باسم علي - كتاب رمل الليالي

في واحدة من أمثولاته الأكثر غموضًا، يروي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس حكاية عن كتاب غريب كلما فتح صفحة منه توالدت عنها آلاف الصفحات. ويعجز متصفحه، مهما حاول، عن إيجاد الصفحة الأخيرة لهذا الكتاب الغريب، والذي أسماه كتاب الرمل. تصلح تلك الأمثولة في رأيي كمفتاح لإيجاد مقاربة مثلى لماهية الكتاب التراثي العربي الأشهر ألف ليلة وليلة.
لن يمكننا أبدًا إفتراض وجود قراءة تامة ونهائية لنص ألف ليلة وليلة، ليس فقط بسبب تعدد طبعاته، وإختلافها عن بعضها بشكل يتعذر معه تحديد متن أصلي لكتاب الحكايات -طبعة كالكتا بالهند وطبعة برتسلاو وطبعة صبيح، بخلاف الطبعة البولاقية- ولكن أيضًا لتشظي النص الواحد ذاته، وتفاوت بنياته اللغوية والحكائية، واختلاف طرائق الحكي من حكاية لأخرى، بل وحتى هذا التعدد الواضح للأغراض الحكائية في الليالي، بين الأمثولة الاخلاقية والحكاية الساخرة وكتابات الأداب السلطانية والملحمة البطولية، وبما يتطلبه كل غرض حكائي من أدوات وتيمات خاصة، كل هذا يشي بوجود أصول متعددة ومتفاوتة تم توليف النص وتشكيله منها وبها على مدار زمن طويل قد يمتد لقرون.
لا يمكن قراءة ألف ليلة وليلة دون أن يقع القاريء في فخ حكاياتها. ثمة خطر يتهدد قاريء الليالي إذا ما دخل في متاهتها بألا يستطيع الخروج ثانية، لا يضمن أن يظل الشخص ذاته بعد أن يخرج، ورأى وسمع، وبعد أن خبر تلك الحكايات التي كُتبت بالإبر على آماق بصره كي لا ينسى ما عرف. صدمة المعرفة هي أول ما يتعرض لها هذا القارئ في تجربة التلقي.
في حالة "شهريار"، وهو المتلقي الأول، الواقعي والوحيد، الذي يفترضه النص في الحكاية الإطار، تبدو تجربة تلقي الحكايات بمثابة طقس تكريس معرفي يدخله شهريار، تجربة، عتبة عبور جديد بين الوحشية والإنبعاث مرة أخرى في أفق إنساني. وبين الرغبة في التدمير والقتل، والدخول في إنسانية الإنسان، هناك ملكين، أو شهريارين؛ شهريار الغاضب، المنتقم من النساء لفجيعته في خيانة زوجته، ثم هناك –في نهاية الحكايات- الشهريار الأخر، والذي يعفو عن شهرزاد ويعتق رقبتها من البتر، ذلك الذي مر بالتجربة، شهريار مختلف، نادم على ما أقترفه من دمار.
لا يمكن أن يتعاطى القاريء مع الليالي دون أن يطرح على نفسه السؤال التالي: كيف تم تدوين هذا الكتاب؟، تمنحنا الليالي أدلة عدة على أصولها الشفاهية، بداية من الصفحات الأولى، ليست الحكايات مكتوبة في الأصل، بل مرويه على أذن مستمع. ويمثل فعل التدوين هذا أهم تغير يطرأ على طبيعة التجربة التي يتعرض لها المتلقي. التحول من مستمع، تُلقى على سمعه الحكايات، بما لشفاهية الحكي هنا من زخم أدائي وصوتي وتشكيل إيمائي وحركي للمعنى، إلى قاريء يقرأ نصًا أكتسب قدسية التدوين، وصار مغلقًا على احتمالاته.
تقدم الليالي إحالات إلى مفهوم التدوين هذا في مواضع عدة، وتربط بين فعل التدوين والسلطة، في نهاية حكاية الأحدب والخياط واليهودي والمباشر والنصراني يأمر الخليفة بتدوين الحكاية وحفظها في خزائن المملكة، وتتكرر هذه التيمة على طول النص، تبرز الليالي فعل تدوينها كتأسيس أولي لسلطتها كنص، وتربط بين تدوين الحكاية وحفظها في خزائن المملكة، قد يكون النص يلمح إلى أنه بدون تدوين الليالي كانت ستظل نهبًا للغوغاء والعامة، يمكننا وفقًا لهذه الرؤية أن نعتبر أن تدوين الليالي في واحدة من أوجهه كان يمثل تكريسًا لسلطة الدولة وسطوتها. خاصة وأن حضور السلطة، وممثلها "هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي"، متكرر وقوي وفاعل في كثير من الحكايات.
يروي أبطال الليالي حكاياهم في إطار مقايضة على الروح، الجني ينوي قتل الصياد الذي قتل إبنه بنواة البلح فيفتدي الشيوخ الثلاثة دم الصياد بحكايات ثلاث، الخياط واليهودي والمباشر والنصراني المتهمين في قتل الأحدب يفتدون حياتهم أمام السلطان بالحكايات، ولا ننسى شهرزاد ذاتها، راوية الحكاية الأم، تحكي حكايات لألف ليلة وليلة كي تفتدي رقبتها، وتقايض على حياتها بالحكايات.
برغم النظرة الرجعية للأنثى في بعض حكايات ألف ليلة، إلا أننا لا يمكننا التعاطى مع الليالي بإعتبارها تمثل خطابًا ذكوريًا، تنافر النظرة للأنثى داخل نص الليالي وتحمل داخلها مواقفًا مختلفة ومتعارضة من هذه الأنثى لا يمكننا معها أن نفترض وجود رؤية واحدة تطرحها الحكايات لصورة الأنثى في كل الحكايات، فبعضها تقدم صورة متدنية ورجعية للأنثى بينما تسمها حكايات أخرى بهالةٍ من القداسة. وأظن أن خطاب الحكي في الليالي يمثل خطابًا أنثويًا بالأساس، ليس فقط على المستوى الشكلي بإعتبار أن (شهرزاد/الأنثى) هي من تحكي، ولكن على مستوى أعمق وأكثر موضوعية يتعلق بأسلوب الحكي ذاته، أو بمعنى أدق أنوثة أسلوب الحكي، فعوضًا عن طريق وطريقة واضحين تسير فيه الحكاية في خطها المستقيم، وهي طريقة كان يمكننا أن نصفها في سهولة بالذكور، تعتمد الليالي تقنيات القطع والوصل وتوالد الحكايات من بعضها البعض كطريقة للحكي. الحكايات مروية لا كما قد يرويها ذكر، بل كما قد ترويها الأنثى.
لا تسلمنا أحاديث الليالي العجيبة إلا إلى أحاديث أعجب. تُروى الحكاية طالما أنها عجيبة، ويتكرر التصريح بشرط العجائبية في مواضع كثيرة، كلما أنتهت حكاية تبدأ حكاية أخرى بتهيئة جديدة على إعتبار أنها "حديث أغرب وأعجب"، الغرائبية إذن هي جواز مرور الحكاية إلى متن الكتاب كما رأتها مخيلة كاتبها، هذا الكاتب الجمعي الذي جاهد لتمرير الوقت بسرد الحكايات، وكلما كانت الحكايات أعجب وأغرب، كلما كان تمرير هذا الوقت الثقيل أكثر سهولة.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...