نقوس المهدي
كاتب
- حكم قضائي: ألف ليلة وليلة تخدش الحياء
- مصادرة وإحراق نسخها المطبوعة في مصر
- أوروبا وجدت في «الليالي» منهلاً للحداثة
- الأوروبيون اعتبروه أعظم كتاب في تاريخ الحضارة العربية
- الفرنسي جالان حصل من حلب على مخطوطة عربية لها تعود للقرن الرابع عشر الميلادي
- الفرنسيون سبقوا الأوروبيين في اكتشاف نصوص ألف ليلة وليلة
- صدرت ترجمات إنجليزية وألمانية وإيطالية وهولندية ودانمركية وروسية مأخوذة عن جالان
- باريس طبعتها منذ ١٧٠٤ وأول طبعة بالعربية ظهرت في الهند سنة ١٨١٤
- احتفاء الغرب بألف ليلة وليلة على حين استهان بها العالم العربي
- أول إشارة إليها كانت في مروج الذهب للمسعودي باسم هزار أفسانة
يعالج قسم كبير من كتاب الباحث المصري الدكتور أنور لوقا: «أبو حيان التوحيدي وشهر زاد» موضوع «ألف ليلة وليلة» ولماذا لم يلق الترحيب الجدير به عندنا، فيطرح في بداية هذا القسم من كتابه السؤال التالي: «لماذا نبذنا ألف ليلة وليلة» في حين أن الأجانب احتفلوا به أيما احتفال منذ اكتشفوا نسخته العربية القديمة قبلنا بكثير، واعتبروه من أعظم الكتب التي جاءتهم من الشرق.
ويعيد إلى الذاكرة، كمظهر من مظاهر هذا النبذ، حكماً قضائياً صدر عن محكمة آداب القاهرة سنة ١٩٨٥ أدانت فيه كتاب «ألف ليلة وليلة» بقسوة لأن «الليالي»، كما ورد في الحكم، «تخدش الحياء» وتتضمن عبارات مخلة بالآداب، وتفسد أخلاق الشباب».. وقضت هذه المحكمة يومها بمصادرة النسخ، وبسجن الناشر والطابع وأُحرقت النسخ علنا، ولم يَنْجُ من غضب السلطة على «المجون» سوى مؤلفي تلك القصص الذين باتوا في ذمة التاريخ.
«ولم يكن أحد يتخيل أن سنة قريبة مقبلة (هي سنة ١٩٩٤) ستشهد خنجراً تغمده يد الأصوليين في نحر كبير الروائيين العرب نجيب محفوظ»!
ويورد أنور لوقا الوقائع التالية: «أذكر في ربيع ١٩٨٥ لقائي بيوسف إدريس في القاهرة، وكيف تشاطرنا السخط والحسرة. وكنت قادماً من باريس حيث أقام معهد العالم العربي بالتعاون مع دار الكتب الوطنية ومتحف اللوفر معرضاً ثرياً عن الحضارة العربية تمركز حول ألف ليلة وليلة. وصفت ليوسف إدريس ما قلّ ودلّ من مضمون ذلك المعرض الزاخر بمعالم فنوننا في أوجها، وتفاعلها منذ أطوار نشأتها على أرضنا وعبر تاريخنا، حتى أبعد مجالات تأثير هذا التراث في فكر الغرب وإبداعه».
والغريب أن ما يرويه أنور لوقا حول حكم محكمة آداب القاهرة بمصادرة «ألف ليلة» وإحراق نسخها المطبوعة لاحقا، عاد وتكرر عكسه من قبل أجهزة الدولة المصرية. إذ أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، التابعة لوزارة الثقافة، طبعة أخرى من الكتاب، هي نفسها التي صودرت وأُحرقت، وعرضتها للبيع بسعر زهيد نسبيا. وقد نفدت الطبعة خلال أيام يسيرة دون أن يتبين لأحد، وإلى اليوم، أنها «أفسدت أخلاق الشباب»..
ويبدو على ضوء ما يورده الباحث المصري الكبير في كتابه أن الكتاب لقي اهتماماً كبيراً في أوروبا، فأوروبا وجدت في «ألف ليلة وليلة» منهلاً للحداثة حين غاض في فرنسا مع بداية القرن الثامن عشر معين الأدب بين معركتين من معارك القدماء والمحدثين، فطلع عليها عالم فرنسي يُدعى جالان، إذ ذاك، بأول ترجمة لليالي. «كان الجمهور قد سئم الاحتجاج باليونان والرومان ومقولاتهم التي اتخذها «الكلاسيكيون» مثلاً أعلى للإنسانية على اختلاف عهودها، يلغي الزمان والمكان، ويصبّ الناس في قالب واحد، ويسطح نوازعهم باستضعاف العاطفة أمام الواجب.. لذا أصبحوا يتوقون إلى الفرار، إلى الرحلات البعيدة أو إلى أحضان الطبيعة. وإذا بالشرق تنفتح أبوابه أمامهم في تلك الترجمة، فيدخلون الدور والخدور والأسواق والقصور، حيث يضطرب الأمراء والأميرات، والوزراء والتجاّر والصنّاع والصيّادون والفقراء ونساؤهم، تتشابك معاملاتهم وعلاقاتهم، وتدفعهم مغامراتهم البحرية والمعاشية من الواقع المعقود إلى الخيال الطليق.
