عبد اللطيف ذياب أحمد - كتاب ألف ليلة وليلة والتراث العربي

* الإهـداء
إلى كل عربي آمن إيماناً مطلقاً بأصالة تراث الأمة العربية .
إلى كل عربي عمل ويعمل صادقاً على إحياء التراث العروبي الأصيل ، تحقيقاً وطبعاً ونشراً وتوزيعاً ، ليضعه في متناول المثقفين العرب .
إلى المفكر العروبي الحق ، الذي أسهم ويسهم في تقديم الدراسات والبحوث الجادة عن تراث الأمة العربية ، والعمل بإخلاص في سبيل تطهيره من أدران وقاذورات الشعوبية السوداء الحاقدة على كل ما هو عربي ومسلم .
إلى المناضلين العروبيين الذين وهبوا حياتهم في سبيل إعادة العروبة إلى أصالتها وصفاءها ماهوياً ووجودياً وحضارياً .
إلى هؤلاء جميعاً أهدي كتابي هذا ، ومن الله التوفيق .

بسـم الله الرحمن الرحيم

لم تتعرض قضية للتشويه مثلما تعرضت له قضية التراث الثقافي للأمة العربية بشكل عام ، والتراث الثقافي الإسلامي بشكل خاص ، هذا التراث الذي أبدعته الذات العربية من نتاج في كل ميدان من ميادين الدين والأدب والفلسفة والفن والعلم والاجتماع والسياسة والتاريخ والأخلاق ، وغيرها من الميادين الأخرى ، والذي احتوى على كل نوع من أنواع الفكر ، وعلى كل ضرب من ضروب المعرفة ، التي طبعت هذا التراث بطابع خاص ووسمته بسمة خاصة تميزاه عن غيره من التراثات الأخرى .
وقد جاء هذا التشويه على أيدي أعداء العربية والإسلام ، قديماً وحديثاً ، فقديماً عملت الشعوبية ؛ الحاقدة على كل ما هو عروبي ؛ إمكاناتها المتاحة على تشويه تراث الأمة العربية ، وذلك بتحميله كل فاسد ومعارض ومناقض لما هو جيد وممثل للقيم والأخلاق العربية الأصيلة . وحديثاً على أيدي المستشرقين والتغريبيين ، بما حيك حوله من مؤامرات تخريبية هدامة ، كانت قد استهدفت تشويهه ومسخه وتزويره والعبث به وتعطيله .
وليس كتابي هذا في جوهره دراسة أو بحثاً حول الشعوبية أو الاستشراق ، وآثارهما المدمرة على الأمة العربية ، كما أنه ليس بدراسـة تحليلية لحكايات ألف ليلة وليلة ، وإنما هو في حقيقته دعوة عروبية عامة ، وللمفكرين العروبيين خاصة ، أهيب بهم فيها ليقفوا الموقف العروبي الثوري المسؤول اتجاه هذه المؤامرات على تراث أمتنا العربية الأصيل ، والقيام بواجبهم ومسئوليتهم العروبية اتجاه هذا التراث العظيم ، وذلك من خلال استكشافه وإخراجه لحيز النور ، وتحقيقه ودراسته وطبعه ونشره ، وأخيراً فرز وإظهار التراث الشعوبي المتداول على الساحة الثقافية العربية في هذا العصر ، ودراسته وتبيان شعوبيته وخطره على الأمة العربية ، ليتسنى للشعب العربي التعرف عليه واجتنابه .
وأرجوا أن يكون كتابي هذا مساهمة جادة في تحقيق تلك الدعوة ، إذ في ذلك يكمن غرضه الأول والأخير .
وقد اعتمدت في كتابي هذا على نسخة ألف ليلة وليلة المصورة بالأوفست مـن قبل مكتبـة المثنى فـي بغداد عن طبعة بولاق عام ( 1252 هـ) ، واعتمادي على هذه الطبعة بالذات له أسبابه الموجبة وذلك لكون طبعة بولاق تُعتبر من أقدم الطبعات هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى لكونها تعتبر أصدق طبعة لكتاب ألف ليلة وليلة لم يتلاعب الناشرون والمحققون بها ؛ تصحيحاً وتهذيباً ، كباقي الطبعات الأُخرى .
ويجدر بي هنا تنبيه القارئ الكريم إلى ملاحظة هامة ، وهي أن العبارات والأمثلة التي استأنست بها من كتاب ألف ليلة وليلة ، قد ثبتها على علاتها دون تعديل ولا تحوير ولا تهذيب ، حيث أني تركتها على ركاكتها اللغويـة وأخطائها الإملائية والنحوية ذلك قصد لا أظنه يخفى على القارئ الكريم .
ولقد وزعت مادة كتابي هذا ، على ستة أبواب :
الباب الأول - المدخل : بينا فيه مفهوم الشعوبية بإيجاز ، وبينا فيه مؤامرة المستشرقين على تراثنا العروبي الأصيل ، ثم بينت الأساليب الشعوبية المتبعة في كتاب ألف ليلة لبث سمومها ضد الأمة العربية ، وتشويه كل ما هو عروبي أو يمت بصلة لأمة العرب .
الباب الثاني - العرب في ألف ليلة وليلة : قدمت له لتبيان الصورة الحقيقية للإنسان العربي ، ودوره الفاعل في عمارة الكون ورقي البشرية ، ثم بينت أسباب العداء الذي تكنه الشعوبية لأمة العرب ، الذي حدا بها في هذا الكتاب وأضرابه من الكتب الشعوبية ، أن تجهد نفسها بإظهار العربي بصورة مغايرة ومناهضة ومناقضة لحقيقته الحقة التي جبل عليها ، ثم بينت غايتها من ذلك ، وهي إسقاط هذه الصورة البشعة وتكريسها لدى قارئ الحكايات الشعوبية وإقناعه بأنها هي الصورة الحقيقية لأبناء الأمة العربية .
الباب الثالث _ الإسلام في ألف ليلة وليلة : ويحتوي على مقدمة تبين العلاقة الصميمية بين العروبة والإسلام ، وكيف أن هذه العلاقة كانت السبب وراء عداء الشعوبية للإسلام ، مستمدة عداءها له من عدائها للعرب ، كما بينت فيه كيف أُستغل الإسلام لتشويه الإسلام والعرب معاً ، وذلك عندما صُبغت الحكايات بالصبغة الإسلامية، ومما سهل عليها التجديف على الدين الإسلامي، ولم يسلم من هذا التجديف حتى القرآن الكريم ، وأحاديث سـيد الأنبياء وبني آدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سهل عليها الازدراء بفقهاء وقضاة الإسلام وحياكة الأكاذيب عنهم .
الباب الرابع - الخلق العربي في ألف ليلة وليلة : بينا فيه الترابط الوثيق بين الأخلاق العربية والدين الإسلامي ، ثم بينا عمل الحكايات التخريبي في تشويه المضامين الحقيقية للصفات الأخلاقية التي يتحلى بها الإنسان العربي كالمروءة والنجدة والعرض والشرف ، والقرى والكرم والوفاء والأمانة والإباء والشمم ، والصدق والإخلاص ، وغيرها من الخصال والمحامد العربية البارزة .
الباب الخامس - الحياة العربية في ألف ليلة وليلة : بينا فيه مفهوم الحياة العربية الحقة ، وأظهرت الركائز الأساسية التي تقوم عليها هذه الحياة ، ثم بينت الكيفية التي عملت بها الحكايات لتشويه هذه الحياة عن طريق إسقاط العيوب المرتبطة تاريخياً بأمة أخرى على الأمة العربية ، لتظهر هذه الحياة ترفل بالتحلل الأخلاقي ، مبنية على العنف والجهل قائمة على التواكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة وعدم الشعور بالمسئولية ، متبعة في ذلك التشويه والتزوير والتحريف .
الباب السادس - السلطة العربية في ألف ليلة وليلة : تناولت فيه دور السلطة بالنسبة للدولة ودورها في الحفاظ على الدين والدنيا ، ثم تكلمت عن محاولة الحكايات في تشويه حقيقة السلطة العربية ، وعن أسباب تركيز هجومها الجنوني على بعض أعلام الأمة العربية من أمثال الخليفة هارون الرشيد والقائد العربي أمير العراقين الحجاج بن يوسف الثقفي وغيرهما ، وغاية الحكايات من إظهار حكمة وعدل وسياسة الملوك الفرس ووزرائهم .
تلكم كانت أبواب هذا الكتاب ، تعرضت لها بإيجاز ، وأرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت في الكشف عن حقيقة هذا الأثر الشعوبي الأسود ، الذي لا يمت بصلة لتراث الأمة العربية كما أرجو أن يكون هذا الكتاب مساهمة جادة لتحقيق تلك الدعوة القومية التي دعونا لها .

