نقوس المهدي
كاتب
ألف ليلة وليلة كنز ثري يمكن للباحث والناقد والأديب أن يدرك أنه من أكثر الكنوز العالمية ثراء بالعلم والأدب والميثولوجيا والتأريخ والإنثروبولوجيا والموارد اللسانية والنقدية ، وغير ذلك .
إن ألف ليلة وليلة هي ألف خطاب وخطاب ، وفي المظنون أن عطف ليلة واحدة على الألف له دلالته ليس التكثيرية فحسب ، وإنما اللانهائية أي أننا بصدد ألف نهاية ونهاية لم تنته ولن تنته .
في هذا العمل المتميز المتكاثف الظلمة والمتكاثف الضوء والمتكاثف بما بين الظلام والضوء سرى الناقد الدكتور محمد عبد الرحمن يونس وإلى الآن لم يزل يسري .
بيد أننا سنكتفي بعرض عمل واحد من أعماله المتعددة حول ألف ليلة وليلة ألا وهو كتاب " الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة "(الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي ـ بيروت /لندن ، الطبعة الأولى.).
وقد جاء الكتاب في 234 صفحة من القطع المتوسط قسمه المؤلف أربعة أقسام هي : المقدمة ، ثم المرأة وبانوراما الجنس في الحكايات، وسوسيولوجية خطاب الجنس ، ونقد خطاب الحب والسلطة في تأريخنا الليلي ، وبنائية الأمثلة الوظيفية في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة . ثم تـأتي الخاتمة.
ولعلّ أول ما يعلق بالذهن بعد الانتهاء من نشوة قراءة الكتاب هي اللغة الفخمة الأنيقة التي استطاع الكتاب بها أن يبتعد وأن يقترب : أن يبتعد عن جفاف اللغة العلمية القاسية ، وأن يقترب في الوقت نفسه من اللغة الأدبية المنمّقة الرائعة دونما تخلّ عن رصانة الفكرة وحيادية العبارة في طرحها العلمي . وهذه خاصية لا تتوافر إلا عند قلائل من الكاتبين .
أمّا في مجال التناول العملي فتبرز القدرة التحليلية واضحة جلية في جميع أجزاء العمل .
ولو رام المرء تتبع أهم خيوط هذا الكتاب فإنه سيجد في القسم الأول تأكيد أنّ الليالي هي نتاج لمجموعة مؤلفين من حضارات متعددة هي الهندية والفارسية والعربية بل إن تعدد المؤلفين واضح أكثر ما يكون الوضوح في التأريخ الطويل الذي مرت به الليالي في الصياغة العربية فالقارئ المتمعّن كما يقول د. يونس : " يجد أن ثمة اختلافاً في بنية بعض الحكايات من حيث الأسلوب والتراكيب واللغة " .
ويلح د. يونس على دور المرأة الجنسي في الليالي حيث إن المرأة هي الحلم الوردي بالنسبة للشخصيات التي تشكل الحدث ، إذ تتركز تقنية القص على حضورها المكثّف ، بما يجرّه هذا الحضور من طفحان جنسي ولكن خطاب الليالي في بنيته الدالة العميقة كما يقول الباحث: يحتوي على خطابين هما : خطاب السلطة السوسيولوجي ، وخطاب الجنس الذي يعدّ أهمّ مكونّات السرد ويحلل د. يونس ثلاث حكايات من حكايات ألف ليلة وليلة ليبيّن كيفية تعامل الرواي مع الجنس وكيفية تقديمه مادة رئيسة تتحكم في علاقات الحكاية وفي علاقات الشخوص مع الواقع الاجتماعي والسلطوي .
وفي سويسولوجيا خطاب الجنس نجد تنبيهاً على أن الليالي بطبيعتها لايمكن أن يستوعبها أي منهج نقدي قار ، بل يجب أن تدرس بعدد لامتناه من الدارسين وبعدد لامتناه من المناهج والخطابات ولأن في الليالي تركيزا عاما على أجساد النساء وما تثيره تلك الأجساد فقد تتبع الباحث خطاب الجنس في المجتمعات المختلفة التي تدور فيها الليالي مابين مجتمعات بدائية أو شبه بدائية ومجتمعات حضرية أو شبه حضارية ومابين طبقات مختلفة تجارية وزراعية وإقطاعية وأرستقراطية بل مجتمعات متخيّلة تطوف في عالم الجن والأساطير . ولم تهمل الليالي حتى الحضور الحيواني في هذا الخطاب الجنسي كذلك.
وقد خرج المؤلف في بحثه بما يقرر أن طبيعة العلاقات الجسديّة هي في الغالب علاقات استلابية لا يكاد يشع فيها بريق العلاقات الإنسانية الرفيعة ، وقد فرض التباين الطبقي الشاسع مستويين من تلكم العلاقة مستوى يكون فيه الفعل الجنس قابلا للتحقيق ...، ومستوى يكون فيه الدافع الجنسي ملغى ومحاصرا.. .
ولكن الخطاب الجنسي هو في الحقيقة يشكّل في المبنى الحكائي مجموعة حوافز Motifs حكائية ، هذا ويعد د. يونس من أوائل من قاموا بتطبيق مفهوم الحوافز في المنهج الشكلاني عند توماشفسكي في الدراسات النقدية العربية ... واحتواء الحكاية على ما يسمىّ الأدب الماجن أو المكشوف(EROTIC LITERATURE)، لا يبعدها بحال عن الانضواء تحت الخطابات الأدبية في بنيتها العميقة كما يقول المؤلف .
وإذا كان الباحث يذهب إلى أن هناك مرواحة فعلية بين الحكاية ، وبين ممارسة شهرزاد للجنس ، بل يذهب إلى أن شهر زاد لا تقوم في حقيقة الأمر سوى بالسخرية من بنات جنسها ، ومن زمنها أكثر من رغبتها في تحريرهن وإعادة شهريار إلى دائرة الوعي والعقل ( انظر ص 102 ) .