وكان جالان، مترجم هذه القصص إلى الفرنسية سفيراً لبلاده في تركيا، يجيد اللغات الشرقية، وقد حصل في زيارة له إلى مدينة حلب على مخطوطة عربية لألف ليلة وليلة ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي. وأثناء ترجمته التي ستستغرق اثني عشر مجلداً، التقى براهب حلبي أمدّه بمخطوطة مختلفة من «الليالي»، بل وروى له حكايات شفوية فدوّنها عنه. وكان الفرنسيون أسبق الأوروبيين إلى اكتشاف نصوص «ألف ليلة وليلة». وسرعان ما استلهموها في كتاباتهم. وسرعان ما صدرت عن ترجمة جالان ترجمات إنجليزية وألمانية وإيطالية وهولندية ودانمركية وروسية.
والغريب أن باريس طبعت بالفرنسية «ألف ليلة وليلة» منذ ١٧٠٤، ولم تظهر أول طبعة بالعربية إلا في كلكتا بالهند سنة ١٨١٤. أما في العالم العربي فتولت طباعتها سنة ١٨٣٥ مطبعة بولاق بالقاهرة. وقد ينمّ هذا الفارق الزمني عن احتفاء الغرب بألف ليلة وليلة على حين استهان بها العالم العربي، ولكن تأخر استخدام المطبعة في البلاد الإسلامية يتستر على ذلك الاعتراض بظاهرة أهم.
ولكن كتاب «ألف ليلة وليلة» كان معروفا عند العرب القدماء، نجد أول إشارة إلى الكتاب في «مروج الذهب» للمسعودي، أي في منتصف القرن الرابع الهجري، وهو يسميه باسمه الفارسي «هزار أفسانة»، ويلخصه بأنه «خبر الملك، والوزير وابنته، وجاريتها، وهما شيرازاد ودينارزاد».
ولكنه ينعي عليه «أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقّرب للملوك بروايتها وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة لها». في أواخر القرن يقيّدها بمزيد من التفصيل ابن النديم الورّاق ببغداد في كتابه «الفهرست»، عن معرفة شخصية بهذا النص المكتوب الذي تداوله مراراً. ويضيف أن الجهشياري صاحب «كتاب الوزراء» كان يريد أن يصنّف على غرار الكتاب أي «ألف ليلة وليلة» كتابا يجمع فيه ألف حكاية من حكايات العرب والفرس والهند، ولكنه مات عن أربعمائة وثمانين حكاية!.
ولعل في نقص كتاب الجهشياري هذا وفقدانه (ويمكن أن نعّده محاكاة فجة) ما ينذر بغياب «ألف ليلة وليلة» من واقع الأدب العربي طيلة القرون الخمسة التالية، حتى إذا جاء المقريزي مؤلف «الخطط» في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ذكر «ألف ليلة وليلة» بوصفها «أقاويل خيالية» و «أحاديث عجيبة» وذلك على سبيل التشبيه بقصة غرامية اضطر لروايتها للتعريف بمنتزه «الهودج» بجزيرة الفسطاط في نيل مصر (وتسمّى اليوم جزيرة الروضة» فهو بناء بديع أقامه الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية التي هام بها بعد أن سمع عن جمالها وعبقريتها الشعرية فتنكر عندئذ في زي أعرابي ليراها، ثم تزوجها رغم تعلقها بابن عمّ لها!.
ولكن الذي تفهمه من عبارات المسعودي والمقريزي؟.
نفهم من هذه العبارات أن «ألف ليلة وليلة» ظلت معروفة شائعة في أحاديث الناس وأذهانهم على حين لم يكن لها وجود في مدوّنات الأدب العربي. كان يرويها الرواة شفاها ويسمعها الناس بشغف ويتناقلونها، ويتمثلون بمغزى القصص وأبطالها ومواقفهم بل وأقوالهم، وتنامت هذه الحكايات وتفرعت وتعددّت، وأدخل فيها كل عصر أحداثه وأشخاصه وخيالاته، أي أن حياة هذا العمل السردي الكبير تواصلت وازدهرت بموازاة الصمت عنها إلى حّد إنكارها في فصول الأدب العربي الجدير بهذا الاسم، أي المكتوب المتواتر.
على ضوء ما يرويه أنور لوقا نفهم أن الكتاب مغضوب عليه عندنا أو في تراثنا. لقد جاء من الخارج، ولم يدخل صفوف النثر العربي كما دخلت مترجمات العلوم والفلسفة، فتلك كتابات مهنية فنية. أما كتاب «ألف ليلة وليلة» فيمسّ النفس الإنسانية ويصوّر واقع البشر وعواطفهم ويعّبر عن خبايا الخاطر ونواع الحرية وهبات القدر. إنه كتاب للعامة بأوسع معاني هذه الكلمة، لا لحفنة من المتخصصين، ولا لحصر الفكر في حيز محدود من المعرفة.
