ أعوانه عادلون، بل هم ظلمة، مثلهم مثل طبقة الحاشية التى تحيط بالرجل السلطوى الكبير فى الليالى، سواء أكان خليفة أم سلطاناً، أم قاضياً أم وزيراً، إذ يذكر الراوى فى الحكاية السابقة أن رسل القاضى، بعد أن أفرج هذا عن معروف الإسكافى، ذهبوا ليأخذوا منه إتاوة غصباً، على الرغم من أنه بريء ومظلوم: "وإذا بالرسل أتوا إليه وقالوا له: هات خدمتنا؟ فقال لهم: إنّ القاضى لم يأخذ منى شيئاً بل أعطانى ربع دينار. فقالوا: لا علاقة لنا بكون القاضى أعطاك أو أخذ منك، فإن لم تعطنا خدمتنا أخذناها قهراً عنك".
ومن الملامح الاجتماعية فى قاهرة ألف ليلة وليلة: ملمح المرأة الشريرة، وربما يكون هذا الملمح أهم ملمح لنساء ألف ليلة وليلة بعامة، ولنساء القاهرة بخاصة، "وشيء طبيعى أن يكثر الشرّ الصادر عن المرأة فى الليالى هذه الكثرة، وتعجّ به الصفحات فقد قامت هذه الحكايات على أساس من خيانة زوجة لزوجها، وتسببت فى تعقيده وسفكه للدماء". وتمثّل فاطمة العرّة، فى حكاية "معروف الإسكافى" ، المرأة فى أبشع صورها الشريرة والمحتالة. فقد كانت، كما يقول الرّاوي: "فاجرة شرّانية قليلة الحياء كثيرة الفتن، وكانت حاكمة على زوجها، وفى كل يوم تسبّه وتلعنه ألف مرة ".
ومن صور هذه المرأة الشريرة، شراهتها فى طلب الطعام، وإصرارها على أن يجلب لها زوجها كنافة خاصة بعسل النحل، وعندما لم يجد فى المدينة إلاّ كنافة بعسل القصب اضطرّ أن يحضرها، وعند ذلك انفجرت زوجته شراً وسفهاً: "وغضبت عليه وضربته بها فى وجهه وقالت له: قم يا مغفّل هات لى غيرها، ولكمته فى صدغه، فخلعت سناً من أسنانه ونزل الدم على صدره (...) وقبضت على لحيته". ولم تكتف هذه المرأة بذلك بل حاكت له مكيدة كادت تودى به، لأنه لم يستطع أن يشبع رغباتها المسعورة فى الحصول على الحلوى الفاخرة غالية الثمن، إذ إنها ربطت رباطاً على ذراعها ولوّثت ثيابها بالدم، وذهبت باكية إلى القاضى مدّعية أن زوجها معروف الإسكافى ضربها، وكسر ذراعها وقلع سنّها. وعندما يصلحهما القاضى تذهب إلى قاضٍ آخر وتشكو زوجها، مدّعية أنّه ضربها للمرّة الثانية. فيصلحهما القاضى، وعندما يعجز الزوج عن شراء الحلوى تصمّم على الانتقام منه وإذلاله، فتذهب إلى الباب العالى لتشكو زوجها للمرة الثالثة. فما كان من هذا الزوج المخذول إلاّ أن ترك القاهرة هارباً منها إلى مدينة أسطورية بعيدة اسمها "اختيان الختن".
وتمعن بعض نساء القاهرة، فى ألف ليلة وليلة، فى التهتك والشذوذ الجنسى، الذى يصل إلى حدّ ممارسة الجنس مع الحيوانات، فها هى المرأة فى حكاية " وردان الجزّار " ـ لا يذكر الراوى اسماً لها ـ تلوذ بجسد دبّ ضخم فى دهليز بعيد عن القاهرة، وتشترى كل يوم خروفاً من وردان الجزّار، وتطعمه لهذا الدبّ. يصف الرّاوى حالتها مع هذا الدبّ: "فلما فرغت (من إطعامه) أكلت كفايتها، ووضعت الفاكهة والنقل وحطّت النبيذ وصارت تشرب بقدح وتسقى الدبّ بطاسة من ذهب، حتى حصلت لها نشوة السكر، فنزعت لباسها ونامت، فقام الدبّ وواقعها وهى تعاطيه من أحسن ما يكون لبنى آدم، حتى فرغ وجلس، ثم وثب إليها وواقعها. ولما فرغ جلس واستراح. ولم يزل كذلك حتى فعل فيها عشر مرات ثم وقع كل منهما مغشياً عليه، وصارا لا يتحركان ".
قد يبدو الفعل الجنسى هنا أسطورياً فى عدد مرّاته، وفى الفضاء الواقع فيه (فضاء الدهليز)، لكنه ليس مستحيلاً، من حيث كونه تعبيراً عن إحدى حالات الشذوذ التى لم تسلم منها أية مدينة من المدن العربية الإسلامية، إذ شهدت العلاقات الجنسية انحرافاً، و "زحف الشذوذ الجنسى على المجتمعات العربية"، وعلى الرغم من محاربة الفقهاء والمتشدّدين، للشذوذ الجنسى فى المدينة الإسلامية، إلاّ أنّه "استمرّ رغم كل المراقبة والتحذيرات".
ويبدو أنّ مدينة القاهرة فى أزمنة الليالى كانت أكثر المدن فضاءً للحريات والعلاقات الجنسية، ويبدو أنّ سلطاتها فى تلك الأزمنة كانت غير صارمة فى تطبيق الحدود على العلاقات الجنسية، أو هى غير قادرة على تطبيقها، نظراً للكمّ الكثير من الأجناس البشرية التى وفدت إلى القاهرة. وهنا تتشابه القاهرة مع بغداد إلى حدّ بعيد من حيث الجنسيات المتعددة التى دخلتها عبر التاريخ.
ويلاحظ أن الشخوص إذا ما تعرّضت فى بعض مدن ألف ليلة وليلة إلى الكبت والحرمان الجنسى، فإنها تهرب من مدنها إلى فضاء مصر لتحقيق لذّاتها الجنسية، كما فى حكاية "داء غلبة الشهوة عند النساء ودواؤها" ، إذ تَوْلَع إحدى الشابات الأميرات بنكاح قرد، وعندما يكتشف والدها السلطان أمرها، يقرّر أن يقتلها خوف الفضيحة، فتهرب مع قردها إلى فضاء مصر الآمن لتحقيق الفعل الجنسى الشاذ معه: "فتزيت بزى المماليك وركبت فرساً وأخذت لها بغلاً حمّلته من الذهب والمعادن والقماش ما لا يوصف، وحملت القرد معها وسارت حتى وصلت به مصر، فنزلت فى بعض بيوت الصحراء". ولا يقصد الراوى بالصحراء تلك البعيدة عن مصر، بل يقصد الفضاء المحيط بمدينة القاهرة، والبعيد نسبياً عن الازدحام، لأنّ هذه الأميرة كانت تشترى كل يوم "لحماً من شاب جزّار". هذا إذا عرفنا أنّ المرافق التجارية فى تلك الأيام لم تكن موجودة فى الصحراء، باستثناء بعض الخانات التى شكّلت محطّات استراحة على الطرق الصحراوية، التى تربط بين المدن.
ونساء القاهرة متحررات وجريئات، إذ يخرجن إلى الأسواق ويلتقين بالرجال، ويبدو هذا طبيعياً فى مدينة تغصّ أسواقها بالازدحام، ويلتقى فيها الرجال بالنساء، من دون كبير عناء، فـ "تزاحم البشر فى القاهرة "عبر تاريخها الطويل" يجعل الفصل بين الجنسين مستحيلاً".. ويبدو أنّ مظاهر الترف التى عرفتها بعض أسر القاهرة الأرستقراطية، دفعت هاته النسوة للتحرّر، والاحتكاك بالرجال، والخروج من فضاءات المنازل إلى فضاءات المتاجر والأسواق المزدحمة بالمارين من الجنسيات المتعددة.
وتشير حكاية "النصرانى لملك الصين" الداخلة ضمن حكاية "الأحدب وملك الصين" إلى أنّ إحدى نساء القاهرة الجميلات المتحرّرات التقت بتاجر بغدادى شاب فى سوق " قيصرية جرجس" بالقاهرة، وسرعان ما أعلنت له حبّها، وواعدته على اللقاء بمنزلها، المليء جمالاً وأبّهة، بحى الحبّانية. يصف الراوى لقاءهما بمنزل المرأة: "لم أشعر إلاّ والصبية أقبلت وعليها تاج مكلّل بالدرّ والجوهر، فلما رأتنى تبسّمت وحضنتنى ووضعتنى على صدرها، وجعلت فمها على فمى وجعلت تمصّ لسانى وأنا كذلك (...) وتمكن حبّها عندى وهان على جميع المال. ثم أخذنا نلعب ونتهارش مع العناق والتقبيل إلى أن أتى الليل".
ويسجّل التاريخ بعضاً من ملامح نساء مصر المتحرّرات واللواتى يخرجن إلى الأسواق بحرّية، من دون أن يثير خروجهن حفيظة مجتمعهن وأزواجهن وإخوتهن وآبائهن. وعلى ما يبدو كان هذا الخروج الحرّ مثيراً ومغرياً للطامعين والمغامرين بغزو البلدان واغتصابها، ودافعاً لغزو مصر، إضافة إلى ذلك حالة الترف والبطر التى عاشتها مصر، والتى كانت هى الأخرى مغرية للاندماج فيها، ولحصاد نعيمها. ويروى تقى الدين أحمد بن على المقريزى الخبر الآتي: "أرسل أحد المغاربة جارية إلى مصر لتباع بألف دينار. فأتت سيدة وساومت على شرائها بعد أن فحصتها ثم اشترتها بستمائة دينار. وكانت السيدة ابنة الأخشيد محمد بن طغج ملك مصر حينذاك. وعندما عاد التاجر إلى وطنه روى الحكاية للمعزّ". فما كان من المعزّ لدين الله الفاطمى، إلاّ أن أغرته هذه الحكاية، فاستدعى الشيوخ، وطلب من التاجر أن يحكى لهم الحكاية، وعندها قرّر أن يغزو مصر قائلاً: "يا إخواننا انهضوا إلى مصر، فلن يحول بينكم وبينهم شيء فإنّ القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها وتشترى جارية لتتمتع بها وما هذا إلاّ من ضعف نفوس رجالهم وذهاب غيرتهم فانهضوا لمسيرنا إليهم".. فأجاب الشيوخ: "سمعاً وطاعة".".
وإذا أخذنا بصحّة هذا الخبر، فإنّه يمكن اعتبار أنّ أيديولوجيا غزو مصر من قبل المعزّ لدين الله كانت تستتر خلف نوايا عدوانية مبيتة، تطمح لتحقيق مكاسب خاصة، يحققها احتلال مصر، هذا البلد الذى يعنى بالنسبة للمعزّ الرفاهية وملذّات العيش، وفضاء حرّاً تحقق النفس فيه ما تصبو إليه من ثراء وامتلاك وملذّات لا يستطيع فضاء القيروان أن يحققها للمعزّ وقادته وأركان دولته. وإذا كانت جيوش المعزّ لدين الله زحفت من القيروان إلى مصر واستطاعت أن تحتلها، فإنّ هذا الاحتلال لم يكن ناتجاً عن ضعف نفوس رجال مصر، ولم يكن ناتجاً عن الحريات الاجتماعية العامة التى أعطت المرأة نوعاً من الاستقلالية فى تصرفاتها، بعيداً عن سلطة الرجال وجبروتهم، بل لأن سياسة الغزو كانت مهيأة نفسياً لأن ترى فى مصر فضاء جميلاً، تتحقّق فيه أحلام الغزاة الجامحة صوب الرفاهية وامتلاك الأموال والابتناء بالجوارى، إضافة إلى ذلك الاستعدادات الحربية لجيش غازٍ ضخمٍ "بلغ تعداده مائة ألف مقاتل مجهّزين بخير عتاد وبصحبتهم ألف جمل وعدد لا يحصى من الخيول التى حُمّلت بالفضّة والمؤن والذخائر".
وإذا كانت مصر فى بعض حكايات الليالى فضاء حرّاً تتحقق فيه حرية الفعل الجنسى، باعتباره فضاءً مفتوحاً على الموبقات والمعاصى ـ وهى فى هذا تشبه بغداد إلى حد بعيد، بل هى تفوقها ـ فإنه من الطبيعى أن يكون من بين هذه المعاصى شرب الخمرة. ففى حكاية " الملك الناصر وولاته الثلاثة"، يعترف والى القاهرة للملك الناصر بأن رجلين من رجال سلطته القضائية كانا ولعين بالخمرة، وما استطاع أن يضبطهما متلبّسين بالجرم، عندها احتال عليهما، وعندما ضبطهما عفا عنهما مقابل تقديمهما له رشوة مالية، على أنّ والى القاهرة لم يكن معنياً فى الحكاية بمنع الناس من شرب الخمرة، لأنه كان هناك دكاكين " للخمارين"، كما تذكر الحكاية، بل كان همّه أن يضبط هذين الرجلين من رجال سلطته، حتى ينتقم منهما، من دون الآخرين، ويقدّمهما إلى القضاء.
وفى حكاية "النصرانى لملك الصين" يرتحل بطل الحكاية، وهو شاب بغدادى، ـ لا يذكر الراوى اسماً لهذا الشاب ـ إلى القاهرة، وينزل فى أحد الخانات بحى " بين القصرين "، ويبيع تجارته، ويمعن فى ملذّات الطعام والشراب: " وأقمت أياماً كل يوم أفطر على قدح الشراب وأُحْضِر اللحم الضانى والحلويات". وعندما يتعرّف إلى إحدى السيدات القاهريات الثريات، فإنها تدعوه إلى منزلها، وهناك يغيبان فى حمّى الشراب والجنس كل ليلة: " فقدّمت لنا الجوارى الطعام والمدام فإذا هى حضرة كاملة فشربنا إلى نصف الليل ثم اضطجعنا، ونمنا فنمت معها إلى الصباح، فما رأيت عمرى مثل هذه الليلة".
ونظراً لثراء القوم وبطرهم فى القاهرة، وميلهم إلى اللذائذ والمتع، فإنّ حفلات شرابهم تكون عامرة بالطعام الفاخر. ويصف الرّاوى العشاء الذى أعدّه الشاب التاجر البغدادى، وأرسله إلى عشيقته القاهرية: " وجهّزت العشاء، فعملت جوزاً ولوزاً وتحتها أرز مفلفل، (...) وأخذت فاكهة ونقلاً ومشمشاً وأرسلتها". وإذا كانت عشيقة هذا الشاب (القاهرية) فى إحدى صفاتها مخلّة بالعرف الاجتماعى باعتبارها هى الباحثة عن الرجال، الطالبة لهم، والفاعلة فى علاقاتها الجنسية، لأنها هى التى تطلب من الشاب تحقيقها، وهى التى تبتزّه، لأنها تقبض منه بعد كل لقاء جسدى "خمسين ديناراً"، فإنها، وعندما يفتقر هذا الشاب ويصرف كل أمواله عليها، تبدى نبلاً عميقاً وأخلاقاً كريمة، إذ تعيد له كل أمواله، وتملّكه كل أموالها، وتتزوّجه حلالاً. يقول الشاب: "وأرسلت إلى الشهود فحضروا فقالت لهم اكتبوا كتابى على هذا الشاب واشهدوا أنى قبضت المهر، فكتبوا كتابى عليها ثم قالت: اشهدوا أنّ جميع مالى الذى فى هذا الصندوق وجميع ما عندى من المماليك والجوارى لهذا الشاب فشهدوا عليها، وقبلت أنا التمليك وانصرفوا بعدما أخذوا الأجرة، ثم أخذتنى من يدى وأوقفتنى على خزانة وفتحت صندوقاً كبيراً، وقالت لى انظر هذا الذى فى الصندوق، فنظرت فإذا هو ملآن مناديل، فقالت هذا مالك الذى أخذته منك (...) فخذ مالك فقد ردّه الله عليك".
