نقوس المهدي
كاتب
أي مجتمع من المجتمعات الحديثة يعتبر وليداً لما سبقه من المجتمعات، فالحضارة القائمة في عصرنا هي ابنة العصور القديمة مضافاً إليها ما استجد من ظروف التقدم. ولذلك لابد من البحث في جذور تراثنا، قبل البحث في أزمة الجنس في القصة العربية الحديثة، فالمجتمعات ترث عن بعضها الكثير من مقومات الحياة المادية والقيم الفكرية القديمة، إلى جانب حاجتنا للغوص في أعماق التكوين الاجتماعي لحضارتنا، منذ لحظة قيام دولة الرقيق، والدور الذي لعبه الجواري والقيان في حياة المجتمع العربي. فراح الشعراء حينها يصورون العلاقات الإنسانية الناشئة في مثل هذه الدولة. العلاقات الشاذة والطبيعية على السواء. وبرزت دلالات جديدة للعلاقة الجنسية، استمدت مضمونها ومحتواها من جوف البنيان الحضاري الجديد.
يقول محمد عبد الغني حسن في ملامح المجتمع العربي "ففي عاصمة العباسيين بغداد والقاهرة أيام الفاطميين، ومن بعدهم من السلاطين، نرى بيوتاً للإثم تقوم ودوراً للدعارة تشيد، ونرى النساء الساقطات يقمنّ في هذه البيوت باسم الدولة وفي حمايتها، ونرى المواخير والحانات في عصر الرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكل، تنقلب إلى دور للدعارة في عصر البويهي. ثم يقر ذلك الوضع الشاذ الغريب في بلد إسلامي كالعراق، وترسم على هذه البيوت ضريبة تدخل حصيلتها إلى بيت المال. ثم تنتشر العدوى إلى مصر الفاطمية فيذكر صاحب كتاب "الخطط" بيوت الفواحش التي كانت تجبي عليها الرسوم، ويضمن تحصيلها ضامن".
ويتحدث المؤرخ الإنكليزي "لين" عن هذه الفترة فيقول: "يمكنك أن تتصور الفساد الذي يحيق بالرجل والمرأة على السواء نتيجة سهولة الطلاق. وقد وجد في مصر عدد كبير من الرجال تزوجوا في مدى عشر سنوات نحو عشرين أو ثلاثين زوجة. كما أن هناك نساء لسنّ متقدمات في السن، صرنّ زوجات لأثني عشر رجلاً أو أكثر على التوالي. وقد سمعن عن رجالٍ اعتادوا أن يتخذوا زوجة جديدة كل شهر، وللرجل الحق أن يفعل ذلك مهما كان دخله أو ما يمتلكه ضئيلاً، فهو يختار من بين نساء الطبقة الفقيرة أرملة حسناء أو امرأ ة مطلقة ترضاه زوجاً إذا دفع لها صداقاً عشر شلنات، حتى إذا طلقها ليس عليه إلا أن يدفع لها ضعف هذا المبلغ تنفق منه على نفسها خلال فترة العدة".
هذه التركة التي ورثها المجتمع العربي على مدى الأجيال، يبدو من الواضح أن كافة العادات والتقاليد المعاصرة هي امتدادات طبيعية لما اشتمل عليه المجتمع العربي من مقومات. فما يزال الطلاق وتعدد الزوجات، وما يتبعها من علاقات كالزنا والبغاء، بل أن هذه جميعاً بلغت من السطوة والرسوخ حداً ألغى معه قوة القانون. فبينما يغلق القانون المصري بيوت البغاء منذ عام 1949 نجد أن هذه البيوت ازدادت عدداً وتنوعت أشكالها. وما من مراهق إلا ويتساءل بشغف عن (رجوع الشيخ إلى صباه) أو (مذكرات إيفا) أو (كازانوفا) وغيرها من القصص الرخيص الذي يملأ الأسواق باسم الأدب والفن، وهما منه براء. ولكنها ظاهرة خطرة اثبتتها الرسالات العلمية التي تقدّم بها أساتذة وطلاب الجامعة الذين تناولوا بالدرس الدقيق ملامح هذه الأزمة، وانتهت دراساتهم إلى نتيجة هامة جديرة بالتأمل. فقد تأكد لديهم أن تاريخ المجتمعات العربية – في خط سيره الطويل – لم يفز بفترات من الاستقرار التام. وما يغلب بالفعل على شكل تطوره هو اجتيازه عدّة مراحل متلاحقة من نقاط التحول والانتقال. وتتميز نقطة التحول غالباً بالحدّة، فلا يجدي معها الحسم إذا تعرضت للدراسة والمناقشة على أن ذلك لا يعني مطلقاً، أننا لا نستطيع تحديد معاني حياتنا ومفاهيمها ضمن هذه الإطار الاجتماعي المتقلقل. إذ مجرد حصولنا على صورة صادقة لهذا الإطار يعني في اللحظة نفسها على ما تتضمنه هذه الصورة من معانٍ ومفاهيم.