ولكن على ضوء ما ينقله لوقا، يتبين أن هذا الكتاب الإنساني الجامع حاول أن يندرج ضمن النصوص التي كان ينسخها الورّاقون وتتضح المحاول في شهادة الورّاق ابن النديم، إذ يقول: «ونقلته العرب إلى اللغة العربية (من الفارسية) وتناوله الفصحاء والبلغاء وهذّبوه ونمّقوه». ولكن ترجمة «هزار أفسانة» إلى «ألف ليلة وليلة» - وإن نقّحها ونمّقها المراجعون - ظلت مهمشة بالقياس إلى تيار الأدب العربي التقليدي. وتنطق تنحيتها لا بقصور «الليالي» من حيث الإبداع وصنعة الرواية، بل وبإسقاطها من مرتبة الشرف العرقية التي مّيزت كلام العرب على كلام سواهم، وهي تلك الهالة التي ضيّقها أولياء الأمور إلى حّد الحظر الذي ضربوه على المصنفات، أي ما نسمّيه اليوم بالرقابة.
ويتحدث أنور لوقا في هذا الفصل من كتابه عن الفرق الحاسم «بين الاغتراب عن الواقع وبين الدخول في أدب جديد يواجه امتحان الحداثة، ويتعّمق ما يجتازه الإنسان العربي المعاصر» . عندما نقرأ فيما بعد رواية «أديب» لطه حسين. قص فيها صاحب «الأيام» قصة صديقه جلال شعيب الفاجعة دون أن يسّميه، فعالج بوسائل التعبير الروائي المواتية المرنة موقفنا الصراعي إزاء الطفرة الحضارية التي دفعت بطلائعنا إلى معايشة الغرب المحتومة، لا كما فعل المويلحي بتعميماته السطحية والتزامه السجع التطريبي في «حديث عيسى بن هشام» . ولا شك أن رواية «أديب» التي نشرها طه حسين سنة ١٩٣٥ قد جاورت في قريحته عالم «ألف ليلة وليلة» الذي راح يغترف منه، مع توفيق الحكيم خلال عطلة لهما في فرنسا، رواية «القصر المسحور» التي ستظهر في العام التالي (١٩٣٦) ولبطلتها سيفرد طه حسين سنة ١٩٤٣ رواية أخرى هي «أحلام شهرزاد». إن طه حسين الذي عانى صبيا من سلطة «سيدنا» في الكتّاب وهيمنته مادياً ومعنوياً على القرويين، هو الذي سيحّرر الثقافة العربية من تنطّع ما سخيها. سيتولّى الأستاذية في مجتمعه، محل «سيدّنا» البائد، فتوجهه تلميذته الجامعية سهير القلماوي إلى دراسة لألف ليلة وليلة أثراً تاريخياً وعملاً أدبياً (صدرت الدراسة التي قدّمتها لجامعة القاهرة عن دار المعارف مكتبة الدراسات الأدبية سنة ١٩٥٩).
هكذا عادت «ألف ليلة وليلة» إلى أحضان الأدب العربي. وفي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي أيضا، يشهد بتلك العودة ويرحب بها أحمد حسن الزيات مؤرخ الأدب العربي، ومؤسس «الرسالة» ومترجم غوته ولامارتين، وصديق طه حسين منذ دراستهما بالأزهر.
ثمة مقال لأحمد حسن الزيات ورد في «الرسالة» يردّ فيه الاعتبار إلى شهرزاد، يقول فيه:
«هذه الأقاصيص الشائقة التي كانت لعقولنا الصغيرة سحرا، ولعواطفنا المشبوبة سكراً، ولقلوبنا الغضة فتنة، هي نوع من الأحلام والأماني تراءت في ليل الحياة الطويلة، ثم تجمعت في ذاكرة الزمن القديم، وتنقلت من عهد إلى عهد، ومن مهد إلى مهد، ومن بلد إلى بلد، تحمل في طواياها نفحات الحكمة المشرقية العالية، وعطور الأزمن البعيدة السعيدة. فوجودها أثر لوجود الإنسان، لأنها ظاهرة طبيعية من ظواهره كالغناء والشعر والرقص، فلا تُعرف لها أولوية، ولو تحدد في الغالب لظهورها علّة. ولكن علماء الأساطير يزعمون أنها نشأت في الهند وهاجرت منها إلى بلاد الفرس، ثم رحلت إلى بلاد العرب، ثم استقر بها النوى في أقطار الغرب. وفي كل مرحلة من هذه المراحل، كانت تصطبغ بصبغة البيئة، وتتأثر بخصائص الجنس وتتسم بسمات العقيدة.
وأما أبطالها الذين وُجدوا على الرغم من قانون الوجود، ونازعوا أبطال التاريخ ثوب الخلود، فقد كان لبعضهم ولا شك حظ من الحياة وشُهرة بملازمة الأسفار وملابسة الغير. فتحدث الناس أولاً بما فعلوا ثم سرّحوا حول أسمائهم وأبنائهم الأكاذيب والأعاجيب حتى أصبحوا أعلاما على شخصيات متميزة في البطولة والحرب والحب والحيلة والكرم (كدعد) و(ليلى) في الشعر، و(أبي نواس) و(جحا) في التنادر. أما أكثر الأبطال فمن خلق الخيال، ابتدعهم رموزا للمثل الأعلى، أو القدر، أو الجَدّ العاثر، أو السلطان الحائر، أو الهوى المتسلط، أو الأمل الآسي، أو الحظ السعيد.