إنّ هذا الملمح النبيل لصورة الأنثى فى الليالى لا يتكرّر كثيراً، لأنّ الغالبية العظمى من نساء الليالى محتالات وداعرات، ومبتزّات لأموال الرجال، وهذا ما تثبته البنية الفكرية والأيديولوجية لمجمل الرّواة الذين أضفوا على نساء الليالى مزيداً من الدونية والمكر والخداع ونقص العقل.
ومن وجوه القاهرة فى ألف ليلة وليلة: وجه الاحتيال واللصوصية، وهو الوجه الأبرز لهذه المدينة، فهناك المرأة المحتالة، وهناك الرجل المحتال، سواء أكان لصّاً أم فقيراً صعلوكاً، أم ملكاً كبيراً.
ومن لصوص القاهرة المحتالين، ما ذكره الراوى فى حكاية " الملك الناصر وولاته الثلاثة"، فبينما كان والى بولاق يوماً من الأيام جالساً فى داره مهموماً، من جرّاء دَين أصابه: " ثلاثمائة ألف دينار"، وإذا بمجموعة من اللصوص يطرقون بابه، ويقولون له: " إننا لصوص وغنمنا فى هذه الليلة غنيمة عظيمة وجعلناها برسمك لتستعين بها على هذه القضية التى أنت مهموم بسببها وتسدّ بها الدَّين الذى عليك". فما كان من الوالى إلاّ أنّ قدّر الموقف الذى عدّه كريماً من هؤلاء اللصوص، وأعطاهم المائة ألف دينار، التى كان قد ادّخرها لرد دينه، كما يذكر الراوى، معتبراً أنّ هذا المبلغ جزءًا من ثمن هذه الغنيمة التى ظنّ أنها كافية لردّ كل ديونه، إلاّ أنّ اللصوص لم يكونوا أصحاب مروءة، فهم مجرّد لصوص محترفين، ومحتالين مهرة. وتنطلى الحيلة على والى بولاق، ويفاجئنا راوى الحكاية بمكوّنات هذه الغنيمة، على لسان الوالى نفسه: " فلما أصبح الصباح رأيت ما فى الصندوق نحاساً مطلياً بالذّهب والقصدير يساوى كله خمسمائة درهم. فعظم على ذلك وضاعت الدنانير التى كانت معى، وازددت غمّاً على غمّى".
ويبقى سرد الراوى لهذه الحكاية ليس بريئاً، و "ليست هناك حكايات بريئة" فى ألف ليلة وليلة، فهذا الراوى يدين بشكل غير مباشر سلوك والى بولاق المتعاطف مع الظَلمة فى مدينته من جهة، يشير من جهة أخرى إلى الجهل الذى تغرق فيه السلطة، فبدلاً من أن يقبض الوالى على هؤلاء اللصوص، ويردّ ما سرقوه إلى أصحابه، ويكشف ما فى الصندوق قبل ذهابهم، فإنه يعطيهم مائة الألف دينار، ويتركهم يمضون " تحت الليل إلى حال سبيلهم، ولم يعلم بهم أحد".
وقد كان فقراء القاهرة فى الليالى قادرين أيضاً، على حبك الحيلة فى أعلى تقنياتها. فها هو معروف الإسكافى، بعد أن يهرب من القاهرة ويلجأ إلى "اختيان الختن "، يمارس الاحتيال ويدّعى أنه تاجر ثرى كبير، وأنّ حملته التجارية الكبيرة ستصل بعد أيام إلى المدينة، ويصدّقه الناس، ويقرضونه " ستين ألف دينار"، ويوهم الناس بأنّ أمواله الكثيرة جداً القادمة مع الحملة قادرة على تبديد فقر المدينة، فيقوم بتوزيع المبلغ الذى اقترضه على فقراء المدينة، ومن ثمّ لتكون هذه الحيلة طريقاً إلى كسب ودّ الملك، فما كان من الملك إلاّ أن قرّبه، ورغب فى تزويجه ابنته الجميلة. ووفق النسق السحرى الذى يحكم بنية السرد والفضاءات المكانية، التى يرتحل إليها السرد، يضفى الراوى على سلوك معروف الإسكافى هالة من الثراء الأسطورى، فيبدأ بتشكيل حالات من التخيل الكاذبة، تقوم بدورها فى حبك حيلة جديدة على الملك وابنته، إذ يدّعى أنه سيقدّم لابنة الملك مهراً يليق بمكانتها السياسية والاجتماعية. يقول معروف الإسكافي: " لابدّ أن أدفع صداقها خمسة آلاف كيس، وأحتاج إلى ألف كيس أفرّقها على الفقراء والمساكين ليلة الدخلة، وألف كيس أعطيها للذين يمشون فى الزّفّة، وألف كيس أعمل بها الأطعمة للعساكر وغيرهم؟ وأحتاج إلى مائة جوهرة أعطيها للملكة صبيحة العرس، ومائة جوهرة أفرّقها على الجوارى والخدم، فأعطى كل واحدة جوهرة تعظيماً لمقام العروسة؟ وأحتاج إلى أن أكسو ألف عريان من الفقراء " .
إنّ هذا التخيل السحرى الخارق، الذى يحلم به رجل إسكافى فقير، هو بنية تتكرر فى غير حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، فعندما يجد هذا الفقير أنّ الواقع الذى يعايشه لا يحقق ما يصبو إليه، فإنه يتحايل على من حوله، ويضفى على حيلته تخيلات لا تتحقّق إلاّ بالمصادفات الغرائبية السحرية الموجودة فى ألف ليلة وليلة، فـ " فى النصوص العجائبية ـ وألف ليلة وليلة من أهمها ـ يروى المؤلف أحداثاً غير قابلة للوقوع فى الحياة". وطالما أنّ الراوى الشعبى يعايش واقعاً أسود، ويتموضع فى طبقة دونية مهمّشة منه، فإنه شكّل بطلاً شعبياً كمعروف الإسكافى، جعله يتجاوز هذه الطبقة الدونية وفق عمليات التخيل، وصولاً إلى الطبقة العليا، والزواج بإحدى نسائها، وحمّل هذا البطل أحلامه الملغاة وأوهامه التى يستحيل أن تتحقق فى واقعه الأسود، ففى الأدب الشعبى " سبق لأقدم الشعوب بحقّ أن حقّقت رغباتها فى حكاياتها، وهى تلك الرغبات التى لم تظفر بتحقيقها قطّ فى الحياة".
لقد كان " القصاصون العرب (فى ألف ليلة وليلة) مدينين للمصريين بأعمال اللصوص الماكرة وبالحيل". وقد ظهرت معظم أشكال المكر والاحتيال فى كل مدن ألف ليلة وليلة ـ العربية وغير العربية ـ وبخاصة فى مدينتى القاهرة وبغداد. ولم تقتصر الحيلة على مذهب دون آخر، فهى عند المسلمين والمسيحيين واليهود والمجوس، وهم مواطنو مدن ألف ليلة وليلة. وقد تورّط فيها أهم ملوك مصر فى الليالى، وهو الملك الناصر (أشهر سلاطين المماليك)، إذ احتال هذا الملك على وزيره، أبى عامر بن مروان، لكى يأخذ منه غلاماً جميلاً من غلمان النصارى كان قد أُهدى إليه، وبعد أن يأخذه حيلة، يشى أعداء أبى عامر عند الملك الناصر بأنّ " عنده من الغلام بقية حرارة وأنه لا يزال يلهج بذكره حين تحركه الشمول فيقرع السنّ على إهداء الغلام". وعندما سمع الملك الناصر هذه الوشاية قرر أن ينتقم من وزيره أبى عامر، بعد أن يحتال عليه ليكشف مدى إخلاصه وولائه له، بكتابة رسالة مزوّرة عن لسان الغلام، يطلب فيها من مولاه الوزير أن يتحايل فى استدعائه من عند الملك، لأنه لا يطيق الصبر على مفارقته، وأنّه غير راغب بالبقاء فى دار الناصر، لكن الوزير وبفطنته السياسية اكتشف أنّ هذه الرسالة ما هى إلاّ مكيدة من الملك لاكتشاف مدى إخلاصه، فأخذ رسالة الغلام، وكتب على ظهرها هذه الأبيات:
أمن بعد أحكام التجارب ينبغى = لذى الحزم أن يسعى إلى غابة الأسد
ولا أنا ممن يغلب الحبّ عقله = ولا جاهل ما يدّعيه أولو الحسد
فإن كنت روحى قد وهبتك طائعاً = وكيف تردّ الروح إن فارقت جسدى
ويتابع الراوى قائلاً: " فلما وقف الناصر على الجواب تعجّب من فطنته ولم يعد إلى استماع واشٍ فيه بعد ذلك".
وقد كان ملوك مدن الليالى، سواء أكانت عربية أم أجنبية، يستشيرون ويقرّبون أصحاب الحيل الأذكياء، وعندما يجدون أنفسهم عاجزين عن حلّ مشكلة معينة، فقد كانوا يأخذون بآرائهم، وبخاصة آراء العجائز الماكرات اللواتى يفقن رجال زمانهنّ مكراً ودهاءً وخبرةً معرفية. فعلى سبيل المثال نجد أنّ الملك أفريدون ملك القسطنطينية، عندما تهزمه الجيوش الإسلامية ـ جيوش الملك شركان حاكم دمشق، وأخيه ضوء المكان حاكم بغداد ـ يلجأ إلى العجوز شواهى ذات الدواهى (أم حليفه الملك حردوب)، لكى تخطط له كيف يحارب ويحتال على الجيوش الإسلامية، أى أنّ أصحاب الحيل والمكر والمكيدة ـ فى الليالى ـ لم يكونوا يحتالون من أجل كسب العيش، أو إشباع شهواتهم الجنسية، أو من أجل الحصول على منصب يقرّبهم من السلطان فحسب، بل كانت لديهم معارفهم فى خطط الحروب العسكرية، وكانت لهم نظرتهم الثاقبة، لما يجرى فى مدنهم، وعلاقاتها الطبقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد تعلّموا الحيلة وأتقنوها وتفننوا فى حبكها.
إنّ القاهرة التى تبدو واقعية فى الليالى تمتزج بكثير من اللوحات السحرية، والتخيلية، التى أضفاها الرواة عليها، وهذه حال معظم مدن الليالى. فالمدينة الواقعية لا تتشكّل من فضاءاتها وعاداتها وملامحها التاريخية الواقعية فحسب، بل توغل بعيداً فى السحر والخرافة إذا ما رأى الرّواة أنّ ثمّة ضرورة لهذا السحر، لأنّ الحدث الواقعى لا ينمو مكتفياً بذاته فى مدن الليالى، بل يحتاج إلى حوافز سحرية لاستكمال بنائه.
ويحفل الفضاء السحرى للقاهرة، فى حكايات الليالى، بالجان وبأولاد ملوك الجان. ومن ملامح العوالم التخيلية والسحرية التى تحتفى بالجان والعفاريت ما يسجّله الراوى فى حكاية " معروف الإسكافى مع زوجته فاطمة العرّة"، فعندما يهرب معروف من شرّ زوجته وظلمها يجلس باكياً عند إحدى الدور الخربة المهجورة بحى العادلية، وإذا بحائط الدار ينشقّ، ويبرز منه مارد " طويل القامة رؤيته تقشعر منها الأبدان"، ويطلب منه أن يخبره بقصته حتى يساعده، وعندما يعرف قصّته مع زوجته يقول له: " أتريد أن أوصلك إلى بلاد لا تعرف لك زوجتك فيها طريقاً؟ قال له: نعم. قال: اركب فوق ظهرى. فركب وحمله وطار به بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وأنزله على رأس جبل عالٍ". ولأنّ معروفاً الإسكافى يعيش فى فضاء شعبى مصرى يؤمن بالسحر والقدرات الخارقة للجان والعفاريت، فإنّ الرّاوى ـ فيما بعد ـ يقدّم له كل الحوافز (الموتيفات) السحرية التى تجعله غنياً فى مدينة "اختيان الختن" الأسطورية ، ثم ملكاً عليها، إذ يقدّم له كنزاً أسطورياً فى طريق رجوعه من " اختيان الختن"، بعد أن هبطت عليه المواجع والأحزان. ويذكر الراوى أنه بينما كان عائداً شاهد رجلاً مسكيناً يحرث أرضه فى إحدى القرى الصغيرة، فعرض عليه أن يساعده فى الحراثة، ومن خلال حراثته وجد كنزاً كبيراً غاصّاً بالأموال والجواهر الثمينة.
إنّ الراوى الشعبى، وهو يقدّم هذا الكنز الكبير لبطله معروف الإسكافى، لن يعرّضه لهجمات اللصوص وقطّاع الطرق، وهو فى طريق عودته إلى "اختيان الختن"، بل سيقدّم له ـ حتى تصل الحكاية إلى ذروتها ـ حرّاساً لهذا الكنز، ولأنّ حراس هذا الكنز الكبير قد يعجزون عن الدفاع عنه، فيما إذا كانوا بشراً عاديين، فإنه وفقاً للنسق السحرى الغرائبى، سيقدّم له خاتماً سحرياً يخدمه مارد من الجان، وستسهم هذه الأداة السحرية فى نمو الحكاية، لأنّها ستعيد معروفاً الإسكافى إلى مدينة " اختيان الختن" مكللاً بالمال والمنعة، ومن شأن هذه الأداة السحرية أنّها تساعد البطل " فى النهاية على التخلص من سوء الطالع، ولكن قبل استلام الأداة السحرية يصبح البطل عرضة لعدد مختلف من الأحداث التى تؤدّى كلها، على أية حال، إلى نتيجة حصوله على تلك الأداة". ولم تسهم هذه الأداة السحرية فى تخليص معروف الإسكافى من سوء طالعه فحسب، بل قذفت به إلى أعلى المراتب الاجتماعية والسياسية وتوّجته ملكاً على "اختيان الختن"، بعد أن أثبت للناس جميعاً أنّه صادق فى ثرائه، وأثبت لوالد زوجته الملك أنه كفءٌ لابنته الجميلة.