ورغم أن الخطوط العريضة في لوحة المجتمعات العربية متشابهة، إلا أن التفاصيل الصغيرة قد تكسب الواحد منها صفات ذاتية يختلف بها عن الآخر. فلو أخذنا الأدب اللبناني وبحثنا عن السمّة الغالبة عليه، لاكتشفنا أنها ليست تماماً هي السمة الغالبة على الأدب المصري، رغم القرابة التاريخية التي تربط المجتمعين، وبالتالي الأدبين. وهنا يمكن إجراء هذه المقارنة بين بعض النماذج الأدبية من البيئتين.
في إحدى قصص الكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد يحكي لنا عن قصة امرأة قروية كانت تمارس البغاء في المدينة، ثم قتلها عشيقها ذات يوم فحُملت إلى مسقط رأسها في القرية حيث دفنت. وتشغل القرية كلها بالقصة، وتشير إلى ثراء المرأة، وتروى أن خاتماً ثميناً ما يزال في إصبعها. وهنا يبرز مختار القرية غاضباً يريد أن يحرق الأكاليل والصليب الذي وضع على قبر الزانية التي لا تستحق هذه الشرف. ويتسلل في الليل إلى المقبرة، فينبش القبر ويقطع إصبعها الذي فيه الخاتم، ثم يعود جزعاً يرتعد من الخوف مما خيل إليه من رؤية الأشباح. وفي اليوم التالي رأى أحد الرعاة بالقرب من المقبرة، إصبعاً مقطوعاً فيه خاتم، فاقشعر من المنظ، وحسبه إصبعاً لإحدى بنات الجن كما روت له جدته فيما مضى، وجاء بحفنة تراب وطمره بها ثم مضى في سبيله. ويتضح في النهاية أن المختار كانت له علاقة سابقة مع المرأة، وأنه كان السبب الأول في دفعها إلى البغاء. ويعلق الدكتور سهيل إدريس على هذه القصة بأنها "تصوير صادق للمشاعر التي تنتاب أهل القرية اللبنانية تجاه امرأة ضلت طريقها". بينما نجدها بعيدة كل البعد في أجوائها وتحليلها عن القرية المصرية ومشاعرها إزاء مثل هذه المرأة. فالإحساس بالخطيئة الذي يشعر به المختار نحوها هو إحساس مسيحي في الأغلب، ولا يمت إلى شخصية "سارق الإصبع" بصلة ما، بل لا يمت إلى شخصية الثائر على التقاليد التي وضعت الصليب على قبر بغي. ربما لا نعثر على هذا الإحساس المسيحي الحاد بالخطيئة في غير لبنان. ولكنه يعتبر من الخصائص المميزة لأدبه، بل ويضع أيدينا على خيوط العلاقات الإنسانية في هذه المجتمع، ومن ثم يهدينا إلى تحديد واضح بيّن لإحداها، أي العلاقة الجنسية.
وكذلك الأمر نجد للمرأة الأجنبية في القصص اللبناني نصيباً موفوراً، قلّ أن تحظى به آداب المجتمعات العربية الأخرى. فالاستاذ عواد يعالج موضوع الحب المراهق في قصة بعنوان "الشاعر" وهي قصة طالب يقع في حب امرأة إيطالية تنزل بفندق أبيه. كما نرى قصة "الإعدام" لخليل تقي الدين، حيث يهوى شاب في العشرين من عمره راقصة إسبانية تعمل في إحدى ملاهي بيروت. هذه هي الموضوعات التي تقدم لنا "مشكلة الجنس" كما عرفها المجتمع العربي في لبنان، وكما عبّرت عنها قصص أدبائه في ذلك الوقت.
