نقوس المهدي
كاتب
> العودة الى كتابات أبي حيان التوحيدي، مثل العودة الي كتابات الجاحظ، قبله، لا تذكرنا بأستاذَي "النثر الفني" وحسب في العربية، وإنما أيضاً - وربما هذا بسبب ذاك - بشيء يتعدى الأسلوب نفسه، أو الأداء، وهو مقاصد القول وأغراضه، وتذكرنا كذلك بصلة قلما نعرفها قديماً بين الكاتب نفسه وبين زمانه. فنحن قليلاً ما نقع في كتابات سابقي التوحيدي ولاحقيه على هذه العلاقة المشدودة الأسباب بين ما يجري في زمانه وما يطلبه منه" وهي علاقة تجد سبباً للتأليف في ما يجري أمامها من جدل وقضايا، أو في التعبير عن أحوال النفس ومكابداتها، أو في التشكي مما يعرضه الدهر من أحوال وظروف وحظوظ عليها. عدا أن الكتابة تتحول في هذه الحالة الى ملجأ، الى حديقة سرية، الى خشبة مسرحية تتعرى فيها النفس، وتتواجه بما يصيبها، في حركة تستعيد فيها شيئاً من اعتدادها بدعواها لنفسها بفعل الكتابة نفسه، إذ تعوض الكتابة للنفس ما فاتها في الدهر.
ذلك أن ما باشره الجاحظ - مثل رصد أحوال زمنه من لباس ونطق ومعتقدات وغيرها - لم يكن ممنوعاً على غيره، بدليل أن أحداً لم يعترض على مثل هذا المسعى، لكن أحداً لم يتبعه بالمقابل: فهل ما اتبعه يمكن حسبانه في عدم التقيد وحسب ب"تقاليد" كتابية سارية، مثل تجميع "مرجعية الفصاحة" جمع اللغة في نادرها ووحشيها، وأنساب العرب و"أيامهم"، أو مثل "التصنيف" نفسه، الذي هو درجة أعلى في التجميع وفرزه في آن؟
هل كانت تقوى "عين" المؤلف على إشاحة ما كان يعرض عليها من سبل في النظر، متاحة ومرغوبة كذلك في إطار تبادلات المجتمع، بما فيها المجالس عند النافذين والحلقات بين المتعلمين؟ وهل كان يقوى المؤلف نفسه على أن يكون "مؤلفاً"، لا جامعاً ولا مصنفاً وحسب، وأن يقيم علاقات شفافية بين الكتابة ومعطيات ومعروضات ما يحدث أمام ناظريه؟
نثير هذه الأسئلة وربما غيرها، لكننا نخشى أن لا تكون تاريخية، بل مسقطة على زمن آخر، تبعاً لما يصيبنا في زماننا - زمن هذه المقالة - من هواجس وتساؤلات حول التأليف ومبنى النص، بل "منطق" التأليف نفسه: عذرنا الوحيد في ذلك هو أننا لا نعرف الوحشة عند قراءة كتب التوحيدي، ولا سيما "كتاب الإمتاع والمؤانسة"، بخلاف غيرها من الكتب القديمة، التي تبدو لنا محكومة بحسابات واعتبارات وتقاليد بعيدة، حتى لا نقول محكمة الإبعاد، عن تصورنا الراهن للكتابة والمؤلف.
وقد يعود سبب الألفة مع هذا الكتاب الى طبيعة الشروط التي تقيد بها، بل وقائعه نفسها. فهو مجموع "عقد كتابي"، أو تراسلي، جرى بين التوحيدي وأبي الوفاء البوزجاني المهندس، وقضى بأن يكتب التوحيدي وقائع المحاورات التي دارت في مجالس الوزير أبي عبدالله العارض، بعد أن سعى البوزجاني الى تقريب التوحيدي منه، وإرساله اليه لهذا الغرض بالذات. فالكتاب في مبناه العام ثلاثة أجزاء موجهة الى البوزجاني، يعرض فيها ما جرى في ليالي المجلس من مسامرات مختلفة، وهي مسامرات طلبها الوزير، أو عينها بنفسه، في غالب الأحوال، وأراد البوزجاني بدوره الإطلاع عليها والاستفادة منها، حتى كأني "كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما، أو متوسطاً بينكما". وبفضل موجبات هذا العقد الكتابي وصلنا كتاب التوحيدي، وسلم من عثرات الدهر، ومن حرق التوحيدي نفسه لبعض مؤلفاته، على ما تقول الأخبار عنه.
