عبد الإله القصراوي - ألف ليلة وليلة.. المسـرح الأوروبي يتهادى معها في دلال

تسعى هذه السطور إلى إبراز تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح الأوربي الحديث، من خلال تناول مسرحية (حذاء أبي القاسم) للمسرحي السويدي سترندبرج، في ترجمتها الفرنسية.

يبقى الهدف من هذا التناول، هو الكشف عن مدى تأثير هذا العمل في المسرحيين الأوربيين، خاصة سترندبرج، الذي يبقى من رموز المسرح الأوروبي، وهي مناسبة لمعرفة مدى تأثير الشرق ككل في الأدب الإسكندنافي، الذي لا زال حضوره عندنا أقل مقارنة مع آداب دول أروبية أخرى. كما أن هذا التناول، مناسبة أخرى لتسليط الضوء على مدى رحابة مدارك هذا المسرحي، ومدى اطلاعه على ثقافات مختلفة، خاصة الشرقية منها، وهي مسألة تحسب له.

تجدر الإشارة إلى أن المسرحية موضوع هذه السطور، من المسرحيات المغمورة لدى المؤلف، لذا لم أعثر على كتابات تتناولها، اللهم إلا مقالاً وحيداً لمحمد عمر. والشيء الذي زاد من صعوبة البحث، هو عدم إجادتي للغة السويدية، حتى أتمكن من قراءة ما كتبه الدارسون السويديون عن هذه المسرحية.

يبقى الأدب عاملاً مؤثراً في التقارب بين الشعوب والأقوام المختلفة، خاصة تلك الأعمال الأدبية التي تركز على القواسم المشتركة، والتوجهات الإنسانية، التي تستقطب الناس كافة. وقد احتلت العديد من الإبداعات الشرقية القديمة ـ لاسيما تلك المكتوبة باللغة العربية ـ مكانة هامة لدى شعوب العالم، خاصة شعوب أوروبا، التي كان قد أتى دورها لريادة العالم، بعد أن ظهرت معالم تراجع الحضور العربي الإسلامي حضاريا. وقد حفلت الثقافات الأوروبية بهذه الأعمال بعد انتشار حركة الترجمة، وتعميق التواصل الثقافي مع الآخر. نمثل لهذه الأعمال بالنماذج التالية؟ (كليلة ودمنة، حي ابن يقظان، المقامات، ألف ليلة وليلة...)، فالتأثير والتأثر ظاهرة صحية بين الثقافات. ولا يشكل التثاقف بين العرب وأوروبا إلا مثالاً من بين العديد من الأمثلة.

1 - لمحـة عن حضـور ألـف ليلـة وليلـة فـي المسـرح الأوروبـي
تعد ألف ليلة وليلة من الأعمال الأدبية العالمية التي حظيت بشهرة منقطعة النظير، وقد ترجمت إلى لغات كثيرة، تاركة أثرها في أدب تلك اللغات. كما تم تهذيب حكاياتها، وإخراجها في صيغ تناسب فئة الأطفال، وعياً من رجال التربية بأهميتها لهم، بما تحمل من خيال خصب، وتشويق، وطرافة، فاشتهرت بين النشء حكايات السندباد، وحكاية علاء الدين والمصباح، وحكاية أبي القاسم البغدادي... كما تم استلهام حكايات ألف ليلة وليلة لإنتاج أفلام سينمائية كثيرة.

أثرت ألف ليلة وليلة في الأدب العالمي شرقيه وغربيه، في صورة روايات، وقصص، وأشعار، ومسرحيات... وقد ارتأينا حصر اهتمامنا على تأثيرها في المسرح الأوربي الحديث خاصة.
تجدر الإشارة، إلى أن تأثر المسرح الأوربي بألف ليلة وليلة قديم، ذلك أن العديد من قصص ألف ليلة وليلة كانت معروفة زمن العصور الوسطى، بفعل توفر العديد من وسائل التثاقف التي نذكر منها: الحضور الثقافي العربي بإسبانيا التي حكمها العرب مدة طويلة، وقل الشيء نفسه بالنسبة لصقلية في جنوب إيطاليا، دون أن ننسى الاحتكاك الشرقي الغربي الذي سببته الحروب الصليبية طيلة قرنين، والذي جعل الأوروبيين يستفيدون من الشرق في مجالات عديدة، منها الأدب، من خلال حملهم للعديد من القصص الشعبية الرائجة آنذاك. علاوة على ما ينقله كذلك التجار، والملاحون، وحجاج بيت المقدس، من أخبار، وحكايات، وأوصاف عن الشرق.

لعل من أكثر قصص الليالي رواجاً في أوربا، زمن العصور الوسطى، قصة السندباد1 التي دخلت فيما بعد في مجموع قصص ألف ليلة وليلة. تُرجمت هذه القصة من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية سنة 1253م تحت عنوان (كتاب مكايد النساء وحيلهن)، وتحمل في ألف ليلة وليلة عنوان: «حكاية تتضمن مكر النساء وأن كيدهن عظيم»، أو «قصة الملك وولده والجارية والوزراء السبعة». ثم تُرجمت إلى اللاتينية على يد خوان دي ألتا سيلفا في عمله (تاريخ حكماء روما السبعة)، ثم ترجمت كذلك إلى الإيطالية، والإنجليزية، والألمانية والهولندية، والدنمركية.

والقصة كما وردت في ألف ليلة وليلة، هي عبارة عن ست وعشرين حكاية، يربط بينها خيط يضمها، وهو أن زوجة أحد الملوك تراود ابناً له، فيعف عنها ويرفض غوايتها، فتقوم هي بالشكوى إلى الملك زاعمة أنه هو الذي راودها، فيغضب الملك ويأمر بقتله، غير أن وزراء الملك السبعة ينصحونه بالتأكد من التهمة مدة سبعة أيام تتابع خلالها القصص. وقد أثرت هذه الحكايات على أهم رواد الفن القصصي الأوربي، وهو بوكاشيو في عمله (الليالي العشر)(2).

