نقوس المهدي
كاتب
مخطوطات نادرة، ملصقات، لوحات، مجوهرات، صناديق قديمة، أحجار كريمة، ومصابيح سحرية: يدخل الزوّار متاهة كهف قديم حيث المعرض الذي يستمر لبضعة أيام في معهد العالم العربي في باريس.
يُقدِّم معرض "ألف ليلة وليلة" فرصة جديدة للغوص في عالم هذا العمل الأسطوري الذي يرتقي إلى مرتبة الأدب الكوني. ومن خلال تصميم متحفي مبتكر مصنوع من الأضواء والأصوات والأعمال الأصلية الشرقية والغربية، يدعو المعرض الزوّار إلى رحلة أسطورية خارج الزمن. وإذا كان المعرض يسحر الزائر ويفتنه في جوانب كثيرة، فهو يخرج منه، كما من قراءة الكتاب موضوع المعرض، وقد وقع أكثر تحت تأثير الرواية وعالمها.
أليست ميزة "ألف ليلة وليلة" أنها تُخفي الكثير من الألغاز وتثير، صفحة تلو الأخرى، فضول القرّاء؟ أليست هذه هي الطريقة التي تغلّبت بها شهرزاد، بطلة الحكاية، على السلطان شهريار، عبر ترك الرواية معلَّقة حتى اليوم التالي وهكذا دواليك؟
ألف لغز ولغز
إذا كانت رواية "ألف ليلة وليلة" من الأعمال الأدبية الشرقية الأكثر شهرة في الغرب، فهي في شكل خاص مجموعة روايات غامضة يتعذّر تصنيفها، ولم نجد منها سوى الصفحات الأولى من المخطوطة التي يُعتقَد أن تكون الأصلية. إنه نص من دون زمان، ولا مكان، وتُثبت أصوله المتعدّدة (عربية، هندية، فارسية)، على وجه الخصوص، أنه تنقّل كثيراً من مكان إلى آخر.
إنه عبور للمكان والزمان يتجسّد من خلال الترجمات والاقتباسات والنسخ الكثيرة، ومن خلال عمل متغيِّر الشكل يحتوي تارة على مئة رواية، وطوراً على 250 رواية، ويتضمّن مجموعة متنوّعة من الأنواع الأدبية، من القصص الشعبية إلى الروايات التاريخية، ومن الحكايات الخيالية إلى القصائد.
تخفي "الليالي"، كما يسمّيها الاختصاصيون تحبّباً، الكثير من الألغاز مثل زجاجة في البحر، ومحاولة فكّ رموزها أشبه بالبحث عن الكنز. هذا ما يُفسّر جزءاً من تأثيرها، بما يُثير اهتمام الباحثين والفنّانين على السواء.
لقد وقع الشاعر السوري الكبير نزار قباني، إنما أيضاً بيكاسو وباكست وتيوفيل غوتييه وإدغار آلان بو، ورافيل، وميلييس، وباسوليني، وديزني، تحت سيطرة شخصيات الروايات حيناً، والسحر المنبثق من العمل حيناً آخر.
الجنس والأكاذيب والقتل
تبدأ شهرزاد حكاياتها بعبارة "كان يا ما كان في قديم الزمان...". بين قصص الخليفة، والجن، والنساء الطيور، ومعلّم المدرسة، تشكّل روايات "السندباد البحري" أو "علاء الدين" أو "علي بابا والأربعون لصاً" جزءاً من قصص "ألف ليلة وليلة" الأكثر شعبية في زماننا الحالي.
لكن هذه الروايات "الموجَّهة إلى الجميع"، لم تدخل أوروبا إلا في مطلع القرن الثامن عشر في أول اقتباس فرنسي للمستشرق أنطوان غالان. أبرزت هذه الترجمة البعد المتعلّق بأدب الأطفال في العمل، ونالت استحساناً شديداً لدى القرّاء في تلك الحقبة، فقد انذهلوا بالفولكلور الآتي من شرق خيالي.
لكن كتاب "ألف ليلة وليلة" لا يُختصَر بأنه مجرد روايات للأطفال. فالعمل الذي يطغى عليه موضوع الحب، تتخلّله مشاهد مثيرة للحواس.
