حسين علي محمد - قراءة في مسرحية «سر شهرزاد» لعلي أحمد باكثير

كتب علي أحمد باكثير (1910-1969م) مسرحيته "سر شهرزاد" عام (1953م)، وهي تقدّم شخصية "شهرزاد" تقديماً جديداً؛ فهي الفتاة العصرية، الجديدة، المتعلمة، المتفتحة، التي تدرس الموسيقا، وتُجيد الرقص، وهي ـ أيضاً ـ القادرة على ترويض الرجل، وتخليصه من عُقده، ومن عاهاته النفسية، وإعادته ليندمج مع الآخر خلقاً سويا، قادراً على التكيف معه، والآخر هنا هو المرأة.
إن "شهريار" في مسرحية "سر شهرزاد" يعرف أن زوجته الأولى "بدور" بريئة، لم تقترف خطيئة، ولم ترتكب إثماً مع العبد "مسرور"، ولكن "شهريار" يقتلها، ويتهمها في شرفها، لأنه ظن ذات مرّة أنّها نالته في رجولته. ومن ثمّ، فهو يتزوّج كل ليلة عذراء، ويقتلها دون أن يقترب منها، ويطوي سرَّه معها، حتى يتزوّج "شهرزاد" المتعلمة، المثقفة، التي تعرف سرَّه، وتُرضي غرورَه، وتُصبح الأثيرة عنده، ويُصبح هذا المتوحِّش الفظ، قادراً على أن يعيش حياته مع الآخر بلا خوف، وبلا عُقَد.
تقول له "شهرزاد" في الفصل الرابع:
شهرزاد: قد تسأمني يوماً، وتملّ عشرتي، فتهجرني.
شهريار: ويحك! ماذا تقولين؟ أنا أسأمك؟ أنا أملُّ عشرتك؟
شهرزاد: سنةُ الحياة يا مولاي .. كل شيء يُسأم إذا بقي على وتيرة واحدة!
شهريار: ولكنك لسـت كذلك يا شهرزاد. إن فتنتك تتجدّد كل حين. كلُّ يوم تكشفين لي عن دنيا جديدة من حسنك وسحر حديثك!
شهرزاد: الحسنُ يا موْلاي لا يدوم في هذه الحياة، وسحرُ الحديث قد ينضبُ يوماً حين ينضب معين القص الذي يلذ لك الاستماع إليه.
شهريار: كلا. لن ينضب هذا المعين أبداً. فها قد مرّت ألف ليلة وليلة، ليس بينها ليلة واحدة لم تطرفيني فيها بقصة رائعة، أو فصل شائق من قصة بارعة.
شهرزاد: ألا تخشى يا سيدي أن تملّ حديثي يوماً؟
شهريار: كلاّ .. حديث شهرزاد لا يُملُّ أبداً"( ).
هذا ما وصَلت إليه "شهرزاد" مع "شهريار". فما السّمات التي اتصفت بها هذه الشخصية، فجعلتها قادرة على إحداث التغيير في الرجل الشرقي وترويضه؟ وما السمات التي جعلت منها نموذجاً للمرأة الجديدة، التي بشَّر بها علي أحمد باكثير بعد قيام ثورة يوليو 1952م بعام واحد، وجعلها تنجح نجاحاً كبيراً حينما عُرِضت بدار الأوبرا في العام نفسه؟( ).
(2)
تتمتّع شخصية "شهرزاد" برحابة الأفق وسعة الصدر، حتى لو أحاطت بها المهالك من كل جانب، يرفدها إيمان عميق، فيجعلها مطمئنة إلى الغد، واثقة في الله، وهي عاقلة لا تتخذ قراراً إلا بعد التفكير فيه تفكيراً عميقاً.
لقد وسوست لها نفسها أن تنتحر بخنجر حتى لا تُزَفَّ إلى "شهريار" فيقتلها كما قتل الكثيرات غيرها، ولكنها خشيت عذاب ربِّها، فأبعدت هذه الفكرة الشيطانية عنها، ويتضح ذلك من حوارها مع أختها "دنيازاد":
دنيا زاد: أتظنين أني ذقتُ البارحة طعمَ النوم قط؟
شهرزاد: مسكينة!
دنيا زاد: بتُّ طوال الليل مؤرقةً على فراشي أفكِّر في مصيرك، فلم لا تُكاشفيني بما في نفسك، وأُكاشفك بما في نفسي، لعلنا نهتدي إلى سبيل لخلاصك.