والله ولي التوفيق
عبد اللطيف ذياب
سورية - دير الزور 1428 – 2007

البـاب الأول

المـدخل

الشعوبية حركة عدائية مضادة ، ذات طبيعة عمياء ومقاصد تخريبية هدامة ، تقوم في جوهرها على مناهضة الأمة العربية ، والغض من شأنها والزراية بماضيها ، والفخر عليها بحضارات الأمم الأخرى ، والكيد لدينها الإسلامي الحنيف ، والتواطؤ ضدها تواطؤاً كلياً في كل زمان ومع أَيَّة أمة ودونما أيُّ شرط ، منطلقة بذلك من حقدها الأسود على العرب ، وكراهيتها لهم وهوسها الجنوني بالثأر منهم وتمزيقهم والقضاء عليهم بأي شكل من الأشكال أو وسيلة من الوسائل أو أداة من الأدوات .
وكانت الغالبية العظمى الممثلة للشعوبية تتكون مـن
عناصر أعجمية ، وخاصة العناصر الفارسية المجوسية ، الذين عزَّ عليهم زوال ملكهم ، كما عزَّ عليهم ما رأوه من العرب وما آلو إليه من قوة وسيادة وتقدم وحضارة وقيادة وريادة ، فتحركت في نفوسهم المريضة هذه النزعة العدوانية التي تنكرت لكل ما هو عربي، وحطت من قيمته وشأنه ، مع تفضيل كل ما هو غير عربي تفضيلاً كاملاً ، والإعلاء من مكانته وقدره ، وعملت بكل ما في وسعها على تجريد العرب ، من جميع ما يتمتعون به من مزايا وخصال وفضائل ومكارم ومواهب وكفاءات ، وعلى اختلاق الأكاذيب والأباطيل والأوهام ، وتزوير الأحداث والوقائع والحقائق ، وحوك الدسائس والمؤامرات ضدهم ، وعلى الافتراء عليهم ، بتحميلهم النقائص والمثالب والعيوب ، وعلى إغمادهم حقهم في كافة ما قدموه للعالم وللبشرية من خدمات حياتية جُلى ، وأعمال حضارية رفيعة ، وقيم إنسانية مثلى ، وعلى إحلالهم أدنى مراتب الشعوب ، وإنزالهم أحط منازل الأمم ، يقول ابن قتيبة : أعاذنا الله من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد وبغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة ، وتلحق بها كل رذيلة ، وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان ، وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف ، وتغضّ من النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر بالشجا ، وتطرق منه إلى القذى .
وهدف الشعوبية الأول والأخير في عدائها هذا ، هو تقويض الكيان العربي القومي كلياً ، فقد كرست كافة قواها وإمكاناتها ، على تخريب الدعائم الأساسية الأصيلة لهذا الكيان ، والتي تتمثل في الإنسان العربي ، والدين الإسلامي ، ولأخلاق العربيـة ، والحيـاة العربية ، والدولة العربية .
وقد اتخذت الشعوبية في سبيل تحقيق هدفها الأسود ، مختلف المجالات والميادين الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية ، مسرحاً لنشاطاتها التخريبية الهدامة، مبيحة لنفسها إباحة كلية استخدام كافة الأساليب والوسائل والسبل ، لا سيما اللاأخلاقية منها ، من غش ومكر وخداع ، ومن تلفيق وتزوير ، ومن كذب ونفاق ودسيسة ، فوضعوا المؤلفات الكثيرة ، وضمنوها بالكثير من أكاذيبهم وأضاليلهم ، وحاكوا القصص والحكايات التي لا تمت إلى واقع الحال بصلة ، وألبسوها لبوساً عربياً إسلامياً ليتسنى لهم بلوغ مآربهم وغاياتهم الشعوبية .

