البيان - «ألف ليلة وليلة» كتاب لا ينتهي.. شعوب عديدة كتبته وزادت عليه

من كتبك أيها المعولم.. هل كان يمكن أصلاً أن يكتبك أحد؟

في اعتقادنا أن أيا من المحاولات التي تسعى إلى الوصول إلى أصل نهائي وفصل نهائي لكتاب «ألف ليلة وليلة» لا يمكنها أن تكون جادة، ذلك أن هذا السفر الذي هو «كتاب الكتب» بالنسبة إلى الكاتب الأرجنتيني الشهير بورغس، لا يمكن أن تكون له بداية والسبب بسيط: أنه لا يمكن أن تكون له نهاية، إنه الكتاب المفتوح.

هو بالنسبة إلى الكاتب الأرجنتيني الكبير بورغس «كتاب الكتب» لمجرد إنه كتاب لا مؤلف له، هو كتاب ألفه الزمن وحققه الوقت، وألّفت بين فصوله السنة الناس جميعاً ومخيلاتهم، كان بورغس يرى أن «ألف ليلة وليلة» كتاب لا ينتهي ولا يمكنه أن ينتهي، ذلك أن كلمة «ليلة» الثانية في عنوانه لا تعني ليلة واحدة معينة، بل تعني لا نهائية مفتوحة، لا نهائية حقيقية تلي الألف الأولى من الليالي. ومن هنا لا يهتم بورغس كثيراً، في نص رائع كتبه عن «الليالي العربية» هذه بمعرفة أصل الكتاب وفصله.

بالنسبة إليه هو كتاب حاضر في كل زمن، أما إقراره بصفة «العربية» لليالي، فاعتراف بأن العرب كانوا هم من تنبّه ونبّه إلى وجوده، وجمعوه وأحبوه وصاغوه من كل حكاية وأسطورة وحادثة رأوا أنها يمكن أن تفيده وتزيده وتغنيه. ومن هنا ما يمكن أن يلاحظه أي قارئ فهم ونبيه لـ «ألف ليلة وليلة» من «تشابه» بين معظم ما عرفته البشرية من أساطير وشخصيات في تاريخها ، وبين ما يروى في الكتاب. أما حكاية شهرزاد وشهريار نفسها، فليست بالنسبة إلى بورغس أكثر من ذريعة حكائية طالما أن كل نص يحتاج ذريعة.

هذا الرأي قد يبدو للبعض حاملاً لشيء من التطرف، ومن هذا البعض كتّاب ومفكرون ومترجمون شغلوا وقتهم وطاقاتهم في البحث عن «المؤلف» الحقيقي للكتاب، وقد فاتهم أن هذا الكتاب لا يمكنه أبداً أن يدعي بنوة أي كان، أو يطالب بأبوة أي كان له.

وذلك بكل بساطة لأنه كتاب يصنع بصورة جديدة في كل مرة يصاغ فيها أو تعاد صياغته، ومن هنا تبدو نافرة، محاولة واحد من المترجمين المعاصرين لليالي الى الفرنسية، وهو الحلبي الأصل رينيه خدام، الذي جهد ليقول أن للكتاب مؤلفاً اكتشفه هو بنفسه، يدعى حسين الكاشغاري وينتمي كما يدل على ذلك اسمه، إلى مدينة مسلمة شرقي الصين، هنا يمكن أن تنسب إلى حسين هذا بعض حكايات ألف ليلة ومنها خاصة تلك المعروفة في الصين، سواء أكانت مسلمة أو لم تكن، فماذا إذاً عن الحكايات المصرية والعراقية والشامية والمغربية؟

وماذا عن حكاية السندباد التي تشبه حكاية أوليس الموروثة عن اليونان ومن بعدهم اللاتين..؟ إن كل هذا موجود في الليالي، كما يوجد فيها القص الفارسي والخليجي العربي، فهلا تقول بعد ذلك أن من أمامنا، ولو غضب الجاهدون، نصاًّ هو العولمة الثقافية المبكرة في حد ذاتها؟

في اختصار اذاً، وكما هو شأن العولمة التي تغش، في الثقافة وفي الاقتصاد، يقصر ألف ليلة وليلة على كل تحديد عددي أو زمني، أو قومي بالتالي، ونقول هنا: خصوصاً قومي لأنه إذا كان من المؤكد أن ليس ثمة من حقيقة نهائية تتعلق بهذا الكتاب فإن ثمة مع هذا أمراً وحيداً مؤكداً، وهو وجود قاعدة ما له، وجدت ذات زمن وذات مكان ثم راحت الأصوات والشعوب تضيف إليها، بحيث أن ما وصلنا الآن.

وخاصة من طريق مترجمين أجانب مثل انطوان غالان وريتشارد بورتون، انما هو مزيج من حكايات شعوب عدة ومن نصوص تنتمي إلى شتى الحضارات.. إنه عمل قيد الاكتمال أبداً.. لكنه لا يكتمل أبداً، وكأن حال الشعوب معه هنا هو حال شهرزاد الحكاية، بطلة الليالي وروايتها على ما يقال، والتي تمثل «سيناريو الرعب والكابوس» بالنسبة إليها في أن تتوقف ذات مساء عن الحكي ما يعني أن شهريار سيصبح في حل من وعده لها ، وتقع الكارثة.