بالإضافة إلى قصة السندباد، هناك قصة لا تقل شهرة عنها آنذاك، وهي قصة الجارية تودد التي تحكي عن المناظرات التي دارت بين الجارية وبين كبار العلماء في بلاط هارون الرشيد، والتي انتهت بانتصارها. تُرجمت هذه القصة كذلك من اللغة العربية إلى الإسبانية. وقد كان لهذه القصة بالذات أثر على العديد من المسرحيين الإسبان.

يبقى المسرح الإسباني من أوائل المسارح الأوربية المتأثرة بقصص ألف ليلة وليلة، وذلك طبيعي بالنظر إلى الإرث الثقافي والحضاري الذي تركه العرب هناك. ففي سنة 1499م ألف فرناندو دي روخاس عمله المسرحي: (مأساة كالسينز وميليبيا). والذي يحكي قصة شاب أحب شابة كانت دائمة التمنع عليه، فلما فشلت محاولاته في التقرب منها، التجأ إلى عجوز ماكرة أظهرت له العديد من الحيل لإغواء الفتاة، لقاء هداياه وعطاياه.

يظهر التأثير العربي في المسرحية، من خلال الإلحاح على شرف المرأة، بالإضافة إلى أن المواصفات التي أسندت إلى العجوز الخبيثة، عنصر ألحت عليه القصص العربية التي دارت حول حيل النساء وكيدهن. كما في ألف ليلة وليلة حيث (نرى العجوز المتظاهرة بالصلاح التي تدخل بيوت سراة الناس لإغواء بناتهن لقاء ما تناله من عطايا شاب عابث يأجرها على خدماتها)3.
أما العمل الثاني فهو مسرحية: (الجارية تيودور) للكاتب لوي دي فيجا، التي ألفها في القرن السابع عشر. وقد استلهم فيها صاحبها قصة الجارية تودد التي أشرنا إليها سابقاً.

كما تطرح العديد من الافتراضات بصدد تأثير ألف ليلة وليلة في مسرح شكسبير. وهي افتراضات تستند إلى تشابهات قوية، منها ما هو ناجم عن تأثر مباشر لشكسبير بالليالي، عبر ما نقل من حكاياتها من طرف الحجاج، أو التجار، أو العائدين من الحروب الصليبية، أو (مما انتقل إلى الثقافة الأوربية عن طريق الأندلس الإسلامية)4. ومنها ما هو ناجم عن تأثر غير مباشر، انطلاقاً من اطلاع شكسبير على أعمال أدبية تأثرت بالليالي.

تعد ألف ليلة وليلة من الأعمال الأدبية العالمية التي حظيت بشهرة منقطعة النظير، وقد ترجمت إلى لغات كثيرة، تاركة أثرها في أدب تلك اللغات. كما تم تهذيب حكاياتها، وإخراجها في صيغ تناسب فئة الأطفال، وعياً من رجال التربية بأهميتها لهم، بما تحمل من خيال خصب، وتشويق، وطرافة، فاشتهرت بين النشء حكـايــات السندبـاد، وحكاية علاء الديـن والمصباح، وحكاية أبي القاسم البغدادي... كما تم استلهام حكايات ألف ليلة وليلة لإنتاج أفلام سينمائية كثيرة

نمثل للأعمال التي ربطت شكسبير بألف ليلة وليلة بما يلي:
• مسرحية (العبرة بالخواتم) أو (كل شيء جيد ينتهي جيدا) التي يشار إلى أنه استلهمها من (الليالي العشر) لبوكاشيو5.

• مسرحية (عطيل)6، التي يظهر شبهها بحكاية (التفاحات الثلاث) ضمن حكايات ألف ليلة وليلة، وهي تحكي قصة قائد مغربي يدعى «عطيل» مع زوجه المسماة «ديدمونة». كما أن اسم عطيل هو تحريف إما عن (عبد الله) أو (عطا الله) الاسمين العربيين. وغالباً ما يشار إلى أن شكسبير استلهمها من قصة لجيوفاني باتيستا جيرالدي.

• مسرحية (ترويض السليطة)، حيث تبرز صورة سكير تائب لها وجود في حكايات الليالي.

وعموماً، فقد كانت معرفة شكسبير بالشرق، هي تلك المعرفة التي كانت شائعة بين أبناء عصره، والتي كونوها انطلاقا مما وصل إليهم من روايات عن الشرق، من خلال ما حمله الصليبيون العائدون، أو الرحالة، أو المغامرون. والشرق في أعمال شكسبير هو شرق أسطوري، حافل بالأسرار والخفايا، وهو شرق الطيور والأرواح والجنة؛ فقد كان شكسبير يلون ما وصله من روايات عن الشرق بصبغة الأساطير والخرافات7.
كما يلمس تأثير ألف ليلة وليلة في مسرح القرن السابع عشر، من خلال إخراج المشاهد المسرحية8.

حيث سادت الصور الشرقية الموحى بها من الليالي، علاوة على إغنائها بشخصيات شرقية طريفة. وفي هذا الصدد نستحضر أعمال المسرحي الفرنسي موليير، نمثل لها بمسرحيته (البورجوازي النبيل) التي عرفت حضوراً بارزاً للشخصيات الشرقية، علاوة على عناصر ثقافية أخرى ترتبط بالشرق كالأزياء.

أما القرن الثامن عشر، فيعتبر محطة مهمة في إطار البحث عن تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح الأوربي، إذ طرأت العديد من المستجدات التي زادت من مضاعفة اتصال الغرب بالشرق، فقد ازدادت مصالح الغرب في الشرق، خاصة المصالح التجارية، علاوة على التوسعات الاستعمارية لبعض الدول الأوربية، دون أن ننسى الرحلات التي قام بها العديد من الأعلام إلى الشرق، نمثل لذلك بكتاب (وصف الشرق لريتشارد بوكوك)، فقد قامت هذه الرحلات بتقديم صورة إكزوتيكية عجائبية عن الشرق كان لها واسع الأثر في خيال المبدعين، الذين تحمسوا للاطلاع على الأدب الشرقي في حكاياته، والتي تبقى حكايات ألف ليلة وليلة أبرزها. ونشير في هذا الصدد إلى أن من أوائل المسرحيات المتأثرة بحكايات ألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر، مسرحية: (الميراي أو النذر العربي) للسيدة مانلي التي ألفتها سنة 1707م.