فإننا نرى أن فعل ممارسة الحب لايمكن أن يكون متصلاً في جنس وألف جنس وجنس ، لكنّ الأقرب أن يكون في توصيف البنية المستترة ، ولا أقول العميقة إن فعل الحكي نفسه تحول إلى جنس بالحكاية.
إن شهرزاد حينما تسكت عن الكلام المباح إنما تسكت قبل اكتمال رعشة الحكاية مما يجعل شهريار يتشوّق إلى اكتمال الرعشة الحكائية لا الرعشة الجنسية التي قد تتحقق، أو قد تطغى عليها رعشة الحكاية التي ابتكرتها شهرزاد . إن حكايات ألف ليلة وليلة هي ألف رعشة ورعشة.. هي ممارسة الجنس سردياً . إنه جنس في تتابع الحكاية ، وفي تمفصلاته المختلفة في سرد الحكاية، وهو جنس يؤسس في الوقت نفسه لخطاب سوسيولوجي وسلطوي خاص بطبقة خاصة تتكاثف كل مكوّناته لإرضاء تلك الطبقة .
أما القسم الثالث من البحث فيتمحور حول نقد خطاب الحب والسلطة في تاريخنا الليلي، حيث يجب أن تكون دراساته كما يقول الباحث مبنية على الحالة الثقافية والتاريخية لمجتمعات الليالي ( انظر ص 122) . ومن خلال التحليل العميق لبعض حكايات ألف ليلة وليلة يسجل الباحث إدانة كاملة لذينك الخطابين ، إذ الحب في الليالي هو حب يمهّد للجنس، ويقدّم مائدة الجسد على مذبح الآدمية ، أما السلطة فقد كانت سلطة منافقة غرقت في غابات النهود وجبال الأكفال وحفلات المجون والرقص، وأدارت البلاد وفق شيزوفرينيا سلطوية تبيح لها كل شيء باسم الدين الذي استعمل لتمرير كافة أنواع الخطابات المتناقضة والرغبات المزاجية .
وهنا نقف وقفة أخرى مع الباحث الذي أدان العصرين الأموي والعباسي، لنقول إنه على الرغم من الاستبداد والعسف الذي كان يطبع عالم تلك العصور كافة، إلا أنّ العصور الذهبية للحضارة الإسلامية التي لم نزل‘ في العلوم الإنسانية، عالة على كثير من تراثها كانت العصور الثلاثة من الثاني إلى الرابع الهجري ، فقد تفتحت آفاق للعلم والحرية الفكرية ،والتدافع العلمي الراقي، بما لا نجده في عصرنا الحاضر . أما مجتمع الجواري فقد مثّل زاداً جنسياً وجمالياً جعل تلك المجتمعات ترتوي من الجنس ( وهذا لا يعني الإقرار أبدا بعبودية المرأة واستلابها)، لتخلص هذه المجتمعات في الفكر والإبداع والعطاء المعرفي، و حتى لايكون فضاء الجسد هو الهاجس الأكبر في حياتها ،كما هو في الكائن العربي الحديث الذي لا يفكر إلا في تكورّات الجسد وتشكيلاته .
إن الإشباع الجنسي لدى خلفاء تلك العصور جعل كثيراً منهم علماء أو أدباء أو مبدعين مثال المأمون وابن المعتزّ، لكن ذلك لا يمنع كثيراً من الفترات المظلمة التي طغى فيها تسونامي الجنس، فأهلك الحرث والنسل لأنّ الانغماس في هذا الفضاء قد يولّد كائنات همجية لاتحمل أي ذرة من ذرات الكرامة الآدمية .
إن الشبق الجنسي في الكائن العربي الحديث له عوامل مختلفةّ ولكن يظلّ العامل الأكبر هو عامل التخلف الديني والاجتماعي والمدني في عصر الكائن العربي الحديث الذي يحلم كثير من أفراده أن تكون قبورهم بين فخذي امرأة . هذا المجتمع المييئوس من برئه الذي يهين شهرياره المرأة ويقتلها ألف قتلة باسم الدين مرة، وباسم الأخلاق أخرى وهو يمارس الدعارة في الخفاء، هذا الكائن نعم هو الذي جعل الدعارة تلفّ كل علاقاته، فهناك دعارة السياسة ودعارة الفن، ودعارة الثقافة، ودعارة الإدارة ودعارة الدين ...إلخ
إن العالم البغائي في ألف ليلة وليلة أطهر بكثير من العالم البغائي العربي في عصرنا الذي يمارس البغاء باسم محاربة البغاء .
وعوداً إلى الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة لنجد في قسمه الأخير دراسة نقدية معمّقة لحكايات ألف ليلة وليلة استعمل فيه المؤلف بنائية الأمثلة الوظائفيّة متابعاً فلاديمير بروب في مفهومه للمثال الوظائفي من خلال تحليله لحكاية (علاء الدين أبو الشامات)، ففي هذه الحكاية تتموضع وظيفة الرحيل ، التي تسبق بوظيفة interdiction، حيث تأخذ في هذه الحكاية شكل النصيحة ، وهناك وظيفة المنع التي لم تتحقق في هذه الحكاية، مما أدّى إلى تحقق وظيفة الأمر أو الاقتراح، التي ينتج عنها فيما بعد وظيفة الخرق أو خرق المنع.
وتنمو الحكاية في ما بعد عن طريق وظيفة الخداع ، فوظيفة التواطؤ العفوي ، فوظيفة الافتقار، ثم وظيفة الوساطة، وتتداخل الأحداث بوظيفة الفعل المضاد حسب مفهوم بروب ،أو وظيفة إرادة الفعل حسب غريماس. ثم تظهر وظيفة المانح ،فوظيفة نزع القناع ... وغير ذلك من الوظائف المستعملة في تحليل الحكاية . ويعدّ هذا القسم من الكتاب من أكثر الأقسام تعمّقاً في استعمال أدوات النقد السردي .