- 2 -

وقد انطلت هذه الأكاذيب والأباطيل على الكثير من المؤرخين والمفكرين العرب القدماء منهم والمحدثين ، فأخذوها على علاتها وقبلوها بدون أي تحقيق أو تمحيص ، يقول ابن خلدون في ذلك : وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها ، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهِموا فيها وابتدعوها ، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها ، واقتفى تلك الآثار الكثيرة ممن بعدهم واتبعوها ، وأدوها إلينا كما سمعوها ، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ، ولا رفضوا تُرهات الأحاديث ولا دفعوها ، فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب قليل ، والغلط والوهم نسيب الأخبار وخليل ، ويقول أيضاً : وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها إلى أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط .
ومن هنا قسم التراث العربي إلى قسمين متمايزين ، التراث الثقافي العروبي الأصيل ، والتراث الشعوبي الهجين ، فالأول استمد مادته من صلب الفكر العروبي للأمة العربية ، والذي كان مطابقاً مطابقة كلية لخصائص وسمات الأمة العربية ، أما الثاني فهو التراث الذي استمد مادته من مصادر فكرية غريبة فارسية على الخصوص ومن هندية ويونانية ورومانية وغيرها ، والذي من ثم كان مبايناً ومناقضاُ ومناهضاً تماماً لخصائص وسمات الأمة العربية.
ومثل هذا التراث الشعوبي الشاذ ، أصبح هو التراث الأثير بل الأثير جداً لدى المستشرقين اليوم ، ولدى أتباعهم من التغريبيين ، فقد اعتنوا بهذا التراث الشعوبي الأسود عناية فائقة ، وأجهدوا أنفسهم في البحث عنه واستكشافه وتجميعه ، ومن ثم تحقيقه وطبعه ونشره وتوزيعه ، وصنعوا الدراسات الواسعة والدقيقة والبحوث المستفيضة عنه ، وبالغوا كثيراً في تعظيمه وإعلاء شأنه ، ذلك ، لا لكونه ذا قيمة فكرية مميزة أو أهمية معرفية بالِغة أو مكانة علمية دقيقة ، وإنما لشعوبيته فقط ، هادفين من وراء ذلك إظهاره على التراث العروبي الأصيل وتغليبه عليه ، وبالتالي هادفين إلى جعله أداة من أدوات تخريب الفكر العربي الحديث .

- 3 –
وحكايات ألف ليلة وليلة ، في طليعة هذا التراث الشعوبي الشاذ ، الذي نال الأثرة والمكانة المرموقة لدى المستشرقين ولدى

أتباعهم من التغريبيين، فجعلوها قبلة أنظارهم ومدار عنايتهم منذ أن ترجمها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان في بداية القرن السابع عشر ، يقول الدكتور فليب حتي عند كلامه عن أدب العرب في العام الألف الميلادي : ومن أدب هذه الحقبة انتقى الغرب كتاباً واحداً أولاه اهتمامه هو كتاب ألف ليلة وليلة وأصله قصص فارسية قديمة نقلها إلى العربية الجهشياري المتوفى عام 942 ، إلا أن القصاصين المتعاقبين أضافوا إليه قصصاً أُخرى كثيرة ، كما أضافوا اسم بطلة هذه الرواية،شهرزاد، وعلى تعاقب الأجيال أُلحقت بهذه المجموعة حكايات كثيرة جديدة ، من مصادر لا تحصى ، هندية ويونانية وعبرانية ومصرية وشرقية مختلفة الصفات والألوان 00 والواقع إن الإقبال على هذا الكتاب هو في الغرب أكثر منه في الشرق (5) .
وأجهد المستشرقون أنفسهم في البحث عنها واستكشافها وتجميعها ، تقول سهير القلماوي في ذلك : لم يقتصر هم الغربيين على نقل هذا الأثر إلى لغاتهم وإنما أنتجت تلك التراجم المتعددة آثارها العلمية والأدبية ، وكان أهم ما شغل بالهم البحث عن أصل ألف ليلة وليلة وفي ذلك اتجه البحث ناحيتين هامتين ، الأولى هي محاولة اقتناء النسخ المختلفة لعلهم يصلون إلى الأقدم ، فعثروا على نسخ مختلفة متعددة ، والثانية هي البحث النظري عما قد يكون أصلها (6) ، وحيث بذلوا كل ما في وسعهم من أجل تحقيقها وطبعها ونشرها وتوزيعها ، فقد طبعت من قبلهم كثيراً (00ويكفي أن نعرف أن الليالي طبعت أكثر من ثلاثين مرة مختلفة في فرنسا وإنجلترا في القرن الثامن عشر وحده ، وإنها نشرت نحو ثلاثمائة مرة في لغات أوربا الغربية منذ ذلك الحين وقد انتشرت انتشاراً واسعاً في أوربا وأمريكا ، بحيث غدت لا تخلو مكتبة عامة ولا خاصة منها ، وليس هذا إلا بفصل الهالة الدعائية التي أُحيطت بها .
وحيث انكبوا طويلاً على وضع الدراسات الواسعة الدقيقة والبحوث الشاملة المستفيضة عنها ، وحسبنا أن نعرف أن أول من نبه إلى وجود الحكايات وأول من انفرد بدراسة هذا الأثر الشعوبي الأسود،هم المستشرقون ، وقد أظهروا هذه الحكايات في دراساتهم على أنها الصورة التأريخية الصادقة للمجتمع العربي الإسلامي ، وما كان عليه أصل هذا المجتمع من طبائع وعادات ، وما كان لأهله من أخيلة وأفكار ، وعقائد وآراء ؛ ومصداقاً على ما نقول ؛ ما نراه واضحاً عند المستشرق الإنكليزي ( لين ) حيث جمع ما علق به على ترجمته لحكايات ألف ليلـة وليلـة بكتاب كبير وسمه باسم ( المجتمع العربي في القرون الوسطى ) (7) ، بل أنهم قدموا هذه الحكايات ، لقرائها ، على أنها هي الشرق الإسلامي بعاداته وأخلاقه وأديانه ، وأنها الصورة الصادقة له ، فمن قرأ كتاب ألف ليلة وليلة ، فكأنما قد رحل إلى الشرق الإسلامي ، فسمعه ورآه ولمسه لمس اليد ، هذا مما سهل أكثر على انتشار هذا الكتاب في أوربا الاستعمارية الطامعة في بلاد العرب والمسلمين .
وحيث بالغوا كثيراً في تعظيمها والإعلاء من شأنها ، حتى وصفها الباحثون والمصنفون ؛ من المستشرقين ؛ بأنها الممثل والمعبِّر الوحيد والأصيل عن التراث العربي الإسلامي، ووضعوها ضمن شوامخ إبداعات البشرية قاطبة.
إن هذه الهالة الضخمة عن ألف ليلة وليلة لم يصنعها المستشرقون حباً بالأمة العربية وتراثها الثقافي ، وإنما لغاية استعمارية بحتة ، قاصدين من فعلتهم هذه ما يلي :
أولاً – دفع الإنسان العربي إلى ارتكاب الآثام وعدم الالتزام بالفرائض ، وإلـى تحريضه علـى اقتراف الموبقات ، لأن فـي