أما الحدث الأكثر أهمية في إطار حديثنا عن حضور ألف ليلة وليلة في المسرح الأوربي، فهو الترجمة التي قام بها المستشرق كالان لحكايات ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية، ما بين 1704 و1713م.
وقد كان لهذه الترجمة مفعول سحري، إذ سرعان ما انتشرت هذه الحكايات، وسرعان ما توالت طبعاتها، وانكب الأوروبيون على ترجمتها إلى لغاتهم اللاتينية، والجرمانية، والسلافية. كما تحول الشرق في هذا القرن، إلى نموذج يستعين به مفكرو القرن الثامن عشر لكشف مساوئ واقعهم وعيوبه؛ نمثل لذلك بالرسائل الفارسية لمونتسكيوه.
وفيما يلي نذكر نماذج لمسرحيات من القرن الثامن عشر، استلهمت ألف ليلة وليلة:
- مسرحية (الميراي أو النذر العربي) للسيدة مانلي
- مسرحية (علاء الدين) لـ (لسينج)
- مسرحية (حلاق إشبيلية) لـ (بومارشي)

أما في القرن التاسع عشر، وهو قرن الرومانسية في بيئات أدبية عديدة بأوروبا، فقد سعى أدباء هذا القرن، خاصة الفرنسيين منهم، إلى البحث عن مصادر وحي جديدة، خارج البيئة الأوربية. وقد وجدوا مرادهم في الشرق بسحره، وروحانيته، وبساطته. فاستفادت ألف ليلة وليلة من هذا التوجه، وصار طبعها يتكاثر عاما بعد عام. ونتيجة لذلك، تم استلهامها في كتابة العديد من الأعمال المسرحية، نمثل لذلك بالأعمال التالية:
فقد تم اقتباس قصة علاء الدين من طرف العديد من الكتاب المسرحيين منهم:
- جلبير بيكسر يكور،و أوجين فانلو، ووليم بوزناخ
- مسرحية (لو كنت ملكا) لأدولف دينري
- مسرحية (ألف ليلة وليلة) لجول فيرن
- مسرحية (علاء الدين) لأولينشليكر
- ولا بأس أن نشير في هذا الصدد إلى مسرحية (أبو حسن) للأمريكي واشنطن أيرفينغ.

أما في القرن العشرين، فقد عرف في مطلعه ترجمة جديدة لألف ليلة وليلة. قام بها جوزيف شارل ماردروس سنة 1899م. والتي ادعى صاحبها، أنها أول ترجمة حرفية لليالي العربية.

أما تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح الأوروبي للقرن العشرين، فيصعب على الباحث حصره، نظراً للتطور الهائل لوسائل الاتصال، فقد أصبح التلفاز، والقنوات الفضائية، والحاسوب، والشبكة العنكبوتية، وغيرها... أكبر محارب للعزلة. كما أصبح الإنسان اليوم في غنى عن الرحلة إلى الآخر. بل صار الآخر، يأتي إليك ويسكن معك. فوسائل الاتصال بأنواعها المختلفة وسعت من دائرة التأثير والتأثر.

وفيما يلي نكتفي ببعض النماذج لمسرحيات أروبية من القرن العشرين استلهمت أحداثها من الليالي: فقد اقتبس سوبر فييل قصة شهرزاد، واقتبس سترندبرج قصة حذاء أبي القاسم الطنبوري، وألف جيمس فيلكر مسرحية (حسن). أضف إلى ذلك تأثير الليالي في الأعمال المسرحية للعديد من الأدباء كلوركا9 وغيره...

2 - سترندبرج والشرق
يعتبر سترندبرج (1849 ـ 1912م) من الكتاب السويديين الكبار، الذين حظوا بمكانة عالمية داخل حقل الأدب. فقد كان مسرحياً، وروائياً، وقاصاً، ورساماً. غير أنه برز أكثر في المجال المسرحي، من خلال غزارة إنتاجه، وعبر ابتكاره لأشكال مسرحية جديدة10.

ولد سترندبرج في أسرة كثيرة الأفراد، كان والده تاجراً من البورجوازية السويدية المتوسطة، أما والدته فكانت منحدرة من أسرة فقيرة، وقد ماتت في مستهل عقده الثاني.

اكتشف قدرته على الكتابة في العديد من المحاولات التي اختطت سنة 1869. لكن بداية شهرته ككاتب متميز، كانت بفضل تراجيديته (السيد أولوف)، وكذا عمله المتميز (الغرفة الحمراء) سنة 1879.

تأثر سترندبرج بالعديد من أعلام الفكر والأدب، لعل في طليعتهم نيتشه، وجون جاك روسو، وهيجو، وزولا. ومن الفكر الاسكندينافي نذكر :ببرو جورسن، وجوناس لي، ونيلس نيلسون.
أسس سترندبرج (مسرح الباطن)، حيث غاص في خفايا الباطن، من خلال تقديم العديد من الأعمال التي تعالج النفاق، والخداع، والزيف، والتضليل، والخوف وكذا التطرق إلى قضايا تهم الأسرة في بنيتها وأسباب تفككها. نذكر من بين المسرحيات التي مثلت هذا التوجه، مسرحية (العاصفة) ومسرحية (القفاز الأسود).

ارتأينا تماشياً مع موضوع هذه السطور، التركيز على جانب خاص من سيرة سترندبرج، وهو الجانب الذي يظهر علاقته بالشرق. وقد اجتهدنا في بيان هذه العلاقة، عبر الوقوف على عدة مؤثرات شرقية في مسرحه.

تجدر الإشارة، إلى أن مجموعة من الوظائف التي شغلها سترندبرج في مسار حياته، كانت سببا في توسيع معارفه ومداركه، كالاشتغال بالتدريس، والعمل بالمكتبة الوطنية والصحافة. علاوة على أنه كان مولعاً منذ صغره بالمطالعة، ودراسة العلوم؛ ساعده في ذلك جو الانضباط والمحافظة الذي كان يسود في الأسرة.