وبعد هذه الجولة الماتعة في دراسة خطاب الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة ،لا يسع القارئ إلا الاتفاق مع المؤلف الذي يذهب إلى أن الفكر الشهرزادي ليس فكرا تنويرياً ، وليس من مهمته أن يكون كذلك ،: " إنه دعوة إلى الطبقات الاجتماعية المسحوقة للتصالح مع الواقع السائد بكلّ بنياته المهمّشة ، وأوضاعه اللا إنسانية ، وهو دعوة برؤية لا مباشرة للطبقة الفوقية لاستمرارها في إذلال الطبقة الدونية . والدعوة هنا تتبين عن طريق الجنس ، فالجنس هو الذي يشكل هذه الدعوة وآفاقها " ص 231 .
وقد جاء الكتاب في 234 صفحة من القطع المتوسط قسمه المؤلف أربعة أقسام هي : المقدمة ، ثم المرأة وبانوراما الجنس في الحكايات، وسوسيولوجية خطاب الجنس ، ونقد خطاب الحب والسلطة في تأريخنا الليلي ، وبنائية الأمثلة الوظيفية في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة . ثم تـأتي الخاتمة.
ولعلّ أول ما يعلق بالذهن بعد الانتهاء من نشوة قراءة الكتاب هي اللغة الفخمة الأنيقة التي استطاع الكتاب بها أن يبتعد وأن يقترب : أن يبتعد عن جفاف اللغة العلمية القاسية ، وأن يقترب في الوقت نفسه من اللغة الأدبية المنمّقة الرائعة دونما تخلّ عن رصانة الفكرة وحيادية العبارة في طرحها العلمي . وهذه خاصية لا تتوافر إلا عند قلائل من الكاتبين .
أمّا في مجال التناول العملي فتبرز القدرة التحليلية واضحة جلية في جميع أجزاء العمل .
ولو رام المرء تتبع أهم خيوط هذا الكتاب فإنه سيجد في القسم الأول تأكيد أنّ الليالي هي نتاج لمجموعة مؤلفين من حضارات متعددة هي الهندية والفارسية والعربية بل إن تعدد المؤلفين واضح أكثر ما يكون الوضوح في التأريخ الطويل الذي مرت به الليالي في الصياغة العربية فالقارئ المتمعّن كما يقول د. يونس : " يجد أن ثمة اختلافاً في بنية بعض الحكايات من حيث الأسلوب والتراكيب واللغة " .
ويلح د. يونس على دور المرأة الجنسي في الليالي حيث إن المرأة هي الحلم الوردي بالنسبة للشخصيات التي تشكل الحدث ، إذ تتركز تقنية القص على حضورها المكثّف ، بما يجرّه هذا الحضور من طفحان جنسي ولكن خطاب الليالي في بنيته الدالة العميقة كما يقول الباحث: يحتوي على خطابين هما : خطاب السلطة السوسيولوجي ، وخطاب الجنس الذي يعدّ أهمّ مكونّات السرد ويحلل د. يونس ثلاث حكايات من حكايات ألف ليلة وليلة ليبيّن كيفية تعامل الرواي مع الجنس وكيفية تقديمه مادة رئيسة تتحكم في علاقات الحكاية وفي علاقات الشخوص مع الواقع الاجتماعي والسلطوي .
وفي سويسولوجيا خطاب الجنس نجد تنبيهاً على أن الليالي بطبيعتها لايمكن أن يستوعبها أي منهج نقدي قار ، بل يجب أن تدرس بعدد لامتناه من الدارسين وبعدد لامتناه من المناهج والخطابات ولأن في الليالي تركيزا عاما على أجساد النساء وما تثيره تلك الأجساد فقد تتبع الباحث خطاب الجنس في المجتمعات المختلفة التي تدور فيها الليالي مابين مجتمعات بدائية أو شبه بدائية ومجتمعات حضرية أو شبه حضارية ومابين طبقات مختلفة تجارية وزراعية وإقطاعية وأرستقراطية بل مجتمعات متخيّلة تطوف في عالم الجن والأساطير . ولم تهمل الليالي حتى الحضور الحيواني في هذا الخطاب الجنسي كذلك.
وقد خرج المؤلف في بحثه بما يقرر أن طبيعة العلاقات الجسديّة هي في الغالب علاقات استلابية لا يكاد يشع فيها بريق العلاقات الإنسانية الرفيعة ، وقد فرض التباين الطبقي الشاسع مستويين من تلكم العلاقة مستوى يكون فيه الفعل الجنس قابلا للتحقيق ...، ومستوى يكون فيه الدافع الجنسي ملغى ومحاصرا.. .
ولكن الخطاب الجنسي هو في الحقيقة يشكّل في المبنى الحكائي مجموعة حوافز Motifs حكائية ، هذا ويعد د. يونس من أوائل من قاموا بتطبيق مفهوم الحوافز في المنهج الشكلاني عند توماشفسكي في الدراسات النقدية العربية ... واحتواء الحكاية على ما يسمىّ الأدب الماجن أو المكشوف(EROTIC LITERATURE)، لا يبعدها بحال عن الانضواء تحت الخطابات الأدبية في بنيتها العميقة كما يقول المؤلف .
وإذا كان الباحث يذهب إلى أن هناك مرواحة فعلية بين الحكاية ، وبين ممارسة شهرزاد للجنس ، بل يذهب إلى أن شهر زاد لا تقوم في حقيقة الأمر سوى بالسخرية من بنات جنسها ، ومن زمنها أكثر من رغبتها في تحريرهن وإعادة شهريار إلى دائرة الوعي والعقل ( انظر ص 102 ) .
فإننا نرى أن فعل ممارسة الحب لايمكن أن يكون متصلاً في جنس وألف جنس وجنس ، لكنّ الأقرب أن يكون في توصيف البنية المستترة ، ولا أقول العميقة إن فعل الحكي نفسه تحول إلى جنس بالحكاية.