واستتبع الاحتفال بعودة "ألف ليلة وليلة" ، وبفضلها على نشأة المسرح والرواية، لا سيما في كتابات توفيق الحكيم، اشتداد الوعي بجريرة تغليب اللغة على الأدب، وبالاختناقات التي أدت إليها دعوة ابن قتيبة وأتباعه. يجاهر بذلك الشاعر صلاح عبدالصبور عندما يقول:
"تُعَدّ ألف ليلة وليلة" أوضح صورة للخيال الطليق في الأدب العربي، بل هي توشك أن تُعدّ صورة فريدة لهذا الخيال الطليق. فقد كان الخيال العربي في شعر الفصحى وفي آثار المنشئين البلاغيين كسير الجناح قصير النفس بحيث اقتصر على ألوان راسخة ثقيلة من التشبيه والاستعارة والمجاز. أما "ألف ليلة وليلة" فقد حفلت بالخيال الحركي الذي يستمد مادته من خلق عديد من الشخصيات التي تتصارع أقدارها في عالم يختلط فيه تدبير الأنس بتقدير الجن وقدرتهم الخارقة على التصرف" .
ويضيف عبدالصبور: "لقد طُردت" ألف ليلة وليلة" طردا عنيفا من رحاب الأدب لتحل محلها مماحكات ابن العميد وسخافات القاضي الفاضل" .
قد يكون عنصر "الحكاية" هو أول ما استهوى توفيق الحكيم. فالحكاية تعني وجود الشخصيات المتباينة المختلفة، كما تعني وجود الإنسان في وسط حياة اجتماعية وسياسية لها قوانينها المفروضة التي سُنّت قبل أن يوجد، مما يتولد عنه صراع ديناميكي هي بينه وبين هذه القوانين، تتفتق فيه قدراته، وتتجلى فيه مواهبه وإمكاناته. فالإنسان في الحكاية في حالة ديناميكية. بينما نجد الإنسان في القصيدة العربية التقليدية أو في بلاغيات المنشئين العرب من كتاب الرسائل والدواوين في حالة استاتيكية جامدة.
ولكن لا شك أن التراث لا حياة له بدون عرضه على الحاضر، والتراث الذي لا يستطاع عرضه على الحاضر ليس إلا عبئا على ظهر الأمة التي تحمله!
وقد كتب الفيلسوف زكي نجيب محمود بعد أن استجوب التراث العربي الإسلامي وفحص مواضع انسداداته، وذلك في كتابه "تجديد الفكر العربي" ما يلي:
"لكي تكون لنا رسالة فكرية نسهم بها في عالمنا الصخاب بمذاهبه ودعاواه، لابد أن يكون لدينا ما نقوله، أي أنه لا بد أن نجعل من اللغة أداة لا غاية في ذاتها، فتضيف بذلك "فكراً" إلى "أدب" .
"على أن هذه الخطوة التي اقترح أن نخطوها من اللفظ الجميل إلى اللفظ الدال، من جرس اللفظ إلى مدلوله، من تركيب الجملة إلى بنية الواقع، هذه الخطوة قد خطونا جزءا كبيرا منها في الأدب الحديث حين انتقلنا من فسيفساء المقامات إلى شخصيات القصة ومواقفها، ومن كتب الأخبار المنثورة إلى المسرحية وحوارها، ومن قصيدة الطبل إلى قصيدة الخبرة.
"إننا نعيش في مصر مزدحم بقضايا الإنسان التي تمس حقوقه وواجباته ومعاملاته وأقداره، وهي نفسها القضايا التي كنا نستطيع أن نستلهم فيها تراثنا الفكري فيمدنا هذا التراث بزاد دسم يغنينا عن هذه الزوابع اللفظية التي نثيرها في الجو حتى تمتلئ بعثيرها الخياشيم فتفقد قدرتها على الحس والتمييز" .
ومن الطريف أن زكي نجيب محمود يستشهد ضد تزايد الظلم والبطش في عصرنا، واشتداد عنصرية اللون والعرق والدين، بقول من "الإمتاع والمؤانسة" صدر فيه أبوحيان التوحيدي عن تجربة التعارف الإنساني، وحكمة التسامح والعدل والاعتدال:
"فلكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير. وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق منضوضة بين كلهم" .
ويختم أنور لوقا هذا الفصل من كتابه، بالقول:
"لم يكن لنا بد من هذه الجولة التي تخترق مراحل الأدب العربي، كي نربط بين حلقات الإشكالية: "لماذا نبذنا "ألف ليلة وليلة" ؟" ورغم اتساع دائرة السؤال، فلعلنا قد أحطنا بأهم ما يتفرع عنه من القضايا: قضية المجون أو التذرع بالأخلاق الفاضلة، وقضية اللغة والسيادة، وقضية الهوية الثقافية بين الأنا والآخر، أي قضية الأصيل والدخيل في صميمها، بمآزقها المستحكمة في عصور معينة، وضيق مخارجها نحو آفاق المشاطرة الإنسانية".