فإذا انتقلنا إلى القصة العربية في مصر، التقينا بالفنان الذي أرّخ لفجر الرواية المصرية بقصته "زينب" نجح الدكتور هيكل في هذه الرواية نجاحاً باهراً إذا لم نغفل العامل الزمني، في أن يرسم ببراعة الصورة الرومانسية للجنس. وقد صدرت القصة عام 1914 أي ذلك التاريخ الذي كانت تعاني فيه مصر أزمتها التاريخية مع بداية الحرب العالمية الأولى. وكان النظام الإقطاعي المهمين على أشكال الحياة المصرية يخيم في الوقت نفسه على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. لهذا كان (حامد) بطل قصة هيكل – رمزاً لشباب ذلك الجيل المعذب، بين مثله العليا المستمدة من ثقافة الغرب، وبين الأوضاع السيئة السائدة آنذاك في المجتمع المصري. لقد تزوجت (عزيزة) ابنة عمه من شاب آخر، وضربت الأسرة عرض الحائط بقلب (حامد) الذي راح يبحث عن سلواه بين ضلوع فلاحة فقيرة هي (زينب) ويحس في أعماقه باستحالة هذا الحب غير المتكافئ. فيغمس همومه في العبث بفتيات القرية. ويبلغ القصاص الذروة في المزاوجة بين طبيعة الريف وأخلاقياته. فهو يجعل من الحقول المنبسطة والأشجار والحيوانات والأراضي المترامية، ظلالاً حيّة للموقف الإنساني الذي يعرض له. وبالتالي نحس بالصلة الوثيقة بين الدلالة الرومانسية لمنظر الطبيعة، ونفس الدلالة في المشهد الروائي. ثم نوقن تماماً بأن الطبيعة والحدث الاجتماعي كلاهما ينبعان من أرضٍ واحدة يحيطها إطارٌ واحد. هكذا جاءت مشاهد "الخطيئة" في الرواية تحيطها هالة من الشعور بالذنب، دفعت حامد لأن "يعترف" بنواياه إلى أحد مشايخ الطرق قائلاً: "قابلتني فأخذ بعيني جمالها، وبهرني فيها عيون نجلٍ وخدودٌ متوردة في لون قمحيٍّ جذاب، وجسم خصب وقوام غضٍّ وخصرٍ دقيقٍ وبنانٍّ رخص ... وجاء اليوم الذي زوّجت فيه هذه الفتاة، والذي عاهدت نفسي فيه أن أنساها إلى الأبد، إذ ما دامت لغيري، فمن الغدر الذي لا يليق بي أن أفكر فيها مجرد تفكير. ورجعت بذلك لابنة عمي التي وعدت، وجعلت أتخيل لها كل شي حسن، وتبادلت معها كلمات قليلة، ولكنها انتهت هي الأخرى بأن تزوجت، فعراني لذلك حزنٌ عظيم، ثمّ سرعان ما سقطت عن كتفي أحمالهُ حتى لقد عرتني الغرابة كيف يمكن أن يكون ذلك شأني... وأسلمتني إلى نوبة فظيعة هي التي دفعتني إليك. نوبةٌ أحسست معها بالحاجة المطلقة أن أملك هذه الفتاة الريفية رغم أنها متزوجة".
وهكذا تسير صفحات القصة، فلا نعثر على موقف جنسي صريح لأن العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع لم تكن نفسها صريحة. وما نلاحظه في الرواية من أحاديث عن الجنس، تكتسي بثوب فضفاض من الحياة والتخفي، فلأن نظرة المصري والمجتمع إلى هذا الموضوع، كانت هي بعينها نظرته إلى سائر الأشياء: نظرة ضبابئة غائمة تحيل كافة المرئيات والعلاقات إلى ألوان باهتة غير واضحة.
بعد ظهور (زينب) نلتقي بأحد روّاد المدرسة الحديثة، محمود طاهر لاشين، سنتفاجأ بأن النظرة الرومانسية في الحياة والأدب على السواء، بدأت تنقشع لكن المفاجأة تصبح غير ذات موضوع لو تتبعنا الخطوات التاريخية الرائعة التي نقلت المجتمع المصري بعد ثورة 1919 إلى مرحلة حضاريّة جديدة، تختلف من جميع زواياها، مع المرحلة السابقة لهذا التاريخ. كان (حامد) في قصة هيكل شاباً مستسلماً للمقادير. ما أن تتزوج ابنة عمّه حتى ينحني للعاصفة. ثم يعي استحالة عواطفه نحو (زينب). غير أن السنوات التي بدأت بفشل الثورة الوطنية، أخذت تشحن النفوس بقوى إيجابية جديدة وفدت مع ثبات أقدام الطبقة المتوسطة وبزوغ سلطانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. صاحبت هذه الطبقة نظرة جديدة للحياة وللإنسان والمجتمع، انعكست على آداب تلك الفترة وفنونها. في المجموعة الثانية لطاهر لاشين والمسماة (يحكى أن) نرصد الموضوعات التي طرقتها وأشكالها التعبيرية، فنحصل من خلالها على اهتمامات العصر، ونظرة المجتمع إليها.
· يحكى أن: موظف أبله يتزوج من فتاة داعرة لها عاشق.
· حديث القرية: فلاح يقتل زوجته وعشيقها.
· الفخ: قوّاد يتظاهر بأنّه من الأعيان، وأنّه فقد وعيه من الخمر، ويجر ضحاياه إلى داره وهي ماخور.
· الكهلة المزهوة: امرأة عجوز أرمل تتزوج من نصاب يبدد أموالها.
القضية أصبحت واضحة هنا أكثر من ذي قبل، بعد أن تحولت المشكلة إلى مرحلة أكثر تعقيداً، فالعلاقة بين الرجل والمرأة تشكّل موضوعاً أساسياً في المجموعة.