إن شهرزاد حينما تسكت عن الكلام المباح إنما تسكت قبل اكتمال رعشة الحكاية مما يجعل شهريار يتشوّق إلى اكتمال الرعشة الحكائية لا الرعشة الجنسية التي قد تتحقق، أو قد تطغى عليها رعشة الحكاية التي ابتكرتها شهرزاد . إن حكايات ألف ليلة وليلة هي ألف رعشة ورعشة.. هي ممارسة الجنس سردياً . إنه جنس في تتابع الحكاية ، وفي تمفصلاته المختلفة في سرد الحكاية، وهو جنس يؤسس في الوقت نفسه لخطاب سوسيولوجي وسلطوي خاص بطبقة خاصة تتكاثف كل مكوّناته لإرضاء تلك الطبقة .
أما القسم الثالث من البحث فيتمحور حول نقد خطاب الحب والسلطة في تاريخنا الليلي، حيث يجب أن تكون دراساته كما يقول الباحث مبنية على الحالة الثقافية والتاريخية لمجتمعات الليالي ( انظر ص 122) . ومن خلال التحليل العميق لبعض حكايات ألف ليلة وليلة يسجل الباحث إدانة كاملة لذينك الخطابين ، إذ الحب في الليالي هو حب يمهّد للجنس، ويقدّم مائدة الجسد على مذبح الآدمية ، أما السلطة فقد كانت سلطة منافقة غرقت في غابات النهود وجبال الأكفال وحفلات المجون والرقص، وأدارت البلاد وفق شيزوفرينيا سلطوية تبيح لها كل شيء باسم الدين الذي استعمل لتمرير كافة أنواع الخطابات المتناقضة والرغبات المزاجية .
وهنا نقف وقفة أخرى مع الباحث الذي أدان العصرين الأموي والعباسي، لنقول إنه على الرغم من الاستبداد والعسف الذي كان يطبع عالم تلك العصور كافة، إلا أنّ العصور الذهبية للحضارة الإسلامية التي لم نزل‘ في العلوم الإنسانية، عالة على كثير من تراثها كانت العصور الثلاثة من الثاني إلى الرابع الهجري ، فقد تفتحت آفاق للعلم والحرية الفكرية ،والتدافع العلمي الراقي، بما لا نجده في عصرنا الحاضر . أما مجتمع الجواري فقد مثّل زاداً جنسياً وجمالياً جعل تلك المجتمعات ترتوي من الجنس ( وهذا لا يعني الإقرار أبدا بعبودية المرأة واستلابها)، لتخلص هذه المجتمعات في الفكر والإبداع والعطاء المعرفي، و حتى لايكون فضاء الجسد هو الهاجس الأكبر في حياتها ،كما هو في الكائن العربي الحديث الذي لا يفكر إلا في تكورّات الجسد وتشكيلاته .
إن الإشباع الجنسي لدى خلفاء تلك العصور جعل كثيراً منهم علماء أو أدباء أو مبدعين مثال المأمون وابن المعتزّ، لكن ذلك لا يمنع كثيراً من الفترات المظلمة التي طغى فيها تسونامي الجنس، فأهلك الحرث والنسل لأنّ الانغماس في هذا الفضاء قد يولّد كائنات همجية لاتحمل أي ذرة من ذرات الكرامة الآدمية .
إن الشبق الجنسي في الكائن العربي الحديث له عوامل مختلفةّ ولكن يظلّ العامل الأكبر هو عامل التخلف الديني والاجتماعي والمدني في عصر الكائن العربي الحديث الذي يحلم كثير من أفراده أن تكون قبورهم بين فخذي امرأة . هذا المجتمع المييئوس من برئه الذي يهين شهرياره المرأة ويقتلها ألف قتلة باسم الدين مرة، وباسم الأخلاق أخرى وهو يمارس الدعارة في الخفاء، هذا الكائن نعم هو الذي جعل الدعارة تلفّ كل علاقاته، فهناك دعارة السياسة ودعارة الفن، ودعارة الثقافة، ودعارة الإدارة ودعارة الدين ...إلخ
إن العالم البغائي في ألف ليلة وليلة أطهر بكثير من العالم البغائي العربي في عصرنا الذي يمارس البغاء باسم محاربة البغاء .
وعوداً إلى الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة لنجد في قسمه الأخير دراسة نقدية معمّقة لحكايات ألف ليلة وليلة استعمل فيه المؤلف بنائية الأمثلة الوظائفيّة متابعاً فلاديمير بروب في مفهومه للمثال الوظائفي من خلال تحليله لحكاية (علاء الدين أبو الشامات)، ففي هذه الحكاية تتموضع وظيفة الرحيل ، التي تسبق بوظيفة interdiction، حيث تأخذ في هذه الحكاية شكل النصيحة ، وهناك وظيفة المنع التي لم تتحقق في هذه الحكاية، مما أدّى إلى تحقق وظيفة الأمر أو الاقتراح، التي ينتج عنها فيما بعد وظيفة الخرق أو خرق المنع.
وتنمو الحكاية في ما بعد عن طريق وظيفة الخداع ، فوظيفة التواطؤ العفوي ، فوظيفة الافتقار، ثم وظيفة الوساطة، وتتداخل الأحداث بوظيفة الفعل المضاد حسب مفهوم بروب ،أو وظيفة إرادة الفعل حسب غريماس. ثم تظهر وظيفة المانح ،فوظيفة نزع القناع ... وغير ذلك من الوظائف المستعملة في تحليل الحكاية . ويعدّ هذا القسم من الكتاب من أكثر الأقسام تعمّقاً في استعمال أدوات النقد السردي .
وبعد هذه الجولة الماتعة في دراسة خطاب الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة ،لا يسع القارئ إلا الاتفاق مع المؤلف الذي يذهب إلى أن الفكر الشهرزادي ليس فكرا تنويرياً ، وليس من مهمته أن يكون كذلك ،: " إنه دعوة إلى الطبقات الاجتماعية المسحوقة للتصالح مع الواقع السائد بكلّ بنياته المهمّشة ، وأوضاعه اللا إنسانية ، وهو دعوة برؤية لا مباشرة للطبقة الفوقية لاستمرارها في إذلال الطبقة الدونية . والدعوة هنا تتبين عن طريق الجنس ، فالجنس هو الذي يشكل هذه الدعوة وآفاقها " ص 231
* د. جُمعان عبدالكريم - كتاب الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة تأليف الدكتور محمد عبد الرحمن يونس
إن ألف ليلة وليلة هي ألف خطاب وخطاب ، وفي المظنون أن عطف ليلة واحدة على الألف له دلالته ليس التكثيرية فحسب ، وإنما اللانهائية أي أننا بصدد ألف نهاية ونهاية لم تنته ولن تنته .