ذلك ، إسقاط لإنسانية الإنسان وهدماً للمجتمع ، لأن الفرد المتحلل من روابط المجتمع ومن مقوماته وقيمه وأخلاقه ، غير قادر على تحمل مسؤولية التفاعل الحضاري ، إذ أن عملية التفاعل الحضاري تقتضي الشعور بالمسؤولية والالتزام بقيم المجتمع وأخلاقه والارتباط به ارتباطاً عضوياً ، والتمسك بمثله والانتماء الواعي له ، والعمل وفقاً للمصالح المشتركة بينه وبين مجتمعه .
ثانياً - النفاذ إلى عقول ونفوس أبناء الأمة العربية ، رجاء أن يشوهوا في أعماقهم صورة أمسهم،ويطفئوا نوراً لهم أضاء للبشرية طريقاً وسط الظلمات ، وحتى يقنعوهم ؛ أخيراً ؛ بأن بقاءهم في عالم اليوم رهن بتنكرهم لعروبتهم وعقيدتهم الإسلامية ، وتعلقهم بركاب الغرب " رسل الحضارة وسادة العصر " ، وإذ ذاك يهون عليهم أن يروهم يستبيحون حماهم ، وينهبون خيراتهم ، ويقومون أوصياء عليهم ، يأخذون بأيديهم نحو التمدن الاستعماري الكاذب .
ـ 4 ـ
هذه هي الشعوبية ، وهذه هي بعض من أعمالها التي استهدفت الإنسان العربي وكل ما يتصل بهذا الإنسان من قيم كبرى ، وهذا هو الاستشراق نصير الشعوبية الأول ومحيي آثارها السلبية السوداء ، في سبيل تخريب أمتنا العربية المجيدة ، وفي تعطيل مسيرتها الحياتية الحقة ، وفي الحيلولة بينها وبين أن تؤدي دورها الرسالي المنتظر ، في ريادة العالم وقيادة البشرية وإنشاء الحضارة وازدهار الإنسانية .

الباب الثاني

العرب في ألف ليلة وليلة

يتمتع الجنس العربي بعظمة كونية فريدة ، لا تكاد تدانيها عظمة جنس آخر من الأجناس على الإطلاق ، فقد كان لهذا الجنس من الفضل الحضاري على البشرية والعالم والتاريخ ما يزيد أضعافاً مضاعفة على جماع ما لبقية الأجناس الأخرى من أفضال ، منذ القدم وحتى يومنا هذا ، وقد تأت هذه العظمة الكونية الفريدة ، من كونه الجنس النادر ، الذي تسنى له أن يحقق ذاتيته القومية الإنسانية المثلى بكل تمامها الماهوي والوجودي الحق ، فامتلك بذلك سر الحياة والعالم ، وبالتالي امتلك روح الأبدية وناموس الوجود .
وقد قضى الله بحكمته الإلهية ، لهذه الأمة المباركة بأن تكون خليفة الأمم حينما قدر لها أن تكون خير أمة أُخرجت للناس ، فحباها الله بمكانة فريدة بين أمم الأرض ، فريدة بأخلاقها وشرفها ومزاياها وكرم أرومتها وعزة مجدها وسبق حضارتها .
فقد تمتعت الأمة العربية بمزايا تؤهلها لأن تؤدي خلافتها الأممية هذه على أكمل شكل ، فتمتعت بملكات وقابليات أوليـة ممتازة ، وبمقومات ماهويـة أصيلة ، وخصائص ذاتية رفيعة ، وبسمات كبرى ثابتة ، حيث غدت بجدارة واستحقاق الأمة المثال ، وبالتالي الأمة المستخلفة .
إذاً ، لم يختر الله سبحانه وتعالى أمة العرب بالذات لحمل رسالة السماء دون سواها ، ولم يختر محمداً رسولاً منهم ، لمجرد الصدفة أو لأسباب عفوية ؛ كما يقول الحاقدون ؛ ولم يخصهم الله بها لأنهم أحوج من غيرهم إلى الإصلاح؛ كما يقول الشعوبيون ؛ بل لأن أمة العرب قد حباها الله بأجمل الصفات وخير العادات ، التي جعلت منها أمة بزت قرائنها وصيرتها خير أمة أخرجت للناس ، فاختارها ربها لحمل رسالته الإلهية دون سواها من أمم الأرض .
وقد شاءت عناية الله تعالى أن يجعل الأمة العربية الوارثة لرسالة السماء المنزلة على الرسل والأنبياء ، أي جعلها منبت الأنبياء والرسل ومستقر الكتب السماوية، والعروة الوثقى بين الأرض والسماء وبين البشرية والألوهية، ومناط الخلافة والولاية ، واختيرت لغتها العربية لساناً لأشرف وأكمل رسالة إنسانية جاءت لتحرير البشرية من نير العبودية والجبروت والطغيان ، واختير أحد أبنائها لحمل أشرف رسالة وأقدس عقيدة ، تلك هي رسالة الإسلام وعقيدة التوحيد والإيمان ، وكانت مهبط الوحي الإلهي يهبط في أرضها الطاهرة ، كل هذا كان هو الأمر الذي أقامها رائداً وقائداً للبشرية والعالم ، وحامياً وصائناً للحياة والوجود، ومن ثم الأمر الذي أصبحت به بمكانتها الأممية الرفيعة ، ومن ثم أهلاً لقول الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}(1) .
ومن آيات التكريم للأمة العربية وللجنس العربي ، قول الله سبحانه وتعالى : { وأنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }(2) ، ومعنى الذكر هنا الشرف ، وكذلك قوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم }(3) أي إبقاء شرفكم ببقاء القرآن الكريم المعجزة الإلهية الخالدة، وقوله تعالى: {كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }(4) .
إذاً ، كانت شأنية العرب في الإسلام كما يقول العلامة عزة دروزة (5) : شأنية حامل الراية ، الراعي الأمين المسؤول عن رعيته ، المرشد الهادي الشفيق البار الودود الرحيم ، الولي النصير الذي يسير نحو كل خير وصلاح ويقتدي الناس به ويسيرون وراءه وهم
متساوون معه في كل حق وواجب متحلياً بما تحلى به رسول الله
محمد العربي عليه الصلاة والسلام .
ولقد حز ؛ ما وصل إليه العرب من مكانة أممية رفيعة ومن ريادة وقيادة ومن قوة ومنعة ؛ في قلب الشعوبية عدوة العرب الأولى ، حتى أكل الحقد قلوبهم وتأصل الغلّ في أعماق نفوسهم المريضة ، فعمدوا إلى عداوة العرب ، أمة وحضارة وديناً ، ومحاربتهم في كل ميدان ، وبكل الوسائل والأساليب اللاأخلاقية منها ، محاولين إنزالهم من مكانتهم الأممية المرموقة ؛ التي حباهم الله تعالى بها ؛ إلى الحضيض ، وذلك بتحميلهم المثالب والنقائض وإظهارهم بمظهر حيواني لا همَّ لهم إلا إشباع غرائزهم الدونية ، وبمعنى آخر ، إظهار العرب بمظهر يناقض ويناهض ما هم عليه في الحق والحقيقة ، ويعارض معارضة كلية كل ما يتمتعون به من صفات وخصائص ومثل وسمات وقيم عليا .