ويتكرّر إسعاف البطل فى حكايات ألف ليلة وليلة المصرية بالأداة السحرية التى تنقله من وضع طبقى دونى إلى وضع آخر متميز، سلطوى وثرى، أو تزيل عنه همّاً أو ظلماّ حلّ به، وبخاصة إذا كان هذا البطل من أفراد الطبقة الشعبية، فالراوى فى حكاية " جودر وأخويه" ، يجعل التاجر المغربى يقدّم لجودر ـ عندما لقيه فى الحجّ ـ خاتماً سحرياً، وذلك بعد أن كان أخواه سالم وسليم قد تآمرا عليه وباعاه إلى رئيس بحر السويس، ولهذا الخاتم خادم من الجان اسمه الرعد القاصف، يقوم بمساندة البطل، ويتكفّل بنقله إلى مصر، وهنا يمكن القول: إنّه لا غرابة ـ وفق المنطق السحرى العجائبى الذى يتحكم فى علاقات الأبطال وارتحالاتهم ـ فى أن ينقل العفريت ـ خادم الخاتم السحرى ـ جودر بن عمر من مكّة إلى مصر، لأنّ المعتقد الشعبى " يجعل للجان من القوى والسمات الفائقة ما يقدّمهم على الإنسان ذاته، فلا يعود الإنسان مركز المخلوقات، ولا هو الذى أمر الله الملائكة أن يسجدوا له ففعلوا إلاّ إبليس فقد أبى واستكبر، وإنّما هو أدنى قوة وأقلّ سلطاناً من الجان". وستسهم هذه الأداة السحرية (الخاتم) فيما بعد، فى أن تقدّم لجودر أجمل امرأة فى المدينة، وهى الأميرة آسية بنت الملك شمس الدولة، وفى تتويجه ملكاً على مصر، بعد أن يموت ملكها شمس الدولة.
إذا كان الراوى فى بعض الحكايات المصرية لا يقدّم لأبطاله الفقراء الأداة السحرية التى ستجعلهم يتجاوزون مدنهم ومواطنيهم مالاً وسلطة، فإنه لا يحرمهم من الكنوز الأسطورية التى تجعلهم فى مصافِّ الملوك ثراءً. ويبقى تقديم هذه الكنوز لهؤلاء الأبطال المهانين اقتصادياً، نوعاً من التعويض والسمّو على الواقع الرثّ وتجاوزه بالاتكاء على الحلمى والتخيلى الذى يحقّق الإنسان فيه كل ما يصبو إليه، " ففى المجتمع الذى لا تتاح فيه الحياة المنطلقة يهرب العامّة من مواجهة مشاكلهم ومنها مسألة الحصول على الثروة ـ إلى تخيلات وأوهام، فما أيسر أن يعيش الوهم باستطاعة الحصول على كنز متى ألقيت التعزيمة المناسبة". إلاّ أنّ الرّاوى، فى موضع آخر، قدّم الأداة السحرية (خاتم شبيك لبيك) إلى البطل الشعبى جودر ابن التاجر عمر، لأنّ زمان الحكاية أسطورى تخيلى، وملك مصر فى هذا الزمان هو ملك أسطورى، واسمه " شمس الدولة"، وهو غير معروف تاريخياً من بين الملوك الذين حكمـوا مصـر فى الدولة الإسلامية.
ويلاحظ أنّ الكنوز فى الحكايات المصرية مرصودة بأسماء أبطال مصريين محددين، ولا يمكن أن تفتح أبوابها إلاّ لهؤلاء الأبطال، وهاهو الحاكم بأمر الله يقول لوردان الجزّار: " إنّ هذا الكنز لا يقدر لأحد أن يفتحه غيرك، فإنه مرصود باسمك وصنعتك (...) وهو عندى مؤرّخ وكنت أنتظر وقوعه حتى وقع ".
إنّ فضاءات مصر فى حكاية " جودر ابن التاجر عمر " هى فضاءات سحرية يسكنها ملوك الجان، ففى بركة " قارون" يسكن الجان أولاد الملك الأحمر الذين أتوا من فاس. وهذه البركة مرصودة أيضاً باسم الصياد "جودر"، إذ إنّ ملوك الجان الذين يعيشون على هيئة أسماك فى هذه البركة لا ينتصر عليهم إلاّ بشخص جودر ابن التاجر عمر، باعتباره التعويذة القادرة على فكّ سحرهم، كما يؤكّد الساحر الكهين الأبطن للمغربى عبد الصمد: "فرأيت أن هذا الكنز لا يفْتَح إلاّ على وجه غلام من أبناء مصر اسمه جودر بن عمر، فإنه سيكون سبباً فى قبض أولاد الملك الأحمر وذلك الغلام يكون صياداً، والاجتماع به يكون على بركة قارون ولا ينفعك هذا الرصد إلاّ إذا كان جودر ".
هذه هى بعض ملامح مصر والقاهرة فى ألف ليلة وليلة، وإن غابت القاهرة فى معظم الأحيان تسميةً فى الليالى واستُبدلت بمصر، فإنها هى المعنية فى أغلب الحكايات، لأنّ الرّواة يذكرون أحياء حقيقية عرفتها القاهرة قديماً، ولا تزال هذه الأحياء تحتفظ بأسمائها حتى وقتنا الراهن. كما أُشير إلى ذلك سابقاً.
إنّ القاهرة مدينة السحر، وهى تحتلّ فى الأدب الشعبى مكانة مهمّة ومتميزة، وهى "البلاد المليئة بالعجائب فحكاياتها الخرافية التى وصلت إلينا قد دُوِّنت فى أسلوب فنى، وهى إلى ذلك تُعدّ ينبوعاً للتراث الشعبى والعقائد القديمة البالغة فى القدم. وما يزال بعض هذه الحكايات يعيش فى الحكايات الشعبية لدى كثير من الشعوب". ولا تزال فضاءات القاهرة الشعبية هى الفضاءات العربية الأولى ـ إذا ما استثنينا فضاءات مدن المغرب التى تضاهيهاـ المغلّفة بنكهة السحر والأساطير والحيل والتمائم والحُجُب، والأولياء الصالحين، والحشيش والجوزة (النارجيلة)، والمقاهى التى لا تزال تحتفظ بطعم حكايات ألف ليلة وليلة، والنساء اللواتى يقرأن الكفّ ويفتحن المندل، ويغامرن فى شعاب الحياة كما الرجال، بل ربما أكثر. ويبدو أنّ هذه المدينة الثّرية البطرة، التى تعاقبت عليها حضارات ومدنيات وأمم كثيرة، كان لها حظّ وافر من الموسيقى والخمور والجوارى والملاهى والنساء. والاحتفالات بأعياد الفرح، وإقامة طقوس لهوها الخاصة، والمعارف والعلوم والطبّ والسحر وفنون الاحتيال.
وكما كانت حكايات مدينة القاهرة وغيرها من مدن ألف ليلة وليلة محكومة بثنائية الواقعى والتخيلى، فإنّ حكايات القاهرة المعاصرة هى الأخرى لا تزال موشومة بكثير من الواقعية السحرية والتخيل الغرائبى.
وأحبّ أن أشير فى نهاية هذه الدراسة إلى أنّ القرآن الكريم لم يذكر أى بلد عربى باسمه فى كل آياته سوى مكّة ومصر.
وإذا كانت مصر فى الأدبيات الكلاسيكية وكتب الرحالة مثالاً للرخاء والرفاهية، والدولة العامرة بالحياة، والرافلة بالترّف، كما يذكر ابن خلدون نقلاً عمن تحدّث عنها: " ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى فى عوائدهم ما يقضى منه العجب، حتى إنّ كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النُقْلَة إلى مصر لذلك، لما يبلغهم من أنّ شأن الرَّفْه بمصر أعظم من غيرها".، فإنها لم تسلم من هجاء بعض الشعراء.
لخراسان وبغداد والبصرة الصدارة فى الليالى، وتأتى بعدها من حيث الأهمية القاهرة ودمشق، هاتان المدينتان المهمتان اللتان لعبتا أدواراً سياسية وتجارية مهمة فى الدولة العربية الإسلامية
إن ما يميز حكايات ألف ليلة وليلة فى طبقتها المصرية كما يرى أحد الدارسين، وجود عنصر المغامرات فى بنية أحداثها "التى تعتمد المكر والحيلة من جانب والمنافسة السياسية الحادة من جانب آخر"
إنّ الراوى الشعبى، وهو يقدّم هذا الكنز الكبير لبطله معروف الإسكافى، لن يعرّضه لهجمات اللصوص وقطّاع الطرق، وهو فى طريق عودته إلى "اختيان الختن"، بل سيقدّم له ـ حتى تصل الحكاية إلى ذروتها ـ حرّاساً لهذا الكنز، ولأنّ حراس هذا الكنز الكبير قد يعجزون عن الدفاع عنه، فيما إذا كانوا بشراً عاديين، فإنه وفقاً للنسق السحرى الغرائبى، سيقدّم له خاتماً سحرياً يخدمه مارد من الجان، وستسهم هذه الأداة السحرية فى نمو الحكاية، لأنّها ستعيد معروفاً الإسكافى إلى مدينة " اختيان الختن" مكللاً بالمال والمنعة، ومن شأن هذه الأداة السحرية أنّها تساعد البطل " فى النهاية على التخلص من سوء الطالع، ولكن قبل استلام الأداة السحرية يصبح البطل عرضة لعدد مختلف من الأحداث التى تؤدّى كلها، على أية حال، إلى نتيجة حصوله على تلك الأداة". ولم تسهم هذه الأداة السحرية فى تخليص معروف الإسكافى من سوء طالعه فحسب، بل قذفت به إلى أعلى المراتب الاجتماعية والسياسية وتوّجته ملكاً على "اختيان الختن"، بعد أن أثبت للناس جميعاً أنّه صادق فى ثرائه، وأثبت لوالد زوجته الملك أنه كفءٌ لابنته الجميلة.
ويتكرّر إسعاف البطل فى حكايات ألف ليلة وليلة المصرية بالأداة السحرية التى تنقله من وضع طبقى دونى إلى وضع آخر متميز، سلطوى وثرى، أو تزيل عنه همّاً أو ظلماّ حلّ به، وبخاصة إذا كان هذا البطل من أفراد الطبقة الشعبية، فالراوى فى حكاية " جودر وأخويه" ، يجعل التاجر المغربى يقدّم لجودر ـ عندما لقيه فى الحجّ ـ خاتماً سحرياً، وذلك بعد أن كان أخواه سالم وسليم قد تآمرا عليه وباعاه إلى رئيس بحر السويس، ولهذا الخاتم خادم من الجان اسمه الرعد القاصف، يقوم بمساندة البطل، ويتكفّل بنقله إلى مصر، وهنا يمكن القول: إنّه لا غرابة ـ وفق المنطق السحرى العجائبى الذى يتحكم فى علاقات الأبطال وارتحالاتهم ـ فى أن ينقل العفريت ـ خادم الخاتم السحرى ـ جودر بن عمر من مكّة إلى مصر، لأنّ المعتقد الشعبى " يجعل للجان من القوى والسمات الفائقة ما يقدّمهم على الإنسان ذاته، فلا يعود الإنسان مركز المخلوقات، ولا هو الذى أمر الله الملائكة أن يسجدوا له ففعلوا إلاّ إبليس فقد أبى واستكبر، وإنّما هو أدنى قوة وأقلّ سلطاناً من الجان". وستسهم هذه الأداة السحرية (الخاتم) فيما بعد، فى أن تقدّم لجودر أجمل امرأة فى المدينة، وهى الأميرة آسية بنت الملك شمس الدولة، وفى تتويجه ملكاً على مصر، بعد أن يموت ملكها شمس الدولة.
إذا كان الراوى فى بعض الحكايات المصرية لا يقدّم لأبطاله الفقراء الأداة السحرية التى ستجعلهم يتجاوزون مدنهم ومواطنيهم مالاً وسلطة، فإنه لا يحرمهم من الكنوز الأسطورية التى تجعلهم فى مصافِّ الملوك ثراءً. ويبقى تقديم هذه الكنوز لهؤلاء الأبطال المهانين اقتصادياً، نوعاً من التعويض والسمّو على الواقع الرثّ وتجاوزه بالاتكاء على الحلمى والتخيلى الذى يحقّق الإنسان فيه كل ما يصبو إليه، " ففى المجتمع الذى لا تتاح فيه الحياة المنطلقة يهرب العامّة من مواجهة مشاكلهم ومنها مسألة الحصول على الثروة ـ إلى تخيلات وأوهام، فما أيسر أن يعيش الوهم باستطاعة الحصول على كنز متى ألقيت التعزيمة المناسبة". إلاّ أنّ الرّاوى، فى موضع آخر، قدّم الأداة السحرية (خاتم شبيك لبيك) إلى البطل الشعبى جودر ابن التاجر عمر، لأنّ زمان الحكاية أسطورى تخيلى، وملك مصر فى هذا الزمان هو ملك أسطورى، واسمه " شمس الدولة"، وهو غير معروف تاريخياً من بين الملوك الذين حكمـوا مصـر فى الدولة الإسلامية.
ويلاحظ أنّ الكنوز فى الحكايات المصرية مرصودة بأسماء أبطال مصريين محددين، ولا يمكن أن تفتح أبوابها إلاّ لهؤلاء الأبطال، وهاهو الحاكم بأمر الله يقول لوردان الجزّار: " إنّ هذا الكنز لا يقدر لأحد أن يفتحه غيرك، فإنه مرصود باسمك وصنعتك (...) وهو عندى مؤرّخ وكنت أنتظر وقوعه حتى وقع ".
إنّ فضاءات مصر فى حكاية " جودر ابن التاجر عمر " هى فضاءات سحرية يسكنها ملوك الجان، ففى بركة " قارون" يسكن الجان أولاد الملك الأحمر الذين أتوا من فاس. وهذه البركة مرصودة أيضاً باسم الصياد "جودر"، إذ إنّ ملوك الجان الذين يعيشون على هيئة أسماك فى هذه البركة لا ينتصر عليهم إلاّ بشخص جودر ابن التاجر عمر، باعتباره التعويذة القادرة على فكّ سحرهم، كما يؤكّد الساحر الكهين الأبطن للمغربى عبد الصمد: "فرأيت أن هذا الكنز لا يفْتَح إلاّ على وجه غلام من أبناء مصر اسمه جودر بن عمر، فإنه سيكون سبباً فى قبض أولاد الملك الأحمر وذلك الغلام يكون صياداً، والاجتماع به يكون على بركة قارون ولا ينفعك هذا الرصد إلاّ إذا كان جودر ".
هذه هى بعض ملامح مصر والقاهرة فى ألف ليلة وليلة، وإن غابت القاهرة فى معظم الأحيان تسميةً فى الليالى واستُبدلت بمصر، فإنها هى المعنية فى أغلب الحكايات، لأنّ الرّواة يذكرون أحياء حقيقية عرفتها القاهرة قديماً، ولا تزال هذه الأحياء تحتفظ بأسمائها حتى وقتنا الراهن. كما أُشير إلى ذلك سابقاً.