في هذا العمل المتميز المتكاثف الظلمة والمتكاثف الضوء والمتكاثف بما بين الظلام والضوء سرى الناقد الدكتور محمد عبد الرحمن يونس وإلى الآن لم يزل يسري .
بيد أننا سنكتفي بعرض عمل واحد من أعماله المتعددة حول ألف ليلة وليلة ألا وهو كتاب " الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة "(الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي ـ بيروت /لندن ، الطبعة الأولى.).
وقد جاء الكتاب في 234 صفحة من القطع المتوسط قسمه المؤلف أربعة أقسام هي : المقدمة ، ثم المرأة وبانوراما الجنس في الحكايات، وسوسيولوجية خطاب الجنس ، ونقد خطاب الحب والسلطة في تأريخنا الليلي ، وبنائية الأمثلة الوظيفية في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة . ثم تـأتي الخاتمة.
ولعلّ أول ما يعلق بالذهن بعد الانتهاء من نشوة قراءة الكتاب هي اللغة الفخمة الأنيقة التي استطاع الكتاب بها أن يبتعد وأن يقترب : أن يبتعد عن جفاف اللغة العلمية القاسية ، وأن يقترب في الوقت نفسه من اللغة الأدبية المنمّقة الرائعة دونما تخلّ عن رصانة الفكرة وحيادية العبارة في طرحها العلمي . وهذه خاصية لا تتوافر إلا عند قلائل من الكاتبين .
أمّا في مجال التناول العملي فتبرز القدرة التحليلية واضحة جلية في جميع أجزاء العمل .
ولو رام المرء تتبع أهم خيوط هذا الكتاب فإنه سيجد في القسم الأول تأكيد أنّ الليالي هي نتاج لمجموعة مؤلفين من حضارات متعددة هي الهندية والفارسية والعربية بل إن تعدد المؤلفين واضح أكثر ما يكون الوضوح في التأريخ الطويل الذي مرت به الليالي في الصياغة العربية فالقارئ المتمعّن كما يقول د. يونس : " يجد أن ثمة اختلافاً في بنية بعض الحكايات من حيث الأسلوب والتراكيب واللغة " .
ويلح د. يونس على دور المرأة الجنسي في الليالي حيث إن المرأة هي الحلم الوردي بالنسبة للشخصيات التي تشكل الحدث ، إذ تتركز تقنية القص على حضورها المكثّف ، بما يجرّه هذا الحضور من طفحان جنسي ولكن خطاب الليالي في بنيته الدالة العميقة كما يقول الباحث: يحتوي على خطابين هما : خطاب السلطة السوسيولوجي ، وخطاب الجنس الذي يعدّ أهمّ مكونّات السرد ويحلل د. يونس ثلاث حكايات من حكايات ألف ليلة وليلة ليبيّن كيفية تعامل الرواي مع الجنس وكيفية تقديمه مادة رئيسة تتحكم في علاقات الحكاية وفي علاقات الشخوص مع الواقع الاجتماعي والسلطوي .
وفي سويسولوجيا خطاب الجنس نجد تنبيهاً على أن الليالي بطبيعتها لايمكن أن يستوعبها أي منهج نقدي قار ، بل يجب أن تدرس بعدد لامتناه من الدارسين وبعدد لامتناه من المناهج والخطابات ولأن في الليالي تركيزا عاما على أجساد النساء وما تثيره تلك الأجساد فقد تتبع الباحث خطاب الجنس في المجتمعات المختلفة التي تدور فيها الليالي مابين مجتمعات بدائية أو شبه بدائية ومجتمعات حضرية أو شبه حضارية ومابين طبقات مختلفة تجارية وزراعية وإقطاعية وأرستقراطية بل مجتمعات متخيّلة تطوف في عالم الجن والأساطير . ولم تهمل الليالي حتى الحضور الحيواني في هذا الخطاب الجنسي كذلك.
وقد خرج المؤلف في بحثه بما يقرر أن طبيعة العلاقات الجسديّة هي في الغالب علاقات استلابية لا يكاد يشع فيها بريق العلاقات الإنسانية الرفيعة ، وقد فرض التباين الطبقي الشاسع مستويين من تلكم العلاقة مستوى يكون فيه الفعل الجنس قابلا للتحقيق ...، ومستوى يكون فيه الدافع الجنسي ملغى ومحاصرا.. .
ولكن الخطاب الجنسي هو في الحقيقة يشكّل في المبنى الحكائي مجموعة حوافز Motifs حكائية ، هذا ويعد د. يونس من أوائل من قاموا بتطبيق مفهوم الحوافز في المنهج الشكلاني عند توماشفسكي في الدراسات النقدية العربية ... واحتواء الحكاية على ما يسمىّ الأدب الماجن أو المكشوف(EROTIC LITERATURE)، لا يبعدها بحال عن الانضواء تحت الخطابات الأدبية في بنيتها العميقة كما يقول المؤلف .
وإذا كان الباحث يذهب إلى أن هناك مرواحة فعلية بين الحكاية ، وبين ممارسة شهرزاد للجنس ، بل يذهب إلى أن شهر زاد لا تقوم في حقيقة الأمر سوى بالسخرية من بنات جنسها ، ومن زمنها أكثر من رغبتها في تحريرهن وإعادة شهريار إلى دائرة الوعي والعقل ( انظر ص 102 ) .
فإننا نرى أن فعل ممارسة الحب لايمكن أن يكون متصلاً في جنس وألف جنس وجنس ، لكنّ الأقرب أن يكون في توصيف البنية المستترة ، ولا أقول العميقة إن فعل الحكي نفسه تحول إلى جنس بالحكاية.
