نقوس المهدي
كاتب
الإقناع ليس ضرورياً في حكايات "ألف ليلة وليلة"، بل كسب الوقت. هذه استراتيجية شهرزاد. نعرف أنها كانت تنهي ليلتها مع شهريار بحكاية ناقصة. الشغف بالحكاية، قوتها، طبقاتها المتداخلة، كانت تكفل أن يُرخي الملك يده عن السيف قليلاً، ليصل إلى نهاية الحكاية. لكن، كانت الحكاية تلدُ أخرى فأخرى، إلى أن ترتخي قبضة شهريار، تماماً، فيصير أسير الأسيرة: شهرزاد.
لفت نظري إلى هامشية "الإقناع" تداخل حكايتي الليلتين الرابعة والخامسة. وأتحدّث عن حكاية الصياد والجني. فقد علق في شباك صياد قمقم. فتحه، فتصاعد الدخان من القمقم الممهور بختم النبي سليمان، واستوى مارداً جباراً. ولما عرف الجنيُّ أن النبي سليمان، الذي حبسه في هذا القمقم، مات منذ نحو 1800 عام، قرَّر أن يبطش بالصياد، فقال له الأخير إنه لا ذنب له في حبسه هذه الدهور، فما هو سوى صياد يسعى وراء رزقه. غير أن الجنيّ أبى. فعمد الصياد إلى الحيلة، وقال للجني، بشيء من الاستفزاز، لا أصدِّق أنك تستطيع، بهذا الحجم الكبير، أن تدخل القمقم الصغير مهما فعلت.
يلتقط الجنيُّ الطُعْمَ، فيتحوَّل إلى دخان يتصاعد إلى السماء، ثم لا يلبث أن يدخل في القمقم، فيسارع الصياد إلى إغلاقه، بختم النبي سليمان، ويقول للجني شامتاً: حاولت إقناعك أن لا ذنب لي في حبسك، لكنك أبيت. والآن، سأعيدك إلى البحر، وسأحرص على ألاّ يصطادك صياد، حتى تمكث 1800 سنة أخرى في قاع البحر.
هنا، بالضبط، تستخدم شهرزاد حبكتها السردية، التي تربط من خلالها الحكايات، فلا تنتهي حكاية حتى تبدأ أخرى، ثم عندما يدركها الصباح، تمتنع عن الكلام المباح، تاركة حكاية الليلة السابقة ناقصة.
... يستعطف الجنيُّ الصياد ألاَّ يلقيه في الماء، فنسمع الصياد يقول للجنيّ: ما جرى بيننا يذكّرني بحكاية الملك يونان والحكيم روبان. فيسأله الجنيُّ عنها، فيقول: كان، في سابق العصر والأوان، ملك يدعى روبان، أصيب بالبرص، فتقاطر أطباء المملكة إلى القصر لعلاجه، غير أنَّ كلَّ الجهود لم تنفع، فظلَّ البرصُ ينتشر في جسد الملك الذي كره نفسه، واعتكف مكتئباً. وفي ذروة تلك الحالة، مرَّ بالمملكة حكيم عجوز يدعى روبان، له باع طويل في الأعشاب والمستحضرات الطبية، فسمع الملك بخبره، فطلب إحضاره إلى القصر، رغم ممانعة وزرائه وحاشيته، لكنَّ الملك اليائس أصرَّ. فحضر الحكيم. وبعد معاينته الملك، حضَّر له الدواء.
لم يدخل الحكيم روبان حكاية الليلة الرابعة ليفشل، إذ لا معنى لذلك. عليه أن ينجح. صار من خاصّة الملك، مما أثار عليه نقمة الحاشية، فقررت أن تتآمر عليه. وبالفعل، تتمكن الحاشية من إيغار صدر الملك عليه. فيأمر بجزِّ عنقه. وكما لكل ميت رغبة أخيرة، ينبغي أن تنفذ، يطلب الحكيم أن يمهل قليلاً كي يودع عائلته. يفعل الحكيم ذلك، ويقدم للملك هدية. هذا يحزن الملك، لكنه لا يتراجع عن قراره، فيسأله عن الهدية، فيجيبه روبان: إنه كتاب يا مولاي. كتابٌ؟! يسأل الملك. فيرد: لكنه ليس أي كتاب. فإذا قلَّبت صفحاته، أطللت عليك، وأجبتك عن أي شيء يخطر في بالك.
وفي يوم قريب من الواقعة، أشكل على الملك أمرٌ، فعمد إلى كتاب الحكيم روبان. كان ملتصق الصفحات، فراح الملك يبلل إبهامه بطرف لسانه، ويقلِّب الصفحات الملتصقة. ومن دون أن يدري، كان السمّ،ُ الذي لصق به الحكيم روبان صفحات كتاب الانتقام، يسري في جسده.
.. أوردت الحكاية، لأتحدث عن فكرة الكتاب المسموم وليس عن الغدر. نجد هذه الفكرة في ثقافاتٍ وحضارات متباعدة. ربط الكتاب بالسمِّ قد يعني شيئاً آخر، ليس السم المدسوس بين الصفحات، ولكن، ربما "السمّ" الذي تحتويه. أما ما جرى للصياد والجني، فقد وفى الجنيُّ بوعده، فحقق له وضعاً لم يحلم به، لكنَّ ذلك سيورطه مع ملك بلاده، الذي سيتورط، بدوره، في قصر مهجور، ستكون له فيه حكاية أخرى.