في قصة (حديث القرية)، يُدعي الراوي لزيارة إحدى القرى مع صديق له، وهناك يلتقي مع الفلاحين وبؤسهم، فيحاول أن يبذر في نفوسهم بذور التمرد على واقعهم المرّ، غير أن المأذون – الأب الروحي للفلاحين ومشكلاتهم – يستهين بمحاولات الراوي، ويبدأ في سرد حكاية "عبد السميع" الإسكافي الذي (لم يرضَ بما قسمه الله له وأراد أن يرفع نفسه درجة لم تكتب له في الأزل)، فاشتغل حاجباً خصوصياً لأحد الموظفين بالمركز. وكان هذه الموظف أعزب (باع الآخرة بالدنيا) فاستدرج زوجة عبد السميع – وكانت رائعة الجمال رغم فقرها – وعملت عنده خادماً، إلى أن كانت إحدى الليالي حين أمر الموظف حاجبه أن يذهب إلى عمدة القرية برسالة، وأن يعود بالرد في الصباح "سار عبد السميع على جسر السكة الحديدية يفكر في حاله والشك يملأ قلبه، وكان القمر يضيء له الطريق، فأبصر بين القضبان قطعة من الحديد بطول الذراع، فتملكته الرغبة أن يعود للدار، وهو يؤكد فيما بعد أنه حاول التغلب على هذه الرغبة فلم يستطع، كأن قوة خفيّة كانت تجره إلى الوراء. وأخيراً عاد وفاجأ العاشقين، فرأى سيده (في مكانه الزوجية من امرأته). ضج السامعون بالتأفف والاشمئزاز ولجأوا إلى الله بطلباتٍ لا تحصى. "أهوى عبد السميع بقطعة الحديد على رأسيهما فماتا فوراً". يعبّر السامعون عند هذه القول عن تأييدهم واستحسانهم "ولم يكتف عبدالسميع بذلك، بل ظلّ يضربهما حتى تناثر المخ من رأسيهما، والتصق بعضه بالجدار"، وهنا تنبعث من سامعيه أصوات استحسان واشمئزاز في وقت واحد.
في هذه القصة يحيط لاشين بجملة الظروف الضائعة للمأساة، فيبرز "الفقر" كمصدر حاسم في تمزق الفلاحين اجتماعياً، فهم ينقادون ببساطة لا واعية وراء المأذون، والمأذون يحمل في جيوبه مخدراً شديد الوطأة على نفوسهم هو مجموعة من قصص الفضائح، لكنه يتخير فضائح من نوعٍ خاص يؤثر بها على هذه النفوس فلا تكاد إحداها تخرج عن نطاق (الجريمة والجنس)، بل لعل الجنس هو ما يقصد إليه مباشرة، وما الجريمة إلا إحدى نتائجه. ويكشف المأذون – بغير وعي – عن جراح الفلاح الغائرة في وجدانه. الفلاحون يتأهون في أعماقهم من الفقر، أما "الخطيئة" فهي أكبر وأقوى من "الحياة" لذلك فإن معنىً خاصاً للشرف تحدده هذه الحياة؛ إنه هذا الشعور النائم في خلايا دمائهم تحركه أقل هزّة من الخارج، من السطح، أن الفلاح يشتعل بالغضب الرهيب عند سماعه نبأ اغتصاب زوجة عبد السميع، وتبدأ أعصابه في الارتخاء مع ضربات قطع الحديد فوق رأسها ورأس عشيقها. على أن استغراق الفلاحين التام في القصة وتجاوبهم الشديد مع أحداثها يؤكد أن هزّة "السطح" هذه ليست من الخارج، إنها صدى صريح لدوامة تشمل كيانهم، أو هي همزة الوصل بين هذه الأزمة وظروفهم المحيطة بهم. أما الفنان فيصور المأساة في قالب حي يوائم – إلى حدٍ ما – المضمون الاجتماعي الذي يقدمه. فهو يتوخى – في الدرجة الأولى – تسجيل الانعكاسات النفسية في صدور الفلاحين، إزاء تفاصيل القصة. ولا يجنح إلى إبراز المعنى الجنسي في صورته الفوتوغرافية. بل يكتفي بأن يقول عن الزوج (رأي سيده في مكان الزوجية من امرأته) ملخصاً بذلك موقفاً كاملاً، استعاض عن رؤيته الجامدة بتحليل مقدماته وأسبابه ونتائجه، مرحباً بما يعتمل في جوانح هذه الفئة من الناس من إرادة في (الستر). وها نحن نفرق بين "زينب" و "حديث القرية" ثانيةً فنقول أن الفلاح في قصة "لاشين" كان أكثر تسامحاً واضطراراً لمواجهة مشكلاته وعلاقاته حتى ولو كان من بينها العلاقة الجنسية. كذلك لا نرى شبيهاً لـ "حامد" الثري المستسلم، بل تواجه الطبقة المتوسطة ممثلةً في معاون الإدارة الموظف بالمركز، وهكذا تتعدد مستويات الأقصوصة وتتنوع مناسيبها، رغم أن "القرية" هي الأرض المشتركة بين هيكل ولاشين.
