نقوس المهدي
كاتب
منذ أن أُتيح لشهرزاد أن تحتل موقع الراوي، صارت الحكاية رئة للسرد. وهو أوّل سهم توجِّهه نحو خندق الرجل الذي كان متمترساً بنظم الشعر. فبين المعلّقات السبع، لا توجد معلّقة واحدة لشاعرة. ولعل اختيار شهرزاد للحكي وسيلة للتعبير، هو أول محاولة لتحقيق حريتها، ففي فضاء الحكاية، بات في إمكانها التحليق في تضاريس سردية متعددة، والدخول في أبواب الغواية وفتنة السرد. ما جعل شهريار يعيد سيفه إلى غمده مرغماً طوال «ألف ليلة وليلة» مستبدلاً شهوة الحكاية بشهوة قطع أعناق النساء.
وعلى رغم كل المحاولات اللاحقة لإزاحة شهرزاد عن موقعها، فإنّ «الليالي العربية» ظلّت في المقدّمة، مقارنةً بحكايات شعبية أخرى، مثل «الزير سالم» و«الظاهر بيبرس» و«عنترة». وهنا حاول الحكواتي بكل طاقته هدم كل ما بنته شهرزاد من شفافية وأحاسيس وغواية وأسرار، وذهب بالحكاية إلى الحروب والمبارزات، وإطاحة الرؤوس من على ظهور الخيل بضربة سيف واحدة.
لا أحد يستطيع الجزم اليوم بأنّ حكايات «ألف ليلة وليلة» هي خيال نسوي صرف، بعد ترحالها الطويل من الهند إلى بلاد فارس إلى بغداد وانتهاءً بالقاهرة. لكنْ يكفي أنّ شهرزاد وحدها هي مَن يتحكم في مسارب السرد وينابيعه وأمثولاته ومتاهاته السرّية. في لحظة ظلماء، فقدت الأنثى موقعها، واستعاد الرجل عناصر الحكي، ودخل في فضاء آخر يلمع في سمائه بريق السيوف ورائحة القتل والخيانة والمؤامرات والدسائس، وأسسّ لنص بديل يؤكد مرة أخرى على وأد تراث المرأة ومخزونها الحكائي. فعدّ صوتها عورة، واستباح نصها الشخصي، وفي المقابل واجهت المرأة العسف الذكوري بعسف مضاد بأن عدّت الذكورة نصاً هدّاماً، استعمر مملكتها، فأرادت إزاحته نهائياً. وهكذا، بدلاً من أن تسعى للشراكة، اشتغلت على الإقصاء والنبذ، في وقت صحا فيه النص الذكوري من غيه، بسعيه إلى تأنيث العالم. محاولة تربيع الدائرة أغرقت الرجل والمرأة في بحيرة مليئة بالتماسيح، فكانا ضحية الفردانية واللغة الهجينة.
ولكن ماذا نفعل أمام مئات المدوّنات النسوية التي تجاهر صراحةً باستقلاليتها عن فضاء الذكورة، وهل حرية المرأة ستتحقّق فعلاً بإقصاء الرجل من موقع القرار نهائياً؟ وماذا نفعل بعشرات اللافتات ومواقع الإنترنت التي تدعو إلى بناء عالم نسوي صرف؟ وهل صار السرير وحده هو ساحة الوغى؟ ثم ماذا بخصوص «أدب المطلّقات»؟ أليس من البداهة أن المطالبة بحقوق المرأة هي مطالبة بحقوق الرجل أيضاً؟ لا نجترح فكرة جديدة، حين نقول إنّ الرجل المتخلّف يساوي امرأة متخلّفة، والعكس صحيح أيضاً.
في آخر النفق الطويل المظلم، حاولت المرأة مجدداً إشعال شمعة أخرى لاستعادة جذوة السرد، وما هذه الحمى الروائية النسوية في خريطة الإبداع العربي، إلا محاولة جديدة للإمساك بمفتاح الحكاية، وإجبار شهريار المعاصر على الإنصات إليها بكل جوارحه. ولم يعد بإمكانه إنكار ما أحرزته شهرزاد في حقل الحكي، بوجود عشرات النصوص الجريئة التي اقتحمت الأبواب الموصدة، وما هو مسكوت عنه، في نبش تجلّيات الجسد المقموع، وفضح أسرار اللغة الذكورية العرجاء التي تواطأت عقوداً طويلة على دفن عناصر حكائية لا تحصى من معجم السرد. هكذا، أخذت تتسرب إلى النص السردي أصوات جديدة وجريئة، من أكثر الجغرافيات العربية انغلاقاً وقسوة، لتهز عروش البلاغة الذكورية، وفحولة اللغة.
في حقل ألغام الكتابة، اقتحمت المرأة الأرض المحرّمة، من دون خوف من أن ينفجر بحبرها لغم الحياء والممنوع، فالصمت الأنثوي الطويل انتهى إلى صرخة مدوّية في صحراء اللغة، وأدخلها بساتين الشهوة، لتقطف تفاح الغواية وتطيح المحرمات، بعد تحطيم الأسلاك الشائكة باختبار الذات وفحص أطيافها… حتى اختلط ما هو سيروي بما هو مشتهى، فاستعاد ضمير المتكلم موقعه، رغم الشبهات التي ترافق صوت الراوية، وانتهاك أي نص نسوي مفارق برائحة ذكورة سرّية (نجد ذلك في نصوص نوال السعداوي وعلوية صبح وليلى الجهني وسلوى نعيمي وأحلام مستغانمي، وآمال مختار ومنى برنس…). واللافت حقاً أنّ النص الأنثوي لم يتوقف عند تخوم الرواية، بل تجاوزها إلى السينما، عندما وقفت المرأة خلف العدسة لتظهير صورة أخرى للمجتمع العربي في مكاشفات جريئة، كما أنّ المرأة وجدت في قصيدة النثر بوصفها مدوّنة للحرية الكاملة، ملاذها للبوح وتحطيم الإيقاع أو الحداء البدوي في هجير اللغة. كأن أي خطاب إبداعي يفتقد قيود البلاغة الذكورية، هو المكان الذي تجد فيه الأنثى صوتها للتعبير، ما دامت تستطيع استعادة حنجرتها في الغناء والتحليق بأجنحة الحلم والغواية (تُرجم هيفاء وهبي ومثيلاتها (ذكورياً)،على رغم أنها تغني بكلمات كتبها الرجل!). ولعل أبرز منجز للمرأة هو ارتداء سروال الجينز واعتباره نصاً جمالياً وبلاغياً في مقارعة صريحة للرجل، فالجينز في نهاية المطاف نص عابر للثقافات، وهو أفضل تعبير عن الحرية الطليقة للجسد، واختزال المسافات بين نصٍ وآخر.
* الأخبار
وعلى رغم كل المحاولات اللاحقة لإزاحة شهرزاد عن موقعها، فإنّ «الليالي العربية» ظلّت في المقدّمة، مقارنةً بحكايات شعبية أخرى، مثل «الزير سالم» و«الظاهر بيبرس» و«عنترة». وهنا حاول الحكواتي بكل طاقته هدم كل ما بنته شهرزاد من شفافية وأحاسيس وغواية وأسرار، وذهب بالحكاية إلى الحروب والمبارزات، وإطاحة الرؤوس من على ظهور الخيل بضربة سيف واحدة.
لا أحد يستطيع الجزم اليوم بأنّ حكايات «ألف ليلة وليلة» هي خيال نسوي صرف، بعد ترحالها الطويل من الهند إلى بلاد فارس إلى بغداد وانتهاءً بالقاهرة. لكنْ يكفي أنّ شهرزاد وحدها هي مَن يتحكم في مسارب السرد وينابيعه وأمثولاته ومتاهاته السرّية. في لحظة ظلماء، فقدت الأنثى موقعها، واستعاد الرجل عناصر الحكي، ودخل في فضاء آخر يلمع في سمائه بريق السيوف ورائحة القتل والخيانة والمؤامرات والدسائس، وأسسّ لنص بديل يؤكد مرة أخرى على وأد تراث المرأة ومخزونها الحكائي. فعدّ صوتها عورة، واستباح نصها الشخصي، وفي المقابل واجهت المرأة العسف الذكوري بعسف مضاد بأن عدّت الذكورة نصاً هدّاماً، استعمر مملكتها، فأرادت إزاحته نهائياً. وهكذا، بدلاً من أن تسعى للشراكة، اشتغلت على الإقصاء والنبذ، في وقت صحا فيه النص الذكوري من غيه، بسعيه إلى تأنيث العالم. محاولة تربيع الدائرة أغرقت الرجل والمرأة في بحيرة مليئة بالتماسيح، فكانا ضحية الفردانية واللغة الهجينة.