إن شهرزاد حينما تسكت عن الكلام المباح إنما تسكت قبل اكتمال رعشة الحكاية مما يجعل شهريار يتشوّق إلى اكتمال الرعشة الحكائية لا الرعشة الجنسية التي قد تتحقق، أو قد تطغى عليها رعشة الحكاية التي ابتكرتها شهرزاد . إن حكايات ألف ليلة وليلة هي ألف رعشة ورعشة.. هي ممارسة الجنس سردياً . إنه جنس في تتابع الحكاية ، وفي تمفصلاته المختلفة في سرد الحكاية، وهو جنس يؤسس في الوقت نفسه لخطاب سوسيولوجي وسلطوي خاص بطبقة خاصة تتكاثف كل مكوّناته لإرضاء تلك الطبقة .
أما القسم الثالث من البحث فيتمحور حول نقد خطاب الحب والسلطة في تاريخنا الليلي، حيث يجب أن تكون دراساته كما يقول الباحث مبنية على الحالة الثقافية والتاريخية لمجتمعات الليالي ( انظر ص 122) . ومن خلال التحليل العميق لبعض حكايات ألف ليلة وليلة يسجل الباحث إدانة كاملة لذينك الخطابين ، إذ الحب في الليالي هو حب يمهّد للجنس، ويقدّم مائدة الجسد على مذبح الآدمية ، أما السلطة فقد كانت سلطة منافقة غرقت في غابات النهود وجبال الأكفال وحفلات المجون والرقص، وأدارت البلاد وفق شيزوفرينيا سلطوية تبيح لها كل شيء باسم الدين الذي استعمل لتمرير كافة أنواع الخطابات المتناقضة والرغبات المزاجية .
وهنا نقف وقفة أخرى مع الباحث الذي أدان العصرين الأموي والعباسي، لنقول إنه على الرغم من الاستبداد والعسف الذي كان يطبع عالم تلك العصور كافة، إلا أنّ العصور الذهبية للحضارة الإسلامية التي لم نزل‘ في العلوم الإنسانية، عالة على كثير من تراثها كانت العصور الثلاثة من الثاني إلى الرابع الهجري ، فقد تفتحت آفاق للعلم والحرية الفكرية ،والتدافع العلمي الراقي، بما لا نجده في عصرنا الحاضر . أما مجتمع الجواري فقد مثّل زاداً جنسياً وجمالياً جعل تلك المجتمعات ترتوي من الجنس ( وهذا لا يعني الإقرار أبدا بعبودية المرأة واستلابها)، لتخلص هذه المجتمعات في الفكر والإبداع والعطاء المعرفي، و حتى لايكون فضاء الجسد هو الهاجس الأكبر في حياتها ،كما هو في الكائن العربي الحديث الذي لا يفكر إلا في تكورّات الجسد وتشكيلاته .
إن الإشباع الجنسي لدى خلفاء تلك العصور جعل كثيراً منهم علماء أو أدباء أو مبدعين مثال المأمون وابن المعتزّ، لكن ذلك لا يمنع كثيراً من الفترات المظلمة التي طغى فيها تسونامي الجنس، فأهلك الحرث والنسل لأنّ الانغماس في هذا الفضاء قد يولّد كائنات همجية لاتحمل أي ذرة من ذرات الكرامة الآدمية .
إن الشبق الجنسي في الكائن العربي الحديث له عوامل مختلفةّ ولكن يظلّ العامل الأكبر هو عامل التخلف الديني والاجتماعي والمدني في عصر الكائن العربي الحديث الذي يحلم كثير من أفراده أن تكون قبورهم بين فخذي امرأة . هذا المجتمع المييئوس من برئه الذي يهين شهرياره المرأة ويقتلها ألف قتلة باسم الدين مرة، وباسم الأخلاق أخرى وهو يمارس الدعارة في الخفاء، هذا الكائن نعم هو الذي جعل الدعارة تلفّ كل علاقاته، فهناك دعارة السياسة ودعارة الفن، ودعارة الثقافة، ودعارة الإدارة ودعارة الدين ...إلخ
إن العالم البغائي في ألف ليلة وليلة أطهر بكثير من العالم البغائي العربي في عصرنا الذي يمارس البغاء باسم محاربة البغاء .
وعوداً إلى الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة لنجد في قسمه الأخير دراسة نقدية معمّقة لحكايات ألف ليلة وليلة استعمل فيه المؤلف بنائية الأمثلة الوظائفيّة متابعاً فلاديمير بروب في مفهومه للمثال الوظائفي من خلال تحليله لحكاية (علاء الدين أبو الشامات)، ففي هذه الحكاية تتموضع وظيفة الرحيل ، التي تسبق بوظيفة interdiction، حيث تأخذ في هذه الحكاية شكل النصيحة ، وهناك وظيفة المنع التي لم تتحقق في هذه الحكاية، مما أدّى إلى تحقق وظيفة الأمر أو الاقتراح، التي ينتج عنها فيما بعد وظيفة الخرق أو خرق المنع.
وتنمو الحكاية في ما بعد عن طريق وظيفة الخداع ، فوظيفة التواطؤ العفوي ، فوظيفة الافتقار، ثم وظيفة الوساطة، وتتداخل الأحداث بوظيفة الفعل المضاد حسب مفهوم بروب ،أو وظيفة إرادة الفعل حسب غريماس. ثم تظهر وظيفة المانح ،فوظيفة نزع القناع ... وغير ذلك من الوظائف المستعملة في تحليل الحكاية . ويعدّ هذا القسم من الكتاب من أكثر الأقسام تعمّقاً في استعمال أدوات النقد السردي .