وما يستدعي وقوفنا في الكتاب كونه ينبىء عن طريقة وضعه، في غير موضع، وتتكشف فيها طرق في الرتق والجمع والحفظ والتدوين والتزويق وغيرها. وأول ما يشد انتباهنا في هذه "السياقة" كما يستعملها التوحيدي، هي و"السياق" أيضاً في كتابه هذا هو أن التوحيدي يؤدي أدواراً مختلفة في الكتابة، منها يعود الى ما نقله عن أساتذته، مثل أبي سليمان المنطقي السجستاني وغيره ممن تحفل بهم المسامرات. وهو ما غاب عن عدد من الكتاب المعاصرين ممن ساقوا أقوالاً من كتب التوحيدي، عن الطبيعة والصناعة على سبيل المثال، من دون أن ينتبهوا الى أن التوحيدي ناقل لكلام غيره في هذا المجال، لا واضعه بأية حال. وهذا ما يتضح في عدد من كتب التوحيدي الأخرى، وما يعود - في جملة ما يعود اليه - الى أن التوحيدي كان "وراقاً"، ينسخ الكتب والرسائل لغيره، ولنفسه من دون شك. وهو ما نتحقق منه في هذا الكتاب، وإن في صورة غير جلية تماماً، وهو أن التوحيدي في مسامراته العلمية هذه كان يحتفظ معه بمواد مخطوطة جمعها هنا وهناك، أو أخذها من مخطوطات غيره، عن أساتذته، وعن مناقشاتهم، وهو ما كان يجمعه في "رقع" للتلاوة في مجلس الوزير، تبعاً للطلب.
إلا أن هذا التجميع مختلف عما عرفه سابقوه من مؤلفين ولاحقين أيضاً، ذلك أنه أخذٌ ثقافي، إذا جاز القول، بمعنى أنه يعمل على الاحتكاك والتفاعل والجدال، ما يقربه من "مثقفي" اليوم. ففي غير موضع يوضح لنا أنه لم "يحفظ" ما يقوله وهي طريقة القدماء في "الرواية"، بل أخذه عن غيره ممن حضروا المناقشات هذه: "ولكن كتبَ ذلك أقوام حضروا، في ألواح كانت معهم ومحابر، وقد اختل علي كثير منه"، عارضاً أحياناً لموقفه "الوسيط" في هذه العملية الثقافية: "كلٌ قد قال ما عنده بقدر قوته ولحظه، وأنا آتي بما أحفظه وأرويه"
والكتاب يخبرنا كذلك، لا عن مصادره وحسب، وإنما عن طريقة صنعه الفني والتأليفي كذلك. فبعض مواد الكتاب مجموعة في مدونات خطها التوحيدي بنفسه أو خطها عن غيره، وبعضها الآخر منقول "من جهة المعنى" وحسب، حسبما يقول، أي أن التوحيدي حفظها وصاغها هو بلفظه. كما نتحقق كذلك من أنه كان يعد لكل ليلة "رقعاً" يجمع فيها المواد المطلوبة لليلة نفسها. وفي الكتاب إشارة لطيفة الى قربى هذه "الليالي" من "ألف ليلة وليلة"، وإن كان يذكرها في اسمها الفارسي، "هزار أفسانه" المعروف في عهده، وفي معرض الحديث عن الخرافات: هنا، الليالي تتحدث، بخلاف حكايات شهرزاد، عن مسامرات المعرفة" وهنا الراوي، أي التوحيدي، يكابد شرطاً لا يقل امتهاناً للنفس عما عرفته شهرزاد نفسها، وهو أنه ملزم بتقديم مواد لكل ليلة مما يرضي الوزير ويوفر له المال اللازم. وهو ما تصرخ به صفحات الكتاب الأخيرة، إذ نتحقق من أن التوحيدي لم يكن أكيداً بعد من حصوله على الهدية.