جهاد فاضل - لماذا نبذنا ألف ليلة وليلة؟
جريدة الراية
- مصادرة وإحراق نسخها المطبوعة في مصر
- أوروبا وجدت في «الليالي» منهلاً للحداثة
- الأوروبيون اعتبروه أعظم كتاب في تاريخ الحضارة العربية
- الفرنسي جالان حصل من حلب على مخطوطة عربية لها تعود للقرن الرابع عشر الميلادي
- الفرنسيون سبقوا الأوروبيين في اكتشاف نصوص ألف ليلة وليلة
- صدرت ترجمات إنجليزية وألمانية وإيطالية وهولندية ودانمركية وروسية مأخوذة عن جالان
- باريس طبعتها منذ ١٧٠٤ وأول طبعة بالعربية ظهرت في الهند سنة ١٨١٤
- احتفاء الغرب بألف ليلة وليلة على حين استهان بها العالم العربي
- أول إشارة إليها كانت في مروج الذهب للمسعودي باسم هزار أفسانة
يعالج قسم كبير من كتاب الباحث المصري الدكتور أنور لوقا: «أبو حيان التوحيدي وشهر زاد» موضوع «ألف ليلة وليلة» ولماذا لم يلق الترحيب الجدير به عندنا، فيطرح في بداية هذا القسم من كتابه السؤال التالي: «لماذا نبذنا ألف ليلة وليلة» في حين أن الأجانب احتفلوا به أيما احتفال منذ اكتشفوا نسخته العربية القديمة قبلنا بكثير، واعتبروه من أعظم الكتب التي جاءتهم من الشرق.
ويعيد إلى الذاكرة، كمظهر من مظاهر هذا النبذ، حكماً قضائياً صدر عن محكمة آداب القاهرة سنة ١٩٨٥ أدانت فيه كتاب «ألف ليلة وليلة» بقسوة لأن «الليالي»، كما ورد في الحكم، «تخدش الحياء» وتتضمن عبارات مخلة بالآداب، وتفسد أخلاق الشباب».. وقضت هذه المحكمة يومها بمصادرة النسخ، وبسجن الناشر والطابع وأُحرقت النسخ علنا، ولم يَنْجُ من غضب السلطة على «المجون» سوى مؤلفي تلك القصص الذين باتوا في ذمة التاريخ.
«ولم يكن أحد يتخيل أن سنة قريبة مقبلة (هي سنة ١٩٩٤) ستشهد خنجراً تغمده يد الأصوليين في نحر كبير الروائيين العرب نجيب محفوظ»!
ويورد أنور لوقا الوقائع التالية: «أذكر في ربيع ١٩٨٥ لقائي بيوسف إدريس في القاهرة، وكيف تشاطرنا السخط والحسرة. وكنت قادماً من باريس حيث أقام معهد العالم العربي بالتعاون مع دار الكتب الوطنية ومتحف اللوفر معرضاً ثرياً عن الحضارة العربية تمركز حول ألف ليلة وليلة. وصفت ليوسف إدريس ما قلّ ودلّ من مضمون ذلك المعرض الزاخر بمعالم فنوننا في أوجها، وتفاعلها منذ أطوار نشأتها على أرضنا وعبر تاريخنا، حتى أبعد مجالات تأثير هذا التراث في فكر الغرب وإبداعه».
والغريب أن ما يرويه أنور لوقا حول حكم محكمة آداب القاهرة بمصادرة «ألف ليلة» وإحراق نسخها المطبوعة لاحقا، عاد وتكرر عكسه من قبل أجهزة الدولة المصرية. إذ أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، التابعة لوزارة الثقافة، طبعة أخرى من الكتاب، هي نفسها التي صودرت وأُحرقت، وعرضتها للبيع بسعر زهيد نسبيا. وقد نفدت الطبعة خلال أيام يسيرة دون أن يتبين لأحد، وإلى اليوم، أنها «أفسدت أخلاق الشباب»..
ويبدو على ضوء ما يورده الباحث المصري الكبير في كتابه أن الكتاب لقي اهتماماً كبيراً في أوروبا، فأوروبا وجدت في «ألف ليلة وليلة» منهلاً للحداثة حين غاض في فرنسا مع بداية القرن الثامن عشر معين الأدب بين معركتين من معارك القدماء والمحدثين، فطلع عليها عالم فرنسي يُدعى جالان، إذ ذاك، بأول ترجمة لليالي. «كان الجمهور قد سئم الاحتجاج باليونان والرومان ومقولاتهم التي اتخذها «الكلاسيكيون» مثلاً أعلى للإنسانية على اختلاف عهودها، يلغي الزمان والمكان، ويصبّ الناس في قالب واحد، ويسطح نوازعهم باستضعاف العاطفة أمام الواجب.. لذا أصبحوا يتوقون إلى الفرار، إلى الرحلات البعيدة أو إلى أحضان الطبيعة. وإذا بالشرق تنفتح أبوابه أمامهم في تلك الترجمة، فيدخلون الدور والخدور والأسواق والقصور، حيث يضطرب الأمراء والأميرات، والوزراء والتجاّر والصنّاع والصيّادون والفقراء ونساؤهم، تتشابك معاملاتهم وعلاقاتهم، وتدفعهم مغامراتهم البحرية والمعاشية من الواقع المعقود إلى الخيال الطليق.