ولكن ماذا نفعل أمام مئات المدوّنات النسوية التي تجاهر صراحةً باستقلاليتها عن فضاء الذكورة، وهل حرية المرأة ستتحقّق فعلاً بإقصاء الرجل من موقع القرار نهائياً؟ وماذا نفعل بعشرات اللافتات ومواقع الإنترنت التي تدعو إلى بناء عالم نسوي صرف؟ وهل صار السرير وحده هو ساحة الوغى؟ ثم ماذا بخصوص «أدب المطلّقات»؟ أليس من البداهة أن المطالبة بحقوق المرأة هي مطالبة بحقوق الرجل أيضاً؟ لا نجترح فكرة جديدة، حين نقول إنّ الرجل المتخلّف يساوي امرأة متخلّفة، والعكس صحيح أيضاً.
في آخر النفق الطويل المظلم، حاولت المرأة مجدداً إشعال شمعة أخرى لاستعادة جذوة السرد، وما هذه الحمى الروائية النسوية في خريطة الإبداع العربي، إلا محاولة جديدة للإمساك بمفتاح الحكاية، وإجبار شهريار المعاصر على الإنصات إليها بكل جوارحه. ولم يعد بإمكانه إنكار ما أحرزته شهرزاد في حقل الحكي، بوجود عشرات النصوص الجريئة التي اقتحمت الأبواب الموصدة، وما هو مسكوت عنه، في نبش تجلّيات الجسد المقموع، وفضح أسرار اللغة الذكورية العرجاء التي تواطأت عقوداً طويلة على دفن عناصر حكائية لا تحصى من معجم السرد. هكذا، أخذت تتسرب إلى النص السردي أصوات جديدة وجريئة، من أكثر الجغرافيات العربية انغلاقاً وقسوة، لتهز عروش البلاغة الذكورية، وفحولة اللغة.
في حقل ألغام الكتابة، اقتحمت المرأة الأرض المحرّمة، من دون خوف من أن ينفجر بحبرها لغم الحياء والممنوع، فالصمت الأنثوي الطويل انتهى إلى صرخة مدوّية في صحراء اللغة، وأدخلها بساتين الشهوة، لتقطف تفاح الغواية وتطيح المحرمات، بعد تحطيم الأسلاك الشائكة باختبار الذات وفحص أطيافها… حتى اختلط ما هو سيروي بما هو مشتهى، فاستعاد ضمير المتكلم موقعه، رغم الشبهات التي ترافق صوت الراوية، وانتهاك أي نص نسوي مفارق برائحة ذكورة سرّية (نجد ذلك في نصوص نوال السعداوي وعلوية صبح وليلى الجهني وسلوى نعيمي وأحلام مستغانمي، وآمال مختار ومنى برنس…). واللافت حقاً أنّ النص الأنثوي لم يتوقف عند تخوم الرواية، بل تجاوزها إلى السينما، عندما وقفت المرأة خلف العدسة لتظهير صورة أخرى للمجتمع العربي في مكاشفات جريئة، كما أنّ المرأة وجدت في قصيدة النثر بوصفها مدوّنة للحرية الكاملة، ملاذها للبوح وتحطيم الإيقاع أو الحداء البدوي في هجير اللغة. كأن أي خطاب إبداعي يفتقد قيود البلاغة الذكورية، هو المكان الذي تجد فيه الأنثى صوتها للتعبير، ما دامت تستطيع استعادة حنجرتها في الغناء والتحليق بأجنحة الحلم والغواية (تُرجم هيفاء وهبي ومثيلاتها (ذكورياً)،على رغم أنها تغني بكلمات كتبها الرجل!). ولعل أبرز منجز للمرأة هو ارتداء سروال الجينز واعتباره نصاً جمالياً وبلاغياً في مقارعة صريحة للرجل، فالجينز في نهاية المطاف نص عابر للثقافات، وهو أفضل تعبير عن الحرية الطليقة للجسد، واختزال المسافات بين نصٍ وآخر.
* الأخبار