هكذا يتضح لنا أن الكتابة رتق وتجميع و"زبرجة" أيضاً، كما يقول التوحيدي، أي إعادة صوغ وتزيين. فهو لا يكتفي بإيراد الكلام، مثلما ورد اليه، بل يصوغه من جديد: يفيدنا في مطلع الجزء الثاني، في معرض حديثه لأبي الوفاء عن إرساله إليه الجزء الأول، انه سرد الأحاديث كما دارت في المجلس، إلا أنه "زبرجها" أي زينها أيضاً. وهذا ما يصح أيضاً في "ترتيب" الكتاب، في تدبير نسق له من التتابع، حيث يفيدنا التوحيدي أنه لم يأخذ بعين الاعتبار ورود الكلام في المسامرة نفسها، بل انتظام الكتابة وفق مقتضيات تأليفية. فهو يختم الجزء الأول بالقول: "غير عائج على ترتيب يحفظ صورة التصنيف على العادة الجارية لأهله". وهو ما يعرضه في صورة أوضح في هذه العبارات: "ولما كان قصدي فيما أعرضه عليك، وألقيه إليك، أن يبقى الحديث بعدي وبعدك، لم أجد بداً من تنسيق يزدان به الحديث، وإصلاحٍ يحسن معه المغزى، وتكلفٍ يبلغ بالمراد الغاية". يعرض لنا "كتاب الإمتاع والمؤانسة" الظروف الحوارية، التراسلية، التي خضع لها وتحكمت بظروف تأليفه كما يمواده أيضاً. وهي صورة عن حال "المؤلف"، لا في تبعيته القاسية للوزير وحسب، بل في تبرمه من ضرورة أن يكون "ناقل" أخبار لا يريدها عن أساتذته، وعن أخبارهم الداخلية: نراه في موضع في الكتاب يتذمر من اضطراره الى نقل ما يقوله بعض الكتاب عن الوزير نفسه، ولا يرضيه في ذلك دفاع الوزير عن مثل هذه الحاجة، إذ يطلب الوزير في أن تكون له أياد تساعده في عمل ما يريد، وعيون تعينه على الرؤية حيث لا يكون، وغيرها من الأعضاء-الوظائف التي تجعل جسد الوزير جسد الإمارة، بل جسد المأمورين أنفسهم، فلا يفصل أبداً بينه وبينهم، حيث أنهم هو، ولا وجود لهم بدونه وخارجه. يعرض لنا الكتاب ظروفه الحوارية التي يندرج فيها، ومنها أنه نتاج دورة من المعاني والتبادلات واقعة في المجلس: هذا يصح في مجالس الخلفاء والوزراء والنافذين عموماً، كما في "مجالس العلماء" ما يشير اليه صراحة كتاب الزجاجي الذي يحمل الاسم نفسه. فغير كتاب قديم في العربية ليس تجميعاً، ولا تصنيفاً، ولا تفكراً، في مسألة أو موضوع، بقدر ما هو مجموع جولات ومداورات حول المعنى، انعقدت أطرافه في مجلس أو حلقة، في القصر او في الجامع. وهو ما يشير الى الأنماط الاجتماعية والمعرفية في آن التي تولدت فيها الأفكار والقيم، ما يدعونا الى النظر الى فكرة التأليف والمؤلف نفسها نظرة مختلفة، ترينا على سبيل المثال أن بعض الكتب - ومنها كتابنا، وفي صورة جزئية - لا يعدو كونه "مدونة" تحمل أو تدون أقوال شخص أو أشخاص غير المؤلف نفسه.
هكذا كان المؤلف ناقلاً وخاضعاً في آن لتقاليد في الكتابة، هي جالبة الاعتبار، وخاضعاً في الوقت عينه لتقاليد في العيش والتأليف تربطه بدورة النافذين: كيف لا وبعض الفلاسفة تقيدوا بهذه الشروط، قبل الشعراء والناثرين، إذ وجهوا حاصل تفكرهم الفلسفي الى هذا الخليفة أو الوزير أو ذاك. لهذا قلما نجد شكوى، مثل التي بلغ عنها المتنبي أحياناً في شعره، أو التوحيدي في هذا الكتاب، عن مثل هذه الشروط القاهرة.
في مواضع مختلفة، في كيفيات مواربة وصريحة، يحدثنا التوحيدي عن شفافية وتراسل، بينه وبين نفسه، بل نجدها في هيئة فئة من الكتاب الذين يصفهم في هذه العبارات: "ومنهم طائفة أخرى قد عكفوا في بيوتهم على ما يعنيهم من أحوال نفسهم، في تزجية عيشهم ... لكن اليأس قد غلب عليهم ... ورأوا أن سف التراب أخف من الوقوف على الأبواب، إذا دنوا منها دُفعوا عنها". هو الذي يصف أحواله في صورة أصرح في خاتمة الكتاب، في كلام موجه مباشرة الى البوزجاني: "قد أذلني السفر من بلد الى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني".