وكان جالان، مترجم هذه القصص إلى الفرنسية سفيراً لبلاده في تركيا، يجيد اللغات الشرقية، وقد حصل في زيارة له إلى مدينة حلب على مخطوطة عربية لألف ليلة وليلة ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي. وأثناء ترجمته التي ستستغرق اثني عشر مجلداً، التقى براهب حلبي أمدّه بمخطوطة مختلفة من «الليالي»، بل وروى له حكايات شفوية فدوّنها عنه. وكان الفرنسيون أسبق الأوروبيين إلى اكتشاف نصوص «ألف ليلة وليلة». وسرعان ما استلهموها في كتاباتهم. وسرعان ما صدرت عن ترجمة جالان ترجمات إنجليزية وألمانية وإيطالية وهولندية ودانمركية وروسية.
والغريب أن باريس طبعت بالفرنسية «ألف ليلة وليلة» منذ ١٧٠٤، ولم تظهر أول طبعة بالعربية إلا في كلكتا بالهند سنة ١٨١٤. أما في العالم العربي فتولت طباعتها سنة ١٨٣٥ مطبعة بولاق بالقاهرة. وقد ينمّ هذا الفارق الزمني عن احتفاء الغرب بألف ليلة وليلة على حين استهان بها العالم العربي، ولكن تأخر استخدام المطبعة في البلاد الإسلامية يتستر على ذلك الاعتراض بظاهرة أهم.
ولكن كتاب «ألف ليلة وليلة» كان معروفا عند العرب القدماء، نجد أول إشارة إلى الكتاب في «مروج الذهب» للمسعودي، أي في منتصف القرن الرابع الهجري، وهو يسميه باسمه الفارسي «هزار أفسانة»، ويلخصه بأنه «خبر الملك، والوزير وابنته، وجاريتها، وهما شيرازاد ودينارزاد».
ولكنه ينعي عليه «أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقّرب للملوك بروايتها وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة لها». في أواخر القرن يقيّدها بمزيد من التفصيل ابن النديم الورّاق ببغداد في كتابه «الفهرست»، عن معرفة شخصية بهذا النص المكتوب الذي تداوله مراراً. ويضيف أن الجهشياري صاحب «كتاب الوزراء» كان يريد أن يصنّف على غرار الكتاب أي «ألف ليلة وليلة» كتابا يجمع فيه ألف حكاية من حكايات العرب والفرس والهند، ولكنه مات عن أربعمائة وثمانين حكاية!.
ولعل في نقص كتاب الجهشياري هذا وفقدانه (ويمكن أن نعّده محاكاة فجة) ما ينذر بغياب «ألف ليلة وليلة» من واقع الأدب العربي طيلة القرون الخمسة التالية، حتى إذا جاء المقريزي مؤلف «الخطط» في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ذكر «ألف ليلة وليلة» بوصفها «أقاويل خيالية» و «أحاديث عجيبة» وذلك على سبيل التشبيه بقصة غرامية اضطر لروايتها للتعريف بمنتزه «الهودج» بجزيرة الفسطاط في نيل مصر (وتسمّى اليوم جزيرة الروضة» فهو بناء بديع أقامه الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية التي هام بها بعد أن سمع عن جمالها وعبقريتها الشعرية فتنكر عندئذ في زي أعرابي ليراها، ثم تزوجها رغم تعلقها بابن عمّ لها!.
ولكن الذي تفهمه من عبارات المسعودي والمقريزي؟.
نفهم من هذه العبارات أن «ألف ليلة وليلة» ظلت معروفة شائعة في أحاديث الناس وأذهانهم على حين لم يكن لها وجود في مدوّنات الأدب العربي. كان يرويها الرواة شفاها ويسمعها الناس بشغف ويتناقلونها، ويتمثلون بمغزى القصص وأبطالها ومواقفهم بل وأقوالهم، وتنامت هذه الحكايات وتفرعت وتعددّت، وأدخل فيها كل عصر أحداثه وأشخاصه وخيالاته، أي أن حياة هذا العمل السردي الكبير تواصلت وازدهرت بموازاة الصمت عنها إلى حّد إنكارها في فصول الأدب العربي الجدير بهذا الاسم، أي المكتوب المتواتر.
على ضوء ما يرويه أنور لوقا نفهم أن الكتاب مغضوب عليه عندنا أو في تراثنا. لقد جاء من الخارج، ولم يدخل صفوف النثر العربي كما دخلت مترجمات العلوم والفلسفة، فتلك كتابات مهنية فنية. أما كتاب «ألف ليلة وليلة» فيمسّ النفس الإنسانية ويصوّر واقع البشر وعواطفهم ويعّبر عن خبايا الخاطر ونواع الحرية وهبات القدر. إنه كتاب للعامة بأوسع معاني هذه الكلمة، لا لحفنة من المتخصصين، ولا لحصر الفكر في حيز محدود من المعرفة.