ـ 2 ـ

ولقد عملت حكايات ألف ليلة وليلة على مسخ الصورة الإنسانية المثلى التي يتحلى بها الإنسان العربي ، حيث حاولت جاهدة على إظهاره بصورة مغايرة ومناهضة ومناقضة لحقيقته الحقة التي جبل عليها ، وغايتها من ذلك طمس وإلغاء هذه الصورة الرائعة للإنسان العربي ، وتكريس الصورة البشعة التي رسمتها له في ثنايا حكاياتها لدى قارئ هذه الحكايات الشعوبية ، وإقناعه بأن هذه الصورة الأخيرة هي وحدها الصورة الحقيقية لأبناء الأمة العربية ، وذلك لكون الإنسان يمثل الدعامة الأساسية ، بل الوحيدة ، لأي أمة من الأمم ولا وجود للأمة بدون الإنسان ، وبما أن الإنسان في الأمة هو الممثل الحقيقي لذاتية الأمة ؛ التي ينتمي إليها ؛ ولسماتها وخصائصها تمثيلاً كلياً موجباً ، وبما أنه هو منشئ هذه الذاتية ومالكها وحاملها ومكرسها خلقياً وسلوكياً وفعلاً وعملاً ، فإن أي إنقاص أو تشويه للدعامة الأساسية ؛ التي هي إنسان الأمـة ؛هو في حد ذاته إنقاص وتشويه للأمة نفسها .
إذن نستطيع القول ، أن الغاية الأساسية التي قصدتها الحكايات في رسم هذه الصورة الكاذبة والمزورة للإنسان العربي ، هي النيل من المكانة الرفيعة التي تحتلها الأمة العربية بين أمم الأرض قاطبة ، ومن ثم سلبها هذه المكانة القيادية الرائدة ، وأخيراً العمل على تدميرها من الداخل ، ليتسنى للشعوبية القضاء عليها قضاءً مبرماً .
وقد عمدت هذه الحكايات الشعوبية في الوصول إلى بغيتها ، قلب الحقائق وافتراء الأكاذيب ، وذلك بوضع المضامين اللاأخلاقية للصفات التي تغنى وافتخر بها العربي كثيراً منذ أن صار ووجد ، حيث كانت هذه الصفات بمضامينها الشعوبية التي حاكتها وافترتها الحكايات ، تغاير وتناهض وتناقض الصفات التي جبل عليها هذا الإنسان المثال .
فالشجاعة التي كادت أن تكون غريزة من غرائزه الفطرية ، هذه الغريزة التي بنيت وهذبت على الأخلاق والمروءة والفروسية ، أصبحت في كتاب ألف ليلة وليلة ، قتل وسفك دماء ، ونهب وسلب ، ولصوصية وقطع طريق .
والوفاء بالعهد الذي هو من صلب أخلاق العرب التي كانوا يتمادحون بها ويعيبون من خالفها ، والذي كان عندهم ديناً يتمسكون به ويستهينون في سبيل الوفاء بالعهد قتل أولادهم وتخريب ديارهم ، أصبح في الحكايات ، غدر وخيانة .
والعفة التي اشتهر بها العربي على مر العصور وعمل بها قولاً وفعلاً ، أصبحت صبوة عارمة إلى النساء ولواطـة في الغلمان . والصدق صار كذبـاً وزوراً واحتيال .
ولم يفت الحكايات بأن تعمل في الصفات التي عجزت عن إيجاد مضامين لا أخلاقية لها للصقها بالعرب ؛ وذلك لمعرفة النائي والداني بأنها صفات ذاتية عربية محضة ؛ لم تنس بأن تنسب هذه الصفات للفرس ، وبأنها موجودة ومتأصلة في نفوس الفرس أكثر مما هي موجودة ومتأصلة في نفوس العرب ووجدانهم ، فالفراسة أصبحت للفرس متمثلة بفراسة أبي نواس ، ذلك الفارسي الشعوبي الماجن ، والكرم والمروءة لبني برمك رأس الشعوبية الحاقدة .
وعل هذا المنوال ، غزلت الحكايات غزلها الشعوبي الأسود في النيل من الأمة العربية ، وتشويه الصفات الأخلاقية التي تحلت بها منذ أن وجدت ورافقتها في صيرورتها الحياتية الإنسانية وهي تبني ذاتها القومية المتفردة .
وكان حصيلة ما تقدم ، أن الحكايات نجحت في إظهار أبناء الأمة العربية على درجة كبيرة من الانحطاط الإنساني ، ولم يكونوا حتى في مستوى الشطار الذين تحمست لهم الحكايات كثيراً ، بل تحمساً لا مثيل له ، فقد نفت عنهم كل ما يعيبهم ، وذلك بإظهارهم بمظهر بطولي نادر وشجاعة فائقة ، فهم يردّون المسروقات التي سرقوها إلى أصحابها لأنهم لا يريدون شراً لأحد وهم لا يقتلن ولا يؤذون إيذاءً بليغاً .
أما العرب فصبت عليهم ؛ الحكايات ؛ حقدها الشعوبي الأسود ، فهم عامل إضرار بالنظام والأمن دائماً وأبداً،يسرقون ويقتلون ضحاياهم بوحشية ، لا إظهاراً للشجاعة والبأس ، بل تكسباً مما يسرقون ، وتشفياً ونهباً ممن يقتلون.
لذلك نجد الفرق شاسعاً بين صورة أحمد الدنف وعصابتـه
من الشطار ومن كان على شاكلتهم من أراذل القوم ، وبين صورة أيُّ عربي ذُكر في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، هذا يحاط بالإعجاب والمحبة ، وذاك يحاط بالسخرية والتندر والكره .