إنّ القاهرة مدينة السحر، وهى تحتلّ فى الأدب الشعبى مكانة مهمّة ومتميزة، وهى "البلاد المليئة بالعجائب فحكاياتها الخرافية التى وصلت إلينا قد دُوِّنت فى أسلوب فنى، وهى إلى ذلك تُعدّ ينبوعاً للتراث الشعبى والعقائد القديمة البالغة فى القدم. وما يزال بعض هذه الحكايات يعيش فى الحكايات الشعبية لدى كثير من الشعوب". ولا تزال فضاءات القاهرة الشعبية هى الفضاءات العربية الأولى ـ إذا ما استثنينا فضاءات مدن المغرب التى تضاهيهاـ المغلّفة بنكهة السحر والأساطير والحيل والتمائم والحُجُب، والأولياء الصالحين، والحشيش والجوزة (النارجيلة)، والمقاهى التى لا تزال تحتفظ بطعم حكايات ألف ليلة وليلة، والنساء اللواتى يقرأن الكفّ ويفتحن المندل، ويغامرن فى شعاب الحياة كما الرجال، بل ربما أكثر. ويبدو أنّ هذه المدينة الثّرية البطرة، التى تعاقبت عليها حضارات ومدنيات وأمم كثيرة، كان لها حظّ وافر من الموسيقى والخمور والجوارى والملاهى والنساء. والاحتفالات بأعياد الفرح، وإقامة طقوس لهوها الخاصة، والمعارف والعلوم والطبّ والسحر وفنون الاحتيال.
وكما كانت حكايات مدينة القاهرة وغيرها من مدن ألف ليلة وليلة محكومة بثنائية الواقعى والتخيلى، فإنّ حكايات القاهرة المعاصرة هى الأخرى لا تزال موشومة بكثير من الواقعية السحرية والتخيل الغرائبى.
وأحبّ أن أشير فى نهاية هذه الدراسة إلى أنّ القرآن الكريم لم يذكر أى بلد عربى باسمه فى كل آياته سوى مكّة ومصر.
وإذا كانت مصر فى الأدبيات الكلاسيكية وكتب الرحالة مثالاً للرخاء والرفاهية، والدولة العامرة بالحياة، والرافلة بالترّف، كما يذكر ابن خلدون نقلاً عمن تحدّث عنها: " ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى فى عوائدهم ما يقضى منه العجب، حتى إنّ كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النُقْلَة إلى مصر لذلك، لما يبلغهم من أنّ شأن الرَّفْه بمصر أعظم من غيرها".، فإنها لم تسلم من هجاء بعض الشعراء.
لخراسان وبغداد والبصرة الصدارة فى الليالى، وتأتى بعدها من حيث الأهمية القاهرة ودمشق، هاتان المدينتان المهمتان اللتان لعبتا أدواراً سياسية وتجارية مهمة فى الدولة العربية الإسلامية
إن ما يميز حكايات ألف ليلة وليلة فى طبقتها المصرية كما يرى أحد الدارسين، وجود عنصر المغامرات فى بنية أحداثها "التى تعتمد المكر والحيلة من جانب والمنافسة السياسية الحادة من جانب آخر"
* د. محمد عبد الرحمن يونس
القـــاهرة فى حكايات ألف ليلة وليلة
إنّ أهمّ المدن التى ذكرتها حكايات ألف ليلة وليلة هى المدن الحضرية القريبة من البحار والأنهار، والمليئة بالعمران والبساتين، والحمّامات والأسواق والحانات التجارية. وحكايات ألف ليلة وليلة هى حكايات المدينة العربية الإسلامية فى أوج نموّها المعرفى والحضارى فى العصر الوسيط، ومثاقفتها وعلاقاتها مع المدن الأخرى، والحضارات الأخرى الهندية والفارسية والصينية، وإن ابتعدت هذه الحكايات عن المدن المزدهرة، فإنّها لا تبتعد عن بنية هذه المدن إلاّ لتنتقل إلى مدن أسطورية وجزر تبدو غاية فى الجمال، وكأنها الصورة الندية لهذه المدن. يقول أحد الرواة واصفاً إحدى هذه الجزر: " فنظروا إلى تلك الجزيرة فرأوا فيها أشجاراً وأنهاراً وثماراً وبساتين، وفيها من جميع الفواكه والأنهار من تحت تلك الأشجار، وهى كأنّها الجنّة". وعموماً تبدو المدن التى يصل إليها الرّواة كأنّها جنان الأرض، من حيث التشكيل العمرانى، ونشاط الحركة التجارية، وجمال النساء اللاتى يصفهنّ الرّواة بالأقمار المشعّة.
غير أنّ المدن التى وصفتها حكايات ألف ليلة وليلة ليست مدناً مدينية تماماً، بل تبدو علاقاتها علاقات بدوية، على الرغم من استهجان الراوى المدينى لعلاقات البادية، فحتى بغداد المركزية أو البصرة المدينة الحضرية المهمّة فى الليالى لا تخلو تماماً من علاقات البداوة وقيمها.
لقد كان رواة ألف ليلة وليلة وَلِعين بوصف المدن الكبيرة والارتحال إليها، فى حين أنّ المدن الصغيرة لم تكن إلاّ محطّات سفر، يرتاح فيها الأبطال والتجّار، أو طرقاً إجبارية يضطرّ السرد للمرور بها للوصول إلى المدينة المركز الحلم، التى تحتضن الأبطال وتعطيهم المال والشهرة والنساء، وكل ما لذّ وطاب.
لخراسان وبغداد والبصرة الصدارة فى الليالى، وتأتى بعدها من حيث الأهمية القاهرة ودمشق، هاتان المدينتان المهمّتان اللتان لعبتا أدواراً سياسية وتجارية مهمّة فى الدولة العربية الإسلامية. فدمشق كانت عاصمة للدولة العربية ـ أيام الأمويين ـ التى بسطت هيبتها على جميع بلاد أواسط آسية (فى التركستان)، وغربى الهند (باكستان اليوم)، وعلى شمال القارة الأفريقية، وعلى شبه جزيرة إيبيرية (إسبانية والبرتغال)، حتى أنّ الزحف العربى اجتاز جبال البرانس إلى فرنسة، ووصل إلى مدينة تور فى الشمال الغربى من فرنسة.
أمّا القاهرة فقد " مثّلت عاصمة المدنية" فى ليالى ألف ليلة، إذ كانت "مصر تجذب التجار لا ليثروا من التجارة فيها ولكن ليروا مظاهر المدنية والخصب والثراء". إلاّ أنّ مركزية القاهرة فى الليالى أهمّ بكثير من دمشق، على الرّغم من أنّ دمشق فى التاريخ كانت عاصمة للخلافة الإسلامية، وكانت أكثر مركزية من القاهرة. ولا ندرى ما السبب الرئيس الذى جعل الرّواة يحتفون بالقاهرة أكثر من دمشق، إلاّ أنّه يمكن القول: إنّ "الإضافات الأخيرة التى أُضيفت إلى هذا الكتاب (كتاب ألف ليلة وليلة) الضخم حدثت فى مصر، والراجح أنّ ذلك كان فى أواخر عهد المماليك، ولعلها وُضِعت فى القاهرة (...) وهذا الرأى يمكن استنتاجه (...) من لغة هذا الجزء (الإضافات) فهى تشبه اللغة العربية فى عصورها المتأخّرة وتقرب فى كثير من الوجوه من اللغة المصرية الدارجة". ولأنّ هذه الإضافات حدثت فى القاهرة، فقد كان نصيب القاهرة فى هذه الحكايات أكبر من نصيب دمشق، لأنّه من الطبيعى أن يسجّل الرواة أخبار مدينتهم قبل المدن الأخرى، وعلى الرّغم من ذلك فإن ّ ثمّة إشارات غير قليلة فى الليالى إلى أهمية دمشق ومركزيتها أيام الدولة الأموية، وهذه الإشارات تجعلها تتفوق على مدن أخرى كثيرة، ومنها: الكوفة والقدس والإسكندرية وحلب وصنعاء وفاس، وغيرها من المدن العربية والأجنبية الأخرى الواردة فى الليالى، والتى لا تتعدّى أن تكون محطات لاستراحات قصيرة جداً.
ويلاحظ أنّ حكايات القاهرة لا تنتمى تحديداً إلى فضاءات القاهرة، بل إنّ الرّواة كانوا يعرفون أهمية بغداد المركز، ولذا فقد بدأوا بسرد الحكاية من القاهرة، ثم ارتحل أبطالهم مع ارتحال السرد إلى بغداد المركز. وهكذا تنتهى بعض حكايات (القاهرة) فى بغداد، كحكاية "علاء الدين أبى الشامات"، وحكاية "على الزيبق المصرى"، وحكاية "على المصرى وزواجه ببنت ملك بغداد".
وقد اعتبر الدّارسون أنّ الحكايات المصرية أضافها رواة محترفون إلى كتاب ألف ليلة وليلة، وقد عمل هؤلاء الرّواة على تضخيم حجم الكتاب بقصص عربية فيها الكثير من التقاليد الإسلامية، والأساطير الفرعونية والسير اليهودية فى آن، واعتبروا أنّ هذه الحكايات مرّت فى ثلاثة أطوار:
1 ـ الطور الفاطمي: وفيه رُوِيت حكايات متأثّرة بالطلاسم والسحر والجن.
2 ـ الطور الأيوّبي: وفيه رويت قصص البطولة والحروب.
3 ـ الطور المملوكي: وتسجّل حكايات هذا الطور أخبار المدن والشطّار.
ولم تسهم الإضافات الأخيرة إلى كتاب ألف ليلة وليلة، من قبل الرّواة المصريين، فى ترجيح كفّة القاهرة على بغداد، لأنّ بغداد تمثّل الكلّ الحضارى والمعرفى المزدهر للدولة الإسلامية، ولأنّها تتربّع على عرش المجد السياسى فى التوسّع والنفوذ والقوّة، يضاف إلى ذلك "أنّ القصاص المصرى إذا تحدّث عن مصر ـ وهو منها وفيها ـ تحدّث عمّا يرى، وعبّر عمّا يسمع (...) أمّا إذا تكلم عن بغداد فإنما يتأثّر بعوامل أربعة: يتأثّر بما وُضِع من الأقاصيص الجميلة فى بغداد، ويتأثّر بما ملأ الآذان وشغل الأذهان عن عظمة بغداد وأبّهة الخلافة، ويتأثّر بما ركّب الله فى طباع الناس من تقديس الماضى، وتعظيم البعيد، ويتأثّر بجهله أحداث التاريخ وتطوّر الأمم، فيأبى وهو فى القرن العاشر من الهجرة أن يعترف بموت "الرشيد" ومصرع "بغداد" ونكبة المجد الأثيل".
ومن البديهى أن نقول إنّ بغداد المركزية فى الليالى، والأولى فى الحضارة العربية الإسلامية، فى العهد العباسى، تتفوّق على دمشق، لا من حيث عدد الحكايات فحسب، بل من مستويات عديدة أخرى، كنموّ الأحداث وتشعبها، وحركة الأبطال، وحركة الوحدات السردية منها وإليها، وتشعب الملامح الاجتماعية والسياسية والثقافية التى امتازت بها بغداد، وتعدّد الفضاءات المكانية وأهميتها فى بناء حكايات بغداد، وقدرة بغداد هذه المدينة المنفتحة حضارياً على استيعاب الأقوام والشعوب ومن جنسيات مختلفة، وعلى التفاعل معها، واحتضانها.
وفى هذه الدراسة أحاول أن أتبين ملامحها، التى لا يذكرها الرّواة تحديداً، بل يستبدلونها بمدينة مصر التى هى مدينة القاهرة، لأن الرواة عندما يذكرون مدناً مصرية أخرى فإنهم يحدّدونها، كالإسكندرية والقليوبية ودمياط، وأن أتبين ملامحها، وبعضاً من بنيتها المعرفية والاجتماعية والسياسية والتجارية، منطلقاً من نصّ الليالى نفسه، ومعتمداً فى آن بعض الخلفيات المرجعية التاريخية التى ذكرت هذه المدينة..
يتّفق الدارسون على أنّ كتاب ألف ليلة وليلة يتكون من طبقات متعددة، وإحدى هذه الطبقات كُتبت فى بغداد وأخرى كتبت فى مصر. والطبقة المصرية أُضِيفت إلى الكتاب فى زمن متأخر، فـ "الأقاصيص الهينة الجيدة السبك التى تمثّل حياة الطبقة الوسطى وتقوم على مشكلة من مشكلات الحب ويكون حلّها على يد الخليفة هى من الطبقة البغدادية، وأمّا حكايات الصعاليك وحكايات الجن ـ وهذه فى الغالب ضعيفة الأسلوب ـ فهى من طبقة مصرية متأخّرة". إنّ ما يميز حكايات ألف ليلة وليلة فى طبقتها المصرية كما يرى أحد الدارسين، وجود عنصر المغامرات فى بنية أحداثها "التى تعتمد المكر والحيلة من جانب والمنافسة السياسية الحادة من جانب آخر". على أن الدارس، مهما كان دقيقاً، لا يستطيع أن يصنّف خصائص معينة ودقيقة للطبقة المصرية، تميزها عن البغدادية أو الهندية أو الفارسية، لأنّ معظم الحكايات تلتقى فى معظم بنياتها التركيبية، التى تتشابه من حيث الحيلة والمكر والقتل والدهاء والجوارى الجميلات، ورجال السلطة السفّاحين، والملوك والأمراء الذين يتطاحنون حروباً مدمّرة فى تنافساتهم السياسية. فالطور البغدادى يتداخل مع الطور القاهرى، ويتزامن معه، والسارد الذى يكون فى بغداد سرعان ما ينتقل إلى القاهرة، وبالعكس، كما فى حكاية "على الزيبق المصرى ودليلة المحتالة"، والذى يكون فى القاهرة سرعان ما ينتقل إلى بغداد، بوحداته السردية كما فى حكاية "علاء الدين أبى الشامات" ، وقد "كان القصاص المصرى يعتمد على ما يصدر عن بغداد من الأقاصيص الموضوعة والمنقولة، والرّوايات القديمة الصحيحة والمدخولة، ثم يضيف إلى ذلك ما تُنوقل فى مصر وما تجمّع من الأخبار من التجار والرحالين والبحارين، فقد كان هؤلاء بعد عودتهم من البلدان النازحة يدوّنون ما رأوا من الأعاجيب".
ويمكن بشيء من التقريب القول: إنّ الطريقة التى يمكنها أن تلقى الضوء لمعرفة الطور القاهرى، ولو بشكل نسبى، هى متابعة السارد وهو يحدد الأماكن الواقعية التى يصل إليها الأبطال، أو يسمّى بعض أحيائها، أو يحدد أسماء حكّامها الحقيقيين فى الأزمنة التى حكموا فيها، وسيساعدنا أيضاً، فى تحديد هذه الحكايات لغة الحكاية التى تنهل فى تركيبتها من لهجة المدينة، لأنّ هذه اللهجة من شأنها "أن تقودنا إلى أصل النص"، فالحكايات التى تذكر المدن المصرية تحتفظ بلهجة عامية، لا تزال معروفة فى مصر حتى الآن. على أنّ ذكر الشخصية المقرونة بمكان معين، أو بزمان يدور الأبطال فى فضائه التاريخى، ليس دليلاً كافياً لمعرفة أصل الحكاية، أو الطبقة التى تنتمى إليها، فعلى سبيل المثال نجد أن الحكاية التي" تُقال عن الرشيد قد تكون أُلفّت بعده بقرون، أو حتى أُلِفّت قبله بقرون وأُضيف إليها اسمه إضافة مفتعلة عندما أراد القاصّ أن ينزل هذه القصّة القديمة إلى جوّ المسلمين فسمّى الملك القديم هارون الرشيد، ولم يجد من سامعيه تحرّجاً ولم يقدّر أنّ قوماً سيتساءلون ويخضعون قصصه، الذى ألفّه ليؤدّى غرضاً آخر، لقوانين العقل والواقع والحق".