ولكن على ضوء ما ينقله لوقا، يتبين أن هذا الكتاب الإنساني الجامع حاول أن يندرج ضمن النصوص التي كان ينسخها الورّاقون وتتضح المحاول في شهادة الورّاق ابن النديم، إذ يقول: «ونقلته العرب إلى اللغة العربية (من الفارسية) وتناوله الفصحاء والبلغاء وهذّبوه ونمّقوه». ولكن ترجمة «هزار أفسانة» إلى «ألف ليلة وليلة» - وإن نقّحها ونمّقها المراجعون - ظلت مهمشة بالقياس إلى تيار الأدب العربي التقليدي. وتنطق تنحيتها لا بقصور «الليالي» من حيث الإبداع وصنعة الرواية، بل وبإسقاطها من مرتبة الشرف العرقية التي مّيزت كلام العرب على كلام سواهم، وهي تلك الهالة التي ضيّقها أولياء الأمور إلى حّد الحظر الذي ضربوه على المصنفات، أي ما نسمّيه اليوم بالرقابة.
ويتحدث أنور لوقا في هذا الفصل من كتابه عن الفرق الحاسم «بين الاغتراب عن الواقع وبين الدخول في أدب جديد يواجه امتحان الحداثة، ويتعّمق ما يجتازه الإنسان العربي المعاصر» . عندما نقرأ فيما بعد رواية «أديب» لطه حسين. قص فيها صاحب «الأيام» قصة صديقه جلال شعيب الفاجعة دون أن يسّميه، فعالج بوسائل التعبير الروائي المواتية المرنة موقفنا الصراعي إزاء الطفرة الحضارية التي دفعت بطلائعنا إلى معايشة الغرب المحتومة، لا كما فعل المويلحي بتعميماته السطحية والتزامه السجع التطريبي في «حديث عيسى بن هشام» . ولا شك أن رواية «أديب» التي نشرها طه حسين سنة ١٩٣٥ قد جاورت في قريحته عالم «ألف ليلة وليلة» الذي راح يغترف منه، مع توفيق الحكيم خلال عطلة لهما في فرنسا، رواية «القصر المسحور» التي ستظهر في العام التالي (١٩٣٦) ولبطلتها سيفرد طه حسين سنة ١٩٤٣ رواية أخرى هي «أحلام شهرزاد». إن طه حسين الذي عانى صبيا من سلطة «سيدنا» في الكتّاب وهيمنته مادياً ومعنوياً على القرويين، هو الذي سيحّرر الثقافة العربية من تنطّع ما سخيها. سيتولّى الأستاذية في مجتمعه، محل «سيدّنا» البائد، فتوجهه تلميذته الجامعية سهير القلماوي إلى دراسة لألف ليلة وليلة أثراً تاريخياً وعملاً أدبياً (صدرت الدراسة التي قدّمتها لجامعة القاهرة عن دار المعارف مكتبة الدراسات الأدبية سنة ١٩٥٩).
هكذا عادت «ألف ليلة وليلة» إلى أحضان الأدب العربي. وفي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي أيضا، يشهد بتلك العودة ويرحب بها أحمد حسن الزيات مؤرخ الأدب العربي، ومؤسس «الرسالة» ومترجم غوته ولامارتين، وصديق طه حسين منذ دراستهما بالأزهر.
ثمة مقال لأحمد حسن الزيات ورد في «الرسالة» يردّ فيه الاعتبار إلى شهرزاد، يقول فيه:
«هذه الأقاصيص الشائقة التي كانت لعقولنا الصغيرة سحرا، ولعواطفنا المشبوبة سكراً، ولقلوبنا الغضة فتنة، هي نوع من الأحلام والأماني تراءت في ليل الحياة الطويلة، ثم تجمعت في ذاكرة الزمن القديم، وتنقلت من عهد إلى عهد، ومن مهد إلى مهد، ومن بلد إلى بلد، تحمل في طواياها نفحات الحكمة المشرقية العالية، وعطور الأزمن البعيدة السعيدة. فوجودها أثر لوجود الإنسان، لأنها ظاهرة طبيعية من ظواهره كالغناء والشعر والرقص، فلا تُعرف لها أولوية، ولو تحدد في الغالب لظهورها علّة. ولكن علماء الأساطير يزعمون أنها نشأت في الهند وهاجرت منها إلى بلاد الفرس، ثم رحلت إلى بلاد العرب، ثم استقر بها النوى في أقطار الغرب. وفي كل مرحلة من هذه المراحل، كانت تصطبغ بصبغة البيئة، وتتأثر بخصائص الجنس وتتسم بسمات العقيدة.
وأما أبطالها الذين وُجدوا على الرغم من قانون الوجود، ونازعوا أبطال التاريخ ثوب الخلود، فقد كان لبعضهم ولا شك حظ من الحياة وشُهرة بملازمة الأسفار وملابسة الغير. فتحدث الناس أولاً بما فعلوا ثم سرّحوا حول أسمائهم وأبنائهم الأكاذيب والأعاجيب حتى أصبحوا أعلاما على شخصيات متميزة في البطولة والحرب والحب والحيلة والكرم (كدعد) و(ليلى) في الشعر، و(أبي نواس) و(جحا) في التنادر. أما أكثر الأبطال فمن خلق الخيال، ابتدعهم رموزا للمثل الأعلى، أو القدر، أو الجَدّ العاثر، أو السلطان الحائر، أو الهوى المتسلط، أو الأمل الآسي، أو الحظ السعيد.