ـ 3 ـ

إن من أول الصفات التي تناولتها الحكايات بالتشويه والتزوير هي الشجاعة ، التي تكاد أن تكون من صفات العرب الغريزية ، وسجية من سجاياهم الطبيعية ، قد شهدت لهم بها تواريخ الأمم ، واعترفت بـها لهم ألسـنة العرب والعجم ، وقـد امتلأت كتبهم وأشعارهم بالتغني بهذه الصفة الحميدة الأثيرة على قلوبهم ، ورحم الله شاعرهم حين قال : (1)
فدت نفسي ومـا ملكت يميني = فوارس صدقت فيهم ظنونـي
فـوارس لا يملـون المنـايـا = إذ دارت رحى الحرب الزبون
ولا يجزون مـن حسن بسيء = ولا يجزون مـن غلظٍ بليـن
ولا تبلى بسـالتهم وإن هـم = صلوا بالحرب حيناً بعـد حين
هم منعوا حمى الوقبـى بضرب = يُؤلف بيـن أشـتات المنـون
فنكب عنهم درء الأعـادي = وداووا بالجنون مـن الجنونـي
ولا يرعون أكناف الهوينـي = إذ حلّــو ولا أرض الـهدون
فهم ، في وطيس الوغى أسوداً لا يهابون المنايا ، يقتحمون لضى نار المعارك اقتحاماً ، لا يهابون إلا من كلمة عر تلحق بهم إن هم عنها أحجموا فالموت عندهم أرح من قول فلاناً جباناً أو خواراً عند لقاء الأعداء ، يقول العباس بن مرداس (2) :
أشد على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها
ومثل هذا الشعر الدال على شجاعتهم وبسالتهم وإقدامهم ، كثير جداً امتلأت منه بطون الكتب الأدبية .
أما كيف كانت هذه الشجاعة وكيف كان مضمونها في حكايات ألف ليلة وليلة ، فشيء مغاير للحقيقة تماماً ، بل تبعث على التقزز والنفور ، فهي تعني في هذه الحكايات الشعوبية ، القتل وسفك الدماء البريئة وقطع الطريق والسلب ونهب أموال الآمنين .
فالعربي ، قاطع الطريق سالب أموال الناس خاطف الصغار الأبكار ، هو هكذا ، أيما وجد وأينما حلّ في أحداث الحكايات ، ولا يمكن أن يكون غيره قاطع طريق ، فكل قاطع للطريق وكل قاتل أو سارق أو خاطف ، في أي مكان ، في بلاد العرب أو بلاد العجم ، في المدن الحقيقية أو في المدن الخرافية التي ابتدعتها الليالي وفي أي زمان ،في العصور الغابرة أو العصور المعاصرة للحكايات ، لا يمكن ولا يجوز ؛ برأي من وضع الحكايات ؛ إلا أن يكون عربياً بأي حال من الأحوال .
وهو ، أي العربي ، يقوم بهذه الأعمال الخسيسة ليبرهن على شجاعته ومقدرته في الحصول على رزقه بالقوة ، مثله مثل الحيوان في الغابة ، ففي حكاية الصعلوك الثاني من حكاية الثلاث بنات ، نرى أن العرب قد قطعوا عليه الطريق ونهبوا أموال القافلة [ وإذا بغبار قد علا وثار حتى سـد الأقطار واستمر ساعة من النهار ثم انكشف فبان من تحته ستون فارساً وهم ليوث عبوس فتأملناهم وإذا هم عرب قطاع طريق 00 ثم أنهم قتلوا بعض الغلمان وهرب الباقون وهربت أنا 00 واشتغلت عنا العرب بالمال والهدايا التي كانت معنا ] (1)
وكذلك أظهرت حكاية مزين بغداد ، هدف العربي من قطع الطريق ، هو حصوله على المال ، يقول المزين [ 00 فلما خرج أخي من البلد هارباً فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب فأسروه وصار الذي أسره يعذبه ويقول له لله اشتر روحك مني بالمال وإلا قتلتك ] (2)
والعربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، يفتخر بعمله هذا ، ولا يتردد في التبجح بذلك دون حياء أو خجل [ 00 اعلموا أني رجل بدوي واقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات الأبكار وأبيعهم للتجار ] (3)
فغدا العربي في الليالي رمز للوحشية وسفك الدماء ، فيجب الحذر منه كل الحذر ، فأصبحت خير وصية يوصي بها الوالد ولده العازم على السفر أن يأخذ حذره من العرب قطاع الطريق ومزهقي الأرواح ونهابي الأموال ، فهذا والد علاء الدين يوصيه بقوله [ أخاف عليك من غابة في طريقك تسمى غابة الأسد وواد هناك يقال له وادي الكلاب فإنها تروح بها الأرواح بغير سماح ، من بدوي قاطع طريق يقال له عجلان ](1) ولا ينسى مقدم القافلة التجارية من أن يحذر مرافقيه في القافلة من هؤلاء العرب وخشيته عليهم وعلى أموالهم [ يا ولدي أخشى عليك وعلى مالك من العرب ](2)
وليس هذا فحسب ، بـل أظهرت الحكايات الانطباع العام لدى جمهور الناس حول الأعمال اللصوصية التي يقوم بها هؤلاء العرب ، والجرائم اللاإنسانية التي ينفذونها ضد أرواح الناس وأموالهم وحرماتهم ، بدون أي رحمة أو شفقة ، حيث لم يعد للمسافر هاجس يفكر به إلا خوفه من أن يصادف العرب في طريق سفره فيكون بذلك إزهاق روحه وضياع أمواله ، ولا يشغل قلب الأم على ولدها والزوجة على زوجها ، الغائب عن بلده في سفر ، وتأخر في المجيء ، إلا من أن قد وقع بيد العرب فأفقدوه حياته ، حتى أنها تتمنى لو أنها استطاعت أن تمنعه من السفر لتجنبه هذه النهاية .
لقد نجحت الحكايات نجاحاً كبيراً في سلب العربي صفة الشجاعة ، وأن المطلع على هذه الحكايات ليقف مشدوهاً بين أن يكذب أو يصدق هذا التزوير والبهتان ، فإن كذّب هذا التزوير
والتهويش ، فإنه لا ينجو أبداً من الشك بشجاعة الإنسان العربي
وذلك من كثر ما أوردت الحكايات هذه الشجاعة بصورتها المزورة المكذوبة في كثير من أحداث حكاياتها (1)