وفى دراستى لملامح القاهرة فى حكايات ألف ليلة وليلة التى وصفتها، سأعتمد بالدرجة الأولى، فى تحديد حكايات الطبقة المصرية، المسمّيات المكانية للمدن المصرية وأحيائها، من دون أن أجدنى مضّطراً للخوض فى الآراء الكثيرة المتشعّبة والمتضاربة التى تؤكّد أو تنفى أو ترجّح أنّ هذه الحكاية أو تلك قاهرية أو بغدادية، أو هندية أو فارسية، لأنّ دراستى ستنطلق من الفضاء المكانى، وأهمّ ملامحه، وعلاقات شخوصه، ودور هؤلاء الشخوص فى تحديد سمات المكان وهم يصفونه، أو يتعايشون معه. وفى البداية تجدر الإشارة إلى أنّ الرّواة لا يذكرون القاهرة فى جميع الحكايات إلاّ مرّتين، وهم يستعيضون عنها باسم مصر، أو مصر القديمة، وهم يعنون بها القاهرة، لأنهم عندما يذكرون مصر فإنّهم يذكرون أحياء حقيقية لا تزال معروفة حتى الآن بالأسماء نفسها فى القاهرة المعاصرة، ومن هذه الأحياء:القليوبية، وخان مسرور، وباب زويلة، والحبّانية، وبين القصرين، وحى البنداقيين، وحارة اليمانية والجودرية، وميدان الفيل، وباب النصر، وحى العادلية.
أمّا حكايات القاهرة فى الليالى فهي: حكاية "الوزير نور الدين مع أخيه شمس الدين"، وهى داخلة ضمن حكاية "هارون الرشيد مع الصياد"، وتجرى حوادثها فى مصر والبصرة، وحكاية "النصرانى لملك الصين" ، وهى ضمن حكاية "الأحدب وملك الصين" ، وحكاية "علاء الدين أبى الشامات"، وهى مصرية وبغدادية فى آن، وحكاية "وردان الجزّار"، وهى فى زمن الحاكم بأمر الله، وحكاية "الملك الناصر والولاة الثلاثة"، وحكاية "علاء الدين والى قوص مع أحد اللصوص"، وحكاية "الرجل البغدادى الذى سافر إلى مصر لأجل ما رآه فى الحلم"، وفيها يرتحل السرد من بغداد إلى القاهرة، ثم يعود إلى بغداد، وحكاية "الحاكم بأمر الله مع الرجل الكريم"، وحكاية "على المصرى وزواجه ببنت ملك بغداد"، وكما يظهر من عنوان الحكاية، فإنّ الشخصية المصرية فيها ترتحل من القاهرة لتستقرّ ببغداد، وحكاية "جودر ابن التاجر عمر وأخويه"، وحكاية " على الزيبق المصرى ودليلة المحتالة"، وحوادثها فى القاهرة وبغداد، وحكاية "سيف الملوك وبديعة الجمال"، وهى داخلة ضمن حكاية "التاجر حسن مع الملك محمد بن سبائك" ، وحكاية "معروف الإسكافى وزوجته فاطمة العرّة"، وحكاية "الأمير شجاع الدين مع الرجل الصعيدى".
إذا كانت بغداد فى ألف ليلة وليلة قد نالت حظوة كبيرة عند الرّواة، باعتبارها مدينة مركزية للسياسة والسطوة والعلم والمعرفة والترف والرفاهية، فإنّ حظّ القاهرة بالرّغم من حكاياتها الكثيرة أقلّ من حظّ بغداد، إذ يصورّها الرّواة على أنّها مدينة "للاحتيال والشطارة والشعوذة والجهل"، ويمكن القول إنها تحتّل المرتبة الثالثة بين فضاءات المدن العربية فى ألف ليلة وليلة، بعد بغداد والبصرة، لكنّ هذه المدينة بالرّغم من أنها فضاء للاحتيال بامتياز، فإنّ عليها قسمات وملامح جمالية غير قليلة، فهى قريبة إلى القلب وعزيزة على النفس، وفضاء لمتعة العين والقلب: "فليس على وجه الأرض أحسن منها". ومن ملامحها: أنّ الحياة فيها طيبة، وأنها تجمع كل ما تطمح إليه ملذّات النفس البشرية، التقية والمارقة، وسكانها محلّ صدق، كما يذكر أحد الشعراء:
أأرحل من مصر وطيب نعيمها = وأى مكان بعدها لى شائق؟
بلاد تشوق العين و القلب بهجة = وتجمع ما يهوى تقى ومارق
وإخوان صدق يجمع الفضل شملهم = مجالسهم مما حووه حدائق
أسكان مصر إن قضى الله بالنوى = فثمّ عهود بيننا ومواثق
ومن صفاتها، أنها "مدينة مصر المحروسة" و "مدينة مصر السعيدة"، والمدينة التى يقصدها الراوى هنا، هى القاهرة تحديداً.
والقاهرة فى بعض حكايات ألف ليلة وليلة مدينة تجارية مزدهرة، وتجّارها أثرياء مترفون حتى التخمة: "كان بمدينة مصر رجل تاجر، وكان عنده شيء كثير من مال ونقود وجواهر ومعادن وأملاك لا تُحصى." لكنّ الرّاوى العاشق لبغداد ذات الشهرة التجارية التى لا تُضاهى، لا يستطيع أن يتخلّص من سحرها وجاذبيتها، وهو يصف ثراء التّجار فى القاهرة، بل يؤكّد أنهم يعودون بجذورهم إلى أصول بغدادية. فالتاجر المصرى الغنى صاحب الأموال التى لا تحصى "كان اسمه حسناً الجوهرى البغدادى".
ومن مظاهر ثراء التّجار فى مصر وأبّهتهم، ما نقرؤه عن شمس الدين والد علاء الدين أبى الشامات، فهو "صاحب خدم وحشم وعبيد وجوار ومماليك ومال كثير". وما يلاحظ على أولاد هؤلاء التّجار أنّ فضاء القاهرة بكلّ شساعته وجمال نسائه لا يغريهم بدوام العيش فيه، فابن التاجر حسن البغدادى، المدعو بـ "على المصرى" ، وعلاء الدين أبو الشامات ابن التاجر شمس الدين، يرفضان العيش فى القاهرة بالرغم من ثرائها الأسطورى، ويرتحلان إلى بغداد المركز ليستقرّا هناك بقية حياتهما. وهذا الارتحال عائد إلى أضواء الشهرة والثراء التى عاشتها بغداد المركزية.
ويقدّم الرّاوى تجّار مصر فى صورة مليئة بالكرم، وبخاصة فى علاقاتهم المتميزة مع رجال السلطة. فها هو أحد تجّار مصر الأثرياء الذى يملك مائة جارية، يكرم الخليفة الحاكم بأمر الله وجنوده، عندما ينزلون فى بستانه، ويطعمهم جميعاً مما أرسلته إليه جواريه المائة من طعام، إذ أخرج الرجل: "مائة بساط ومائة نطع ومائة وسادة ومائة طبق من الفاكهة، ومائة جام ملآن حلوى ومائة زبدية ملأى بالشرابات السكرية "، ثم قدّمها للخليفة وحرّاسه. ويقول الرّاوي: إنّ الخليفة الحاكم بأمر الله سجد "شكراً لله تعالى وقال: الحمد الله الذى جعل فى رعايانا من وسّع الله عليه حتى يطعم الخليفة وعسكره من غير استعداد لهم، من فاضل طعامه".
وصعايدة مصر هم الآخرون كرماء فى ألف ليلة وليلة، ويذكر الرّاوى أن متولّى القاهرة الأمير شجاع الدين محمد نزل وأعوانه عند رجل من أهل الصعيد، وباتوا عنده، فأكرمهم خير إكرام، وقدّم لهم كل ما يليق بهم.
إنّ صورة رجال مصر الكرماء فى الليالى لها خلفية تاريخية واقعية تسجّلها بعض المصادر التاريخية والاجتماعية، إذ يذكر ابن خلدون أنّ أهل مصر "أكثر صدقة وإيثاراً من جميع أهل الأمصار". ويتعاطف الرّاوى مع رجال مصر، وبطبيعة الحال يفضّلهم على رجال الإفرنج، انطلاقاً من أيديولوجيته الإسلامية، ويدفع نساء رجال الإفرنج إلى ترك أزواجهنّ محبّة برجال مصر، ففى حكاية "الأمير شجاع الدين مع الرجل الصعيدى" ، يتزوّج أحد رجال الصعيد امرأة إفرنجية جميلة، من سبايا نساء الإفرنج ـ أيام الحروب الصليبية ـ وعندما تُعقد الهدنة بين المسلمين والإفرنج لتبادل سبايا الطرفين وفقاً لمعاهدات وقف الحرب، يحضرون المرأة الإفرنجية، ويسألها رسول ملك الإفرنج، بحضور الملك الناصر وزوجها الصعيدي: "أتروحين إلى بلادك أم إلى زوجك فقد فكّ الله أسرك أنت وغيرك. فقالت للسلطان: أنا قد أسلمت وتزوّجت وحملت كما ترون وما بقيت الإفرنج تنتفع بى، فقال الرسول: أيما أحبّ إليك أهذا المسلم أو زوجك الفارس فلان؟ فقالت كما قالت للسلطان".
أمّا الصورة النقيضة لصورة ثراء التجار الفاحش فى القاهرة، فهى صورة المهمّشين اقتصادياً ومالياً، فمقابل الثراء الفاحش هناك الفقر المدقع، فأرباب المهن الدونية يتضوّرون جوعاً، مقارنة بالتجار الأثرياء، ولعلّ صورة معروف الإسكافى تجسّد حال هؤلاء المهمّشين، فقد "قعد فى الدكان إلى نصف النهار، فلم يأته شغل ولم يكن معه من حقّ الخبز شيء ثم إنه مرّ على دكان الكنافى ووقف باهتاً واغرورقت عيناه بالدموع ".
إنّ دراسة نصوص الليالى المتباعدة فى الزمان والمكان، والعادات والطباع والأخلاق، من شأنها أن تجعل الباحث لا يركن إلى نتائج دقيقة وثابتة أو متشابهة، لأنّ رواة الليالى المتعددين متناقضون فى رؤيتهم للحياة بعلاقاتها وقيمها، وكذلك نجد أنّ المدن والشخوص التى يصفونها، هى الأخرى مليئة بالتناقض أيضاً. وربما قد تكون ثمّة قواسم مشتركة بين الحكايات من حيث الأحداث والغايات، من جهة، وبين ملامح الشخوص ورؤيتها من جهة أخرى، لكنّ هذه القواسم تظلّ قابلة لشروخ وثغرات عديدة. ومن هذه الثغرات يبرز المتغاير، فإذا كان أحد الرّواة قد وقف مع الأمراء والأميرات، والأبطال التجار المغامرين، وحقّق لهم كل ما يطمحون إليه، فإنّ راوياً آخر وقف مع إسكافى فقير (معروف الإسكافى)، ونقله من حيه الفقير بمصر، إلى مدينة (اختيان الختن)، وأكرمه وسخّر له خاتم "شبيك لبيك أنا بين يديك" ، ثم جعله ملكاً على مدينة (اختيان الختن). وإذا كان راوٍ آخر قد رأى أنّ المرأة شرّ مطلق، فهى الزانية فى طبعها، والماكرة فى حياتها، فإنّ راوياً آخر قد رآها مليئة بالنبل والكرم والطهارة.
وإذا كان أحد رواة ألف ليلة وليلة يذكر أنه "كان فى مصر سلطان عدل وإحسان"، فإنّ راوياً آخر، انطلاقاً من فكرة الثنائيات الضدّية التى يركّز عليها معظم رواة ألف ليلة وليلة، يذكر أنه كان فى مصر ملك يسمى شمس الدولة، يعذّب الناس ظلماً، ويغتصب ممتلكاتهم قهراً، إذ أرسل هذا الملك "إلى أخوى جودر وجاء بهما ورماهما تحت العذاب، (...) وأخذ الخرجين منهما ووضعهما فى السجن". وإذا كان ظلم الحكام مستشرياً فى مصر، شأنها شأن كل مدن ألف ليلة وليلة وبلدانها، فإنّ هذا لا يمنع من أن تكون هناك شريحة تنتمى إلى السلطة، وتتحلّى بالكرم والنبل، ويؤلمها ما يعانى منه المظلومون والبؤساء فى مصر، وهذا ما نلمسه فى حكاية: "معروف الإسكافى وزوجته فاطمة العرّة"، إذ إنّ القاضى فطن إلى مكر زوجة معروف الإسكافى، فأنصفه منها، وتصدّق عليه: "وكان ذلك القاضى من أهل الخير، فأخرج له ربع دينار". ولا يعنى إذا كان هذا القاضى عادلاً، أنّ أعوانه عادلون، بل هم ظلمة، مثلهم مثل طبقة الحاشية التى تحيط بالرجل السلطوى الكبير فى الليالى، سواء أكان خليفة أم سلطاناً، أم قاضياً أم وزيراً، إذ يذكر الراوى فى الحكاية السابقة أن رسل القاضى، بعد أن أفرج هذا عن معروف الإسكافى، ذهبوا ليأخذوا منه إتاوة غصباً، على الرغم من أنه بريء ومظلوم: "وإذا بالرسل أتوا إليه وقالوا له: هات خدمتنا؟ فقال لهم: إنّ القاضى لم يأخذ منى شيئاً بل أعطانى ربع دينار. فقالوا: لا علاقة لنا بكون القاضى أعطاك أو أخذ منك، فإن لم تعطنا خدمتنا أخذناها قهراً عنك".
ومن الملامح الاجتماعية فى قاهرة ألف ليلة وليلة: ملمح المرأة الشريرة، وربما يكون هذا الملمح أهم ملمح لنساء ألف ليلة وليلة بعامة، ولنساء القاهرة بخاصة، "وشيء طبيعى أن يكثر الشرّ الصادر عن المرأة فى الليالى هذه الكثرة، وتعجّ به الصفحات فقد قامت هذه الحكايات على أساس من خيانة زوجة لزوجها، وتسببت فى تعقيده وسفكه للدماء". وتمثّل فاطمة العرّة، فى حكاية "معروف الإسكافى" ، المرأة فى أبشع صورها الشريرة والمحتالة. فقد كانت، كما يقول الرّاوي: "فاجرة شرّانية قليلة الحياء كثيرة الفتن، وكانت حاكمة على زوجها، وفى كل يوم تسبّه وتلعنه ألف مرة ".