هكذا، منذ بداية المؤلَّف، يتمحور الإطار السردي حول المغامرات - خيانة المرأة المزدوجة، والعربدة، والقتل - بما يؤدّي إلى إغراق القارئ على الفور في حبكة شاذّة وعنيفة. تضخّم ترجمات كثيرة، بينها ترجمة جوزف-شارل ماردروس، البعد الأكثر إروتيكية في النص، الذي ألغاه غالان في شكل شبه كامل.
يعلن بروست نفسه: "بعد إلقاء نظرة على الترجمتَين، طلبت مني والدتي أن أكتفي بقراءة ترجمة غالان".
على النقيض، تثير "ألف ليلة وليلة"، التي تُعتبَر أحياناً فظّة ووقحة جداً، غضب رجال الدين، وقد تمّت "تنقية" بعض نسخها، كما في النسخة التي وضعها يسوعي ونُشِرَت في بيروت في نهاية القرن التاسع عشر، في حين تخضع نسخ أخرى للحظر التام، كما حصل في القاهرة عام 2010 عندما طلب إسلاميون منع صدور طبعة جديدة من "ألف ليلة وليلة" لأنها "تسيء إلى الآداب العامة".
فيما تُغيّر "ألف ليلة وليلة" وجهها بحسب الترجمات، تُقدّم نفسها مرآةً بأوجه متعدّدة للقرّاء الذين يستحوذون عليها.
شهرزاد، الراوية الخارقة
على غرار العمل، لا تزال شخصية شهرزاد الأدبية موضع جدل واسع حتى يومنا هذا، فهي تثير إعجاب البعض الذي يجعل منها بطلة من أبطال الأزمنة المعاصرة، في حين ينتقدها البعض الآخر الذي يرى فيها رمزاً كاريكاتورياً عن المرأة العربية الخاضعة.
إنما أليست هي من تتحدّى الظلم عبر التصدّي لقسوة مستبدٍّ خدعته زوجته، فراح يتزوّج امرأة جديدة كل يوم، ويعاشرها ثم يقتلها؟ أليست هي من تُبعد ليلة تلو الأخرى شبح الموت عنها وتنقذ بنات جنسها، من خلال سعة حيلتها ومعلوماتها؟
درست نبيلة رفاعي(1)، المتخصّصة في رواية "ألف ليلة وليلة"، أسطورة شهرزاد في إطار مقاربة قائمة على التحليل النفسي والمقارنة، حيث تتوقّف عند موقعها كأم وعشيقة وزوجة وراوية "محرِّرة لجميع نساء الأمة" سمحت بإعادة إرساء القيم الأساسية للثقافة في عالم يرتكز على القتل وتدمير رغبة المرأة".
تقيم أعمال الباحثة، لأول مرة، رابطاً بين "ألف ليلة وليلة" ورواية "أيام سدوم المئة والعشرون"، أوّل عمل كبير غير مكتمل للماركيز دو ساد. فهي تعتبر في أطروحتها التي لم تُنشَر، أن نص دو ساد هو في مضمونه، إعادة كتابة منحرفة لرواية "ألف ليلة وليلة": "خلال الأيام المئة والعشرين، يطلب الخليعون من "مؤرِّخات" أن يروين لهم بأدقّ التفاصيل ما عشنه على امتداد حياتهن في عالم البغاء".
وتذهب المقارنة أبعد من ذلك، لأنها تُبيِّن أن الطريقة نفسها التي كتب بها دو ساد نصّه تذكّر بالإطار السردي لرواية "ألف ليلة وليلة": "عندما وضع دو ساد كتابه "أيام سدوم المئة والعشرون"، كان مسجوناً في الباستيل حيث كان يكتب، على طريقة شهرزاد إلى حد ما، لمدّة ساعة واحدة كل مساء على ضوء الشمعة، قبل أن يُخبّئ مخطوطته في جدار زنزانته".
سواء كانت شهرزاد بطلة نسائية أو شخصية ملهمة للروائي الخليعي الفرنسي الأشهر، إنها على صورة رواياتها، ساحرة وغامضة. وإذا كانت رواية "ألف ليلة وليلة" لا تزال محاطة بالكثير من الألغاز، يحلو لنا أن نفكّر، مثل مالك شبل، وهو أيضاً من كبار عشّاق الرواية، بأنه ربما كتبتها امرأة.