غير أن الأديب "عيسى عبيد" في قصته "مأساة قروية" هو الذي بلّور بشكل رائع هذه المناسيب والمستويات، والقصة لفتاة قروية وقع ابن عمها في هواها، ولكنها تصد عنه لتستسلم مختارة لابن صاحب الأرض. إذ وجدت عنده في طفولتها شيئاً لم تألفه، هو رقة الحديث والتودد إليها، وتوهمت فيما بعد أنها تجد بين أحضانه خلاصاً من حياتها الضائعة في الفقر والمهانة. أما الشاب فلا يدفعه نحوها سوى شهوته، وكان في البداية حين شعر بحاجته للحب، لم يجد حوله فتاة تشاركه عواطفه، لأن التقاليد حرمت الاختلاق بين الجنسين، فالتمس الحب عند إحدى بائعات الهوى، فلما وقف على فهم جديد لعلاقة الرجل بالمرأة تحول عن غرام الأولى، وأصبح لا يعرف من الحب إلا ما علمته إياه البغي. حينئذٍ يعزم ابن عم الفتاة على قتل الشاب المستهتر فيجرحه دون أن يصرعه، ولكنه ينجح بمساعدة الأسرة في قتل الفتاة ثأراً لشرفهم.
هنا تبدو "القرية" هي مهد التجربة الفنية في القصص الثلاث. وإن كانت دلالة الجنس تتطور من واحدة إلى الأخرى، فلأن المجتمع كان يتطور هو الآخر، فإننا كنا نرى الشاب الثري في قصة عبيد، لا يتوقف عند أعقاب الرومانسية في فهم العلاقة الجنسية، وإنما يتجاوزها إلى ما تورط فيه مع الفلاحة الفقيرة. والفلاحة هنا تختلف عن "زينب" التي لم تلقِ بالاً للشاب الغني، وأحبّت "إبراهيم" رئيس العمال، فالفلاحة في قصة عبيد يستهويها الشاب الثري – فيتخلص الكاتب بذلك من مثالية زينب غير المبررة فنياً أو اجتماعياً – ثم تستسلم له معلنةً بذلك مفهومها في الحب الذي يحمله الثراء أو الغنى إلى الفراش.
"القرية" موضوع أساسي للأدباء بصفة عامة، وموضوع خصب للجنس بصفة خاصة، ولا نجد تغييراً مقبولاً للعناية المفرطة بالريف – آنذاك – إلا بأن المدينة – بشكلها الحضاري الجديد – لم تكن قد حُفرت في وجدان الأدباء إحساساً عميقاً بمشكلاتها وقضاياها، ذلك أن التكوين الصناعي كان في خطواته الأولى المتعثرة، قبل أن يصبح تكويناً متكاملاً يدعى المدينة.
وكان توفيق الحكيم أول من أدرك هذا المعنى الجديد في روايته "الرباط المقدس" التي صدرت عام 1944، فقد أوضحت شعوره الحاد بالتمزقات التي رافقت ذلك التكوين الحضاري الوافد. والمحور الدرامي في الرواية هو أزمة المرأة الجديدة الحائرة بين الرجل الذي يطلب منها الجسد والأطفال و"عش زوجية سعيدة"، والرجل الذي يبادلها الجسد بالقلب، ولقد بلغ الحكيم مستوى عالياً في التقاط مظاهرها. ويبدو أنّ هذه الحيرة القلقة لم تقف على المرأة فحسب، وإنما سطت على قلب الرجل، فجعلته عاجزاً أمامها. ولذلك وقف الحكيم تجاه المظاهر والسطوح الخارجية دون الولوج في أغوار الأزمة. ولأنه لا يمتلك منهجاً يغوص به إلى جذور المأساة تراه يقف طويلاً عند القشور، وكأنها السبب اليتيم فيما أدت إليه الأحداث من كوارث. لنقرأ مثلاً ما كتبته المرأة في كراستها الحمراء إذ تقول "فقادني إلى حجرة نومه، وتلقى جسمينا ديوان وثير، وقال لي في همسة عذبة: يا حبوبتي، وطوقني والتصقت شفاهنا، وتنفسنا والعين في العين. فخيّل إليّ أني أشرب أنفاسه شرباً، وأنّها تهبط إلى سويداء قلبي. فأدركت عندئذٍ أن جسدي كان جوعان حباً، وإن هذه الرجل يستطيع أن يصنع بي ما يشاء. وهنا شعرت بأصابعه اللبقة تفك أزرار ثوبي وتجردني منه بغير لهفة ولا عجلة، ثم جعل يعجب بي وأنا هكذا. ثم أخذ يداعبني بيده وفمه، أنّها عين القبلة التي عرفتها فيما مضى، ولكنها من قبل كانت تطبع على جسد هامدة، يتمنى في قرارته الخلاص، ويود لو يدفع عنه تلك المداعبات الثقيلة التي يتكلف احتمالها تكلفاً. أما هذا الحبيب فلا شيء منه أكرهه مطلقاً.. لقد خُيّل إليّ أنني أريد بدوري لو أغطي جمسه بقبلاتي. وأخيراً حملني وأنا في شبه غيبوبة إلى سريره المعطر. وتركني واختفى لحظة، ثم عاد متدثراً في روب دي شامبر خفيف من الحرير والملاعبة من جديد... وجعل يهدهدني بكلمات الحب: يا حبيبتي، يا معبودتي، يا حياتي، إلى أن صرنا جسماً واحداً لا تفصل بيننا شعرة".