ومن صور هذه المرأة الشريرة، شراهتها فى طلب الطعام، وإصرارها على أن يجلب لها زوجها كنافة خاصة بعسل النحل، وعندما لم يجد فى المدينة إلاّ كنافة بعسل القصب اضطرّ أن يحضرها، وعند ذلك انفجرت زوجته شراً وسفهاً: "وغضبت عليه وضربته بها فى وجهه وقالت له: قم يا مغفّل هات لى غيرها، ولكمته فى صدغه، فخلعت سناً من أسنانه ونزل الدم على صدره (...) وقبضت على لحيته". ولم تكتف هذه المرأة بذلك بل حاكت له مكيدة كادت تودى به، لأنه لم يستطع أن يشبع رغباتها المسعورة فى الحصول على الحلوى الفاخرة غالية الثمن، إذ إنها ربطت رباطاً على ذراعها ولوّثت ثيابها بالدم، وذهبت باكية إلى القاضى مدّعية أن زوجها معروف الإسكافى ضربها، وكسر ذراعها وقلع سنّها. وعندما يصلحهما القاضى تذهب إلى قاضٍ آخر وتشكو زوجها، مدّعية أنّه ضربها للمرّة الثانية. فيصلحهما القاضى، وعندما يعجز الزوج عن شراء الحلوى تصمّم على الانتقام منه وإذلاله، فتذهب إلى الباب العالى لتشكو زوجها للمرة الثالثة. فما كان من هذا الزوج المخذول إلاّ أن ترك القاهرة هارباً منها إلى مدينة أسطورية بعيدة اسمها "اختيان الختن".
وتمعن بعض نساء القاهرة، فى ألف ليلة وليلة، فى التهتك والشذوذ الجنسى، الذى يصل إلى حدّ ممارسة الجنس مع الحيوانات، فها هى المرأة فى حكاية " وردان الجزّار " ـ لا يذكر الراوى اسماً لها ـ تلوذ بجسد دبّ ضخم فى دهليز بعيد عن القاهرة، وتشترى كل يوم خروفاً من وردان الجزّار، وتطعمه لهذا الدبّ. يصف الرّاوى حالتها مع هذا الدبّ: "فلما فرغت (من إطعامه) أكلت كفايتها، ووضعت الفاكهة والنقل وحطّت النبيذ وصارت تشرب بقدح وتسقى الدبّ بطاسة من ذهب، حتى حصلت لها نشوة السكر، فنزعت لباسها ونامت، فقام الدبّ وواقعها وهى تعاطيه من أحسن ما يكون لبنى آدم، حتى فرغ وجلس، ثم وثب إليها وواقعها. ولما فرغ جلس واستراح. ولم يزل كذلك حتى فعل فيها عشر مرات ثم وقع كل منهما مغشياً عليه، وصارا لا يتحركان ".
قد يبدو الفعل الجنسى هنا أسطورياً فى عدد مرّاته، وفى الفضاء الواقع فيه (فضاء الدهليز)، لكنه ليس مستحيلاً، من حيث كونه تعبيراً عن إحدى حالات الشذوذ التى لم تسلم منها أية مدينة من المدن العربية الإسلامية، إذ شهدت العلاقات الجنسية انحرافاً، و "زحف الشذوذ الجنسى على المجتمعات العربية"، وعلى الرغم من محاربة الفقهاء والمتشدّدين، للشذوذ الجنسى فى المدينة الإسلامية، إلاّ أنّه "استمرّ رغم كل المراقبة والتحذيرات".
ويبدو أنّ مدينة القاهرة فى أزمنة الليالى كانت أكثر المدن فضاءً للحريات والعلاقات الجنسية، ويبدو أنّ سلطاتها فى تلك الأزمنة كانت غير صارمة فى تطبيق الحدود على العلاقات الجنسية، أو هى غير قادرة على تطبيقها، نظراً للكمّ الكثير من الأجناس البشرية التى وفدت إلى القاهرة. وهنا تتشابه القاهرة مع بغداد إلى حدّ بعيد من حيث الجنسيات المتعددة التى دخلتها عبر التاريخ.
ويلاحظ أن الشخوص إذا ما تعرّضت فى بعض مدن ألف ليلة وليلة إلى الكبت والحرمان الجنسى، فإنها تهرب من مدنها إلى فضاء مصر لتحقيق لذّاتها الجنسية، كما فى حكاية "داء غلبة الشهوة عند النساء ودواؤها" ، إذ تَوْلَع إحدى الشابات الأميرات بنكاح قرد، وعندما يكتشف والدها السلطان أمرها، يقرّر أن يقتلها خوف الفضيحة، فتهرب مع قردها إلى فضاء مصر الآمن لتحقيق الفعل الجنسى الشاذ معه: "فتزيت بزى المماليك وركبت فرساً وأخذت لها بغلاً حمّلته من الذهب والمعادن والقماش ما لا يوصف، وحملت القرد معها وسارت حتى وصلت به مصر، فنزلت فى بعض بيوت الصحراء". ولا يقصد الراوى بالصحراء تلك البعيدة عن مصر، بل يقصد الفضاء المحيط بمدينة القاهرة، والبعيد نسبياً عن الازدحام، لأنّ هذه الأميرة كانت تشترى كل يوم "لحماً من شاب جزّار". هذا إذا عرفنا أنّ المرافق التجارية فى تلك الأيام لم تكن موجودة فى الصحراء، باستثناء بعض الخانات التى شكّلت محطّات استراحة على الطرق الصحراوية، التى تربط بين المدن.
ونساء القاهرة متحررات وجريئات، إذ يخرجن إلى الأسواق ويلتقين بالرجال، ويبدو هذا طبيعياً فى مدينة تغصّ أسواقها بالازدحام، ويلتقى فيها الرجال بالنساء، من دون كبير عناء، فـ "تزاحم البشر فى القاهرة "عبر تاريخها الطويل" يجعل الفصل بين الجنسين مستحيلاً".. ويبدو أنّ مظاهر الترف التى عرفتها بعض أسر القاهرة الأرستقراطية، دفعت هاته النسوة للتحرّر، والاحتكاك بالرجال، والخروج من فضاءات المنازل إلى فضاءات المتاجر والأسواق المزدحمة بالمارين من الجنسيات المتعددة.
وتشير حكاية "النصرانى لملك الصين" الداخلة ضمن حكاية "الأحدب وملك الصين" إلى أنّ إحدى نساء القاهرة الجميلات المتحرّرات التقت بتاجر بغدادى شاب فى سوق " قيصرية جرجس" بالقاهرة، وسرعان ما أعلنت له حبّها، وواعدته على اللقاء بمنزلها، المليء جمالاً وأبّهة، بحى الحبّانية. يصف الراوى لقاءهما بمنزل المرأة: "لم أشعر إلاّ والصبية أقبلت وعليها تاج مكلّل بالدرّ والجوهر، فلما رأتنى تبسّمت وحضنتنى ووضعتنى على صدرها، وجعلت فمها على فمى وجعلت تمصّ لسانى وأنا كذلك (...) وتمكن حبّها عندى وهان على جميع المال. ثم أخذنا نلعب ونتهارش مع العناق والتقبيل إلى أن أتى الليل".
ويسجّل التاريخ بعضاً من ملامح نساء مصر المتحرّرات واللواتى يخرجن إلى الأسواق بحرّية، من دون أن يثير خروجهن حفيظة مجتمعهن وأزواجهن وإخوتهن وآبائهن. وعلى ما يبدو كان هذا الخروج الحرّ مثيراً ومغرياً للطامعين والمغامرين بغزو البلدان واغتصابها، ودافعاً لغزو مصر، إضافة إلى ذلك حالة الترف والبطر التى عاشتها مصر، والتى كانت هى الأخرى مغرية للاندماج فيها، ولحصاد نعيمها. ويروى تقى الدين أحمد بن على المقريزى الخبر الآتي: "أرسل أحد المغاربة جارية إلى مصر لتباع بألف دينار. فأتت سيدة وساومت على شرائها بعد أن فحصتها ثم اشترتها بستمائة دينار. وكانت السيدة ابنة الأخشيد محمد بن طغج ملك مصر حينذاك. وعندما عاد التاجر إلى وطنه روى الحكاية للمعزّ". فما كان من المعزّ لدين الله الفاطمى، إلاّ أن أغرته هذه الحكاية، فاستدعى الشيوخ، وطلب من التاجر أن يحكى لهم الحكاية، وعندها قرّر أن يغزو مصر قائلاً: "يا إخواننا انهضوا إلى مصر، فلن يحول بينكم وبينهم شيء فإنّ القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها وتشترى جارية لتتمتع بها وما هذا إلاّ من ضعف نفوس رجالهم وذهاب غيرتهم فانهضوا لمسيرنا إليهم".. فأجاب الشيوخ: "سمعاً وطاعة".".
وإذا أخذنا بصحّة هذا الخبر، فإنّه يمكن اعتبار أنّ أيديولوجيا غزو مصر من قبل المعزّ لدين الله كانت تستتر خلف نوايا عدوانية مبيتة، تطمح لتحقيق مكاسب خاصة، يحققها احتلال مصر، هذا البلد الذى يعنى بالنسبة للمعزّ الرفاهية وملذّات العيش، وفضاء حرّاً تحقق النفس فيه ما تصبو إليه من ثراء وامتلاك وملذّات لا يستطيع فضاء القيروان أن يحققها للمعزّ وقادته وأركان دولته. وإذا كانت جيوش المعزّ لدين الله زحفت من القيروان إلى مصر واستطاعت أن تحتلها، فإنّ هذا الاحتلال لم يكن ناتجاً عن ضعف نفوس رجال مصر، ولم يكن ناتجاً عن الحريات الاجتماعية العامة التى أعطت المرأة نوعاً من الاستقلالية فى تصرفاتها، بعيداً عن سلطة الرجال وجبروتهم، بل لأن سياسة الغزو كانت مهيأة نفسياً لأن ترى فى مصر فضاء جميلاً، تتحقّق فيه أحلام الغزاة الجامحة صوب الرفاهية وامتلاك الأموال والابتناء بالجوارى، إضافة إلى ذلك الاستعدادات الحربية لجيش غازٍ ضخمٍ "بلغ تعداده مائة ألف مقاتل مجهّزين بخير عتاد وبصحبتهم ألف جمل وعدد لا يحصى من الخيول التى حُمّلت بالفضّة والمؤن والذخائر".
وإذا كانت مصر فى بعض حكايات الليالى فضاء حرّاً تتحقق فيه حرية الفعل الجنسى، باعتباره فضاءً مفتوحاً على الموبقات والمعاصى ـ وهى فى هذا تشبه بغداد إلى حد بعيد، بل هى تفوقها ـ فإنه من الطبيعى أن يكون من بين هذه المعاصى شرب الخمرة. ففى حكاية " الملك الناصر وولاته الثلاثة"، يعترف والى القاهرة للملك الناصر بأن رجلين من رجال سلطته القضائية كانا ولعين بالخمرة، وما استطاع أن يضبطهما متلبّسين بالجرم، عندها احتال عليهما، وعندما ضبطهما عفا عنهما مقابل تقديمهما له رشوة مالية، على أنّ والى القاهرة لم يكن معنياً فى الحكاية بمنع الناس من شرب الخمرة، لأنه كان هناك دكاكين " للخمارين"، كما تذكر الحكاية، بل كان همّه أن يضبط هذين الرجلين من رجال سلطته، حتى ينتقم منهما، من دون الآخرين، ويقدّمهما إلى القضاء.
وفى حكاية "النصرانى لملك الصين" يرتحل بطل الحكاية، وهو شاب بغدادى، ـ لا يذكر الراوى اسماً لهذا الشاب ـ إلى القاهرة، وينزل فى أحد الخانات بحى " بين القصرين "، ويبيع تجارته، ويمعن فى ملذّات الطعام والشراب: " وأقمت أياماً كل يوم أفطر على قدح الشراب وأُحْضِر اللحم الضانى والحلويات". وعندما يتعرّف إلى إحدى السيدات القاهريات الثريات، فإنها تدعوه إلى منزلها، وهناك يغيبان فى حمّى الشراب والجنس كل ليلة: " فقدّمت لنا الجوارى الطعام والمدام فإذا هى حضرة كاملة فشربنا إلى نصف الليل ثم اضطجعنا، ونمنا فنمت معها إلى الصباح، فما رأيت عمرى مثل هذه الليلة".
ونظراً لثراء القوم وبطرهم فى القاهرة، وميلهم إلى اللذائذ والمتع، فإنّ حفلات شرابهم تكون عامرة بالطعام الفاخر. ويصف الرّاوى العشاء الذى أعدّه الشاب التاجر البغدادى، وأرسله إلى عشيقته القاهرية: " وجهّزت العشاء، فعملت جوزاً ولوزاً وتحتها أرز مفلفل، (...) وأخذت فاكهة ونقلاً ومشمشاً وأرسلتها". وإذا كانت عشيقة هذا الشاب (القاهرية) فى إحدى صفاتها مخلّة بالعرف الاجتماعى باعتبارها هى الباحثة عن الرجال، الطالبة لهم، والفاعلة فى علاقاتها الجنسية، لأنها هى التى تطلب من الشاب تحقيقها، وهى التى تبتزّه، لأنها تقبض منه بعد كل لقاء جسدى "خمسين ديناراً"، فإنها، وعندما يفتقر هذا الشاب ويصرف كل أمواله عليها، تبدى نبلاً عميقاً وأخلاقاً كريمة، إذ تعيد له كل أمواله، وتملّكه كل أموالها، وتتزوّجه حلالاً. يقول الشاب: "وأرسلت إلى الشهود فحضروا فقالت لهم اكتبوا كتابى على هذا الشاب واشهدوا أنى قبضت المهر، فكتبوا كتابى عليها ثم قالت: اشهدوا أنّ جميع مالى الذى فى هذا الصندوق وجميع ما عندى من المماليك والجوارى لهذا الشاب فشهدوا عليها، وقبلت أنا التمليك وانصرفوا بعدما أخذوا الأجرة، ثم أخذتنى من يدى وأوقفتنى على خزانة وفتحت صندوقاً كبيراً، وقالت لى انظر هذا الذى فى الصندوق، فنظرت فإذا هو ملآن مناديل، فقالت هذا مالك الذى أخذته منك (...) فخذ مالك فقد ردّه الله عليك".
إنّ هذا الملمح النبيل لصورة الأنثى فى الليالى لا يتكرّر كثيراً، لأنّ الغالبية العظمى من نساء الليالى محتالات وداعرات، ومبتزّات لأموال الرجال، وهذا ما تثبته البنية الفكرية والأيديولوجية لمجمل الرّواة الذين أضفوا على نساء الليالى مزيداً من الدونية والمكر والخداع ونقص العقل.
ومن وجوه القاهرة فى ألف ليلة وليلة: وجه الاحتيال واللصوصية، وهو الوجه الأبرز لهذه المدينة، فهناك المرأة المحتالة، وهناك الرجل المحتال، سواء أكان لصّاً أم فقيراً صعلوكاً، أم ملكاً كبيراً.
ومن لصوص القاهرة المحتالين، ما ذكره الراوى فى حكاية " الملك الناصر وولاته الثلاثة"، فبينما كان والى بولاق يوماً من الأيام جالساً فى داره مهموماً، من جرّاء دَين أصابه: " ثلاثمائة ألف دينار"، وإذا بمجموعة من اللصوص يطرقون بابه، ويقولون له: " إننا لصوص وغنمنا فى هذه الليلة غنيمة عظيمة وجعلناها برسمك لتستعين بها على هذه القضية التى أنت مهموم بسببها وتسدّ بها الدَّين الذى عليك". فما كان من الوالى إلاّ أنّ قدّر الموقف الذى عدّه كريماً من هؤلاء اللصوص، وأعطاهم المائة ألف دينار، التى كان قد ادّخرها لرد دينه، كما يذكر الراوى، معتبراً أنّ هذا المبلغ جزءًا من ثمن هذه الغنيمة التى ظنّ أنها كافية لردّ كل ديونه، إلاّ أنّ اللصوص لم يكونوا أصحاب مروءة، فهم مجرّد لصوص محترفين، ومحتالين مهرة. وتنطلى الحيلة على والى بولاق، ويفاجئنا راوى الحكاية بمكوّنات هذه الغنيمة، على لسان الوالى نفسه: " فلما أصبح الصباح رأيت ما فى الصندوق نحاساً مطلياً بالذّهب والقصدير يساوى كله خمسمائة درهم. فعظم على ذلك وضاعت الدنانير التى كانت معى، وازددت غمّاً على غمّى".