1. نبيلة رفاعي حائزة على دكتوراه في الأدب الفرنسي والمقارَن
يُقدِّم معرض "ألف ليلة وليلة" فرصة جديدة للغوص في عالم هذا العمل الأسطوري الذي يرتقي إلى مرتبة الأدب الكوني. ومن خلال تصميم متحفي مبتكر مصنوع من الأضواء والأصوات والأعمال الأصلية الشرقية والغربية، يدعو المعرض الزوّار إلى رحلة أسطورية خارج الزمن. وإذا كان المعرض يسحر الزائر ويفتنه في جوانب كثيرة، فهو يخرج منه، كما من قراءة الكتاب موضوع المعرض، وقد وقع أكثر تحت تأثير الرواية وعالمها.
أليست ميزة "ألف ليلة وليلة" أنها تُخفي الكثير من الألغاز وتثير، صفحة تلو الأخرى، فضول القرّاء؟ أليست هذه هي الطريقة التي تغلّبت بها شهرزاد، بطلة الحكاية، على السلطان شهريار، عبر ترك الرواية معلَّقة حتى اليوم التالي وهكذا دواليك؟
ألف لغز ولغز
إذا كانت رواية "ألف ليلة وليلة" من الأعمال الأدبية الشرقية الأكثر شهرة في الغرب، فهي في شكل خاص مجموعة روايات غامضة يتعذّر تصنيفها، ولم نجد منها سوى الصفحات الأولى من المخطوطة التي يُعتقَد أن تكون الأصلية. إنه نص من دون زمان، ولا مكان، وتُثبت أصوله المتعدّدة (عربية، هندية، فارسية)، على وجه الخصوص، أنه تنقّل كثيراً من مكان إلى آخر.
إنه عبور للمكان والزمان يتجسّد من خلال الترجمات والاقتباسات والنسخ الكثيرة، ومن خلال عمل متغيِّر الشكل يحتوي تارة على مئة رواية، وطوراً على 250 رواية، ويتضمّن مجموعة متنوّعة من الأنواع الأدبية، من القصص الشعبية إلى الروايات التاريخية، ومن الحكايات الخيالية إلى القصائد.
تخفي "الليالي"، كما يسمّيها الاختصاصيون تحبّباً، الكثير من الألغاز مثل زجاجة في البحر، ومحاولة فكّ رموزها أشبه بالبحث عن الكنز. هذا ما يُفسّر جزءاً من تأثيرها، بما يُثير اهتمام الباحثين والفنّانين على السواء.
لقد وقع الشاعر السوري الكبير نزار قباني، إنما أيضاً بيكاسو وباكست وتيوفيل غوتييه وإدغار آلان بو، ورافيل، وميلييس، وباسوليني، وديزني، تحت سيطرة شخصيات الروايات حيناً، والسحر المنبثق من العمل حيناً آخر.
الجنس والأكاذيب والقتل
تبدأ شهرزاد حكاياتها بعبارة "كان يا ما كان في قديم الزمان...". بين قصص الخليفة، والجن، والنساء الطيور، ومعلّم المدرسة، تشكّل روايات "السندباد البحري" أو "علاء الدين" أو "علي بابا والأربعون لصاً" جزءاً من قصص "ألف ليلة وليلة" الأكثر شعبية في زماننا الحالي.
لكن هذه الروايات "الموجَّهة إلى الجميع"، لم تدخل أوروبا إلا في مطلع القرن الثامن عشر في أول اقتباس فرنسي للمستشرق أنطوان غالان. أبرزت هذه الترجمة البعد المتعلّق بأدب الأطفال في العمل، ونالت استحساناً شديداً لدى القرّاء في تلك الحقبة، فقد انذهلوا بالفولكلور الآتي من شرق خيالي.
لكن كتاب "ألف ليلة وليلة" لا يُختصَر بأنه مجرد روايات للأطفال. فالعمل الذي يطغى عليه موضوع الحب، تتخلّله مشاهد مثيرة للحواس.