والسؤال هنا: لو أن المشكلة اقتصرت على هذه الصورة، لما كانت هناك مشكلة على الإطلاق. فكيف يمكن إقناعنا بأن "سيدة" تعيش في كنف زوج ناجح يتيح لها حياة طالما تمنتها، ولا يكشف لنا الفنان عيباً أو نقصاً واحداً يمكن أن نأخذه على الزوج، ويمكن بدوره أن يمهد لهذه العلاقة مع الرجل الآخر. ثم لا نكتشف في الرجل الآخر ما يميزه عن سائر الرجال، اللهم كونه نجماً لامعاً؟ على أن هذا لا يمنطق الأحداث إذا علمنا أن ما ينقص المرأة ليس هو الشهوة. ورغم هذا كله فإن توفيق الحكيم في "الرباط المقدس" شيء ممكن الحدوث، فلو تجاوز "خارج الظاهرة" إلى "داخلها"، أي لو أنه تعمق في الأزمة من باطنها، لتكشفت له المسببات الحقيقية لها، ولاستطعنا أن نقتنع بها وجدانياً، دون الحاجة إلى عرض قطاع مسطح لإحدى زواياها كما فعل الحكيم.
إن منهجه في التعبير – الذي اضطره إلى سرد المشهد الجنسي في لحظته الميكانيكية – هو تطبيق لمنهجه في التفكير الذي أوقفه عند المظهر، وما جعل منه شيئاً غريباً هو هذه الوقفة السطحية من الفنان، الجوهر.
وتبقى هذه القصة هي بمثابة نقطة البداية عند أدبائنا للإحساس بالمدينة إحساساً حضارياً يتمثل أزماتها ومشكلاتها ومآسياه على نحو يغاير أحاسيسهم الريفية.
مراجع:
شكري، غالي: أزمة الجنس في القصة العربية، دار الشروق، 1991، القاهرة.
يقول محمد عبد الغني حسن في ملامح المجتمع العربي "ففي عاصمة العباسيين بغداد والقاهرة أيام الفاطميين، ومن بعدهم من السلاطين، نرى بيوتاً للإثم تقوم ودوراً للدعارة تشيد، ونرى النساء الساقطات يقمنّ في هذه البيوت باسم الدولة وفي حمايتها، ونرى المواخير والحانات في عصر الرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكل، تنقلب إلى دور للدعارة في عصر البويهي. ثم يقر ذلك الوضع الشاذ الغريب في بلد إسلامي كالعراق، وترسم على هذه البيوت ضريبة تدخل حصيلتها إلى بيت المال. ثم تنتشر العدوى إلى مصر الفاطمية فيذكر صاحب كتاب "الخطط" بيوت الفواحش التي كانت تجبي عليها الرسوم، ويضمن تحصيلها ضامن".
ويتحدث المؤرخ الإنكليزي "لين" عن هذه الفترة فيقول: "يمكنك أن تتصور الفساد الذي يحيق بالرجل والمرأة على السواء نتيجة سهولة الطلاق. وقد وجد في مصر عدد كبير من الرجال تزوجوا في مدى عشر سنوات نحو عشرين أو ثلاثين زوجة. كما أن هناك نساء لسنّ متقدمات في السن، صرنّ زوجات لأثني عشر رجلاً أو أكثر على التوالي. وقد سمعن عن رجالٍ اعتادوا أن يتخذوا زوجة جديدة كل شهر، وللرجل الحق أن يفعل ذلك مهما كان دخله أو ما يمتلكه ضئيلاً، فهو يختار من بين نساء الطبقة الفقيرة أرملة حسناء أو امرأ ة مطلقة ترضاه زوجاً إذا دفع لها صداقاً عشر شلنات، حتى إذا طلقها ليس عليه إلا أن يدفع لها ضعف هذا المبلغ تنفق منه على نفسها خلال فترة العدة".