نعرف أن حكايات «ألف ليلة وليلة» التي صارت خلال الأزمان والقرون إرث الإنسانية جمعاء، تدور أصلاً من حول شهرزاد ابنة الوزير التي يرميها حسن حظها-أو سوءه حسب الظروف ـ في طريق الملك شهريار، وقد يئس من الجنس اللطيف بعد خيانة امرأته له، فقرر أن يتزوج كل ليلة امرأة يقتلها في صباح اليوم التالي.

ويقع اختياره ذات يوم على شهرزاد أو ابنة وزيره، لكن شهرزاد ذكية وحكواتية من طراز رفيع، ثم إنها وسط دوامة خوفها، أحبت الملك كما يبدو وهكذا لكي تدفع مصيرها الدامي بعيداً، من ناحية وتحتفظ بالملك من ناحية أخرى، قررت لأن تحكي له حكايات جذابة لا تنتهي أبداً خاصة أنه وعدها بأنه لن يأمر بقتلها الا بعد أن تفرغ من الحكايات جميعاً.

وهكذا كان على الحسناء أن تحكي وتحكي، أن تخترع وتحكي، أن تتذكر وتحكي.. وكان على ما تحكيه أن يكون مثيراً ومشوّقاً حتى تبقي الملك مشوّقاً فيؤجل قتلها ريثما يصله بغية الحكاية، لكن الحكاية حين تصل تحمل تشويقاً لمساء جديد فيؤجل الملك قراره وهكذا، وهو نفسه مدهوش من كل ما يحصل، إن هذه الحكايات التي ترويها شهرزاد ليلة بعد ليلة هي التي تؤلف قصص «الليالي»، وبعد هذا هل حقاًّ يهم كثيراً أن يكون العدد الأصلي للحكايات أربعمائة كما يزعم البعض..

وخاصة من أصحاب نظرية أن للكتاب أصلاً محدداً ومؤلفاً محدداً؟ هل هي 400 حكاية؟ ألف حكاية ؟ أكثر؟ لن نعرف أبداً حتى وإن كنا نعرف أن شهرزاد توقفت ذات ليلة ولم يعد لديها حكايات.. لكن الملك كان قد هدأ وبدأ يحبها مدركاً أن أصابع اليد ليست كلها سواء وأنه لا يمكن أن تكون كل النساء خائنات، وهكذا ذات لحظة لا تعود الحسناء وفي حاجة إلى حكاياتها.. لقد استنفدت ذخيرتها.. لكنها انتصرت، وصفح شهريار عن بنات جنسها وتزوجها.

بيد أن الحكاية نفسها لم تنته.. لأنها لا تنتهي أبداً، كل ما في الأمر أن مثل هذا العمل الذي لا بد أنه كان في الأصل شفهياًّ اتعب الرواة في نهاية الأمر فتوقفت الحكاية ولم تتوقف، توقفت اذ دونت.. وصارت كتاباً بل كتباً، لكنها لم تتوقف لأنه حدث أن الذين ترجموها، راحوا يضيفون إليها بدورهم في لغاتهم، من عذاباتهم، وحكايات يعزون عليها في الشرق موزعة، فمثلاً لم تكن حكاية السندباد أصلاً في أية نسخة عربية قديمة، كذلك حكاية علاء الدين جاءت من الصين..الخ.

وإذا كانت حكاية هذا الكتاب لم تكتمل في متن الحكايات، فإنها لم تكتمل أيضاً في ما كتب من ألوف الكتب والدراسات والمقالات عن «ألف ليلة وليلة»، وليس لدى العرب وحدهم، وإن كنا نعرف مثلاً أن أول من ذكرها كعمل قائم في ذاته لدى العرب كان المسعودي في «مروج الذهب»، وأيضاً ابن النديم في فهرسه الشهير، اذ يقول لنا هذا الأخير عن نص، ربما يكون هو الأصل لـ «ألف ليلة وليلة»:

«إن أول كتاب عمل في هذا المعنى ـ ويقصد بذلك صنف الخرافات وما شابهه ـ إنما كان كتاب «هزاز انسان» ومضاه ألف خرافة، وكان السبب في ذلك أن ملكاً من ملوكهم ـ ويقصد ملوك فارس القدامى ـ كان إذا تزوج بامرأة وبات معها ليلة، قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك، لها عقل ودراية يقال لها شهرزاد، فلما حصلت معه ابتدأت تزخرف وتصل الحديث حتى إذا ما انقضى الليل بما يحمل الملك على استبقائها ومساءلتها في الليلة التالية عن تمام الحديث.. إلى أن أتى عليها ألف ليلة».

اذاً هذه الحكاية التمهيدية، على الأقل لها أصل محدود.. لكن هذا لا ينطبق طبعاً على ما يروى خلال تلك الليالي الألف.. ولا سيما بدءاً من الليلة الأولى بعد الألف.. ليلة اللانهاية.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...