شهرزاد: (تنظر إليها بإعجاب) صدقتِ يا أختي. أنا بحاجة إلى قلب كبير كقلبك يُعينني فيما أنا مُقدِمة غليه.
دنيا زاد: أريني إذن هذا الذي كان في يدك.
شهرزاد: (تُبرز لها الخنجر) خنجر أبي يا دُنيا.
دنيا زاد: كنتِ ناويةً أن تقتلي نفسك؟!
شهرزاد: لا أكـذبك يا أختي، قد وسوست لي نفسي بذلك، ولكني خشيت عذاب ربي فأحجمت( )
إن هذا الخوف من الله يجعلها تُفكِّر في عمل إيجابي من أجل بنات جنسها، وهو أن تقتل هذا الطاغية لتُريح العالم منه. لكنّ المرأة الجديدة التي يُبشِّر بها علي أحمد باكثير لا ينبغي أن تكون قاتلة، حتى لو حدَّثتْ نفسَها بذلك.
دنيا زاد: أتدرين ماذا خطر لي البارحة وأنا في فراشي ساهرة؟!
شهرزاد: ماذا خطر لك؟
دنيا زاد: لو تحملينه معك ليلة الزفاف، وتخفينه في ثيابك كما عملتِ الآن ..
شهرزاد: لأقتل به الطاغية؟! ..
دنيا زاد: فتريحي العالم من شرِّه.
شهرزاد: صه. إيّاك أن تُحدِّثي أباك بذلك.
دنيا زاد: لا أمي ولا أبي، ولا أي مخلوق سوانا، يجب أن يبقى هذا سرا بيني وبينك.
شهرزاد: بوركتِ يا دنيا، ما كنت والله أعلم أنني أستطيع الاعتماد عليك. الحمد لله، اطمأنَّ قلبي ( )
ولأنها شخصية نامية متطورة فإن فكرتها تتطور من قتل النفس إلى قتل الآخر "شهريار"، إلى التفكير في إمكان التعايش معه. وهذا التفكير لم يأت فجأة، وإنما بني على حوارها السابق مع أختها:
دنيا زراد: حذار أن يُعاودك ذلك الوسواس.
شهرزاد: كلا يا أختي .. اطمئني.
( تخرج دنيا زراد)
شهرزاد: (تتنفّس الصعداء) لقد فتحت لي هذه الصغيرة باباً جديداً للأمل. باباً رهيباً حقا، ولكن يجب اقتحامه إذا لم يكن منه بد. تلك هي الغاية القصوى للمحنة، وقد وطّنت نفسي عليها فكل ما دونها يهون. ثم من يدري لعلي لا أضطر ألبتة إلى شيء من ذلك. أليس يجوز أن يموت الليلة موت الفجأة؟ أليس يجوز أن أبلغ من نفسه حين يراني فيضنُّ بي على سيف الجلاّد؟ يقولون إن الأفعوان قد يلتف على فريسته ثم لأمرٍ ما يدعها دون أن ينالها بسوء … وشهريار مهما يكن طاغيا فهو إنسانٌ جميلُ الصورة على كل حال، وليس بثعبان كريه المنظر. آه لو أمكنني علاجه! إذن لأنقذت نفسي وأنقذته هو من شرِّ نفسه (يُضيء وجهُها بشراً) ( ).
وهكذا رأينا تفكيرها العميق يتحوّل بها ثلاث مرات: من قتل النفس ـ كما قتلت "كليوباترة" في مصرع "كليوباترة" لأحمد شوقي نفسها حتى لا تتجرّع كأس المذلة والهوان، إلى قتل الآخر الذي مرّت ثلاثة شهور وهو يأخذ كل ليلة "عذراء" ـ من بنات جنسها ـ حتى إذا قضى وطره منها قتلها في الصّباح، وكل هذا بزعمه أنه وجد امرأة تخونه، فأخذ ينتقم من النساء كافة لأنه يعدُّهن جميعاً فاجرات خائنات ليس لهن دين ولا شرف: إنها ستقتلُه، وتريح العالم من جنونه، لأنه لو بقي على حاله فلن تبقى في المملكة جارية واحدة عذراء. ثم يتطوّر فكرها أخيراً إلى إمكان عيشها معه زوجةً وملكةُ ـ بعد تغييره ـ ولِمَ لا؟!