هكذا، منذ بداية المؤلَّف، يتمحور الإطار السردي حول المغامرات - خيانة المرأة المزدوجة، والعربدة، والقتل - بما يؤدّي إلى إغراق القارئ على الفور في حبكة شاذّة وعنيفة. تضخّم ترجمات كثيرة، بينها ترجمة جوزف-شارل ماردروس، البعد الأكثر إروتيكية في النص، الذي ألغاه غالان في شكل شبه كامل.
يعلن بروست نفسه: "بعد إلقاء نظرة على الترجمتَين، طلبت مني والدتي أن أكتفي بقراءة ترجمة غالان".
على النقيض، تثير "ألف ليلة وليلة"، التي تُعتبَر أحياناً فظّة ووقحة جداً، غضب رجال الدين، وقد تمّت "تنقية" بعض نسخها، كما في النسخة التي وضعها يسوعي ونُشِرَت في بيروت في نهاية القرن التاسع عشر، في حين تخضع نسخ أخرى للحظر التام، كما حصل في القاهرة عام 2010 عندما طلب إسلاميون منع صدور طبعة جديدة من "ألف ليلة وليلة" لأنها "تسيء إلى الآداب العامة".
فيما تُغيّر "ألف ليلة وليلة" وجهها بحسب الترجمات، تُقدّم نفسها مرآةً بأوجه متعدّدة للقرّاء الذين يستحوذون عليها.
شهرزاد، الراوية الخارقة
على غرار العمل، لا تزال شخصية شهرزاد الأدبية موضع جدل واسع حتى يومنا هذا، فهي تثير إعجاب البعض الذي يجعل منها بطلة من أبطال الأزمنة المعاصرة، في حين ينتقدها البعض الآخر الذي يرى فيها رمزاً كاريكاتورياً عن المرأة العربية الخاضعة.
إنما أليست هي من تتحدّى الظلم عبر التصدّي لقسوة مستبدٍّ خدعته زوجته، فراح يتزوّج امرأة جديدة كل يوم، ويعاشرها ثم يقتلها؟ أليست هي من تُبعد ليلة تلو الأخرى شبح الموت عنها وتنقذ بنات جنسها، من خلال سعة حيلتها ومعلوماتها؟
درست نبيلة رفاعي(1)، المتخصّصة في رواية "ألف ليلة وليلة"، أسطورة شهرزاد في إطار مقاربة قائمة على التحليل النفسي والمقارنة، حيث تتوقّف عند موقعها كأم وعشيقة وزوجة وراوية "محرِّرة لجميع نساء الأمة" سمحت بإعادة إرساء القيم الأساسية للثقافة في عالم يرتكز على القتل وتدمير رغبة المرأة".
تقيم أعمال الباحثة، لأول مرة، رابطاً بين "ألف ليلة وليلة" ورواية "أيام سدوم المئة والعشرون"، أوّل عمل كبير غير مكتمل للماركيز دو ساد. فهي تعتبر في أطروحتها التي لم تُنشَر، أن نص دو ساد هو في مضمونه، إعادة كتابة منحرفة لرواية "ألف ليلة وليلة": "خلال الأيام المئة والعشرين، يطلب الخليعون من "مؤرِّخات" أن يروين لهم بأدقّ التفاصيل ما عشنه على امتداد حياتهن في عالم البغاء".
وتذهب المقارنة أبعد من ذلك، لأنها تُبيِّن أن الطريقة نفسها التي كتب بها دو ساد نصّه تذكّر بالإطار السردي لرواية "ألف ليلة وليلة": "عندما وضع دو ساد كتابه "أيام سدوم المئة والعشرون"، كان مسجوناً في الباستيل حيث كان يكتب، على طريقة شهرزاد إلى حد ما، لمدّة ساعة واحدة كل مساء على ضوء الشمعة، قبل أن يُخبّئ مخطوطته في جدار زنزانته".
سواء كانت شهرزاد بطلة نسائية أو شخصية ملهمة للروائي الخليعي الفرنسي الأشهر، إنها على صورة رواياتها، ساحرة وغامضة. وإذا كانت رواية "ألف ليلة وليلة" لا تزال محاطة بالكثير من الألغاز، يحلو لنا أن نفكّر، مثل مالك شبل، وهو أيضاً من كبار عشّاق الرواية، بأنه ربما كتبتها امرأة.
1. نبيلة رفاعي حائزة على دكتوراه في الأدب الفرنسي والمقارَن