عبد الرحمن مصطفى - ألف ليلة وليلة... حكايات ضد المصادرة طباعة

[فوازير رمضان تحرك حنين الشباب إلى ألف ليلة وليلة] في مكتبة والده العامرة بالكتب التراثية والدينية اختار أحمد عبد الرؤوف مجلدا ضخما للاطلاع، حتى الآن يتذكر الطبيب الشاب المرة الأولى التي قرأ فيها "ألف ليلة وليلة" في طفولته، منذ ذلك الوقت ظلت تلك القصص محفورة في ذاكرته حتى حين.. "لم تكن مفهومة بالنسبة لي في هذا السن الصغير، صدمتني اللغة الصعبة، و لم تصدمني المفردات الجنسية الموجودة في بعض الحكايات، بعض الكتب الدينية في مكتبتنا كانت تحوى أيضا ما هو غير ملائم للصغار، لكن ما زاد فضولي تجاهها أكثر كان التسجيلات التي قدمتها الإذاعة لألف ليلة وليلة".
لم يكن أحمد على علم أنه على موعد جديد مع ألف ليلة وليلة وأن هذا اللقاء سيغير بعض أفكاره، قبل عامين فقط دفعه ولعه بتلك الحكايات إلى الانضمام إلى ورشة "قالت الراوية" التي تنظمها مؤسسة المرأة والذاكرة، حيث تعتمد على إعادة كتابتها من وجهة نظر المرأة وتناول ما تتعرض له المرأة من صورة سلبية في ثنايا الحكايات. يقول أحمد : "أبهرتني تلك اللعبة وفكرة متابعة جزء محدد في الحكايات، وتحولت إعادة كتابة القصص المسلية التي قرأتها في مكتبة العائلة إلى نافذة جديدة أطل منها على كل حكاية وقصة بعد ذلك، خاصة حين لفت نظري أن دور المرأة في ألف ليلة وليلة محصور بين الحبيبة التابعة للبطل أو الشخصية المتآمرة" . يضيف ضاحكا : "لم يكن هناك أي موقف إيجابي سوى في قصة الغولة – لاحظ الاسم- التي ساندت أحد أبطال الحكايات". لم يكن أحمد مستسلما تماما لقواعد الورشة التدريبية في إعادة رسم صورة المرأة في ألف ليلة وليلة بشكل إيجابي، بل بدأ في التعامل مع الأمر بشكل آخر. يوضح ذلك: "اللعبة التي جربتها دفعتني إلى أن أعكس الفكرة، لماذا لا نتعرض أيضا إلى صورة الرجل؟ ألم تظلمه الحكايات وقدمته أحيانا بشكل سلبي؟". ألف ليلة وليلة لم تعد بالنسبة إلى أحمد بعد تلك التجربة مجرد حكايات لم يفهم أغلبها في الصغر، بل تحولت إلى تجربة أثرت في تفكيره الشخصي. اليوم يعمل طبيبا نفسيا يطبق أسلوبا علاجيا على مرضاه من الأطفال متأثرا بفكرة "اللعب مع الحكاية"، يشرح ذلك : "لماذا لا يضع الطفل نفسه مكان الشاطر حسن أو علاء الدين ويصيغ الحكاية حسبما يرى.؟، ولماذا لا نحول مواقف حياته إلى حكاية يعيد هو تشكيلها حسب قواعد العلاج بالسايكودراما؟"، يعمل أحمد اليوم في هذا الاتجاه مدينا بالفضل لألف ليلة وليلة التي تطور معها على مدار السنوات. لكن آخرين مازالوا يرونها بشكل مختلف عما رآه أحمد.
على الانترنت يحكي أحدهم قصة أخرى قائلا "لأن جدي كان يحكي لي بعض قصص ألف ليلة وليلة ويسمعني البعض الأخر، أخذت أبحث في الشرائط القديمة عن هذه الحلقات المسجلة حتى وجدت بعضها، و أرجو أن تكون في ميزان حسنات جدي - رحمه الله - فهو صاحب هذه التسجيلات في الأساس..". الاقتباس دونه أحد رواد منتدى سماعي الشهير في موضوع نشر فيه ملفات صوتية لحلقات ألف ليلة وليلة الإذاعية، هذا العضو الوفي لذكرى جده يشاركه العديد من مستخدمي الانترنت الذين نشروا حنينهم ومحبتهم لحلقات ألف ليلة وليلة الإذاعية والتلفزيونية على السواء، فبمجرد أن بدأ هو في تحميل الحلقات على الانترنت شاركه آخرون، وكذلك كان الحال خارج هذا المنتدى. في شبكة فيسبوك الاجتماعية دشن أحدهم قبل عدة أشهر فقط صفحة تحت عنوان "حلقات ألف ليلة وليلة الإذاعية" تبنى فيها نشر تلك الحلقات الإذاعية على الصفحة وفي مدونته الأصلية فعل نفس الشيء حيث يتلقى عبارات الاستحسان من زواره، وفي صفحة أخرى تحت عنوان "ألف ليلة وليلة" حيث مئات الأعضاء ازداد النقاش سخونة حول ما أثير مؤخرا حول دعوى رفعها عدد من المحامين لمصادرة الطبعة الأخيرة من ألف ليلة وليلة التي صدرت عن هيئة قصور الثقافة، وجدها البعض فرصة للتعريف بالحكايات، وبدؤوا في الإشارة إلى جهد بذله آخرون في إعادة كتابتها على الانترنت في نسخة مجانية على موقع "wikisource.org". وكشفت التعليقات نشاطا واهتماما بالحكايات لم يكن ملحوظا من قبل.

بعيدا عن عالم الانترنت الافتراضي، وتحديدا في سور الأزبكية بالعتبة يجلس أحمد علي شعبان في دكان ضيق مليء بالكتب التراثية قرب سلم مترو الأنفاق، كان عنوان "ألف ليلة وليلة" كافيا لرسم ابتسامة على وجهه، موضحا بلهجة رجل مطلع على أحوال الكتب : "مع كل أزمة يمر أحدهم طارحا هذا السؤال: عندك كتاب ألف ليلة وليلة؟، طب بكام ..؟، ثم ينصرف إلى حاله". لم يكن هذا الموقف جديدا عليه فقد مر به من قبل في حقبة الثمانينات حين نجح بعض المتشددين دينيا في استصدار قرار بمصادرة "الليالي" عام 1985، لكن حكم المحاكمة سرعان ما ألغي في العام التالي، وكان العنوان الكبير دائما في مهاجمة الكتاب هو وجود بعض الألفاظ الجنسية الصريحة. قد يتميز أحمد علي شعبان على بقية زملائه من تجار سور الأزبكية بأنه يكاد يكون حافظا لنصوص الحكايات المثيرة للجدل، وتحديدا قصة (الحمال والبنات الأربع) في ألف ليلة وليلة التي أعاد إلقائها مشيرا إلى كتب أخرى تحمل مثل تلك الألفاظ لا يهتم بها أحد، يعلق : "هناك كتب مثيرة للجدل طوال العام مثل رجوع الشيخ إلى صباه الذي يتخذ الجنس محورا مهما فيه، لكن ألف ليلة وليلة ينشط السؤال عنها في أوقات الأزمات حين يتضاعف ثمن النسخة إلى خمسة أضعاف، لكن مؤخرا التهمت الانترنت شريحة من زبائننا.. خاصة من الشباب".
بعض هؤلاء الشباب الذين يتحدث عنهم الحاج أحمد تاجر الكتب بسور الأزبكية انتشرت بين مدوناتهم مؤخرا نسخا الكترونية من ألف ليلة وليلة بشكل مفاجئ، حيث تصدرت واجهة مدوناتهم صورة طبعة بولاق التي نسخت عام 1935 بورقها الأصفر المميز، وكان أغلبهم قد نقلها عن النسخة التي أتاحتها جامعة "تورونتو" الكندية على الانترنت من أجل الأغراض العلمية، ولم يكتف البعض بذلك بل زادت حالة الهوس المفاجئ من سخونة عناوين موضوعاتهم مثل "نسخة ألف ليلة وليلة – للكبار فقط"، واندفع أحدهم متصورا في خضم الجدل على الانترنت أنه قد تمت مصادرة ألف ليلة وليلة من الأسواق فكتب على مدونته "تحميل كتاب ألف ليلة وليلة - النسخة الأصلية - التي تمت مصادرتها - للكبار فقط " في حين أنها لم تكن قد صودرت طوال الأسابيع الماضية.
بين المدونات والفيسبوك تبادل الشباب إحياء ذكرى ألف ليلة وليلة وإنعاش ذاكرة الطفولة في مجموعة "ذكريات من السبعينات للتسعينات" الذي يشارك به حوالي 12 ألف عضو، داخل شبكة فيسبوك الاجتماعية يتذكر احمد حمزة أحد الأعضاء تأثير ألف ليلة وليلة التلفزيونية على أبناء جيله في ذلك الوقت : "أنا فاكر ناس كتير كانت بتتكلم بالسجع في كل كلامها تحت تأثير ألف ليلة وليلة". المراهنة على ذاكرة المصريين في علاقتهم بالليالي قد تكون مراهنة رابحة، خاصة حين ينتقل مجال البحث بعيدا عن عالم الانترنت والإذاعة والتلفزيون إلى الحكايات الشعبية، هذا ما يؤكده الدكتور خالد أبو الليل المدرس بقسم اللغة العربية في جامعة القاهرة من خلال تجربته في جمع الحكايات الشعبية الباقية على ألسنة أهالي القرى والمدن في بحثه الذي نال به درجة الماجستير. في رحلة البحث عن "الحكايات الشعبية" في محافظة الفيوم تعامل مع الأمي والمتعلم على السواء، واستدعي من ذاكرتهم تلك الحكايات التي اعتبروها شأنا شخصيا قد لا يهم أحد. "كنت أسألهم عن مصادر حكاياتهم، البعض لا يعرف سوى ما نقله عن أجداده، وآخرون تحدثوا عن كتاب قديم للحكايات في منزلهم"، ما فاجأه أثناء رحلة جمعه للحكايات الشعبية هو تطابق بعض تلك الحكايات مع حكايات شهيرة من ألف ليلة وليلة، بعضها تغيرت فيه أسماء الأبطال، وأخرى ظلت كما هي، يرى الدكتور خالد أبوالليل أن "الأمر يستحق مشروع كامل لجمع حكايتنا الشعبية من المحافظات المختلفة، وهو ما قد يوفر مادة لباحثين آخرين يعملوا على دراسة العلاقة بين حكاياتنا اليوم وألف ليلة وليلة القديمة".