(3)
تملك "شهرزاد" كثيراً من الأدوات التي تُعلي من شأن الأنثى في عيْنِ الرجل، ومنها:
أ-جمالها:
فلجمالها وقعٌ على القلوب، إنها تدخل على أبيها "نور الدين" وهو في شجاره مع "شهريار"، حيث يهدده "شهريار" بأخذ ابنته الليلة، وقتله غداً. تدخل عليهما وقد ارتدت وشاحها، وعقدت على رأسها عصابة من الحرير اللامع:
شهريار: (ينظر إليها مدهوشاً) أنت شهرزاد.
شهرزاد: نعم أنا شهرزاد التي كرّمها الله بخطبتك. فهل تأذن لعروسك يا مولاي أن تسعد الليلة بزفافها إليك، دون أن يُكدرها مقتلُ أبيها من الغد؟ هذا رجائي يا مولاي، وهو آخر رجاء لي في الحياة، فهل لك أن تقبله؟
شهريار: (في لهجة غزلة) حبا يا حلوة وكرامة. أيُّ كريم خبير بالحسان مثلي يستطيع أن يرفض رجاء فاتنة مثلك؟!( ).
وحينما تزف "شهرزاد"، ويكشف "شهريار" النقاب عن وجهها، وتسأله: ماذا ترى يا مولاي؟ يتنهّد قائلاً:
شهريار: آه .. حقا ما أجملك! ما كنتُ أعلم أنّ لدى نور الدين جوهرةً مثلك.
شهرزاد: لا تُغالِ يا مولاي، فقد بلوْتَ قبلي آلافَ الجواهر.
شهريار: ما أحسبني وجدتُ بينَها مثلَكِ ( ).
ويقول "شهريار" في موضع آخر:
شهريار: (يتنهد) آه يا شهرزاد، قد شهدت خمسةً وثلاثين ربيعاً في أجمل الحدائق وأزكى الربوات، فلا واللهِ ما رأت عيني زهرة أو ريحانة أجمل أو أنضر أو أزكى شميماً منكِ( ).
ب-قوة الدعابة:
وتتضح دعابتها حينما وجدت أباها وأمها حزينين حين خُطبت "لشهريار"، حيث تعني هذه الخطبة هلاكها على يديه، فأخذت دفا، وأخذت "دنيازاد" دفا آخر:
أم شهر: (مدفوعة) دُنيا! ما هذا يا ابنتي؟ أجننتِ؟
شهرزاد: كلا، ما جنّت أختي يا أمّاه. هي تعلم أن هذا يوم عرسي، وأن علينا أن نفرح فيه ونطرب.
أم شهر: (مستنكرة) نفرح ونطرب؟!
شهرزاد: نعم، ونغني ونرقص. هيّا امسحا دموعكما الآن، فما ينبغي أن تستقبلا يوم فرحي بالدموع!
أم شهر: يوم فرحك؟!
شهرزاد: أجل، يوم فرحي يا أماه، وربما ينقلب يوم تتويجي ملكة ( ).
وبعدها تأخذ في الغناء مع أختها.
وبهذه الدعابة تُحاول أن تُبعِد عن أمها وأبيها الحزن الذي يلاقيانه من أجلها.
وحينما تقول لها أمها ليلة الزفاف إنها نسيت بعض النصائح التي كانت قد أعدَّتها لتقدمها لابنتها ليلة زفافها، وقد أنساها ذلك هوْلُ الموقف، والخوف عليها ـ أي على ابنتها ـ من الطاغية، ترد "شهرزاد" على أمها مطمئنة إياها:
شهرزاد: لا تخافي على شهرزاد. أنها ستعمل بوصاياك كلها، ما قلتها وما لم تقوليها ( ).
ج-قوة شخصيتها وثقتها بنفسها:
منذ أن خُطِبت "شهرزاد" للطاغية "شهريار" كانت تعلم أنه يقتل عذراء كل ليلة، وله ـ على ذلك الحال ـ ثلاثة أشهر، وكانت أمها فزعة من ذلك تقول: "كارثة حلّت بنا، وقُضِي الأمر، سيقتلك الليلة يا ابنتي، ثم يقتل أباك بعد ليال"( ).