لفت نظري إلى هامشية "الإقناع" تداخل حكايتي الليلتين الرابعة والخامسة. وأتحدّث عن حكاية الصياد والجني. فقد علق في شباك صياد قمقم. فتحه، فتصاعد الدخان من القمقم الممهور بختم النبي سليمان، واستوى مارداً جباراً. ولما عرف الجنيُّ أن النبي سليمان، الذي حبسه في هذا القمقم، مات منذ نحو 1800 عام، قرَّر أن يبطش بالصياد، فقال له الأخير إنه لا ذنب له في حبسه هذه الدهور، فما هو سوى صياد يسعى وراء رزقه. غير أن الجنيّ أبى. فعمد الصياد إلى الحيلة، وقال للجني، بشيء من الاستفزاز، لا أصدِّق أنك تستطيع، بهذا الحجم الكبير، أن تدخل القمقم الصغير مهما فعلت.
يلتقط الجنيُّ الطُعْمَ، فيتحوَّل إلى دخان يتصاعد إلى السماء، ثم لا يلبث أن يدخل في القمقم، فيسارع الصياد إلى إغلاقه، بختم النبي سليمان، ويقول للجني شامتاً: حاولت إقناعك أن لا ذنب لي في حبسك، لكنك أبيت. والآن، سأعيدك إلى البحر، وسأحرص على ألاّ يصطادك صياد، حتى تمكث 1800 سنة أخرى في قاع البحر.
هنا، بالضبط، تستخدم شهرزاد حبكتها السردية، التي تربط من خلالها الحكايات، فلا تنتهي حكاية حتى تبدأ أخرى، ثم عندما يدركها الصباح، تمتنع عن الكلام المباح، تاركة حكاية الليلة السابقة ناقصة.
... يستعطف الجنيُّ الصياد ألاَّ يلقيه في الماء، فنسمع الصياد يقول للجنيّ: ما جرى بيننا يذكّرني بحكاية الملك يونان والحكيم روبان. فيسأله الجنيُّ عنها، فيقول: كان، في سابق العصر والأوان، ملك يدعى روبان، أصيب بالبرص، فتقاطر أطباء المملكة إلى القصر لعلاجه، غير أنَّ كلَّ الجهود لم تنفع، فظلَّ البرصُ ينتشر في جسد الملك الذي كره نفسه، واعتكف مكتئباً. وفي ذروة تلك الحالة، مرَّ بالمملكة حكيم عجوز يدعى روبان، له باع طويل في الأعشاب والمستحضرات الطبية، فسمع الملك بخبره، فطلب إحضاره إلى القصر، رغم ممانعة وزرائه وحاشيته، لكنَّ الملك اليائس أصرَّ. فحضر الحكيم. وبعد معاينته الملك، حضَّر له الدواء.
لم يدخل الحكيم روبان حكاية الليلة الرابعة ليفشل، إذ لا معنى لذلك. عليه أن ينجح. صار من خاصّة الملك، مما أثار عليه نقمة الحاشية، فقررت أن تتآمر عليه. وبالفعل، تتمكن الحاشية من إيغار صدر الملك عليه. فيأمر بجزِّ عنقه. وكما لكل ميت رغبة أخيرة، ينبغي أن تنفذ، يطلب الحكيم أن يمهل قليلاً كي يودع عائلته. يفعل الحكيم ذلك، ويقدم للملك هدية. هذا يحزن الملك، لكنه لا يتراجع عن قراره، فيسأله عن الهدية، فيجيبه روبان: إنه كتاب يا مولاي. كتابٌ؟! يسأل الملك. فيرد: لكنه ليس أي كتاب. فإذا قلَّبت صفحاته، أطللت عليك، وأجبتك عن أي شيء يخطر في بالك.
وفي يوم قريب من الواقعة، أشكل على الملك أمرٌ، فعمد إلى كتاب الحكيم روبان. كان ملتصق الصفحات، فراح الملك يبلل إبهامه بطرف لسانه، ويقلِّب الصفحات الملتصقة. ومن دون أن يدري، كان السمّ،ُ الذي لصق به الحكيم روبان صفحات كتاب الانتقام، يسري في جسده.
.. أوردت الحكاية، لأتحدث عن فكرة الكتاب المسموم وليس عن الغدر. نجد هذه الفكرة في ثقافاتٍ وحضارات متباعدة. ربط الكتاب بالسمِّ قد يعني شيئاً آخر، ليس السم المدسوس بين الصفحات، ولكن، ربما "السمّ" الذي تحتويه. أما ما جرى للصياد والجني، فقد وفى الجنيُّ بوعده، فحقق له وضعاً لم يحلم به، لكنَّ ذلك سيورطه مع ملك بلاده، الذي سيتورط، بدوره، في قصر مهجور، ستكون له فيه حكاية أخرى.