[البعض اتجه إلى إعادة قراءة صورة المرأة في الحكايات]

في كتابات الرحالة والمؤرخين لاحظ بعضهم ذلك الطقس الشهير في حياة المصريين خاصة بين أهل الريف في الحرص على سماع حكايات ألف ليلة وليلة إلى جانب السير الشعبية الأخرى، وهو ما يعلق عليه الدكتور عبد الرحيم عبدالرحمن في كتابه "الريف المصري في القرن الثامن عشر" (مكتبة مدبولي - 1986)، في أن الناس وجدوا في هذه القصص بعض القيم التي يريدون تطبيقها في حياتهم الاجتماعية. يذكر الدكتور خال أبو الليل أن الحكايات التي جمعها في بحثه انقسمت إلى أربع أنواع، لكل نوع وظيفته، الحدوتة: التي كانت ترويها في الغالب المرأة حيث تعتمد على الخيال وبعض الخرافات، بينما المثلات: هي القصص التي يحكيها الرجل في الغالب مستنتجا بها أصل المثل الشعبي الرائج بين الناس وهو ما وجد فيها بعض التشابه مع قصص ألف ليلة وليلة، والسهراية: وهي حكايات السمر، بينما الحديث: هو الحكاية ذات الطابع الديني. يضيف : "ألف ليلة وليلة التي تسللت إلى بقايا حكاياتنا الشعبية التي تروى في الجلسات الضيقة وعلى ألسنة الأمهات، تخطت هذا الحاجز وانتصرت طوال السنوات الماضية بالصور التي رسمتها في مخيلة الناس، حتى اليوم اسم شهرزاد سواء إن كان على لافتة مطعم أو غلاف كتاب هو رمز المرأة الراوية المنتصرة، وأشهر مثال على ذلك صورة هارون الرشيد التي رسمتها الليالي ووجدناها في الحكايات الشعبية حتى اليوم، هي صورة مختلفة تماما عن الواقع التاريخي.. وهو ما يؤكد انتصار ألف ليلة وليلة على من يحاول مصادرتها، فمن الصعب مصادرة ذاكرة الناس".

.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...