لكن "شهرزاد" الواثقة من نفسها وقدرتها على ترويض الوحش داخل نفس "شهريار"، والتي عرفت نفسيته وشخصيته وأماكن الضعف فيها من معلمه "رضوان" (الذي كان مربيا "لشهريار" من قبل)، هذه المعرفة، وتلك الثقة جعلتها آملةً ـ بعد ثقتها في الله ـ في تغيير "شهريار" على يديها، تقول لأمها:
شهرزاد: هكذا يريد شهريار. ومن يدري؟ لعل الله أراد غير ما يريد ( ).
ويتْبَعُ هذا الحوارَ مشهدٌ راقص، نرى فيه ثقة "شهرزاد" في أنها ستكون ملكة، ولن يقتلها "شهريار" كما قتل الأخريات طوال ثلاثة أشهر( ).
*وعندما تطلب منها أمها أن تُلين القول "لشهريار"، وتُطيعه في كل ما يطلبه منها، وتُظهر هلعها الشديد على مصير ابنتها التي قد لا تراها مرة ثانية، نرى "شهرزاد" رابطة الجأش، ثابتة الجنان، قوية الشخصية، معتمدة على أرادتها القوية، بعد توفيق الله:
(أم شهر في أشد حالات القلق والحيرة، والدمع يترقرق في عينيها)
شهرزاد: هيا انصرفي الآن يا أماه. اطمئني قلن يُصيبني سوء بإذن الله.
أم شهر: دعيني أقبّلْكِ يا ابنتي قبل أن أنصرف (تدنو لتقبيل خدها)
شهرزاد: (تتجافى عنها في لطف) مهلاً، لا يصح أن تُفسدي زينتي يا أمّاه!
أم شهر: فسأقبلك هنا على رأسك (تُقبِّل رأسها) ربما لا يُتاح لي تقبيلك مرةً أخرى.
شهرزاد: لا يا حبيبتي .. غداً توجعين خدَّيَّ بقبلاتك، وأوجع خدك بقبلاتي.
أم شهر: يسمع الله منك يا ابنتي (تكفكف دمعها، وتتجلّد) اسمعي يا شهرزاد .. سايريه ولاطفيه .. أطيعيه يا بنتي في كل شيء. اجتهدي أن تبتسمي له وتتودّدي إليه. مهما يطلب منك فلبّي طلبه.
شهرزاد: (تبتسم في رثاء لوصايا أمها هذه التي تُخالف الأسلوب الذي تنوي أن تجري عليه) أجل يا أماه سأفعل كل ذلك.
أم شهر: إني أعرف فيك عنفاً وجراءة، فإيّاك يا ابنتي أن تتطاولي عليه. اخفضي له جناح المسكنة والطاعة. تذكّري أن أمك ستموت بعدك غما، وتذكّري والدك فإنَّ أيامه معدودة.
شهرزاد: بل سأعيش لكما، وتعيشان لي. ثقي يا أماه بأن الله معنا ( ).
د-ذكاؤها:
يظهر ذكاء "شهرزاد" في كثير من أجزاء هذا العمل المسرحي، ونتوقف عند عد أمثلة:
*حينما تزوّجت من "شهريار" كانت تعلم أنه يقتل كل ليلة عروساً حتى يطوي سرَّه مع جثتها حينما تُوارَى تحت التراب، ولعلّها علمت من معلمها "رضوان" مأساة "شهريار" (في عجزه الجنسي، وعدم قدرته التي تجعل منه وحشاً ينتقم من الجنس الآخر، فكان عليها أن تُشعِرَه بفحولته وضعفها منذ اللحظة الأولى التي يختلي فيها بها):
شهرزاد: (ترفع رأسها إلى السماء مبتهلة) يا رب هب لي قوة من عندك.
القهرمانة: (تعود مسرعة) مولاي الملك قادم (تقف ساكنة بجوار الباب، يدخل شهريار مختالاً كأنه يتعمّد إظهار قوته وجبروته)
شهريار: (ينظر إلى شهرزاد هنيهة، ثم يلتفت فيجد القهرمانة واقفة) ويلك! أتريدين أن تتفرّجي عليْنا؟
القهرمانة: (في خوف) عفواً يا مولاي، كنتُ أنتظر أمر مولاي.
شهريار: غوري من وجهي!
القهرمانة: سمعاً يا مولاي (تخرج)
شهريار: (يقترب من شهرزاد الجالسة كأنها تمثال) شهرزاد!
شهرزاد: (تنهض كالمحيية) ملكتك الجديدة يا مولاي
شهريار: (كالمنكر) ملكتي؟!
