نقوس المهدي
كاتب
يُستخدم تعبير "أخت الرجال" لوصف المرأة القويّة؛ ذلك لأنّ القوّة حكرٌ على الرجل، ومن ثمّ سيُعتبر الضعفُ ــــ تلقائيًّا ــــ سمةَ الجنس "اللطيف" عند العُرْب "المتخلّفين،" كما عند الغُرْب "المتنوّرين." طبعًا قد تكون "... أخت الرجال" ــــ مع الـ"كس" المستتر ــــ شتيمةً تستخدمها الأنثى غالبًا ضدّ جنس الذكور. هنا قد تختلف معاييرُ السترة بين "خِمار" مليحة مسكين الدارمي الأسود عند العُرْب، و"ثونج"* مغنّي الراب سيسكو عند الغُرْب. لكنْ، بين العُرْب والغُرْب نقطةٌ فوق العين. فلنبدأْ من هنا.
النقطة فوق عين المرأة، أو تحتها، أو في أيّ مكانٍ يحيط بالعين على وجه المرأة، تُعتبر "عيبًا" يجب سترُه. وفي هذا، يُتوقَّع أن تبلغ قيمةُ سوق "مستلزمات التجميل" العالميّة ٤٣٠ مليار دولار أمريكيّ في العام ٢٠٢٢، حصّةُ مساحيق الوجه منها ٦٥٪، وجلُّها يَستهدف نساءَ العالم. للمقارنة، هذه السوق هي بحجم سوق ثمار البحور السبعة، بِحوتِها وسردينِها. إذًا، لرأس المال المعولَم ٤٣٠ مليار سبب لتذكير المرأة بـ"عيوبها" منذ نعومة أظافرها... التي تحتاج ــــ بدورها ــــ إلى طلاءٍ ملوّنٍ، وإلى مادّة الأسيتون لنزع الطلاء الملوّن ذاتِه عند ظهور أوّل خدشٍ فيه.
طبعًا، الترويج لهذه المنتجات مبنيٌّ على معاييرَ مفترَضةٍ للجاذبيّة الجنسيّة، تغذّي نظريّةَ العيوب. والعيوب موجودةٌ عند الرجال أيضًا؛ فوفق النظرة الهوليووديّة، لم يَنكحْ رجلٌ أصلعُ امرأةً ــــ أو رجلًا ــــ في تاريخ البشريّة! وهناك سُوقٌ لزرع الشعر فوق رؤوس الصُّلْع، ولا تريدون أن تعرفوا من أين يأتي الشعرُ المزروع. لكنّ سوق الاستغلال الماليّ لـ"عيوب" الرجل الجسديّة ــــ على ضخامة هذه السوق وبروزها ــــ لم تَرْقَ إلى حجم نظيرتها الأنثويّة، وذلك لأسباب بنيويّةٍ وتاريخيّة، هي نتيجةٌ لقرونٍ من الهيمنة الاقتصاديّة والدينيّة الذكوريّة. رأسُ المال في حدّ ذاته لا يميِّز بين الرجل والمرأة، لكنّ خصوبةَ سوق استغلال المرأة كانت أكثرَ إغراءً عند صعود الرأسماليّة عقب الثورة الصناعيّة، ومن ثمّ كان الطريقُ إلى المكاسب الماليّة أسهلَ عبر استغلال المرأة بدلًا من الرجل. فثقافةُ العورة سائدةٌ منذ ما قبل الثورة الصناعيّة، واستغلالُ "يدٍ خفيّةٍ" للمرأة كان أمرًا بديهيًّا كأيّ استغلالٍ آخر.
لا أدري إنْ كان آدم سميث من ممارسي العادة السرّيّة في العلن، لكنّ "يدَه الخفيّة" كرّست "الثقافةَ" التي تسمح لسائقِ أجرةٍ في بيروت بأن يخفي يدَه في بنطاله عند الانجذاب الجنسيّ إلى راكبةٍ، أسترتْ"عوراتِها" أمْ كشفتْ بعضَها. لم يستترْ أحدٌ على مدى العقود الفائتة أكثرَ من نساء مصر، ورغم ذلك تتفشّى ظاهرةُ العنف الجنسيّ مع كلّ انفتاحٍ نحو اللبرلة الاقتصاديّة. "الكبت الجنسيّ" حجّةٌ لتبرير عنفٍ غيرِ مبرَّر. ابتدع ممارسو مدرسة سميث، في الحريّة الاقتصاديّة، نظريّةَ "توزُّعِ الدخل نحو الأسفل" لتبرير تمرير سياساتٍ تَضْمن إغناءَ الأغنياء، زعمًا أنّ ذلك قد يؤدّي إلى "تقطّر" بعضٍ من هذا الثراء نحو الفقراء. غير أنّ انتشارَ الرفاهة يَفترضُ وجودَها أصلًا. فماذا يحصل إذا استبدلنا الرفاهةَ بعنفٍ اقتصاديٍّ يُثقل كاهلَ المستهلِك المستهلَك: أفلن ينتشرَ العنفُ بالأسلوب نفسه؟
صعد خطابُ "حقوق الإنسان (والمرأة والطفل واللاجئ والمثليين)" في الغرب في فترة طفرةٍ اقتصاديّة استعماريّة نهبتْ ثرواتِ العالم لحساب قلّةٍ أورو ــــ أمريكيّة. وصُدِّر إلينا هذا الخطابُ دِينًا حضاريًّا متفوّقًا، تنشره مؤسّساتُ تبشيرٍ غيرُ حكوميّة، وطبعًا غيرُ كنسيّة ــــ لا سمح الله. نقاش موضوع الجنس أو الجنسانيّة في منطقتنا، من هذا المنظور، يغيِّب ويبرِّئ المعنِّفَ الأكبرَ؛ إذ لا يمكن فصلُ معركة الحريّات الجنسيّة عن حرب التحرّر من نظامٍ هرميٍّ يخدم قلّةً على حساب الأكثريّة. وعلى رغم الاختلاف في معايير "السترة" بين مَن يفرض البرقعَ ومَن يرفضه، إلّا أنّ أرقامَ حوادث العنف الجنسيّ مخيفة على الضفّتيْن، ولا يملك طرفٌ حقَّ المزايدة على الآخر. ومع أنّ تجريم الأفراد المعنِّفين واجبٌ أينما كانوا ومهما علا شأنُهم، فإنّ العنف المنظَّم يبقى أصلَ البلاء.