ـ 4 ـ

وكما عملت الحكايات ، بشجاعة العربي تشويهاً وتزويراً ، حاولت أن تشوه وفاء العربي الذي امتاز به ، بل أن الوفاء بالعهد كان وما زال سجية من سجايا العرب الكريمة ، ومن أخلاقهم الفاضلة التي يتمادحون بها ويعيبون من خالفها ، فقد كان الوفاء بالعهد عندهم ديناً يتمسكون به ويستهينون في سبيله قتل أولادهم وتخريب ديارهم ، ورحم الله شاعرهم حين قال :
سأرعى كل ما استودعت جُهدي = وقـد يرعى أمانتـه الأمين
وذو الخيـر المؤثـل ذو وفـاءٍ = كريـم لا يـمل ولا يخـون
لقد رأوا في الوفاء أخو الصدق والعدل ، وعُرِفوا به كما عرفوا بالشجاعة والإباء ، فهم أوفى بالوعد، لأنهم ما نقضوا لمحافظ عهداً ، كما أنهم عدّوا الغدر من كبائر الذنوب ، لأنه في نظرهم نسيبٌ للكذب والظلم والجور وصاحبه من أراذل الناس وأخسهم نفساً ، ذلك لأن الوفاء عندهم صدق باللسان والفعل معاً ، والغدر كذب بهما معاً ، وفيه مع الكذب نقض العهد ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى العهد من الإيمان وصيره قواماً لأمور الناس ، فاحتقر العرب الغادر كل الاحتقار ، حتى أنهم كانوا إذا غدر منهم غادر يوقدون له بالموسم ناراً وينادون عليه ويقولون فلاناً غدر ، وبذلك يقول الغادر الغطفاني :(1)
اسمي ويحك هل سمعت بغدرةٍ رُفِعَ اللواءَ بها لنا في الجمع
فالعربي لا يخون أبداً ، وكيف له أن يخون والموانع أمامه كثيرة جداً ، موانع في ذاته وفطرته ، وموانع في خَلقه وخُلقه ، وموانع من عاداته وتقاليده ، وموانع من بيئته ومجتمعه ، فكيف إذ هو أقسم اليمين على العهد ؟ فحتماً عندها يفضل الموت على أن يخون ، والموت عنده أرحم ألف مرة من أن يوصف بالغدر يقول الشاعر(2)
ثقي مني وتقنعك اليميني بأني لا أمل ولا أخون
وأني حافظ العهد راعٍ وفيّ العقد مؤتمن أمين
أما وفاء العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو بعكس ما عرف به تماماً ، فالعربي خائن للعهد لا وفاء له ، ومن أين لقاطع الطريق وخائن الرفيق وصاحب المكر والحيّل (1)، من أين لمن يتصف بمثل هذه الصفات أن يأتيه الوفاء ، فهو لا أمان له ولا وفاء لعهده مهما أقسم وأغلظ في القسم على أنه لا يخون من عاهده ، حتى لو كان الأخير قد أنقذ حياته من موت محقق وأغرقه بعدها بالإكرام والإحسان ، لأن العربي قد جبل على الخيانة جبلاً ، لا حياة له ولا وجود إلا بها، ؛ هكذا وصفته الحكايات ؛ ففي حكاية عباد بن تميم بن ثعلبة تظهر خيانة العربي ولؤم معدنه ودناءة نفسه ، فبعد أن يعفو عباد عن البدوي حماد ، الذي أراد أن يتزوج أخته طوعاً أو يقتله ويأخذها غصباً ، مستغلاً وجود عباد وأخته منفردين في الصحراء لوحدهما ، بينما كان البدوي في صُحبة ثلة من صَحبِه ، وتقوم الحرب بين عباد وبين جماعة البدوي حماد ، وينتصر عباد عليهم جميعاً ، وعندما يصل الدور في النزال إلى حماد ويُصرع بلحظات ، يتعلق بأذيال عباد المنتصر ، متوسلاً أن يعفو عنه ، ويفعل عباد ويدفع بحماد إلى أخته قائلاً لها : [ 00 دونك وإياه واحسني مثواه لأنه دخل في ذمتنا ] وبعد أن يستأنس عباد بالبدوي حماد يحلفه أن لا يخونه [ ونادمني وحلفني أن لا أخونه فحلفت له ألفاً وخمسمائة يمين أني لا أخونه قط ، بل أكون له معيناً ] ، فيثق عباد بحماد ويزيد في إكرامه فيخلع عليه الخلع ويهديه ناقة من أحسن النوق محملة بالتحف الثمينة والزاد الوفير ، ويهديه معها حصان أصيل ، وينوي في قرار نفسه أن يزوجه من أخته ، ولكن غريزة الغدر بالعهد التي يتحلى بها عرب كتاب ألف ليلة وليلة ، تأبى عليه إلا أن يخون ويغدر بمن عاهده ، فيقتل البدوي غريمـه النائم ويسـلبه ما يملك [ 00 وبعد ثلاث أيام قال لي يا أخي حماد أريد أن أنام قليلاً لأريح نفسي وقد استأنستك على نفسي 00 ثم توسد سيفه ونام فلما استغرق في النوم وسوس إلي إبليس بقتله فقمت بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه وضربته ضربة أطاحت برأسه عن جثته ](1) .
ونجد غدر العربي وخيانته وعدم وفائه بالعهد ، في حكاية عجيب وغريب ، بل نجد مقارنة ماكرة وخبيثة بين غريب ومرداس ؛ مقارنة شعوبية صرفة ؛ فغريب ذو الأصل الأعجمي ، يظهر في هذه الحكاية مثال للوفاء والشجاعة والبطولة والذكاء ، يقابل مكر وغدر واحتيال مرداس بالصفح والتسامح ، لا لشيء إلا وفاء لمرداس على قيامه في تربيته وتنشئته ، أما مرداس ذلك العربي ، أمير بني قحطان ، فهو رمز للغدر والخيانة ، فلا وفاء لـه ولا ذمام ، خوار جبان عند اللقاء ، يكافئ غريب على تخليصه مهدية ابنته الوحيدة من عار السبي الذي أصابها، عندما يتعرض قومها للغزو من قبل أعداء القبيلة ، بمحاولة قتله والتخلص منه ، وعندما يقع مرداس بشر أعماله ويقع أسيراً بيد أعدائه، عندما كان يكمن لغريب مع عدد من فرسان قبيلته لتنفيذ ما عزم عليه ، أي قتل غريب لم يجد أحداً يخلصه من هذا الأسر إلا غريب ، فيقسم مرداس وهو في قيود الأسر واعداً غريب بأن يزوجه من ابنته مهدية إن هو فك أسره ، [ 00 وحق ما أعتقده هي لك على طول الزمان ] ، وبعد أن يتخلص مرداس من ذل قيد الأسر ويأخذ له غريب بثأره من أعدائه ويعود إلى حمى قبيلته معززاً مكرماً ، لا يزيده عمل غريب الذي عرض حياته للخطر من أجله إلا بغضاً على بغض وحقداً على حقد، وعندما يطلب غريب من مرداس تنفيذ ما وعده به ، بتزويجه من مهدية ، يظهر غدر مرداس وخسته مرة أخرى ، حينما يطلب من غريب مهراً فيه موته المحتم ، ذلك عندما يكذب على غريب بأن له ثأراً ، وأنه قد أقسم بأنه لا يزوج ابنته إلا ممن يأخذ له بثأره من العملاق الساكن في وادي الأزهار ، وقصد مرداس من هذا الطلب قذف غريب في مهاوي الردى ، ليتخلص منه إلى الأبد ، لأن العملاق مارد لا يقدر عليه أحد (1).