شهرزاد: ملكة بلادك يا مولاي وشعبك!
شهريار: (يتمتم غاضباً) بنت نور الدين!!
شهرزاد: لا شأن لي الليلة بنور الدين يا مولاي ولا بغيره. أنا الآن أمتك!
شهريار: أمتي؟
شهرزاد: الزوجة الصالحة يا مولاي مَنْ تكون لزوجها أمة
شهريار: (بعد صمت يسير) ليكون زوجها عبداً لها .. هِهْ؟
شهرزاد: ذاك شأن الزوج يا مولاي، وعلى قدر كرمه ومروءته!
شهريار: (في شيء من الإعجاب) أما إنَّ صوتكِ يا هذه لعذب!
شهرزاد: خيْرٌ من الصوتِ العذبِ يا مولاي السَّمعُ الذي يستعذبه!
شهريار: بل أشهى من ذلك كله الفم الذي يترنّم به!
شهرزاد: (في غنج) مولاي!!
شهريار: دعيني أكشف هذا النقاب عنك .. يرفع النقاب عن وجهها).
شهرزاد: (باسمة) كيف ترى يا مولاي؟
شهريار: (يتنهد) آه .. حقا ما أجملك! ما كنتُ أعلم أن لدى نور الدين جوهرة مثلك ( ).
لقد استطاعت "شهرزاد" في لقائها المنفرد بـ"شهريار / الوحش" أن تستل ضغينته على الجنس الآخر، بل استطاعت أن تُشعره برجولته، هذا الإحساس الذي كان يفتقده في داخله. وقد أحسّت أنها بدأت في ترويض الوحش الكامن في نفس "شهريار"، فدقّت على هذا الوتر لتُعيد له ذاته المفتقدة كرجل شرقي.
(تسدل النقاب على وجهها ثانية)
شهريار: ويلك، ماذا تصنعين؟
شهرزاد: أتقي يا مولاي نظرات عينيك، إنهما مُخيفتان.
شهريار: ماذا يُخيفك فيهما؟
شهرزاد: ما يُخيفُ الفتاةَ الغريرة في عيني الرجلِ الفاتك!
شهريار: (يُشرق وجهه بشرا) الفاتك؟ ما يُدريك أنني كذلك؟
شهرزاد: هذا يا مولاي حديث الناس قاطبةً.
شهريار: ماذا يقول الناس عني؟
شهرزاد: ولي الأمان؟
شهريار: نعم.
شهرزاد: يقولون إنك أكبر زير نساء أنجبته امرأة!
شهريار: (يضحك) وتخشينني من أجل ما سمعته؟
شهرزاد: كنتُ يا مولاي أخشاك من أجل ما سمعت، أما الآن …
شهريار: (يفيض البشر من وجهه) هيه؟
شهرزاد: فقد صرتُ أخشاك من أجل ما رأيت!
شهريار: (يعود البشر إلى وجهه) ماذا رأيت؟
شهرزاد: أعفني يا مولاي ..
شهريار: بل قولي!
شهرزاد: ماذا أقول؟ لقد رأيتُ شيئاً لا أستطيع أن أصفه .. شيئاً قلبي يمتلئ رعباً منه، ونفسي تنجذب شوقاً إليه، شيئاً أستعذبُ الموتَ فراراً منه، وأستعذبُ الموتَ فراراً إليه. ( )
إن الحوار هنا يكشف عن ذكائها حينما تصف نفسها بالفتاة الغريرة، القليلة الخبرة، وهو بـ"الرجل المدرب الفاتك، الذي يتحدّث عنه الناس قاطبة بأنه أكبر زير نساء أنجبته امرأة".
لقد علمت "شهرزاد" من معلمها "رضوان" مأساة "شهريار"، فدقّت على وتر يستجيب له. فهو ضعيفٌ جنسيا، عاجز عن أن يُقيم علاقةَ سويَّةً مع امرأة، ويَعُدُّ هذا الضعف مأساته، ونلمح ذلك من علاقته بزوجته الأولى ("بدور" في الفصل الأول) حينما يثور عليها ثورة شديدة لأنها تقول له "يا رجل" ( )، فكأنه يشك في كونه رجلاً، ويدور بينهما هذا الحوار العنيف:
شهريار: (محتدا) بل تسخرين مني يا امرأة!
بدور: (يخونها جلدها) ماذا يحملني على ذلك يا رجل؟
شهريار: (يبدو عليه التضعضع وهو يتمتم) يا رجل! يا رجل!
بدور: (كالنادمة على ما فرط منها في حقه) دعوتني يا امرأة، فدعوتك يا رجل.
شهريار: (في وجومه وتضعضعه) يا رجل!
بدور: (متوسلة) حنانيْك يا مولاي! والله ما قصدت أي سوء ( ).
ومن هنا فإن ذكاء "شهرزاد" أملى عليها أن تصفه بالفاتك، وزير النساء! يالها من تُهمة حبيبة إلى قلبه، إنها تستل منه الضغينة والحقد على الجنس النّاعم، ومن ثَمَّ فإنها تبقى زوجة له، وتُنقِذ بنات جنسها من هذا الوحش، بعد أن قدرت على ترويضه.
(4)
أخذ علي أحمد باكثير فكرة مسرحيته هذه من التراث الشعبي المدوَّن ـ "ألف ليلة وليلة" ـ وإذا كانت المسرحيات المقتبسة من التراث الشعبي تتصف بخصائص وصفات معينة "من حيث بناء الحدث الدرامي، تتمثَّلُ في غلبة طابع الحكاية على المسرحيات مما ينتج عنه غياب الصراع فيها، ويُؤدِّي هذا إلى سيطرة الأسلوب الوصفي التقريري على الحبكة"( ) فإن علي أحمد باكثير تجنّب هذا المزلق، فلم يُغلِّب الطابع الحكائي على نصِّه، وإنما قدّم لنا شخصيات تتحاورُ، وتتصارع، وتتكامل أو تتنافر .. لتُقدِّم لنا نصا عالي الجودة.
لقد رأينا في "سر شهرزاد" شخصيّات باكثير، من خلال "شهرزاد" نموذجاً، تجسيداً للشخصيات المُعَمَّقة المتكاملة الأبعاد، التي يتطلّبها نقّاد المسرح في الشخصية المسرحية: "شخصية تُقدِّم لنا إنساناً متعدِّد الأبعاد، له حياته الخارجية الظاهرة التي نراها تضطرب أمامنا على المسرح، وله كذلك حياته الباطنة التي نرى انعكاسها على عالم الواقع، فيما تقوله الشخصية أو تفعله أو ما تلبسه، أو ما تهمله فلا تتناوله بالعمل أو الحديث"( ).
وإذا كان نقاد المسرح يتطلّبون في المسرحية أن تكون "الحبكة عرضاً منطقيا للموضوع بحيث تنسجم في نهاية المسرحية مع التصميم الذي ينطوي عليه ذلك الموضوع" ( )، فإن نص "شهرزاد" لعلي أحمد باكثير قد حقّق ذلك من خلال قدرة "شهرزاد" على ترويض الوحش داخل "شهريار"، بحيث بدا ترويضه، وإعادته يُمارس حياته العادية خاتمة منطقية لهذه الحبكة المتقنة، التي أراد باكثير أن يقول من خلالها:
إن المرأة قادرة على إحداث التغيير في الرجل (ومن خلاله إحداث التغيير في المجتمع) بقدرتها على تهذيب طباعه، واستلال السخائم من صدره، وإطلاقه للمجتمع مرة أخرى فرداً صالحاً قادراً على التكيف والتصالح مع نفسه، ومع الناس والحياة، شريطة أن تكون هذه المرأة (الجديدة) متعلمة، وقادرة على إدراك مفردات واقعها بوعي وعمق بالغيْن. إن المرأة ليست مخلوقاً ناقصاً، بل هي قادرة على محاورة الآخر ومشاركته بناء مجتمعه وغده الجديد: وهذه هي الرسالة التي أراد باكثير أن يوصلها للمجتمع، ولقادة ثورة 1952م ـ بعد عام من قيامها ـ عسى أن يُفتح صدر المجتمع والقادة للمرأة المتعلمة، الفاهمة، الذكيّة، التي تشارك في بنائه بوعي واقتدار.




* من كتاب "في الأدب المصري المعاصر"، للدكتور حسين علي محمد، ط1-القاهرة 2001م، ط2-القاهرة 2002م، ط3-القاهرة 2003م

- قراءة في مسرحية «سر شهرزاد» لعلي أحمد باكثير
أ. د. حسين علي محمد
عن منتديات مجلة الرسالة

(1)
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...