واستتبع الاحتفال بعودة "ألف ليلة وليلة" ، وبفضلها على نشأة المسرح والرواية، لا سيما في كتابات توفيق الحكيم، اشتداد الوعي بجريرة تغليب اللغة على الأدب، وبالاختناقات التي أدت إليها دعوة ابن قتيبة وأتباعه. يجاهر بذلك الشاعر صلاح عبدالصبور عندما يقول:
"تُعَدّ ألف ليلة وليلة" أوضح صورة للخيال الطليق في الأدب العربي، بل هي توشك أن تُعدّ صورة فريدة لهذا الخيال الطليق. فقد كان الخيال العربي في شعر الفصحى وفي آثار المنشئين البلاغيين كسير الجناح قصير النفس بحيث اقتصر على ألوان راسخة ثقيلة من التشبيه والاستعارة والمجاز. أما "ألف ليلة وليلة" فقد حفلت بالخيال الحركي الذي يستمد مادته من خلق عديد من الشخصيات التي تتصارع أقدارها في عالم يختلط فيه تدبير الأنس بتقدير الجن وقدرتهم الخارقة على التصرف" .
ويضيف عبدالصبور: "لقد طُردت" ألف ليلة وليلة" طردا عنيفا من رحاب الأدب لتحل محلها مماحكات ابن العميد وسخافات القاضي الفاضل" .
قد يكون عنصر "الحكاية" هو أول ما استهوى توفيق الحكيم. فالحكاية تعني وجود الشخصيات المتباينة المختلفة، كما تعني وجود الإنسان في وسط حياة اجتماعية وسياسية لها قوانينها المفروضة التي سُنّت قبل أن يوجد، مما يتولد عنه صراع ديناميكي هي بينه وبين هذه القوانين، تتفتق فيه قدراته، وتتجلى فيه مواهبه وإمكاناته. فالإنسان في الحكاية في حالة ديناميكية. بينما نجد الإنسان في القصيدة العربية التقليدية أو في بلاغيات المنشئين العرب من كتاب الرسائل والدواوين في حالة استاتيكية جامدة.
ولكن لا شك أن التراث لا حياة له بدون عرضه على الحاضر، والتراث الذي لا يستطاع عرضه على الحاضر ليس إلا عبئا على ظهر الأمة التي تحمله!
وقد كتب الفيلسوف زكي نجيب محمود بعد أن استجوب التراث العربي الإسلامي وفحص مواضع انسداداته، وذلك في كتابه "تجديد الفكر العربي" ما يلي:
"لكي تكون لنا رسالة فكرية نسهم بها في عالمنا الصخاب بمذاهبه ودعاواه، لابد أن يكون لدينا ما نقوله، أي أنه لا بد أن نجعل من اللغة أداة لا غاية في ذاتها، فتضيف بذلك "فكراً" إلى "أدب" .
"على أن هذه الخطوة التي اقترح أن نخطوها من اللفظ الجميل إلى اللفظ الدال، من جرس اللفظ إلى مدلوله، من تركيب الجملة إلى بنية الواقع، هذه الخطوة قد خطونا جزءا كبيرا منها في الأدب الحديث حين انتقلنا من فسيفساء المقامات إلى شخصيات القصة ومواقفها، ومن كتب الأخبار المنثورة إلى المسرحية وحوارها، ومن قصيدة الطبل إلى قصيدة الخبرة.
"إننا نعيش في مصر مزدحم بقضايا الإنسان التي تمس حقوقه وواجباته ومعاملاته وأقداره، وهي نفسها القضايا التي كنا نستطيع أن نستلهم فيها تراثنا الفكري فيمدنا هذا التراث بزاد دسم يغنينا عن هذه الزوابع اللفظية التي نثيرها في الجو حتى تمتلئ بعثيرها الخياشيم فتفقد قدرتها على الحس والتمييز" .
ومن الطريف أن زكي نجيب محمود يستشهد ضد تزايد الظلم والبطش في عصرنا، واشتداد عنصرية اللون والعرق والدين، بقول من "الإمتاع والمؤانسة" صدر فيه أبوحيان التوحيدي عن تجربة التعارف الإنساني، وحكمة التسامح والعدل والاعتدال:
"فلكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير. وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق منضوضة بين كلهم" .
ويختم أنور لوقا هذا الفصل من كتابه، بالقول:
"لم يكن لنا بد من هذه الجولة التي تخترق مراحل الأدب العربي، كي نربط بين حلقات الإشكالية: "لماذا نبذنا "ألف ليلة وليلة" ؟" ورغم اتساع دائرة السؤال، فلعلنا قد أحطنا بأهم ما يتفرع عنه من القضايا: قضية المجون أو التذرع بالأخلاق الفاضلة، وقضية اللغة والسيادة، وقضية الهوية الثقافية بين الأنا والآخر، أي قضية الأصيل والدخيل في صميمها، بمآزقها المستحكمة في عصور معينة، وضيق مخارجها نحو آفاق المشاطرة الإنسانية".
جهاد فاضل - لماذا نبذنا ألف ليلة وليلة؟
جريدة الراية