يعاني رأسُ المال العالميّ، الممثَّلُ بدول الثراء الاستعماريّ، منذ ما يقارب العقد من الزمن، أزمةَ بقاء واستمراريّة. وسرعان ما انعكستْ هذه الأزمة ردّةًّ يمينيّةً في الميدان السياسيّ. وتبخّرتْ عقودٌ من تقدّميّة الترف. وبدأتْ تظهر إلى العلن، وبتزايد متسارع، ملامحُ عنف. هرميّةُ القوّة تقابلها هرميّةُ استضعاف، وقاعدةُ هذا الهرم السفلى يشغلها في أوروبا اليوم لاجئو العنف الاقتصاديّ؛ أيْ ضحايا عنفٍ متكرّرٍ على مدى أجيال من المصدر نفسه. يأتي معظمُ اللاجئين من بلادٍ لا تملك ترفَ التنظير الجنسانيّ؛ فهم يأتون من بلادنا بحدودها وملابسها الفضفاضة التي تستر العورات. لكنْ لا خلاص لهم، ولنا، إلّا بمواجهةٍ شاملةٍ لأنواع العنف كافّةً، وهي معركة لا تتجزّأ، إذ إنّ تشتيت جهود المواجهة هو ما أتاح، ويتيح، بقاءَ النظام السائد.
لن يطيح النظامَ إلّا ثورةُ العورات.
فكلّنا عوراتٌ، ولا عيب في ذلك.
بيروت
*سروال داخليّ رفيع يندسّ بين فلقتَي المؤخّرة.
15.01.17
* منقول عن مجلة الاداب
النقطة فوق عين المرأة، أو تحتها، أو في أيّ مكانٍ يحيط بالعين على وجه المرأة، تُعتبر "عيبًا" يجب سترُه. وفي هذا، يُتوقَّع أن تبلغ قيمةُ سوق "مستلزمات التجميل" العالميّة ٤٣٠ مليار دولار أمريكيّ في العام ٢٠٢٢، حصّةُ مساحيق الوجه منها ٦٥٪، وجلُّها يَستهدف نساءَ العالم. للمقارنة، هذه السوق هي بحجم سوق ثمار البحور السبعة، بِحوتِها وسردينِها. إذًا، لرأس المال المعولَم ٤٣٠ مليار سبب لتذكير المرأة بـ"عيوبها" منذ نعومة أظافرها... التي تحتاج ــــ بدورها ــــ إلى طلاءٍ ملوّنٍ، وإلى مادّة الأسيتون لنزع الطلاء الملوّن ذاتِه عند ظهور أوّل خدشٍ فيه.
طبعًا، الترويج لهذه المنتجات مبنيٌّ على معاييرَ مفترَضةٍ للجاذبيّة الجنسيّة، تغذّي نظريّةَ العيوب. والعيوب موجودةٌ عند الرجال أيضًا؛ فوفق النظرة الهوليووديّة، لم يَنكحْ رجلٌ أصلعُ امرأةً ــــ أو رجلًا ــــ في تاريخ البشريّة! وهناك سُوقٌ لزرع الشعر فوق رؤوس الصُّلْع، ولا تريدون أن تعرفوا من أين يأتي الشعرُ المزروع. لكنّ سوق الاستغلال الماليّ لـ"عيوب" الرجل الجسديّة ــــ على ضخامة هذه السوق وبروزها ــــ لم تَرْقَ إلى حجم نظيرتها الأنثويّة، وذلك لأسباب بنيويّةٍ وتاريخيّة، هي نتيجةٌ لقرونٍ من الهيمنة الاقتصاديّة والدينيّة الذكوريّة. رأسُ المال في حدّ ذاته لا يميِّز بين الرجل والمرأة، لكنّ خصوبةَ سوق استغلال المرأة كانت أكثرَ إغراءً عند صعود الرأسماليّة عقب الثورة الصناعيّة، ومن ثمّ كان الطريقُ إلى المكاسب الماليّة أسهلَ عبر استغلال المرأة بدلًا من الرجل. فثقافةُ العورة سائدةٌ منذ ما قبل الثورة الصناعيّة، واستغلالُ "يدٍ خفيّةٍ" للمرأة كان أمرًا بديهيًّا كأيّ استغلالٍ آخر.