وحشة التوحيدي تقربه منا، وترينا أن الكتابة في شفافيتها الموجعة "تراسلنا" أينما كنا، وأياً كنا: أهو تعويضنا المتأخر - ومنه الاحتفال بألفيته - عن وحشته القاهرة، هو الذي قال: "العزلة محمودة إلا أنها محتاجة للكفاية، والقناعة مزة :الخمرة الطيبة الطعم فكهة ولكنها فقيرة الى البلغة، وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة
ذلك أن ما باشره الجاحظ - مثل رصد أحوال زمنه من لباس ونطق ومعتقدات وغيرها - لم يكن ممنوعاً على غيره، بدليل أن أحداً لم يعترض على مثل هذا المسعى، لكن أحداً لم يتبعه بالمقابل: فهل ما اتبعه يمكن حسبانه في عدم التقيد وحسب ب"تقاليد" كتابية سارية، مثل تجميع "مرجعية الفصاحة" جمع اللغة في نادرها ووحشيها، وأنساب العرب و"أيامهم"، أو مثل "التصنيف" نفسه، الذي هو درجة أعلى في التجميع وفرزه في آن؟
هل كانت تقوى "عين" المؤلف على إشاحة ما كان يعرض عليها من سبل في النظر، متاحة ومرغوبة كذلك في إطار تبادلات المجتمع، بما فيها المجالس عند النافذين والحلقات بين المتعلمين؟ وهل كان يقوى المؤلف نفسه على أن يكون "مؤلفاً"، لا جامعاً ولا مصنفاً وحسب، وأن يقيم علاقات شفافية بين الكتابة ومعطيات ومعروضات ما يحدث أمام ناظريه؟
نثير هذه الأسئلة وربما غيرها، لكننا نخشى أن لا تكون تاريخية، بل مسقطة على زمن آخر، تبعاً لما يصيبنا في زماننا - زمن هذه المقالة - من هواجس وتساؤلات حول التأليف ومبنى النص، بل "منطق" التأليف نفسه: عذرنا الوحيد في ذلك هو أننا لا نعرف الوحشة عند قراءة كتب التوحيدي، ولا سيما "كتاب الإمتاع والمؤانسة"، بخلاف غيرها من الكتب القديمة، التي تبدو لنا محكومة بحسابات واعتبارات وتقاليد بعيدة، حتى لا نقول محكمة الإبعاد، عن تصورنا الراهن للكتابة والمؤلف.
وقد يعود سبب الألفة مع هذا الكتاب الى طبيعة الشروط التي تقيد بها، بل وقائعه نفسها. فهو مجموع "عقد كتابي"، أو تراسلي، جرى بين التوحيدي وأبي الوفاء البوزجاني المهندس، وقضى بأن يكتب التوحيدي وقائع المحاورات التي دارت في مجالس الوزير أبي عبدالله العارض، بعد أن سعى البوزجاني الى تقريب التوحيدي منه، وإرساله اليه لهذا الغرض بالذات. فالكتاب في مبناه العام ثلاثة أجزاء موجهة الى البوزجاني، يعرض فيها ما جرى في ليالي المجلس من مسامرات مختلفة، وهي مسامرات طلبها الوزير، أو عينها بنفسه، في غالب الأحوال، وأراد البوزجاني بدوره الإطلاع عليها والاستفادة منها، حتى كأني "كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما، أو متوسطاً بينكما". وبفضل موجبات هذا العقد الكتابي وصلنا كتاب التوحيدي، وسلم من عثرات الدهر، ومن حرق التوحيدي نفسه لبعض مؤلفاته، على ما تقول الأخبار عنه.