ويبقى سرد الراوى لهذه الحكاية ليس بريئاً، و "ليست هناك حكايات بريئة" فى ألف ليلة وليلة، فهذا الراوى يدين بشكل غير مباشر سلوك والى بولاق المتعاطف مع الظَلمة فى مدينته من جهة، يشير من جهة أخرى إلى الجهل الذى تغرق فيه السلطة، فبدلاً من أن يقبض الوالى على هؤلاء اللصوص، ويردّ ما سرقوه إلى أصحابه، ويكشف ما فى الصندوق قبل ذهابهم، فإنه يعطيهم مائة الألف دينار، ويتركهم يمضون " تحت الليل إلى حال سبيلهم، ولم يعلم بهم أحد".
وقد كان فقراء القاهرة فى الليالى قادرين أيضاً، على حبك الحيلة فى أعلى تقنياتها. فها هو معروف الإسكافى، بعد أن يهرب من القاهرة ويلجأ إلى "اختيان الختن "، يمارس الاحتيال ويدّعى أنه تاجر ثرى كبير، وأنّ حملته التجارية الكبيرة ستصل بعد أيام إلى المدينة، ويصدّقه الناس، ويقرضونه " ستين ألف دينار"، ويوهم الناس بأنّ أمواله الكثيرة جداً القادمة مع الحملة قادرة على تبديد فقر المدينة، فيقوم بتوزيع المبلغ الذى اقترضه على فقراء المدينة، ومن ثمّ لتكون هذه الحيلة طريقاً إلى كسب ودّ الملك، فما كان من الملك إلاّ أن قرّبه، ورغب فى تزويجه ابنته الجميلة. ووفق النسق السحرى الذى يحكم بنية السرد والفضاءات المكانية، التى يرتحل إليها السرد، يضفى الراوى على سلوك معروف الإسكافى هالة من الثراء الأسطورى، فيبدأ بتشكيل حالات من التخيل الكاذبة، تقوم بدورها فى حبك حيلة جديدة على الملك وابنته، إذ يدّعى أنه سيقدّم لابنة الملك مهراً يليق بمكانتها السياسية والاجتماعية. يقول معروف الإسكافي: " لابدّ أن أدفع صداقها خمسة آلاف كيس، وأحتاج إلى ألف كيس أفرّقها على الفقراء والمساكين ليلة الدخلة، وألف كيس أعطيها للذين يمشون فى الزّفّة، وألف كيس أعمل بها الأطعمة للعساكر وغيرهم؟ وأحتاج إلى مائة جوهرة أعطيها للملكة صبيحة العرس، ومائة جوهرة أفرّقها على الجوارى والخدم، فأعطى كل واحدة جوهرة تعظيماً لمقام العروسة؟ وأحتاج إلى أن أكسو ألف عريان من الفقراء " .
إنّ هذا التخيل السحرى الخارق، الذى يحلم به رجل إسكافى فقير، هو بنية تتكرر فى غير حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، فعندما يجد هذا الفقير أنّ الواقع الذى يعايشه لا يحقق ما يصبو إليه، فإنه يتحايل على من حوله، ويضفى على حيلته تخيلات لا تتحقّق إلاّ بالمصادفات الغرائبية السحرية الموجودة فى ألف ليلة وليلة، فـ " فى النصوص العجائبية ـ وألف ليلة وليلة من أهمها ـ يروى المؤلف أحداثاً غير قابلة للوقوع فى الحياة". وطالما أنّ الراوى الشعبى يعايش واقعاً أسود، ويتموضع فى طبقة دونية مهمّشة منه، فإنه شكّل بطلاً شعبياً كمعروف الإسكافى، جعله يتجاوز هذه الطبقة الدونية وفق عمليات التخيل، وصولاً إلى الطبقة العليا، والزواج بإحدى نسائها، وحمّل هذا البطل أحلامه الملغاة وأوهامه التى يستحيل أن تتحقق فى واقعه الأسود، ففى الأدب الشعبى " سبق لأقدم الشعوب بحقّ أن حقّقت رغباتها فى حكاياتها، وهى تلك الرغبات التى لم تظفر بتحقيقها قطّ فى الحياة".
لقد كان " القصاصون العرب (فى ألف ليلة وليلة) مدينين للمصريين بأعمال اللصوص الماكرة وبالحيل". وقد ظهرت معظم أشكال المكر والاحتيال فى كل مدن ألف ليلة وليلة ـ العربية وغير العربية ـ وبخاصة فى مدينتى القاهرة وبغداد. ولم تقتصر الحيلة على مذهب دون آخر، فهى عند المسلمين والمسيحيين واليهود والمجوس، وهم مواطنو مدن ألف ليلة وليلة. وقد تورّط فيها أهم ملوك مصر فى الليالى، وهو الملك الناصر (أشهر سلاطين المماليك)، إذ احتال هذا الملك على وزيره، أبى عامر بن مروان، لكى يأخذ منه غلاماً جميلاً من غلمان النصارى كان قد أُهدى إليه، وبعد أن يأخذه حيلة، يشى أعداء أبى عامر عند الملك الناصر بأنّ " عنده من الغلام بقية حرارة وأنه لا يزال يلهج بذكره حين تحركه الشمول فيقرع السنّ على إهداء الغلام". وعندما سمع الملك الناصر هذه الوشاية قرر أن ينتقم من وزيره أبى عامر، بعد أن يحتال عليه ليكشف مدى إخلاصه وولائه له، بكتابة رسالة مزوّرة عن لسان الغلام، يطلب فيها من مولاه الوزير أن يتحايل فى استدعائه من عند الملك، لأنه لا يطيق الصبر على مفارقته، وأنّه غير راغب بالبقاء فى دار الناصر، لكن الوزير وبفطنته السياسية اكتشف أنّ هذه الرسالة ما هى إلاّ مكيدة من الملك لاكتشاف مدى إخلاصه، فأخذ رسالة الغلام، وكتب على ظهرها هذه الأبيات:
أمن بعد أحكام التجارب ينبغى = لذى الحزم أن يسعى إلى غابة الأسد
ولا أنا ممن يغلب الحبّ عقله = ولا جاهل ما يدّعيه أولو الحسد
فإن كنت روحى قد وهبتك طائعاً = وكيف تردّ الروح إن فارقت جسدى
ويتابع الراوى قائلاً: " فلما وقف الناصر على الجواب تعجّب من فطنته ولم يعد إلى استماع واشٍ فيه بعد ذلك".
وقد كان ملوك مدن الليالى، سواء أكانت عربية أم أجنبية، يستشيرون ويقرّبون أصحاب الحيل الأذكياء، وعندما يجدون أنفسهم عاجزين عن حلّ مشكلة معينة، فقد كانوا يأخذون بآرائهم، وبخاصة آراء العجائز الماكرات اللواتى يفقن رجال زمانهنّ مكراً ودهاءً وخبرةً معرفية. فعلى سبيل المثال نجد أنّ الملك أفريدون ملك القسطنطينية، عندما تهزمه الجيوش الإسلامية ـ جيوش الملك شركان حاكم دمشق، وأخيه ضوء المكان حاكم بغداد ـ يلجأ إلى العجوز شواهى ذات الدواهى (أم حليفه الملك حردوب)، لكى تخطط له كيف يحارب ويحتال على الجيوش الإسلامية، أى أنّ أصحاب الحيل والمكر والمكيدة ـ فى الليالى ـ لم يكونوا يحتالون من أجل كسب العيش، أو إشباع شهواتهم الجنسية، أو من أجل الحصول على منصب يقرّبهم من السلطان فحسب، بل كانت لديهم معارفهم فى خطط الحروب العسكرية، وكانت لهم نظرتهم الثاقبة، لما يجرى فى مدنهم، وعلاقاتها الطبقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد تعلّموا الحيلة وأتقنوها وتفننوا فى حبكها.
إنّ القاهرة التى تبدو واقعية فى الليالى تمتزج بكثير من اللوحات السحرية، والتخيلية، التى أضفاها الرواة عليها، وهذه حال معظم مدن الليالى. فالمدينة الواقعية لا تتشكّل من فضاءاتها وعاداتها وملامحها التاريخية الواقعية فحسب، بل توغل بعيداً فى السحر والخرافة إذا ما رأى الرّواة أنّ ثمّة ضرورة لهذا السحر، لأنّ الحدث الواقعى لا ينمو مكتفياً بذاته فى مدن الليالى، بل يحتاج إلى حوافز سحرية لاستكمال بنائه.
ويحفل الفضاء السحرى للقاهرة، فى حكايات الليالى، بالجان وبأولاد ملوك الجان. ومن ملامح العوالم التخيلية والسحرية التى تحتفى بالجان والعفاريت ما يسجّله الراوى فى حكاية " معروف الإسكافى مع زوجته فاطمة العرّة"، فعندما يهرب معروف من شرّ زوجته وظلمها يجلس باكياً عند إحدى الدور الخربة المهجورة بحى العادلية، وإذا بحائط الدار ينشقّ، ويبرز منه مارد " طويل القامة رؤيته تقشعر منها الأبدان"، ويطلب منه أن يخبره بقصته حتى يساعده، وعندما يعرف قصّته مع زوجته يقول له: " أتريد أن أوصلك إلى بلاد لا تعرف لك زوجتك فيها طريقاً؟ قال له: نعم. قال: اركب فوق ظهرى. فركب وحمله وطار به بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وأنزله على رأس جبل عالٍ". ولأنّ معروفاً الإسكافى يعيش فى فضاء شعبى مصرى يؤمن بالسحر والقدرات الخارقة للجان والعفاريت، فإنّ الرّاوى ـ فيما بعد ـ يقدّم له كل الحوافز (الموتيفات) السحرية التى تجعله غنياً فى مدينة "اختيان الختن" الأسطورية ، ثم ملكاً عليها، إذ يقدّم له كنزاً أسطورياً فى طريق رجوعه من " اختيان الختن"، بعد أن هبطت عليه المواجع والأحزان. ويذكر الراوى أنه بينما كان عائداً شاهد رجلاً مسكيناً يحرث أرضه فى إحدى القرى الصغيرة، فعرض عليه أن يساعده فى الحراثة، ومن خلال حراثته وجد كنزاً كبيراً غاصّاً بالأموال والجواهر الثمينة.
إنّ الراوى الشعبى، وهو يقدّم هذا الكنز الكبير لبطله معروف الإسكافى، لن يعرّضه لهجمات اللصوص وقطّاع الطرق، وهو فى طريق عودته إلى "اختيان الختن"، بل سيقدّم له ـ حتى تصل الحكاية إلى ذروتها ـ حرّاساً لهذا الكنز، ولأنّ حراس هذا الكنز الكبير قد يعجزون عن الدفاع عنه، فيما إذا كانوا بشراً عاديين، فإنه وفقاً للنسق السحرى الغرائبى، سيقدّم له خاتماً سحرياً يخدمه مارد من الجان، وستسهم هذه الأداة السحرية فى نمو الحكاية، لأنّها ستعيد معروفاً الإسكافى إلى مدينة " اختيان الختن" مكللاً بالمال والمنعة، ومن شأن هذه الأداة السحرية أنّها تساعد البطل " فى النهاية على التخلص من سوء الطالع، ولكن قبل استلام الأداة السحرية يصبح البطل عرضة لعدد مختلف من الأحداث التى تؤدّى كلها، على أية حال، إلى نتيجة حصوله على تلك الأداة". ولم تسهم هذه الأداة السحرية فى تخليص معروف الإسكافى من سوء طالعه فحسب، بل قذفت به إلى أعلى المراتب الاجتماعية والسياسية وتوّجته ملكاً على "اختيان الختن"، بعد أن أثبت للناس جميعاً أنّه صادق فى ثرائه، وأثبت لوالد زوجته الملك أنه كفءٌ لابنته الجميلة.
ويتكرّر إسعاف البطل فى حكايات ألف ليلة وليلة المصرية بالأداة السحرية التى تنقله من وضع طبقى دونى إلى وضع آخر متميز، سلطوى وثرى، أو تزيل عنه همّاً أو ظلماّ حلّ به، وبخاصة إذا كان هذا البطل من أفراد الطبقة الشعبية، فالراوى فى حكاية " جودر وأخويه" ، يجعل التاجر المغربى يقدّم لجودر ـ عندما لقيه فى الحجّ ـ خاتماً سحرياً، وذلك بعد أن كان أخواه سالم وسليم قد تآمرا عليه وباعاه إلى رئيس بحر السويس، ولهذا الخاتم خادم من الجان اسمه الرعد القاصف، يقوم بمساندة البطل، ويتكفّل بنقله إلى مصر، وهنا يمكن القول: إنّه لا غرابة ـ وفق المنطق السحرى العجائبى الذى يتحكم فى علاقات الأبطال وارتحالاتهم ـ فى أن ينقل العفريت ـ خادم الخاتم السحرى ـ جودر بن عمر من مكّة إلى مصر، لأنّ المعتقد الشعبى " يجعل للجان من القوى والسمات الفائقة ما يقدّمهم على الإنسان ذاته، فلا يعود الإنسان مركز المخلوقات، ولا هو الذى أمر الله الملائكة أن يسجدوا له ففعلوا إلاّ إبليس فقد أبى واستكبر، وإنّما هو أدنى قوة وأقلّ سلطاناً من الجان". وستسهم هذه الأداة السحرية (الخاتم) فيما بعد، فى أن تقدّم لجودر أجمل امرأة فى المدينة، وهى الأميرة آسية بنت الملك شمس الدولة، وفى تتويجه ملكاً على مصر، بعد أن يموت ملكها شمس الدولة.
إذا كان الراوى فى بعض الحكايات المصرية لا يقدّم لأبطاله الفقراء الأداة السحرية التى ستجعلهم يتجاوزون مدنهم ومواطنيهم مالاً وسلطة، فإنه لا يحرمهم من الكنوز الأسطورية التى تجعلهم فى مصافِّ الملوك ثراءً. ويبقى تقديم هذه الكنوز لهؤلاء الأبطال المهانين اقتصادياً، نوعاً من التعويض والسمّو على الواقع الرثّ وتجاوزه بالاتكاء على الحلمى والتخيلى الذى يحقّق الإنسان فيه كل ما يصبو إليه، " ففى المجتمع الذى لا تتاح فيه الحياة المنطلقة يهرب العامّة من مواجهة مشاكلهم ومنها مسألة الحصول على الثروة ـ إلى تخيلات وأوهام، فما أيسر أن يعيش الوهم باستطاعة الحصول على كنز متى ألقيت التعزيمة المناسبة". إلاّ أنّ الرّاوى، فى موضع آخر، قدّم الأداة السحرية (خاتم شبيك لبيك) إلى البطل الشعبى جودر ابن التاجر عمر، لأنّ زمان الحكاية أسطورى تخيلى، وملك مصر فى هذا الزمان هو ملك أسطورى، واسمه " شمس الدولة"، وهو غير معروف تاريخياً من بين الملوك الذين حكمـوا مصـر فى الدولة الإسلامية.