هذه التركة التي ورثها المجتمع العربي على مدى الأجيال، يبدو من الواضح أن كافة العادات والتقاليد المعاصرة هي امتدادات طبيعية لما اشتمل عليه المجتمع العربي من مقومات. فما يزال الطلاق وتعدد الزوجات، وما يتبعها من علاقات كالزنا والبغاء، بل أن هذه جميعاً بلغت من السطوة والرسوخ حداً ألغى معه قوة القانون. فبينما يغلق القانون المصري بيوت البغاء منذ عام 1949 نجد أن هذه البيوت ازدادت عدداً وتنوعت أشكالها. وما من مراهق إلا ويتساءل بشغف عن (رجوع الشيخ إلى صباه) أو (مذكرات إيفا) أو (كازانوفا) وغيرها من القصص الرخيص الذي يملأ الأسواق باسم الأدب والفن، وهما منه براء. ولكنها ظاهرة خطرة اثبتتها الرسالات العلمية التي تقدّم بها أساتذة وطلاب الجامعة الذين تناولوا بالدرس الدقيق ملامح هذه الأزمة، وانتهت دراساتهم إلى نتيجة هامة جديرة بالتأمل. فقد تأكد لديهم أن تاريخ المجتمعات العربية – في خط سيره الطويل – لم يفز بفترات من الاستقرار التام. وما يغلب بالفعل على شكل تطوره هو اجتيازه عدّة مراحل متلاحقة من نقاط التحول والانتقال. وتتميز نقطة التحول غالباً بالحدّة، فلا يجدي معها الحسم إذا تعرضت للدراسة والمناقشة على أن ذلك لا يعني مطلقاً، أننا لا نستطيع تحديد معاني حياتنا ومفاهيمها ضمن هذه الإطار الاجتماعي المتقلقل. إذ مجرد حصولنا على صورة صادقة لهذا الإطار يعني في اللحظة نفسها على ما تتضمنه هذه الصورة من معانٍ ومفاهيم.
ورغم أن الخطوط العريضة في لوحة المجتمعات العربية متشابهة، إلا أن التفاصيل الصغيرة قد تكسب الواحد منها صفات ذاتية يختلف بها عن الآخر. فلو أخذنا الأدب اللبناني وبحثنا عن السمّة الغالبة عليه، لاكتشفنا أنها ليست تماماً هي السمة الغالبة على الأدب المصري، رغم القرابة التاريخية التي تربط المجتمعين، وبالتالي الأدبين. وهنا يمكن إجراء هذه المقارنة بين بعض النماذج الأدبية من البيئتين.
في إحدى قصص الكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد يحكي لنا عن قصة امرأة قروية كانت تمارس البغاء في المدينة، ثم قتلها عشيقها ذات يوم فحُملت إلى مسقط رأسها في القرية حيث دفنت. وتشغل القرية كلها بالقصة، وتشير إلى ثراء المرأة، وتروى أن خاتماً ثميناً ما يزال في إصبعها. وهنا يبرز مختار القرية غاضباً يريد أن يحرق الأكاليل والصليب الذي وضع على قبر الزانية التي لا تستحق هذه الشرف. ويتسلل في الليل إلى المقبرة، فينبش القبر ويقطع إصبعها الذي فيه الخاتم، ثم يعود جزعاً يرتعد من الخوف مما خيل إليه من رؤية الأشباح. وفي اليوم التالي رأى أحد الرعاة بالقرب من المقبرة، إصبعاً مقطوعاً فيه خاتم، فاقشعر من المنظ، وحسبه إصبعاً لإحدى بنات الجن كما روت له جدته فيما مضى، وجاء بحفنة تراب وطمره بها ثم مضى في سبيله. ويتضح في النهاية أن المختار كانت له علاقة سابقة مع المرأة، وأنه كان السبب الأول في دفعها إلى البغاء. ويعلق الدكتور سهيل إدريس على هذه القصة بأنها "تصوير صادق للمشاعر التي تنتاب أهل القرية اللبنانية تجاه امرأة ضلت طريقها". بينما نجدها بعيدة كل البعد في أجوائها وتحليلها عن القرية المصرية ومشاعرها إزاء مثل هذه المرأة. فالإحساس بالخطيئة الذي يشعر به المختار نحوها هو إحساس مسيحي في الأغلب، ولا يمت إلى شخصية "سارق الإصبع" بصلة ما، بل لا يمت إلى شخصية الثائر على التقاليد التي وضعت الصليب على قبر بغي. ربما لا نعثر على هذا الإحساس المسيحي الحاد بالخطيئة في غير لبنان. ولكنه يعتبر من الخصائص المميزة لأدبه، بل ويضع أيدينا على خيوط العلاقات الإنسانية في هذه المجتمع، ومن ثم يهدينا إلى تحديد واضح بيّن لإحداها، أي العلاقة الجنسية.
وكذلك الأمر نجد للمرأة الأجنبية في القصص اللبناني نصيباً موفوراً، قلّ أن تحظى به آداب المجتمعات العربية الأخرى. فالاستاذ عواد يعالج موضوع الحب المراهق في قصة بعنوان "الشاعر" وهي قصة طالب يقع في حب امرأة إيطالية تنزل بفندق أبيه. كما نرى قصة "الإعدام" لخليل تقي الدين، حيث يهوى شاب في العشرين من عمره راقصة إسبانية تعمل في إحدى ملاهي بيروت. هذه هي الموضوعات التي تقدم لنا "مشكلة الجنس" كما عرفها المجتمع العربي في لبنان، وكما عبّرت عنها قصص أدبائه في ذلك الوقت.