وما يستدعي وقوفنا في الكتاب كونه ينبىء عن طريقة وضعه، في غير موضع، وتتكشف فيها طرق في الرتق والجمع والحفظ والتدوين والتزويق وغيرها. وأول ما يشد انتباهنا في هذه "السياقة" كما يستعملها التوحيدي، هي و"السياق" أيضاً في كتابه هذا هو أن التوحيدي يؤدي أدواراً مختلفة في الكتابة، منها يعود الى ما نقله عن أساتذته، مثل أبي سليمان المنطقي السجستاني وغيره ممن تحفل بهم المسامرات. وهو ما غاب عن عدد من الكتاب المعاصرين ممن ساقوا أقوالاً من كتب التوحيدي، عن الطبيعة والصناعة على سبيل المثال، من دون أن ينتبهوا الى أن التوحيدي ناقل لكلام غيره في هذا المجال، لا واضعه بأية حال. وهذا ما يتضح في عدد من كتب التوحيدي الأخرى، وما يعود - في جملة ما يعود اليه - الى أن التوحيدي كان "وراقاً"، ينسخ الكتب والرسائل لغيره، ولنفسه من دون شك. وهو ما نتحقق منه في هذا الكتاب، وإن في صورة غير جلية تماماً، وهو أن التوحيدي في مسامراته العلمية هذه كان يحتفظ معه بمواد مخطوطة جمعها هنا وهناك، أو أخذها من مخطوطات غيره، عن أساتذته، وعن مناقشاتهم، وهو ما كان يجمعه في "رقع" للتلاوة في مجلس الوزير، تبعاً للطلب.
إلا أن هذا التجميع مختلف عما عرفه سابقوه من مؤلفين ولاحقين أيضاً، ذلك أنه أخذٌ ثقافي، إذا جاز القول، بمعنى أنه يعمل على الاحتكاك والتفاعل والجدال، ما يقربه من "مثقفي" اليوم. ففي غير موضع يوضح لنا أنه لم "يحفظ" ما يقوله وهي طريقة القدماء في "الرواية"، بل أخذه عن غيره ممن حضروا المناقشات هذه: "ولكن كتبَ ذلك أقوام حضروا، في ألواح كانت معهم ومحابر، وقد اختل علي كثير منه"، عارضاً أحياناً لموقفه "الوسيط" في هذه العملية الثقافية: "كلٌ قد قال ما عنده بقدر قوته ولحظه، وأنا آتي بما أحفظه وأرويه"
والكتاب يخبرنا كذلك، لا عن مصادره وحسب، وإنما عن طريقة صنعه الفني والتأليفي كذلك. فبعض مواد الكتاب مجموعة في مدونات خطها التوحيدي بنفسه أو خطها عن غيره، وبعضها الآخر منقول "من جهة المعنى" وحسب، حسبما يقول، أي أن التوحيدي حفظها وصاغها هو بلفظه. كما نتحقق كذلك من أنه كان يعد لكل ليلة "رقعاً" يجمع فيها المواد المطلوبة لليلة نفسها. وفي الكتاب إشارة لطيفة الى قربى هذه "الليالي" من "ألف ليلة وليلة"، وإن كان يذكرها في اسمها الفارسي، "هزار أفسانه" المعروف في عهده، وفي معرض الحديث عن الخرافات: هنا، الليالي تتحدث، بخلاف حكايات شهرزاد، عن مسامرات المعرفة" وهنا الراوي، أي التوحيدي، يكابد شرطاً لا يقل امتهاناً للنفس عما عرفته شهرزاد نفسها، وهو أنه ملزم بتقديم مواد لكل ليلة مما يرضي الوزير ويوفر له المال اللازم. وهو ما تصرخ به صفحات الكتاب الأخيرة، إذ نتحقق من أن التوحيدي لم يكن أكيداً بعد من حصوله على الهدية.