وبعد هذه الجولة الماتعة في دراسة خطاب الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة ،لا يسع القارئ إلا الاتفاق مع المؤلف الذي يذهب إلى أن الفكر الشهرزادي ليس فكرا تنويرياً ، وليس من مهمته أن يكون كذلك ،: " إنه دعوة إلى الطبقات الاجتماعية المسحوقة للتصالح مع الواقع السائد بكلّ بنياته المهمّشة ، وأوضاعه اللا إنسانية ، وهو دعوة برؤية لا مباشرة للطبقة الفوقية لاستمرارها في إذلال الطبقة الدونية . والدعوة هنا تتبين عن طريق الجنس ، فالجنس هو الذي يشكل هذه الدعوة وآفاقها " ص 231 .
وقد جاء الكتاب في 234 صفحة من القطع المتوسط قسمه المؤلف أربعة أقسام هي : المقدمة ، ثم المرأة وبانوراما الجنس في الحكايات، وسوسيولوجية خطاب الجنس ، ونقد خطاب الحب والسلطة في تأريخنا الليلي ، وبنائية الأمثلة الوظيفية في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة . ثم تـأتي الخاتمة.
ولعلّ أول ما يعلق بالذهن بعد الانتهاء من نشوة قراءة الكتاب هي اللغة الفخمة الأنيقة التي استطاع الكتاب بها أن يبتعد وأن يقترب : أن يبتعد عن جفاف اللغة العلمية القاسية ، وأن يقترب في الوقت نفسه من اللغة الأدبية المنمّقة الرائعة دونما تخلّ عن رصانة الفكرة وحيادية العبارة في طرحها العلمي . وهذه خاصية لا تتوافر إلا عند قلائل من الكاتبين .
أمّا في مجال التناول العملي فتبرز القدرة التحليلية واضحة جلية في جميع أجزاء العمل .
ولو رام المرء تتبع أهم خيوط هذا الكتاب فإنه سيجد في القسم الأول تأكيد أنّ الليالي هي نتاج لمجموعة مؤلفين من حضارات متعددة هي الهندية والفارسية والعربية بل إن تعدد المؤلفين واضح أكثر ما يكون الوضوح في التأريخ الطويل الذي مرت به الليالي في الصياغة العربية فالقارئ المتمعّن كما يقول د. يونس : " يجد أن ثمة اختلافاً في بنية بعض الحكايات من حيث الأسلوب والتراكيب واللغة " .
ويلح د. يونس على دور المرأة الجنسي في الليالي حيث إن المرأة هي الحلم الوردي بالنسبة للشخصيات التي تشكل الحدث ، إذ تتركز تقنية القص على حضورها المكثّف ، بما يجرّه هذا الحضور من طفحان جنسي ولكن خطاب الليالي في بنيته الدالة العميقة كما يقول الباحث: يحتوي على خطابين هما : خطاب السلطة السوسيولوجي ، وخطاب الجنس الذي يعدّ أهمّ مكونّات السرد ويحلل د. يونس ثلاث حكايات من حكايات ألف ليلة وليلة ليبيّن كيفية تعامل الرواي مع الجنس وكيفية تقديمه مادة رئيسة تتحكم في علاقات الحكاية وفي علاقات الشخوص مع الواقع الاجتماعي والسلطوي .
وفي سويسولوجيا خطاب الجنس نجد تنبيهاً على أن الليالي بطبيعتها لايمكن أن يستوعبها أي منهج نقدي قار ، بل يجب أن تدرس بعدد لامتناه من الدارسين وبعدد لامتناه من المناهج والخطابات ولأن في الليالي تركيزا عاما على أجساد النساء وما تثيره تلك الأجساد فقد تتبع الباحث خطاب الجنس في المجتمعات المختلفة التي تدور فيها الليالي مابين مجتمعات بدائية أو شبه بدائية ومجتمعات حضرية أو شبه حضارية ومابين طبقات مختلفة تجارية وزراعية وإقطاعية وأرستقراطية بل مجتمعات متخيّلة تطوف في عالم الجن والأساطير . ولم تهمل الليالي حتى الحضور الحيواني في هذا الخطاب الجنسي كذلك.
وقد خرج المؤلف في بحثه بما يقرر أن طبيعة العلاقات الجسديّة هي في الغالب علاقات استلابية لا يكاد يشع فيها بريق العلاقات الإنسانية الرفيعة ، وقد فرض التباين الطبقي الشاسع مستويين من تلكم العلاقة مستوى يكون فيه الفعل الجنس قابلا للتحقيق ...، ومستوى يكون فيه الدافع الجنسي ملغى ومحاصرا.. .
ولكن الخطاب الجنسي هو في الحقيقة يشكّل في المبنى الحكائي مجموعة حوافز Motifs حكائية ، هذا ويعد د. يونس من أوائل من قاموا بتطبيق مفهوم الحوافز في المنهج الشكلاني عند توماشفسكي في الدراسات النقدية العربية ... واحتواء الحكاية على ما يسمىّ الأدب الماجن أو المكشوف(EROTIC LITERATURE)، لا يبعدها بحال عن الانضواء تحت الخطابات الأدبية في بنيتها العميقة كما يقول المؤلف .
وإذا كان الباحث يذهب إلى أن هناك مرواحة فعلية بين الحكاية ، وبين ممارسة شهرزاد للجنس ، بل يذهب إلى أن شهر زاد لا تقوم في حقيقة الأمر سوى بالسخرية من بنات جنسها ، ومن زمنها أكثر من رغبتها في تحريرهن وإعادة شهريار إلى دائرة الوعي والعقل ( انظر ص 102 ) .
فإننا نرى أن فعل ممارسة الحب لايمكن أن يكون متصلاً في جنس وألف جنس وجنس ، لكنّ الأقرب أن يكون في توصيف البنية المستترة ، ولا أقول العميقة إن فعل الحكي نفسه تحول إلى جنس بالحكاية.
إن شهرزاد حينما تسكت عن الكلام المباح إنما تسكت قبل اكتمال رعشة الحكاية مما يجعل شهريار يتشوّق إلى اكتمال الرعشة الحكائية لا الرعشة الجنسية التي قد تتحقق، أو قد تطغى عليها رعشة الحكاية التي ابتكرتها شهرزاد . إن حكايات ألف ليلة وليلة هي ألف رعشة ورعشة.. هي ممارسة الجنس سردياً . إنه جنس في تتابع الحكاية ، وفي تمفصلاته المختلفة في سرد الحكاية، وهو جنس يؤسس في الوقت نفسه لخطاب سوسيولوجي وسلطوي خاص بطبقة خاصة تتكاثف كل مكوّناته لإرضاء تلك الطبقة .