ويلاحظ أنّ الكنوز فى الحكايات المصرية مرصودة بأسماء أبطال مصريين محددين، ولا يمكن أن تفتح أبوابها إلاّ لهؤلاء الأبطال، وهاهو الحاكم بأمر الله يقول لوردان الجزّار: " إنّ هذا الكنز لا يقدر لأحد أن يفتحه غيرك، فإنه مرصود باسمك وصنعتك (...) وهو عندى مؤرّخ وكنت أنتظر وقوعه حتى وقع ".
إنّ فضاءات مصر فى حكاية " جودر ابن التاجر عمر " هى فضاءات سحرية يسكنها ملوك الجان، ففى بركة " قارون" يسكن الجان أولاد الملك الأحمر الذين أتوا من فاس. وهذه البركة مرصودة أيضاً باسم الصياد "جودر"، إذ إنّ ملوك الجان الذين يعيشون على هيئة أسماك فى هذه البركة لا ينتصر عليهم إلاّ بشخص جودر ابن التاجر عمر، باعتباره التعويذة القادرة على فكّ سحرهم، كما يؤكّد الساحر الكهين الأبطن للمغربى عبد الصمد: "فرأيت أن هذا الكنز لا يفْتَح إلاّ على وجه غلام من أبناء مصر اسمه جودر بن عمر، فإنه سيكون سبباً فى قبض أولاد الملك الأحمر وذلك الغلام يكون صياداً، والاجتماع به يكون على بركة قارون ولا ينفعك هذا الرصد إلاّ إذا كان جودر ".
هذه هى بعض ملامح مصر والقاهرة فى ألف ليلة وليلة، وإن غابت القاهرة فى معظم الأحيان تسميةً فى الليالى واستُبدلت بمصر، فإنها هى المعنية فى أغلب الحكايات، لأنّ الرّواة يذكرون أحياء حقيقية عرفتها القاهرة قديماً، ولا تزال هذه الأحياء تحتفظ بأسمائها حتى وقتنا الراهن. كما أُشير إلى ذلك سابقاً.
إنّ القاهرة مدينة السحر، وهى تحتلّ فى الأدب الشعبى مكانة مهمّة ومتميزة، وهى "البلاد المليئة بالعجائب فحكاياتها الخرافية التى وصلت إلينا قد دُوِّنت فى أسلوب فنى، وهى إلى ذلك تُعدّ ينبوعاً للتراث الشعبى والعقائد القديمة البالغة فى القدم. وما يزال بعض هذه الحكايات يعيش فى الحكايات الشعبية لدى كثير من الشعوب". ولا تزال فضاءات القاهرة الشعبية هى الفضاءات العربية الأولى ـ إذا ما استثنينا فضاءات مدن المغرب التى تضاهيهاـ المغلّفة بنكهة السحر والأساطير والحيل والتمائم والحُجُب، والأولياء الصالحين، والحشيش والجوزة (النارجيلة)، والمقاهى التى لا تزال تحتفظ بطعم حكايات ألف ليلة وليلة، والنساء اللواتى يقرأن الكفّ ويفتحن المندل، ويغامرن فى شعاب الحياة كما الرجال، بل ربما أكثر. ويبدو أنّ هذه المدينة الثّرية البطرة، التى تعاقبت عليها حضارات ومدنيات وأمم كثيرة، كان لها حظّ وافر من الموسيقى والخمور والجوارى والملاهى والنساء. والاحتفالات بأعياد الفرح، وإقامة طقوس لهوها الخاصة، والمعارف والعلوم والطبّ والسحر وفنون الاحتيال.
وكما كانت حكايات مدينة القاهرة وغيرها من مدن ألف ليلة وليلة محكومة بثنائية الواقعى والتخيلى، فإنّ حكايات القاهرة المعاصرة هى الأخرى لا تزال موشومة بكثير من الواقعية السحرية والتخيل الغرائبى.
وأحبّ أن أشير فى نهاية هذه الدراسة إلى أنّ القرآن الكريم لم يذكر أى بلد عربى باسمه فى كل آياته سوى مكّة ومصر.
وإذا كانت مصر فى الأدبيات الكلاسيكية وكتب الرحالة مثالاً للرخاء والرفاهية، والدولة العامرة بالحياة، والرافلة بالترّف، كما يذكر ابن خلدون نقلاً عمن تحدّث عنها: " ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى فى عوائدهم ما يقضى منه العجب، حتى إنّ كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النُقْلَة إلى مصر لذلك، لما يبلغهم من أنّ شأن الرَّفْه بمصر أعظم من غيرها".، فإنها لم تسلم من هجاء بعض الشعراء.
لخراسان وبغداد والبصرة الصدارة فى الليالى، وتأتى بعدها من حيث الأهمية القاهرة ودمشق، هاتان المدينتان المهمتان اللتان لعبتا أدواراً سياسية وتجارية مهمة فى الدولة العربية الإسلامية
إن ما يميز حكايات ألف ليلة وليلة فى طبقتها المصرية كما يرى أحد الدارسين، وجود عنصر المغامرات فى بنية أحداثها "التى تعتمد المكر والحيلة من جانب والمنافسة السياسية الحادة من جانب آخر"
إنّ الراوى الشعبى، وهو يقدّم هذا الكنز الكبير لبطله معروف الإسكافى، لن يعرّضه لهجمات اللصوص وقطّاع الطرق، وهو فى طريق عودته إلى "اختيان الختن"، بل سيقدّم له ـ حتى تصل الحكاية إلى ذروتها ـ حرّاساً لهذا الكنز، ولأنّ حراس هذا الكنز الكبير قد يعجزون عن الدفاع عنه، فيما إذا كانوا بشراً عاديين، فإنه وفقاً للنسق السحرى الغرائبى، سيقدّم له خاتماً سحرياً يخدمه مارد من الجان، وستسهم هذه الأداة السحرية فى نمو الحكاية، لأنّها ستعيد معروفاً الإسكافى إلى مدينة " اختيان الختن" مكللاً بالمال والمنعة، ومن شأن هذه الأداة السحرية أنّها تساعد البطل " فى النهاية على التخلص من سوء الطالع، ولكن قبل استلام الأداة السحرية يصبح البطل عرضة لعدد مختلف من الأحداث التى تؤدّى كلها، على أية حال، إلى نتيجة حصوله على تلك الأداة". ولم تسهم هذه الأداة السحرية فى تخليص معروف الإسكافى من سوء طالعه فحسب، بل قذفت به إلى أعلى المراتب الاجتماعية والسياسية وتوّجته ملكاً على "اختيان الختن"، بعد أن أثبت للناس جميعاً أنّه صادق فى ثرائه، وأثبت لوالد زوجته الملك أنه كفءٌ لابنته الجميلة.
ويتكرّر إسعاف البطل فى حكايات ألف ليلة وليلة المصرية بالأداة السحرية التى تنقله من وضع طبقى دونى إلى وضع آخر متميز، سلطوى وثرى، أو تزيل عنه همّاً أو ظلماّ حلّ به، وبخاصة إذا كان هذا البطل من أفراد الطبقة الشعبية، فالراوى فى حكاية " جودر وأخويه" ، يجعل التاجر المغربى يقدّم لجودر ـ عندما لقيه فى الحجّ ـ خاتماً سحرياً، وذلك بعد أن كان أخواه سالم وسليم قد تآمرا عليه وباعاه إلى رئيس بحر السويس، ولهذا الخاتم خادم من الجان اسمه الرعد القاصف، يقوم بمساندة البطل، ويتكفّل بنقله إلى مصر، وهنا يمكن القول: إنّه لا غرابة ـ وفق المنطق السحرى العجائبى الذى يتحكم فى علاقات الأبطال وارتحالاتهم ـ فى أن ينقل العفريت ـ خادم الخاتم السحرى ـ جودر بن عمر من مكّة إلى مصر، لأنّ المعتقد الشعبى " يجعل للجان من القوى والسمات الفائقة ما يقدّمهم على الإنسان ذاته، فلا يعود الإنسان مركز المخلوقات، ولا هو الذى أمر الله الملائكة أن يسجدوا له ففعلوا إلاّ إبليس فقد أبى واستكبر، وإنّما هو أدنى قوة وأقلّ سلطاناً من الجان". وستسهم هذه الأداة السحرية (الخاتم) فيما بعد، فى أن تقدّم لجودر أجمل امرأة فى المدينة، وهى الأميرة آسية بنت الملك شمس الدولة، وفى تتويجه ملكاً على مصر، بعد أن يموت ملكها شمس الدولة.
إذا كان الراوى فى بعض الحكايات المصرية لا يقدّم لأبطاله الفقراء الأداة السحرية التى ستجعلهم يتجاوزون مدنهم ومواطنيهم مالاً وسلطة، فإنه لا يحرمهم من الكنوز الأسطورية التى تجعلهم فى مصافِّ الملوك ثراءً. ويبقى تقديم هذه الكنوز لهؤلاء الأبطال المهانين اقتصادياً، نوعاً من التعويض والسمّو على الواقع الرثّ وتجاوزه بالاتكاء على الحلمى والتخيلى الذى يحقّق الإنسان فيه كل ما يصبو إليه، " ففى المجتمع الذى لا تتاح فيه الحياة المنطلقة يهرب العامّة من مواجهة مشاكلهم ومنها مسألة الحصول على الثروة ـ إلى تخيلات وأوهام، فما أيسر أن يعيش الوهم باستطاعة الحصول على كنز متى ألقيت التعزيمة المناسبة". إلاّ أنّ الرّاوى، فى موضع آخر، قدّم الأداة السحرية (خاتم شبيك لبيك) إلى البطل الشعبى جودر ابن التاجر عمر، لأنّ زمان الحكاية أسطورى تخيلى، وملك مصر فى هذا الزمان هو ملك أسطورى، واسمه " شمس الدولة"، وهو غير معروف تاريخياً من بين الملوك الذين حكمـوا مصـر فى الدولة الإسلامية.
ويلاحظ أنّ الكنوز فى الحكايات المصرية مرصودة بأسماء أبطال مصريين محددين، ولا يمكن أن تفتح أبوابها إلاّ لهؤلاء الأبطال، وهاهو الحاكم بأمر الله يقول لوردان الجزّار: " إنّ هذا الكنز لا يقدر لأحد أن يفتحه غيرك، فإنه مرصود باسمك وصنعتك (...) وهو عندى مؤرّخ وكنت أنتظر وقوعه حتى وقع ".
إنّ فضاءات مصر فى حكاية " جودر ابن التاجر عمر " هى فضاءات سحرية يسكنها ملوك الجان، ففى بركة " قارون" يسكن الجان أولاد الملك الأحمر الذين أتوا من فاس. وهذه البركة مرصودة أيضاً باسم الصياد "جودر"، إذ إنّ ملوك الجان الذين يعيشون على هيئة أسماك فى هذه البركة لا ينتصر عليهم إلاّ بشخص جودر ابن التاجر عمر، باعتباره التعويذة القادرة على فكّ سحرهم، كما يؤكّد الساحر الكهين الأبطن للمغربى عبد الصمد: "فرأيت أن هذا الكنز لا يفْتَح إلاّ على وجه غلام من أبناء مصر اسمه جودر بن عمر، فإنه سيكون سبباً فى قبض أولاد الملك الأحمر وذلك الغلام يكون صياداً، والاجتماع به يكون على بركة قارون ولا ينفعك هذا الرصد إلاّ إذا كان جودر ".
هذه هى بعض ملامح مصر والقاهرة فى ألف ليلة وليلة، وإن غابت القاهرة فى معظم الأحيان تسميةً فى الليالى واستُبدلت بمصر، فإنها هى المعنية فى أغلب الحكايات، لأنّ الرّواة يذكرون أحياء حقيقية عرفتها القاهرة قديماً، ولا تزال هذه الأحياء تحتفظ بأسمائها حتى وقتنا الراهن. كما أُشير إلى ذلك سابقاً.
إنّ القاهرة مدينة السحر، وهى تحتلّ فى الأدب الشعبى مكانة مهمّة ومتميزة، وهى "البلاد المليئة بالعجائب فحكاياتها الخرافية التى وصلت إلينا قد دُوِّنت فى أسلوب فنى، وهى إلى ذلك تُعدّ ينبوعاً للتراث الشعبى والعقائد القديمة البالغة فى القدم. وما يزال بعض هذه الحكايات يعيش فى الحكايات الشعبية لدى كثير من الشعوب". ولا تزال فضاءات القاهرة الشعبية هى الفضاءات العربية الأولى ـ إذا ما استثنينا فضاءات مدن المغرب التى تضاهيهاـ المغلّفة بنكهة السحر والأساطير والحيل والتمائم والحُجُب، والأولياء الصالحين، والحشيش والجوزة (النارجيلة)، والمقاهى التى لا تزال تحتفظ بطعم حكايات ألف ليلة وليلة، والنساء اللواتى يقرأن الكفّ ويفتحن المندل، ويغامرن فى شعاب الحياة كما الرجال، بل ربما أكثر. ويبدو أنّ هذه المدينة الثّرية البطرة، التى تعاقبت عليها حضارات ومدنيات وأمم كثيرة، كان لها حظّ وافر من الموسيقى والخمور والجوارى والملاهى والنساء. والاحتفالات بأعياد الفرح، وإقامة طقوس لهوها الخاصة، والمعارف والعلوم والطبّ والسحر وفنون الاحتيال.
وكما كانت حكايات مدينة القاهرة وغيرها من مدن ألف ليلة وليلة محكومة بثنائية الواقعى والتخيلى، فإنّ حكايات القاهرة المعاصرة هى الأخرى لا تزال موشومة بكثير من الواقعية السحرية والتخيل الغرائبى.
وأحبّ أن أشير فى نهاية هذه الدراسة إلى أنّ القرآن الكريم لم يذكر أى بلد عربى باسمه فى كل آياته سوى مكّة ومصر.
وإذا كانت مصر فى الأدبيات الكلاسيكية وكتب الرحالة مثالاً للرخاء والرفاهية، والدولة العامرة بالحياة، والرافلة بالترّف، كما يذكر ابن خلدون نقلاً عمن تحدّث عنها: " ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى فى عوائدهم ما يقضى منه العجب، حتى إنّ كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النُقْلَة إلى مصر لذلك، لما يبلغهم من أنّ شأن الرَّفْه بمصر أعظم من غيرها".، فإنها لم تسلم من هجاء بعض الشعراء.
لخراسان وبغداد والبصرة الصدارة فى الليالى، وتأتى بعدها من حيث الأهمية القاهرة ودمشق، هاتان المدينتان المهمتان اللتان لعبتا أدواراً سياسية وتجارية مهمة فى الدولة العربية الإسلامية
إن ما يميز حكايات ألف ليلة وليلة فى طبقتها المصرية كما يرى أحد الدارسين، وجود عنصر المغامرات فى بنية أحداثها "التى تعتمد المكر والحيلة من جانب والمنافسة السياسية الحادة من جانب آخر"
* د. محمد عبد الرحمن يونس
القـــاهرة فى حكايات ألف ليلة وليلة