كما أتاح له اشتغاله بالمكتبة الوطنية على وجه الخصوص، احتكاكاً أكثر بالكتب، الشيء الذي أكسبه معرفة مهمة بتاريخ الثقافات والآداب المختلفة، والتي من بينها الثقافات الشرقية، خاصة في جانبها الروحاني، فقد وُجد في مكتبته الخاصة، عدد كبير من الكتب المتعلقة بالأدب الصوفي، وتاريخ الأديان، والميتولولجيا. ومن بين الكتب التي نمثل بها على تعرف سترندبرج على الحضارات الشرقية، كتاب (تاريخ الحضارات) لهنري توماس باكل. وتبقى كتابات سترندبرج المتنوعة، خير ما يظهر هذه الموسوعية في الاطلاع، والرحابة في المدارك.

لعل أبرز جانب يمثل اتصال سترندبرج بالثقافات الشرقية هو الجانب الديني، ويرجع ذلك إلى مرحلة خاصة من حياته، إذ تعرض سترندبرج في المراحل الأخيرة من عمره إلى أزمة نفسية عصيبة، دامت ما بين 1892 إلى 1898، اتجه بعدها إلى الاهتمام بالديانات، والتصوف، والفكر الديني عامة. كما قرأ للعديد من المفكرين الذين تناولوا الدين في كتاباتهم، مثل سوندبرج، وبلافاتسكي... علاوة على كتب في تاريخ الأديان، والميتولوجيا. وانتهى به المطاف إلى التوفيق بين عدة معتقدات Synkretist.

انعكس اهتمام سترندبرج بهذا الجانب على العديد من أعماله المسرحية، التي عرفت حضوراً لافتا للديانات الشرقية برموزها المختلفة، وفيما يلي نمثل بنموذجين من مسرحيات سترندبرج يبرز فيها هذا الجانب الذي تم الحديث عنه:

ففي مسرحية (لعبة الحلم) يظهر تأثر سترندبرج بالديانة الهندوسية. ذلك أن الآلهة الهندوسية (أندرا) تسعى إلى تحري الأسباب التي تجعل الناس دائمي الشكوى والمعاناة، لذا ترسل ابنتها (أغنس) آمرة إياها أن تقوم بجولة تجتمع فيها بأكبر عدد من الناس، كي تستمع إليهم، وتعاين أشكال معاناتهم الإنسانية ثم تعود. وفعلا تعود (أغنس) وقد وصلت إلى فكرة مؤداها ألا شفقة تجوز على هؤلاء الناس.

أما مسرحية (الطريق إلى دمشق) فنجد فيها حضوراً للديانة المسيحية. فالمسرحية عبارة عن رحلة في أعماق وخفايا بطل واحد مجهول، يقوم بالتخلي عن متاع الدنيا بكامله، ويتجه إلى دير للمسيحية، وهناك يكرس حياته لخدمة الإنسانية.

كما ساهم اطلاع سترندبرج على العديد من الأعمال الأدبية في زيادة تأثره بالشرق، وهي أعمال إما شرقية في انتماءها. أو أعمال غير شرقية كان حضور الشرق فيها بارزا. ولعل من أبرز الأعمال التي نوردها بهذا الصدد: اطلاع سترندبرج على قصص ألف ليلة وليلة، ويبقى أكبر دليل على ذلك هو مسرحيته (حذاء أبي القاسم) التي نحن بصدد تناولها. علاوة على اطلاعه12 على أعمال أدبية أخرى استلهمت قصص الليالي، كمسرحية (علاء الدين) لأولين شليكر. كما يظهر تأثره بالحكايات الشرقية في أعمال أخرى، مثل (رحلة بيير السعيد)(13).
يمكن أن نضيف إلى ما ذكرناه آنفاً، اطلاع سترندبرج كذلك على مؤلف الألماني غوته المعنون بـ (الديوان الشرقي للمؤلف العربي)، الذي تأثر فيه بالشعر الشرقي. سواء الفارسي منه، خصوصاً شعر حافظ الشيرازي وعمر الخيام، أو الشعر العربي، إذ تذكر كاترينا مومزن(14)، أنه تأثر بامرئ القيس وعنترة، والحارث بن حلزة، وحاتم الطائي، وقيس بن الملوح، ولبيد بن ربيعة... وتشير(15) نفس الباحثة إلى أن غوتة نفسه، قد تأثر بألف ليلة وليلة في العديد من أعماله، سواء في اعتماده للبناء الشكلي لليالي، أو التأثر بالمادة والموضوعات: من هذه الأعمال: (سنوات تجوال ملهم ماستر ـ أحاديث مهاجرين ألمان ـ نزوة عاشق – القسم الثاني من فاوست- الجزء الأخير من روايته (الأنساب المختارة)... وقد عالجت الباحثة هذه المسألة في مؤلف خاص يحمل عنوان (غوتة وألف ليلة وليلة). وعليه فاطلاع سترندبرج على بعض أعمال غوته ساهم في تمرير العديد من المؤثرات الشرقية إلى أعماله. ولعل ورود اسم زوليخا في مسرحية (حذاء أبي القاسم) يذكرنا بزوليخا الوارد ذكرها في مؤلفه (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)، والتي ترمز لحب غوته القديم لماريانا فون فلليمر.

لا يمكن الحديث عن علاقة سترندبرج بالشرق دون استحضار اهتمام سترندبرج باللغات الشرقية، حيث كان يجيد اللغة الصينية، ونفترض اطلاعه على أعمال من الأدب الصيني زادت من تقوية ارتباطه بثقافات الشرق. كما كان للغات الشرق حضور في كتابه (أصول لغات العالم).

3 - قصة حذاء أبي القاسم الطنبوي في مصادرها الأصلية
مسرحية «حذاء أبي القاسم»، من المسرحيات القصيرة التي كتبها سترندبرج أواخر حياته، إذ تحتل الأعمال الأدبية ذات الحجم الصغير نسبة مهمة من مجموع أعماله. وقد استلهم سترندبرج مسرحيته (حذاء أبي القاسم)، التي كتبت سنة 1908، من قصة حذاء أبي القاسم الطنبوري كإحدى القصص العربية، التي تعرف عليها الأوروبيون متضمنة في ترجمات الليالي إلى لغاتهم، نقصد بذلك ترجمة ماردروس، والترجمات التالية التي اعتمدتها. تحكي القصة الأصل، كما وردت في “ثمرات الأوراق” لابن حجة الحموي، أنه كان ببغداد شخص يدعى أبى القاسم الطنبوري. له حذاء عمّر عنده طويلاً، فكلما أصيب منه موضع جعل عليه رقعة، إلى أن صار في غاية الثقل، وصار مألوفاً لدى الناس. وذات يوم دخل أبو القاسم إلى سوق الزجاج، فنصحه أحد السماسرة بشراء حمل زجاج كاسد لأحد التجار، فاشتراه أبو القاسم عملاً بالنصيحة، ثم مضى إلى سوق العطارين، فنصحه سمسار آخر بشراء ماء ورد لتاجر على عجلة من أمره. فاشتراه أبو القاسم وملأ به الأواني الزجاجية المذهبة، ووضعها على رف من رفوف بيته. وحدث أن دخل يوماً الحمام ليغتسل، فنصحه بعض الأصدقاء بتغيير حذائه، لما به من شناعة. فلما خرج من الحمام، رأى بجانب حذائه، حذاءاً جديداً، فظن أن أحد أصدقائه اشتراه له هدية، فلبسه ومضى.

وكان ذلك الحذاء الجديد للقاضي، الذي صادف أن جاء ذلك اليوم إلى نفس الحمام. فلما خرج القاضي ولم يجد حذائه، سأل إن كان الذي أخذه قد ترك شيئا عوضه، فلما فتش لم يجد إلا حذاء أبي القاسم، فعرفه إذ كان يضرب به المثل (أثقل من حذاء أبي القاسم)، فأرسل القاضي مأموريه ليفتشوا بيت أبي القاسم، فوجدوا الحذاء الجديد، فعاقبه القاضي وغرَّمه، تأديباً له، ثم أطلقه. فقام أبو القاسم على إثر ذلك برمي حذائه في نهر دجلة. غير أن الحذاء وقع ضمن شباك أحد الصيادين، فحمله إلى بيت أبي القاسم. فلم يجده، فقرر رميه عبر النافذة، فسقط الحذاء على الرف الذي يحمل الأواني الزجاجية المحملة بماء الورد، فتكسر كل شيء. فقام أبو القاسم على إثر ذلك بحفر حفرة ليدفنه فيها، فسمعه الجيران فظنوه لصا ينقب، فأمسكوه وأحضروه إلى القاضي، فحبسه وغرَّمه.
فلما خرج من السجن حمل حذائه إلى الخان، فرماه في الكنيف، فتسبب ذلك في سد قصبة الكنيف ففاض، فاشتكى الناس من الرائحة الكريهة، فوجدوا السبب هو حذاء أبي القاسم، فوبخ الوالي أبى القاسم وغرَّمه.

ثم قرر أبو القاسم ألا يتخلى عن حذائه، فغسله وجعله على سطح بيته ليجف. غير أن كلبا حمله وعبر به إلى سطح بيت آخر، فسقط على امرأة حامل، فأسقطت حملها، فتم توبيخ أبي القاسم وعوض المرأة...
في النهاية أخذ أبو القاسم الحذاء إلى القاضي، وطلب منه أن يكتب بينه وبين الحذاء مبرأة شرعية على أن أحدهما ليس من الآخر.

غير أن الذي يهمنا في المسرحية، ليس تتبع مدى التزام سترندبرج بتفاصيل القصة العربية، كما وردت في «ثمرات الأوراق» لابن حجة الحموي، والتي تم إلحاقها بألف ليلة وليلة في ترجماتها إلى اللغات الأوروبية. بل سنقوم بالتركيز على علاقة الحب التي نشأت بين زوليخا الكارهة للرجال، والأمير كوري، والتي استقى سترندبرج معطياتها من الليالي أيضاً، لكن بإخراج جديد. مجتهدين في توضيح الارتباط بين تأليف المسرحية، والظروف الخاصة التي كان يعيشها المؤلف.

4 - الحب في المسرحية
كتب سترندبرج مسرحية (حذاء أبي القاسم) في ظروف خاصة، إذ تعرف على ممثلة تدعى فاني فالكنر، كان قد أسند إليها أحد الأدوار في مسرحيته (عيد الفصح). وقد كان تعرفه عليها سبباً في إقامته عند والديها في البرج الأزرق (ستوكهولم)، وهو آخر مسكن عاش فيه سترندبرج، وفيه نشأت علاقة حب بينه وبينها.

هناك قصة حب داخل هذه المسرحية، بين ابنة أبي القاسم (زوليخا) وأحد الأمراء. تحكي القصة أن زوليخا رأت في المنام رؤيا تحذرها من خيانة الرجال، فقررت أن تبقى بكراً طوال حياتها. لكن القدر شاء أن يقع أحد الأمراء في غرامها. فيشتد عليه الوضع ويتعذب، لينتهي به الأمر طريح الفراش، ويفكر حسن الإسكافي في حيلة تجمعهما. فيتم إلباس الأمير ملابس شيخ مسن، ويوضع في سرير أمام باب مسكن زوليخا، ويحدث أن تمر هي، فتأخذها الشفقة عليه. فتتناول زوليخا يده، فتكتشف أن نبضه سريع، تم تضع يدها فوق قلبه، فيتوقف القلب عن الخفقان، ثم يعود ثانية ليخفق. غير أن اللحظة المثيرة في المسرحية، هي عندما تلتقي عيناه بعينيها، فتقع زوليخا في شباك الهوى.
لننظر كيف وصف سترندبرج هذا المشهد من خلال ترجمة هذين المقطعيين:

المقطع الأول يكشف عن الحيلة التي اقترحها حسن للجمع بينهما.
(حسن:
أوحيت إلي بفكرة أيها الأمير كوري)...
الأمير:
قلها بسرعة!
حسن:
سمعا وطاعة!
حسن:
يوجد بمدينتنا تقليد قديم
عندما يكون رجل ما مريضاً ننزل
فراشه على الطريق أمام منزله (...)
الأمير:
أعرف هذا التقليد!
حسن:
وعندما يكون سرير المريض على الطريق
يتوقف المارون ويطلبون أخباراً عن صحته
والمريض يجيب بأنه على هذه الحال أو تلك

قم أيها الأمير ونم على هذا السرير
لأنك فعلا مريض ولا تحتاج إلى التظاهر
وترتيبٌ بسيط سيسهل الأمر
سنضع سريرك أمام بيتها16)

أما المقطع الثاني، فيكشف تطبيق هذه الحيلة، عبر استدراج زوليخا للقيام بنزهة بالمدينة رفقة الخادمة. وهناك ستمر بجانب سرير الأمير، فيحدث أن تسأل عن حاله. وعندها تقع ضحية الحيلة.
(حسن:
...( هناك مرضى بالمدينة
زوليخا:
بأي مرض يتعلق الأمر؟
حسن:
لا أنا ولا غيري يعرف شيئاً
يبكون ويتنهدون
لا يأكلون ولا يشربون
يبحثون عن ضياء القمر
يحسون بالوحدة
ويقال بأن هذا يصاحبه أيضاً
حكة كبيرة...)
يكتبون رسائل معطرة بالعنبر
يرسلونها سرا تحت عناية عبيدهم (...)
زوليخا:
أيها المهرج المسن. تقصد بكلامك المجانين، مرضى الحب!
حسن:
إنه ليس مرضا للسخرية
أيتها الآنسة الصغيرة. أنا نفسي عانيته
مرة، كان صعباً، أقول لك الصدق
زوليخا :
آوه! اسمع! أنت تضحكني!
حسن :
لا تضحكي ! الله أكبر ورحيم!
يمنح لأطفال الرجل هبة أن يحبوه
لكن إذا لم تتلقي عفوه، سيسلط عليك المرض
وحب بلا رجعة يمكن أن يعني الموت
زوليخا :
يا لك من رجل مخيف يا حسن!
حسن:
هذا صعب جداً! لكني مصاب بالملل هنا
وعلى عجلة من أمري أيضاً، لكن أنت يا آنستي
لما لا تذهبين للتنزه بالمدينة؟
سأذهب لآتي بأختي، خادمتك
أذهبي إذن معها لتتذوقي طراوة المساء
زوليخا:
أذهب، افعل ما تريد
لقد تعبت من زوليخا
(نحمل سرير الأمير ونضعه أمام الباب).
علي:
قمنا على التو بوضع سرير على الباب!
حسن:
سأذهب لأرى وأقترح المساعدة
أعرف جميع الآلام وأعرف الأدوية
الخادمة (تدخل):
أنا جاهزة آنستي الجميلة!
أنخرج في الحين؟ أم تريدين
أن تتناولي عشاءك؟
زوليخا :
سأخرج ساعة الغسق. حينما لا أكون مثقلة بخماري.
***
زوليخا:
وهذا المريض أهو رجل أم امرأة؟
حسن:
إنه رجل!
زوليخا:
أشاب هو؟
حسن :
آه آه! إنه كلب هرم!
سليمان:
حسن رجل شجاع! وأسفاه كيف أصبح كذابا!
زوليخا :
إذا كان مسناً جداً يمكنني المجيء لرؤيته
واحتمال كذلك أن أقدم له بعض الدعم
حسن :
يمكنك ذلك بالتأكيد! أنت ولا أحد غيرك!
(زوليخا تقترب من السرير، سليمان يقوم بإظهار إيحاءات رامزة)
زوليخا: (قرب السرير)
والآن ما حل بك
أيها الرجل الهرم؟
هو القلب؟ وكيف هو النبض، ناولني يدك!
الله أكبر! لديك حمى ويدك ترتجف، لكنها جميلة
بالنسبة لرجل هرم مثلك، دعني أجس نبضك
على القلب ! الأمر ليس على ما يرام
لقد توقف ! ها هو ينبض ثانية
النبض يبطأ، يتوقف، إنه يموت !
دعني أنظر في عينيك !
(زوليخا تحدق إذن في عينيه وتقع ضحية الحب)
«يا إبليس ! يا جني ! يا حسن يا نذل»
(تضع زوليخا يدها على قلبها):
أيها المحتال الآتي من أعماق الجحيم ! رحمتك يا ربي
حسن :
لقد وقعت في الحب.يا للفرحة! لقد أصاب السهم الجسد (الأمير ينهض، ينزع الملابس التي تخفى بها، ويرمي سترته بينما تركض زوليخا إلى الحديقة ويدها على قلبها...17).

5 - افتراضــات بخصـوص تأليـف المسـرحيـة

تحضر بالذهن عدة افتراضات تهم تأليف هذه المسرحية، كل واحد منها يركز على طرف معين يُفترض أنه أثر في إخراج العمل (المؤلف،فاني فالكر،المتلقي). فالمسرحية تثير فينا مجموعة من الأسئلة التي تدفع إلى اعتماد زوايا متنوعة في محاولة الإجابة عنها، من أبرزها:
ما هو السبب وراء تأليف المسرحية؟ هل قصد سترندبرج بعمله هذا فئة الأطفال؟ هل كان لعلاقة سترندبرج بفاني فالكنر تأثير على مضمون المسرحية؟

عاش المؤلف ظروفاً خاصة، يفترض أنها تركت أثرا على مضمون المسرحية. فقد كتب سترندبرج مسرحية (حذاء أبي القاسم)، بعد علاقة غرامية فاشلة، مما يدفعنا إلى البحث عن طبيعة علاقته بالمرأة.

اتسمت علاقة سترندبرج بالمرأة بتعقد المواقف، فتارة هو معها يساندها ويدافع عن حقوقها، كدفاعه عن حقها في المشاركة والتصويت. وتارة أخرى يحط من قيمتها. وقد كانت كتاباته المتنوعة، مجالا لعرض أحاسيسه ومواقفه اتجاه المرأة؛ نذكر منها للمثال لا الحصرـ مقالته الشهيرة (الكلمة الأخيرة في قضية المرأة). وكذا العديد من أعماله الأدبية كمجموعته القصصية (متزوج)، التي صور فيها المرأة كمخلوق مستبد، شرير، يستغل الرجل. وقد أثارت قضية علاقة سترندبرج بالمرأة اهتمام الكثير من الدارسين، الذين قدموا تأويلات مختلفة بخصوصها، لعل أبرز من نذكر في هذا الصدد، إيفور مارتينوس في كتابه (حب سترندبرج).

كان سترندبرج يحب أمه، ويميل إليها أكثر. وقد صور ذلك في عمله (ابن الخادمة)، حيث يظهر تأثيرها فيه، غير أن علاقته السيئة بالمرأة بدأت مع زوجة أبيه إميليا شارلوتا، التي تزوجها بعد وفاة أم سترندبرج. وقد كانت علاقة سترندبج بزوجة الأب علاقة سيئة، فقد كان يحمل لها الكثير من الكره.

كانت أولى النساء اللواتي أحبهن سترندبرج الممثلة سيري فان إيسن، التي تزوجها في 1877. وقد دام زواجه منها اثنتي عشرة سنة، وأنجب معها ثلاثة أطفال. ثم تزوج بعد ذلك بالصحفية فريدة يهل سنة 1893، ودام زواجه منها ثلاث سنوات، وأنجب منها طفلة واحدة. وثالث زواج لسترندبرج هو من الممثلة والمغنية هيريت بوسل سنة 1901. والتي لم يستمر زواجه معها إلا مدة قصيرة كسابقه، وأنجب منها طفلة واحدة.

تجدر الإشارة إلى أن سترندبرج، تعرف في آخر حياته على الممثلة والرسامة فاني فالكنر18، التي كان قد اختارها للقيام بدور في مسرحيته (عيد الفصح). وقد كان تعرفه عليها سببا في إقامته عند والديها في البرج الأزرق (ستوكهولم). عملت فاني مع سترندبرج في المسرح الحميم لبضع سنوات، لكنها اضطرت إلى المغادرة صوب كوبنهاكن، لما راجت شائعات زواجها منه. تركت فاني لمساتها على بعض أعمال سترندبرج، كما في مسرحية «حذاء أبي القاسم»، حيث وشت ظهر الغلاف بسورة قرآنية. كما أن لها مساهمة في نهاية مسرحية (الطريق الكبير)، وهو ما يذكرنا بالمساهمات الشعرية لمريانا فون فلليمر محبوبة غوته في ديوانه(الديوان الشرقي للمؤلف الغربي).

وعموما، تبقى جل أعمال سترندبرج حاملة لصورة سلبية عن المرأة. خصوصا المرأة المتحررة، التي ترفض الزواج. مع العلم أن زوليخا في مسرحية (حذاء أبي القاسم) ترفض الزواج لكن صورتها ظلت إيجابية !

يرى محمد عمر أن المشهد الذي صور زوليخا عند سرير الأمير، ما هو إلا رمز لعلاقة سترندبرج بفاني فالكنر، فما الشيخوخة إلا قناع (فأعماق روح الرجل الهرم تمور بالشباب، وزوليخا لا تحتاج إلا اكتناه سر عيون الأمير المتخفي تحت مسوح رجل هرم)(19). فسترندبرج كتب المسرحية تحت تأثير الحالة النفسية التي خلفها تمنع فاني فالكنر عليه. هذا الوضع النفسي يرتبط بمضمون السورة القرآنية التي وشي بها ظهرغلاف الطبعة الأولى:
«ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا. فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب»(20).

فالكاتب يتماهى مع مضمون السورة التي واست رسول الإسلام، كما تماهى من قبل ذلك (في عذابات المسيح، في النبي الذي أنهكه الفشل، فيجد عزاءً ودعما من الله «إن مع العسر يسرا» بمعنى أن سترندبرج ليس بحاجة إلى أن يكتئب، فهو سيفوز بقلب «فاني»، ويخرج من علته ويأسه)(21).

كما يمكن أن نفترض أن سترندبرج كتب مسرحيته هذه، تحت تأثير اطلاعه على ألف ليلة وليلة، خاصة قصة حذاء أبو القاسم الطنبوري، بعيداً عن أي تأثير لظروفه الخاصة، علاوة على توظيفه معطيات أخرى في المسرحية مستمدة من الليالي أيضاً، كالإحالة على قصة التاجر أحمد مثلاً. أو أنه كتب المسرحية تأثرا بقراءة أحد الأعمال المستلهمة لأحد قصص ألف ليلة وليلة، كمسرحية علاء الدين لأولينشليكر، الذي كان سترندبرج معجباً به22. فأراد بدوره أن يكتب عملا يستلهم فيه قصص ألف ليلة وليلة كما فعل كتاب كثيرون قبله.

نشير إلى أن التأويل السابق الذي قدمه محمد عمر، لم يستحضر أن السورة القرآنية التي وشي بها ظهر الغلاف، لم تكن من وضع سترندبرج، بل كانت من وضع فاني فالكنر، مما يدفعنا إلى التساؤل عن القصدية التي دفعت فاني إلى اختيار هذه السورة بعينها.

نفترض، أن تكون فاني فالكنر قد وشت ظهر الغلاف بتلك السورة القرآنية، من أجل مواساة سترندبرج، تعاطفاً معه، كما واست السورة رسول الإسلام من قبل. غير أن صحة هذا الافتراض ترتبط بمدى معرفة فاني فالكنر بالظروف التي سببت ظهور السورة، وهذا يتطلب أن تكون لديها ثقافة إسلامية واسعة، وهو أمر يصعب علي إثباته أو نفيه.