أما القسم الثالث من البحث فيتمحور حول نقد خطاب الحب والسلطة في تاريخنا الليلي، حيث يجب أن تكون دراساته كما يقول الباحث مبنية على الحالة الثقافية والتاريخية لمجتمعات الليالي ( انظر ص 122) . ومن خلال التحليل العميق لبعض حكايات ألف ليلة وليلة يسجل الباحث إدانة كاملة لذينك الخطابين ، إذ الحب في الليالي هو حب يمهّد للجنس، ويقدّم مائدة الجسد على مذبح الآدمية ، أما السلطة فقد كانت سلطة منافقة غرقت في غابات النهود وجبال الأكفال وحفلات المجون والرقص، وأدارت البلاد وفق شيزوفرينيا سلطوية تبيح لها كل شيء باسم الدين الذي استعمل لتمرير كافة أنواع الخطابات المتناقضة والرغبات المزاجية .
وهنا نقف وقفة أخرى مع الباحث الذي أدان العصرين الأموي والعباسي، لنقول إنه على الرغم من الاستبداد والعسف الذي كان يطبع عالم تلك العصور كافة، إلا أنّ العصور الذهبية للحضارة الإسلامية التي لم نزل‘ في العلوم الإنسانية، عالة على كثير من تراثها كانت العصور الثلاثة من الثاني إلى الرابع الهجري ، فقد تفتحت آفاق للعلم والحرية الفكرية ،والتدافع العلمي الراقي، بما لا نجده في عصرنا الحاضر . أما مجتمع الجواري فقد مثّل زاداً جنسياً وجمالياً جعل تلك المجتمعات ترتوي من الجنس ( وهذا لا يعني الإقرار أبدا بعبودية المرأة واستلابها)، لتخلص هذه المجتمعات في الفكر والإبداع والعطاء المعرفي، و حتى لايكون فضاء الجسد هو الهاجس الأكبر في حياتها ،كما هو في الكائن العربي الحديث الذي لا يفكر إلا في تكورّات الجسد وتشكيلاته .
إن الإشباع الجنسي لدى خلفاء تلك العصور جعل كثيراً منهم علماء أو أدباء أو مبدعين مثال المأمون وابن المعتزّ، لكن ذلك لا يمنع كثيراً من الفترات المظلمة التي طغى فيها تسونامي الجنس، فأهلك الحرث والنسل لأنّ الانغماس في هذا الفضاء قد يولّد كائنات همجية لاتحمل أي ذرة من ذرات الكرامة الآدمية .
إن الشبق الجنسي في الكائن العربي الحديث له عوامل مختلفةّ ولكن يظلّ العامل الأكبر هو عامل التخلف الديني والاجتماعي والمدني في عصر الكائن العربي الحديث الذي يحلم كثير من أفراده أن تكون قبورهم بين فخذي امرأة . هذا المجتمع المييئوس من برئه الذي يهين شهرياره المرأة ويقتلها ألف قتلة باسم الدين مرة، وباسم الأخلاق أخرى وهو يمارس الدعارة في الخفاء، هذا الكائن نعم هو الذي جعل الدعارة تلفّ كل علاقاته، فهناك دعارة السياسة ودعارة الفن، ودعارة الثقافة، ودعارة الإدارة ودعارة الدين ...إلخ
إن العالم البغائي في ألف ليلة وليلة أطهر بكثير من العالم البغائي العربي في عصرنا الذي يمارس البغاء باسم محاربة البغاء .
وعوداً إلى الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة لنجد في قسمه الأخير دراسة نقدية معمّقة لحكايات ألف ليلة وليلة استعمل فيه المؤلف بنائية الأمثلة الوظائفيّة متابعاً فلاديمير بروب في مفهومه للمثال الوظائفي من خلال تحليله لحكاية (علاء الدين أبو الشامات)، ففي هذه الحكاية تتموضع وظيفة الرحيل ، التي تسبق بوظيفة interdiction، حيث تأخذ في هذه الحكاية شكل النصيحة ، وهناك وظيفة المنع التي لم تتحقق في هذه الحكاية، مما أدّى إلى تحقق وظيفة الأمر أو الاقتراح، التي ينتج عنها فيما بعد وظيفة الخرق أو خرق المنع.
وتنمو الحكاية في ما بعد عن طريق وظيفة الخداع ، فوظيفة التواطؤ العفوي ، فوظيفة الافتقار، ثم وظيفة الوساطة، وتتداخل الأحداث بوظيفة الفعل المضاد حسب مفهوم بروب ،أو وظيفة إرادة الفعل حسب غريماس. ثم تظهر وظيفة المانح ،فوظيفة نزع القناع ... وغير ذلك من الوظائف المستعملة في تحليل الحكاية . ويعدّ هذا القسم من الكتاب من أكثر الأقسام تعمّقاً في استعمال أدوات النقد السردي .
وبعد هذه الجولة الماتعة في دراسة خطاب الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة ،لا يسع القارئ إلا الاتفاق مع المؤلف الذي يذهب إلى أن الفكر الشهرزادي ليس فكرا تنويرياً ، وليس من مهمته أن يكون كذلك ،: " إنه دعوة إلى الطبقات الاجتماعية المسحوقة للتصالح مع الواقع السائد بكلّ بنياته المهمّشة ، وأوضاعه اللا إنسانية ، وهو دعوة برؤية لا مباشرة للطبقة الفوقية لاستمرارها في إذلال الطبقة الدونية . والدعوة هنا تتبين عن طريق الجنس ، فالجنس هو الذي يشكل هذه الدعوة وآفاقها " ص 231
* د. جُمعان عبدالكريم - كتاب الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة تأليف الدكتور محمد عبد الرحمن يونس