ـ 5 ـ

وتتابع الحكايات كذبها وزيفها في سبيل الوصول إلى غايتها الشعوبية في تشويه الصفات النبيلة للإنسان العربي ، فبعد أن رأينا كيف عملت على تشويه صفتي الشجاعة والوفاء ، سنرى هنا ، كيف عملت على تشويه صفة أخرى لها مكانتها وقدسيتها لدى الإنسان العربي ، ألا وهي الصدق ، الذي لم يحب العربي شيئاً كحبه لهذه الصفة الفاضلة ، فتحلى العرب ؛ كل العرب ؛ بها وتخلقوا بمحاسنها ، وحثوا عليها وأوصوا أبناءهم ومحبيهم بالتمسك بها ، فكثر ذكر الصدق بأقوالهم وأفعالهم ، وحكمهم ومواعظهم ، وأمثالهم وتعريضهم ، وخطبهم ووصاياهم ، ونثرهم وشعرهم ، قرنوا الصدق بالوفاء والكذب بالغدر ، أحبوا الصدق حبهم للحياة ، حتى كادت ألسنتهم أن تكون وقفاً عليه من كثر ما لهجت به وبجلته ، يقول الشاعر في ذلك :
وألسنهم وقف على الصدق والوفا
وإيمانهم وقف على القصد والنعمى
قد كرهوا الكذب وحذروه ونبذوه ، لأنهم وجدوا فيه جماع النفاق وعار لازم وذل دائم ، فلا يكذب إلا من ل أصل له ولا نسب ، ومن ساءت طبيعته وطبعه ، المطعون بِخُلقه وشرفه ، المهان بين الناس ، يقول شاعرهم :
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أو من قلة الورع
هذا هو العربي ، صادق بطبعه وطبيعته ، صادق بسلوكه ومسلكه ، صادق بقوله وفعله ، وصدقه هذا نابع من صفاء سريرته التي اكتسبها من صفاء بيئته وتربيته الصحراوية ، ومن صفاء السماء التي تخيم عليها ، نافر من الكذب مستهجن له ، محتقر كل من يتصف به ، نابذ له وكاره ، لأن الكذّاب في عرفه من أراذل الناس وأخسهم نفساً ونسباً .
لكن الحكايات ؛ هذه الحكايات المغرقة بأوحال الشعوبية ؛ أبت إلا أن تظهر الإنسان العربي بمظهر الكاذب الأفاك الذي لا يعرف معنىً للصدق ولا مكان له في نفسه ، مجبول بفطرته على الكذب والزور والبهتان ، يكذب لغاية دنيئة في نفسه ، ليحقق من وراء كذبه منفعة أراد الحصول عليها ، فهو يكذب على نزهة الزمان [00 إني رزقت بنات مات لي منهن خمسة وبقيت واحدة وهي أصغرهن وأتيت إليك لأسألك هل أنت من أهل هذه المدينة أو غريبة لأجل أن آخذك وأجعلك عندها لتؤانسيها فتشتغل بك عن الحزن على أخواتها فإن لم يكن لك أحد جعلتك مثل واحدة منهن وتصيرين مثل أولادي ] (1) وما كذبه هذا ، على هذه الفتاة المسكينة إلا ليصل إلى بغيته الخبيثة ، ليخطفها ومن ثم يبيعها بسوق النخاسة لأنه [00 كان البدوي قاطع طريق وخائن الرفيق وصاحب مكر وحيل ولم يكن عنده بنت ولا ولد ] (2).
والحكايات التي تطعن بصدق العربي كثيرة جداً في الحكايات ،تظهر مبثوثة هنا وهناك وبكثير من المكر والخبث ، ولم يسلم من هذا الطعن الزائف الجائر حتى الخاصة من العرب وأعلامهم وقادتهم ، فهذا القائد العربي العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي ، أمير العراقين ، وأحد الأركان الأساسية لدولة بني أمية العربية ، وحاصد رؤوس الشعوبية ومثبت عروبة العراق ، يكذب إلى
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...