كما يجوز أن نفترض كذلك، توشية الغلاف بسورة قرآنية، كان القصد منه مجرد وضع عنصر ثقافي ينسجم مع المسرحية، التي تدور أحداثها في بيئة عربية إسلامية. وبالتالي فأي سورة قرآنية قصيرة الحجم، تصلح لهذه المهمة.
والواقع أن فاني فالكنر، كانت تتحرج من علاقتها بسترندبرج، خاصة أنه كان في عمر تجاوز فيه الستين سنة في حين أنها لم تجاوز هي سن العشرين بعد وهو ما يذكرنا بعلاقة غوته بمريانا التي أحبها بعد أن نيف على الستين كذلك، دون أن ينسينا هذا أن فاني كانت تحن عليه، وتكثر من زيارته23 في الشقة التي يسكنها ببيت والديها، علاوة على أنها كانت تخدمه في أمور أخرى، كجلب الطعام مثلاً. والدليل على تحرجها من هذه العلاقة، هو جوابها عن طلبه، عندما فاتحها في أمر الزواج، بطلب منحها بعض الوقت(24) للتفكير، ثم إنها اضطرت إلى السفر على كوبنهاكن، لما انتشرت شائعات زواجها من سترندبرج.
يمكن القول كذلك إن سترندبرج ألف مسرحيته لفئة خاصة من المتلقين، فالمسرحية عبارة عن حكاية للصغار والكبار. وبخصوص فئة الصغار، يمكن أن نفترض أنه ألفها لابنته كرستينن التي أنجبها من زواجه الثاني، فقد كانت دون العاشرة بقليل حينما كتبت المسرحية، وعليه، واعتماداً على معيار السن، تبقى كرستين هي المرشحة ـ من بين أبناء سترندبرج ـ لأن تكون الحافز وراء كتابة المسرحية، وهو سن يمكنها من قراءة وفهم هذا العمل الصغير.
وفي هذا الإطار يمكن القول كذلك، إن كون المسرحية موجهة لفئة الصغار ـ أو لابنته كرستين، جعلته لا ينشر أفكاره الخاصة بالمرأة، حفاظاً على نقاء ذهن الأطفال، وتماشياً مع المثالية التي تميزهم في هذا السن. علاوة على نشر قيم التعاطف، والإخلاص، والمحبة، والمساعدة التي مثلتها شخصية زوليخا.

تركيـب:
سعت هذه السطور، إلى بيان تأثر المسرح الأوروبي بألف ليلة وليلة، متناولة نموذج سترندبرج المسرحي السويدي، الذي عرف بكثرة إنتاجه الأدبي، وكذا تجديده في مجال المسرح.

تطلب إثبات هذا التأثير الحديث عن طبيعة علاقة سترندبرج بالشرق، من خلال علاقته بمؤلفات شرقية كألف ليلة وليلة، ومؤلفات غير شرقية كان الشرق حاضرا فيها بقوة، كالديوان الشرقي للمؤلف الغربي، وأعمال أخرى تم استلهامها من الليالي، كمسرحية علاء الدين لأولين شليكر، علاوة على ما نفترض أن سترندبرج قد اطلع عليه من الأدب الشرقي عامة، والأدب الصيني بشكل خاص، بحكم أنه كان متقنا للغة الصينية.

ثم انتقلنا إلى تناول المسرحية، التي يبقى عنوانها من الدلائل الواضحة التي تحيل إلى ألف ليلة وليلة، خاصة قصة حذاء أبي القاسم الطنبوري، التي تعرف عليها الأوروبيون من خلال ترجمة ماردروس لليالي العربية. ويتأكد هذا التأثر بقراءة المسرحية، التي اعتمدت الكثير من الأحداث الموجودة بالقصة الأصلية.

ارتأينا التركيز على علاقة الحب بين زوليخا والأمير كوري، والتي تم استقاء معطياتها من الليالي، لكن بإخراج جديد. والمهم في هذه العلاقة هو ما قد تحيل عليه. وهو ما حاولنا بيانه من خلال وضع العديد من الافتراضات.

هوامــش:
-1 من أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية: جماعة من المؤلفين، الهيئة العامة للتأليف والنشر، القاهرة1970، ص 77.
2 - نفسه، ص 78.
3 - نفسه ص 132.
4 - نفسه ص 134.
5 - عباس محمود العقاد. أثر العرب في الحضارة الغربية، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ب.ت، ص 56
-6 عباس محمد العقاد. الأعمال الكاملة، تراجم وسير، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط1، 1981، المجلد 19، ص 243 وما بعدها6
-7 نفسه ص 284 7
-8 سهير القلماوي.ألف ليلة وليلة، دار المعارف مصر، ط4،د.ت، ص 72 8
9 من أثر العرب والإسلام، ص 132.
10 جميع المعطيات الواردة في البحث عن السيرة الذاتية لسترندبرج تمت استفادتها من مرجعين:
l’affont-Bompiani , Dictionnaire des auteurs , ?ditions Robert Laffont 1980, page :403 -
- Wikipedia (suédois)
-11 خالد يونس خالد (الأديب السويدي المغامر في عالم الفكر والخيال: أوغست سترندبرج): موقع دروب، تاريخ الزيارة 14_4_2011: www.doroob.com
-12 August Strindberg. theâtre complet, tom 6, l’arche, paris1982, page : 29
-13 Ibid, page : 29
-14 كاترينا مومزن. غوتة والعالم العربي، ت: عدنان عباس علي، سلسلة: عالم المعرفة، عدد 194/1995، الكويت،ص 30، وما بعدها.
-15 نفسه. ص 18 وبعدها.
-16 Théâtre complet. p : 320-321
-17 Théâtre complet, p : 328-332.
18 Wikipedia (suédois)
19 محمد عمر. (موتيفات إسلامية لدى سترندبرج)، ت: سعيد الجعفر، موقع الحوار المتمدن، العدد 2053 -2007-9/29، المحور: الأدب والفن. تاريخ الزيارة 16/4/2011:.ahewar.orgwww
20 سورة (الشرح)، رقم 94 من القرآن. رواية ورش عن نافع
21 محمد عمر. (موتيفات إسلامية).
22 Théâtre complet, p. 29.
23 Théâtre complet, p : 15.
24 Théâtre complet, p : 15.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...