هكذا يتضح لنا أن الكتابة رتق وتجميع و"زبرجة" أيضاً، كما يقول التوحيدي، أي إعادة صوغ وتزيين. فهو لا يكتفي بإيراد الكلام، مثلما ورد اليه، بل يصوغه من جديد: يفيدنا في مطلع الجزء الثاني، في معرض حديثه لأبي الوفاء عن إرساله إليه الجزء الأول، انه سرد الأحاديث كما دارت في المجلس، إلا أنه "زبرجها" أي زينها أيضاً. وهذا ما يصح أيضاً في "ترتيب" الكتاب، في تدبير نسق له من التتابع، حيث يفيدنا التوحيدي أنه لم يأخذ بعين الاعتبار ورود الكلام في المسامرة نفسها، بل انتظام الكتابة وفق مقتضيات تأليفية. فهو يختم الجزء الأول بالقول: "غير عائج على ترتيب يحفظ صورة التصنيف على العادة الجارية لأهله". وهو ما يعرضه في صورة أوضح في هذه العبارات: "ولما كان قصدي فيما أعرضه عليك، وألقيه إليك، أن يبقى الحديث بعدي وبعدك، لم أجد بداً من تنسيق يزدان به الحديث، وإصلاحٍ يحسن معه المغزى، وتكلفٍ يبلغ بالمراد الغاية". يعرض لنا "كتاب الإمتاع والمؤانسة" الظروف الحوارية، التراسلية، التي خضع لها وتحكمت بظروف تأليفه كما يمواده أيضاً. وهي صورة عن حال "المؤلف"، لا في تبعيته القاسية للوزير وحسب، بل في تبرمه من ضرورة أن يكون "ناقل" أخبار لا يريدها عن أساتذته، وعن أخبارهم الداخلية: نراه في موضع في الكتاب يتذمر من اضطراره الى نقل ما يقوله بعض الكتاب عن الوزير نفسه، ولا يرضيه في ذلك دفاع الوزير عن مثل هذه الحاجة، إذ يطلب الوزير في أن تكون له أياد تساعده في عمل ما يريد، وعيون تعينه على الرؤية حيث لا يكون، وغيرها من الأعضاء-الوظائف التي تجعل جسد الوزير جسد الإمارة، بل جسد المأمورين أنفسهم، فلا يفصل أبداً بينه وبينهم، حيث أنهم هو، ولا وجود لهم بدونه وخارجه. يعرض لنا الكتاب ظروفه الحوارية التي يندرج فيها، ومنها أنه نتاج دورة من المعاني والتبادلات واقعة في المجلس: هذا يصح في مجالس الخلفاء والوزراء والنافذين عموماً، كما في "مجالس العلماء" ما يشير اليه صراحة كتاب الزجاجي الذي يحمل الاسم نفسه. فغير كتاب قديم في العربية ليس تجميعاً، ولا تصنيفاً، ولا تفكراً، في مسألة أو موضوع، بقدر ما هو مجموع جولات ومداورات حول المعنى، انعقدت أطرافه في مجلس أو حلقة، في القصر او في الجامع. وهو ما يشير الى الأنماط الاجتماعية والمعرفية في آن التي تولدت فيها الأفكار والقيم، ما يدعونا الى النظر الى فكرة التأليف والمؤلف نفسها نظرة مختلفة، ترينا على سبيل المثال أن بعض الكتب - ومنها كتابنا، وفي صورة جزئية - لا يعدو كونه "مدونة" تحمل أو تدون أقوال شخص أو أشخاص غير المؤلف نفسه.
هكذا كان المؤلف ناقلاً وخاضعاً في آن لتقاليد في الكتابة، هي جالبة الاعتبار، وخاضعاً في الوقت عينه لتقاليد في العيش والتأليف تربطه بدورة النافذين: كيف لا وبعض الفلاسفة تقيدوا بهذه الشروط، قبل الشعراء والناثرين، إذ وجهوا حاصل تفكرهم الفلسفي الى هذا الخليفة أو الوزير أو ذاك. لهذا قلما نجد شكوى، مثل التي بلغ عنها المتنبي أحياناً في شعره، أو التوحيدي في هذا الكتاب، عن مثل هذه الشروط القاهرة.
في مواضع مختلفة، في كيفيات مواربة وصريحة، يحدثنا التوحيدي عن شفافية وتراسل، بينه وبين نفسه، بل نجدها في هيئة فئة من الكتاب الذين يصفهم في هذه العبارات: "ومنهم طائفة أخرى قد عكفوا في بيوتهم على ما يعنيهم من أحوال نفسهم، في تزجية عيشهم ... لكن اليأس قد غلب عليهم ... ورأوا أن سف التراب أخف من الوقوف على الأبواب، إذا دنوا منها دُفعوا عنها". هو الذي يصف أحواله في صورة أصرح في خاتمة الكتاب، في كلام موجه مباشرة الى البوزجاني: "قد أذلني السفر من بلد الى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني".
وحشة التوحيدي تقربه منا، وترينا أن الكتابة في شفافيتها الموجعة "تراسلنا" أينما كنا، وأياً كنا: أهو تعويضنا المتأخر - ومنه الاحتفال بألفيته - عن وحشته القاهرة، هو الذي قال: "العزلة محمودة إلا أنها محتاجة للكفاية، والقناعة مزة :الخمرة الطيبة الطعم فكهة ولكنها فقيرة الى البلغة، وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة