محـمد بن الصـديق - توظيف ألف ليلة وليلة في الرواية «أنبؤوني بالرؤيا» لعبد الفتاح كيليطو نموذجا

ليست الرواية- باعتبارها عملا فنيا وسردا تخييليا- لدى عبد الفتاح كيليطو بمستقلة ولا مقطوعة عن مشروعه النقدي الضخم، بل هي امتداد له وعمل متواصل الحلقات؛ ففي النقد تجد بوادر رواية أو سيرة ذاتية، وفي الرواية تجد للنقد حيزه. مما يثبت مطابقة أعماله لمقولة تداخل الأجناس وتعايشها داخل النص الواحد. يتحدث عبد الكبير الشرقاوي مترجم الأعمال النقدية والإبداعية لعبد الفتاح كيليطو في مقدمة "حصان نيتشه"(1) عن هذه الخصيصة التي انمازت بها مؤلفاته قائلا: "وقد تنبجس قصة من منعطف دراسة أو مقالة؛ كما قد يتطور مشهد سردي إلى مقالة أو دراسة، ويبدو أحيانا من الصعب، عند المهووسين بالتصنيف، الفصل بين المقالة والسرد، وبين البحث الأدبي والتخييل"(2).

ومما يمكن أن نمثل به في هذا الصدد ما أفشى به الناقد عبد الفتاح كيليطو حين ختم كتابه "لن تتكلم لغتي"؛ ففي الهامش وضع ملاحظة مهمة كما يلي: قد يصلح هذا الافتراض موضوعا لرواية؟

أي افتراض يقصد؟ يقصد ارتيابه في أمر متى بن يونس حين عمد إلى ترجمة الطراغوديا والقوموديا، أكان جاهلا بترجمتها أم تعمد ترجمتها بالمديح والهجاء؟ يقول كيليطو متحدثا عن فضل الرجل على العرب زاعما أنه قد: "أنقذهم هذا الترجمان من غير عمد، من دون أن ينوي ذلك أو يخطط له، ومن دون علم بما يفعل، من دون علم؟ هل حقا كان يجهل ما يقصده أرسطو بالطراغوديا أو القوموديا؟ ومن يدري؟ لعله كان على علم تام بدلالتها، ولعله تعمد ترجمتها بالمديح والهجاء.. لحاجة في نفسه"(3).

وإذا كانت الأعمال النقدية للناقد تطفح بما هو سردي، على مستوى طبيعة المواضيع، أو على مستوى السرد الذاتي(4)، أو على مستوى شعرية النقد وإمتاحه من اللغة الشعرية الجميلة، فإن أعماله السردية تنم عن حضور التفكير النقدي ومزاوجته للإبداع. ومن يطالع روايته الجديدة التي أصدرها بعنوان: "dites-moi le songe " وترجمها عبد الكبير الشرقاوي بـ"أنبؤوني بالرؤيا"(5) يدرك مدى تماسك الخطابين السردي والنقدي وتمازجهما في بنية واحدة. ويدرك أن هذه الرواية منبثقة من رحم درساته الكثيرة والمطولة عن ألف ليلة وليلة خاصة، وانشغاله بالتراث العربي عامة. فقد مارست قراءاته المسهبة سلطتها عليه، وأغرته حبكتها، وانجذب لسحر شهرزاد الحكائي، وتعاطف مع شخصياتها فتمثل بعضها وانتقد بعضها الآخر.

تتألف رواية "أنبؤوني بالرؤيا" من أربعة عناويين كبرى؛ وهي: إيدا في النافذة، والجنون الثاني لشهريار، ومعادلة الصيني، ورغبة تافهة في البقاء.

ومنذ افتتاحية الرواية يعلن السارد عن السحر الجميل الذي مارسته ألف ليلة عليه. فقد كانت سببا في شفائه من مرض ألم به في طفولته وألزمه الفراش ليالي وأياما عديدة(6)، كما كان لها الفضل الأكبر في استدعائه للولايات الأمريكية، وحصوله على منحة شهرين لدى مؤسسة فلبرايت(7). من هنا يعلن الكاتب عن بدء السرد المقرون بلحظة اكتشاف ألف ليلة وليلة. فيتشكل النص في ظل ليالي شهرزاد، يمتح منها ويوزع مقروءه لها على عناويين الرواية وصفحاتها.

وقد بلغ عدد مرات ورود لفظ الليالي أو ألف ليلة وليلة في الرواية 106 مرة موزعة على الشكل الآتي:

إيدا في النافذة: 58 مرة.
والجنون الثاني لشهريار: 34 مرة.
ومعادلة الصيني: 4 مرات.
ورغبة تافهة في البقاء: 10 مرات.

إن هذا العدد مهم جدا وكاف لمشروعية البحث عن العناصر التي وظفها الروائي من مادة الليالي وبنيتها الحكائية. ومن هنا يمكننا أن نعرض للموضوع من خلال النقاط الآتية:

- الشخصيات تطابق أم تخالف.
- دراسة نص مخطوط.
- أطروحة دكتوراه.
- طبيعة الحكي.

الشخصيات تطابق أم تخالف:
تحضر شخصيات ألف ليلة وليلة في الرواية قيد التحليل من خلال مبدأي المشابهة أو التطابق والمخالفة؛ ذلك بأن الكاتب كلما كان بصدد عرض حالات الشخصيات المختلفة أو حالات البطل النفسية عرضها على شخصيات الليالي وتجاربهم الوجدانية والعاطفية؛ فإما أن تلتقي بها أو تقترب منها في سلوكاتها وأفعالها، وإما تتباعد عنها حتى لتشكل نقيضها تماما.

وإذا تتبعنا النص الروائي وقرأناه قراءة أفقية نبتغي التمثيل لهذه الخصيصة الأولى وجدنا أن قراءة السارد لليالي التي ارتبطت أساسا بالمرض؛ قد اختلفت من الناحية الزمنية عن زمن رواية شهرزاد لياليها؛ ففي الوقت الذي كان يقرأ بالنهار، كانت هي تروي بالليل" كنت أقرأ في الفراش،على ضوء النهار.. نقيض شهرزاد التي تروي في الليل وتسكت في الصباح. كنت، بقطعي القراءة في المساء، أخالف إشارتها الضمنية، وأعكس نظام الأشياء.."(8).

ولما استدعي للولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء محاضرة هناك كنتيجة لدراسة أنجزها عن النوم في ألف ليلة وليلة نشرتها مجلة ARABICA STUDIA.

واستفادته من منحة شهرين لدى مؤسسة فلبرايت، واستقبله الأستاذ مايكل هاموست في بيته؛ حيث سهر معه هو وزوجته وفتاة اسمها إيدا؛ تلك الفتاة التي أعجب بها، ولما أصيب بالعياء والتعب ولم يستطع أن يدخن ليقاوم النوم، قارن بين حالته وهو ينام تاركا إيدا، وحالة عزيز أحد شخصيات الليالي إذ لم يلعب دورا بطوليا لأنه استسلم للنوم تاركا إيدا وحيدة "أفسدت أول لقاء،تماما مثل التعيس عزيز الذي لم يعرف كيف ينتظر عشيقته"(9) فهو "أثناء انتظاره محبوبته يرتمي في أحضان الطعام بشراهة، ويغرق في نوم بهيمي"(10). ووجد نفسه في الغد وسط الشارع، أما السارد فقد كان أكثر حظا إذ وجد نفسه ما يزال في فراشه، مما جعله يرجو أن تمنحه فرصة أخرى كما منحت لعزيز(11). وإن كان قد ضيع الفرصة بنوم ثان حين أخبرته الحارسة الليلية أن امرأة شابة سألت عنه وانتظرته طويلا ثم انصرفت حين لم يفتح لها الباب(12).

ولا يفوت السارد أيضا أن يقارن نفسه بالسندباد الحمال البري. فبعد أن ظفر بالسبعة عشر مجلدا من الليالي لريتشارد بيرتون، وبدا له شبح امرأة ظنها من شدة التعب والإعياء إيدا، شبه نفسه بالسندباد ثم يذكر بعد ذلك مفارقته له؛ يقول السارد: "كان حملي ثقيلا جدا. كنت دائما حمالا كئيبا لا مجديا. سندباد الحمال. لا تحت شمس بغداد المرهقة، بل وسط حرم جامعي أميركي"(13).

كما شبه الأستاذ ك بأحد شخصيات الليالي وهو نور الدين، فحينما أراد أن ينشر مقالة عن مخطوطة وجدها عن الليالي، فكر أن يرسلها إلى مجلةstudia arabica التي نشرت له مقالا عن النوم، ثم تردد في استشارة الأستاذ ك ووصفه قائلا: "لم يكن يكلم أحدا ولا يرد على المراسلات كان، مثل نور الدين، قد وطئ أرضا مجهولة، مظلمة ماوراء الليالي، ما لا ترويه الليالي. لاحصان للأسف، حاول صده.."(14).

يتضح مما سبق، أن عبد الفتاح كيليطو يستحضر أمامه جملة من شخصيات ألف ليلة وليلة، فإذا كان في معرض الحديث عن توافقها مع شخصيات روايته استعمل ما يدل على ذلك من ألفاظ نحو ما نجد في النص السابق "مثل"، وإذا خالفت شخصياته شخصيات الليالي وظف كلمة "نقيض" أو لا النافية.

دراسة نص مخطوط:
حضرت الليالي على مستوى ثان،حيث أثبت السارد نصا/ مخطوطا عنوانه: نور الدين والحصان، "وفي الهامش ملحوظة وجيزة باللغة الانجليزية حكاية من الليالي لم يسبق نشرها.."(15).

وحاول أن يدرسه استنادا إلى الارتياب الذي يحيط بالنص وصاحبه وأسلوبه وموضعه داخل الليالي لريتشارد بيرتون، ليقف عند الحكاية نفسها وارتباطها بحكايات أخرى تجانسها. ويصل إلى أن هذه الحكاية تختلف عن حكايات ألف ليلة وليلة من حيث بناؤها لغياب خاتمة لها، ومن حيث أسلوبها المعتمد على التكثيف والاختزال، ليختم فرضياته بكون هذه الحكاية قد تشبه بعض النصوص الغربية، وترتبط بأسماء غربية مثل "نيتشه، وهكذا لن تكون هذه الحكاية سوى سرد مقنع لفصل درامي من حياة نيتشه. نيتشه كشخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة"(16).

غواية النص/ المخطوط جعل السارد يفكر في نشره، فالتقى بصاحبه "جون بيري" الذي دسه في كتاب ريتشارد بيرتون؛ فعرف من اعترافات هذا الحفيد بعض أسراره المتعلقة بهوية صاحبه؛ جد جون بيري،وقد أذن له بنشر المخطوطة بل وسمح له بالاحتفاظ بصورة تجمع جده بريتشارد بيرتون.

* * * *

أطروحة دكتوراه:

المستوى الثالث من مستويات توظيف الليالي كان على صعيد الأطروحة الجامعية .فقد أنجز السارد دراسة عن الليالي؛ وهو أستاذ جامعي يشرف على رسائل الدكتوراه إسماعيل كملو أحد طلبته؛ أشرف على إجازته ثم طلب منه أن يشرف عليه في أطروحة حول الليالي. وافق على مضض، لأنه لم يعد يرغب في أن يقرأ عن الليالي أي دراسة بعد أن أنهى أطروحته، واستنفذ كل طاقاته وإمكاناتها التأويلية.

إذا كان موضوع بحث السارد "ليالي السهاد"، فإن إسماعيل كملو قد استقر رأيه على عنوان "الجنون الثاني لشهريار" وهو ما اعتبره المشرف عملا تخيليا أو بالأحرى محاولة نقدية فأشار عليه بزيادة عنوان فرعي موضح"خاتمة لليالي لم يسبق نشرها".

* * * *

طبيعة الحكي:

في البيت الذي استأجره السارد، قادته عمليات البحث فيما خلفه المستأجر السابق/ الطالب من مستنسخات وكتب إلى أنه كان على علاقة بالجارة الساكنة في الطابق الثالث. ومن بين ماوجده، مستل لمقالة إسماعيل كملو عنوانها" عن حكاية ألف ليلة وليلة لم يسبق نشرها"، وقد وضع عليها الطالب جملة من الملحوظات في الحواشي والهوامش؛ من ذلك نفيه ذكر أرض الظلمات في حكاية نور الدين والحصان فحسب، وهي حكاية اكتشفها في مخطوط مدسوس في النسخة الانجليزية من ليالي ريتشارد بيرتون.

قادت عمليات التخييل السارد إلى أن يكتشف أن الطالب كان يسرد على جارته حكايات ابن بطوطة ثم حكايات ألف ليلة وليلة.إن هذه العملية شبيهة عنده بحكاية الصيني الذي قررت في شأنه المرأة التي كان يحبها "ألا تمنحه حبها إن لم يقض الليل، مدة ثلاث سنوات، تحت نافذتها. كان يحضر في المساء، ويجلس على مقعده، ولا يذهب إلا عند الفجر أثناء سهره، كانت الجميلة تنام وراء نافذتها المغلقة"(17).

يعلق السارد على حكاية الصيني، ويقارن بينها وبين حكاية ابن بطوطة وألف ليلة وليلة وذلك على مستوى السرد والخاتمة؛ فيقول: "أين قرأت هذه الحكاية؟ ليس عند ابن بطوطة، غير القادر على سرد حكاية بمثل هذ الرهافة والنفاذ. أما الليالي، فمثل هذه الخاتمة غير متصورة فيها حكاية الصيني غريبة عن روحها، ولو أن اختبار السنوات الثلاث يتطابق مع عدد ليالي شهرزاد.. نجد بالطبع اختبارات في عدة حكايات، أحيانا أشد مشقة، لن يخطر على بال الأبطال أن يلوموا محبوبتهم على نزوة، ولو قاسية، ولن ينصرفوا، كما فعل الصيني، المتشح في التخلي كما في رداء ملكي.."(18).

* * * *

خلاصة القول، نستنتج من خلال تتبعنا لمسار استثمار عبد الفتاح كيليطو لألف ليلة وليلة في روايته "أنبؤوني بالرؤيا" أنه:

أ- استطاع أن يجمع بين ماهو جمالي فني وما هو نقدي؛ فقد حضرت الرومانسية في علاقات الرغبة والاشتهاء والكتمان والبوح التي ربطت السارد/ البطل بآدا وإيدا وعايدة.. في بنية روائية عرفت تقاطع الأحداث وتطورها وانسجامها وتداخلها. أما الجانب النقدي، فيبرز في مناقشة قضايا السرد من خلال تيمات الأدب والارتياب والترجمة وأسلوب الحكاية العربية وافتتاحياتها ونهاياتها.

ب- يرغب عبد الفتاح كيليطو في أن يكتب رواية/ بحثا أو دراسة، تجد فيها متعة الحكي والسرد والتشويق والرومانسية، وتجد فيها التحليل النقدي للنصوص.. وهو على دراية بما يفعل يذكر ذلك على لسان السارد في الرواية:" بينما كملو سيتخلص من الورطة لصالحه، منجزا أطروحة ورواية دفعة واحدة"(19). وفي سياق نقدي مشابه تحدث عن رولان بارث زاعما أنه "يرغب في كتابة رواية تنتسب، على شاكلة رواية "بحثا عن الزمن الضائع" لبروست إلى "شكل مزيج" في ذات الآن رواية ودراسة، أو لا هذه ولا تلك، باختصار"شكل ثالث"(20).

وهكذا يبدو أن عبد الفتاح كيليطو كان يزمع أن يحقق مطلبين في آن واحد؛ رواية ودراسة. وهو ما حاولنا أن نثبته من خلال استعراضنا لأوجه إيراد الليالي في أشكال متعددة: أطروحة وندوة ونصوص وشخصيات وبناء.

(باحث من المغرب)

* * * *

الهوامش

1- مؤلف يضم الأعمال السردية الكاملة لعبد الفتاح كيليطو من سنة 1988 إلى 2003 وهو عبارة عن ستة نصوص قصصية ورواية صدرت الطبعة العربية الأولى عن دار توبقال سنة 2003 والطبعة الثانية سنة 2005 أما الطبعة الفرنسية فقد صدرت عن دار الفنك بالدار البيضاء سنة 2007.
2- حصان نيتشه ط 2 دار توبقال 2005 ص6.
3- لن تتكلم لغتي دار الطليعة ط1، 2002، ص114.
4- في الأدب والارتياب يتحدث الناقد عن علاقته بألف ليلة وليلة، ص46. قارن بينه وبين مفتتح رواية أنبؤوني بالرؤيا ص8.
5- صدرت عن دار الآداب بيروت، ط1، 2011.
6- أنبؤوني بالرؤيا، دار الآداب، بيروت، ط1، 2011، ص7.
7- نفسه، ص9.
8- نفسه، ص 8.
9- نفسه، ص14.
10- نفسه، ص18.
11- نفسه، ص27.
12، نفسه، ص45.
13- نفسه، ص27.
14- نفسه، ص39.
15- نفسه، ص27.
16- نفسه، ص34.
17- نفسه، ص80.
18- نفسه، ص83.
19- نفسه، ص54.
20- من شرفة ابن رشد لعبد الفتاح كيليطو ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، ط1، 2009، ص49.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...