لا أدري إنْ كان آدم سميث من ممارسي العادة السرّيّة في العلن، لكنّ "يدَه الخفيّة" كرّست "الثقافةَ" التي تسمح لسائقِ أجرةٍ في بيروت بأن يخفي يدَه في بنطاله عند الانجذاب الجنسيّ إلى راكبةٍ، أسترتْ"عوراتِها" أمْ كشفتْ بعضَها. لم يستترْ أحدٌ على مدى العقود الفائتة أكثرَ من نساء مصر، ورغم ذلك تتفشّى ظاهرةُ العنف الجنسيّ مع كلّ انفتاحٍ نحو اللبرلة الاقتصاديّة. "الكبت الجنسيّ" حجّةٌ لتبرير عنفٍ غيرِ مبرَّر. ابتدع ممارسو مدرسة سميث، في الحريّة الاقتصاديّة، نظريّةَ "توزُّعِ الدخل نحو الأسفل" لتبرير تمرير سياساتٍ تَضْمن إغناءَ الأغنياء، زعمًا أنّ ذلك قد يؤدّي إلى "تقطّر" بعضٍ من هذا الثراء نحو الفقراء. غير أنّ انتشارَ الرفاهة يَفترضُ وجودَها أصلًا. فماذا يحصل إذا استبدلنا الرفاهةَ بعنفٍ اقتصاديٍّ يُثقل كاهلَ المستهلِك المستهلَك: أفلن ينتشرَ العنفُ بالأسلوب نفسه؟
صعد خطابُ "حقوق الإنسان (والمرأة والطفل واللاجئ والمثليين)" في الغرب في فترة طفرةٍ اقتصاديّة استعماريّة نهبتْ ثرواتِ العالم لحساب قلّةٍ أورو ــــ أمريكيّة. وصُدِّر إلينا هذا الخطابُ دِينًا حضاريًّا متفوّقًا، تنشره مؤسّساتُ تبشيرٍ غيرُ حكوميّة، وطبعًا غيرُ كنسيّة ــــ لا سمح الله. نقاش موضوع الجنس أو الجنسانيّة في منطقتنا، من هذا المنظور، يغيِّب ويبرِّئ المعنِّفَ الأكبرَ؛ إذ لا يمكن فصلُ معركة الحريّات الجنسيّة عن حرب التحرّر من نظامٍ هرميٍّ يخدم قلّةً على حساب الأكثريّة. وعلى رغم الاختلاف في معايير "السترة" بين مَن يفرض البرقعَ ومَن يرفضه، إلّا أنّ أرقامَ حوادث العنف الجنسيّ مخيفة على الضفّتيْن، ولا يملك طرفٌ حقَّ المزايدة على الآخر. ومع أنّ تجريم الأفراد المعنِّفين واجبٌ أينما كانوا ومهما علا شأنُهم، فإنّ العنف المنظَّم يبقى أصلَ البلاء.
يعاني رأسُ المال العالميّ، الممثَّلُ بدول الثراء الاستعماريّ، منذ ما يقارب العقد من الزمن، أزمةَ بقاء واستمراريّة. وسرعان ما انعكستْ هذه الأزمة ردّةًّ يمينيّةً في الميدان السياسيّ. وتبخّرتْ عقودٌ من تقدّميّة الترف. وبدأتْ تظهر إلى العلن، وبتزايد متسارع، ملامحُ عنف. هرميّةُ القوّة تقابلها هرميّةُ استضعاف، وقاعدةُ هذا الهرم السفلى يشغلها في أوروبا اليوم لاجئو العنف الاقتصاديّ؛ أيْ ضحايا عنفٍ متكرّرٍ على مدى أجيال من المصدر نفسه. يأتي معظمُ اللاجئين من بلادٍ لا تملك ترفَ التنظير الجنسانيّ؛ فهم يأتون من بلادنا بحدودها وملابسها الفضفاضة التي تستر العورات. لكنْ لا خلاص لهم، ولنا، إلّا بمواجهةٍ شاملةٍ لأنواع العنف كافّةً، وهي معركة لا تتجزّأ، إذ إنّ تشتيت جهود المواجهة هو ما أتاح، ويتيح، بقاءَ النظام السائد.
لن يطيح النظامَ إلّا ثورةُ العورات.
فكلّنا عوراتٌ، ولا عيب في ذلك.
بيروت
*سروال داخليّ رفيع يندسّ بين فلقتَي المؤخّرة.
15.01.17
* منقول عن مجلة الاداب