فإذا انتقلنا إلى القصة العربية في مصر، التقينا بالفنان الذي أرّخ لفجر الرواية المصرية بقصته "زينب" نجح الدكتور هيكل في هذه الرواية نجاحاً باهراً إذا لم نغفل العامل الزمني، في أن يرسم ببراعة الصورة الرومانسية للجنس. وقد صدرت القصة عام 1914 أي ذلك التاريخ الذي كانت تعاني فيه مصر أزمتها التاريخية مع بداية الحرب العالمية الأولى. وكان النظام الإقطاعي المهمين على أشكال الحياة المصرية يخيم في الوقت نفسه على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. لهذا كان (حامد) بطل قصة هيكل – رمزاً لشباب ذلك الجيل المعذب، بين مثله العليا المستمدة من ثقافة الغرب، وبين الأوضاع السيئة السائدة آنذاك في المجتمع المصري. لقد تزوجت (عزيزة) ابنة عمه من شاب آخر، وضربت الأسرة عرض الحائط بقلب (حامد) الذي راح يبحث عن سلواه بين ضلوع فلاحة فقيرة هي (زينب) ويحس في أعماقه باستحالة هذا الحب غير المتكافئ. فيغمس همومه في العبث بفتيات القرية. ويبلغ القصاص الذروة في المزاوجة بين طبيعة الريف وأخلاقياته. فهو يجعل من الحقول المنبسطة والأشجار والحيوانات والأراضي المترامية، ظلالاً حيّة للموقف الإنساني الذي يعرض له. وبالتالي نحس بالصلة الوثيقة بين الدلالة الرومانسية لمنظر الطبيعة، ونفس الدلالة في المشهد الروائي. ثم نوقن تماماً بأن الطبيعة والحدث الاجتماعي كلاهما ينبعان من أرضٍ واحدة يحيطها إطارٌ واحد. هكذا جاءت مشاهد "الخطيئة" في الرواية تحيطها هالة من الشعور بالذنب، دفعت حامد لأن "يعترف" بنواياه إلى أحد مشايخ الطرق قائلاً: "قابلتني فأخذ بعيني جمالها، وبهرني فيها عيون نجلٍ وخدودٌ متوردة في لون قمحيٍّ جذاب، وجسم خصب وقوام غضٍّ وخصرٍ دقيقٍ وبنانٍّ رخص ... وجاء اليوم الذي زوّجت فيه هذه الفتاة، والذي عاهدت نفسي فيه أن أنساها إلى الأبد، إذ ما دامت لغيري، فمن الغدر الذي لا يليق بي أن أفكر فيها مجرد تفكير. ورجعت بذلك لابنة عمي التي وعدت، وجعلت أتخيل لها كل شي حسن، وتبادلت معها كلمات قليلة، ولكنها انتهت هي الأخرى بأن تزوجت، فعراني لذلك حزنٌ عظيم، ثمّ سرعان ما سقطت عن كتفي أحمالهُ حتى لقد عرتني الغرابة كيف يمكن أن يكون ذلك شأني... وأسلمتني إلى نوبة فظيعة هي التي دفعتني إليك. نوبةٌ أحسست معها بالحاجة المطلقة أن أملك هذه الفتاة الريفية رغم أنها متزوجة".
وهكذا تسير صفحات القصة، فلا نعثر على موقف جنسي صريح لأن العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع لم تكن نفسها صريحة. وما نلاحظه في الرواية من أحاديث عن الجنس، تكتسي بثوب فضفاض من الحياة والتخفي، فلأن نظرة المصري والمجتمع إلى هذا الموضوع، كانت هي بعينها نظرته إلى سائر الأشياء: نظرة ضبابئة غائمة تحيل كافة المرئيات والعلاقات إلى ألوان باهتة غير واضحة.
بعد ظهور (زينب) نلتقي بأحد روّاد المدرسة الحديثة، محمود طاهر لاشين، سنتفاجأ بأن النظرة الرومانسية في الحياة والأدب على السواء، بدأت تنقشع لكن المفاجأة تصبح غير ذات موضوع لو تتبعنا الخطوات التاريخية الرائعة التي نقلت المجتمع المصري بعد ثورة 1919 إلى مرحلة حضاريّة جديدة، تختلف من جميع زواياها، مع المرحلة السابقة لهذا التاريخ. كان (حامد) في قصة هيكل شاباً مستسلماً للمقادير. ما أن تتزوج ابنة عمّه حتى ينحني للعاصفة. ثم يعي استحالة عواطفه نحو (زينب). غير أن السنوات التي بدأت بفشل الثورة الوطنية، أخذت تشحن النفوس بقوى إيجابية جديدة وفدت مع ثبات أقدام الطبقة المتوسطة وبزوغ سلطانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. صاحبت هذه الطبقة نظرة جديدة للحياة وللإنسان والمجتمع، انعكست على آداب تلك الفترة وفنونها. في المجموعة الثانية لطاهر لاشين والمسماة (يحكى أن) نرصد الموضوعات التي طرقتها وأشكالها التعبيرية، فنحصل من خلالها على اهتمامات العصر، ونظرة المجتمع إليها.
· يحكى أن: موظف أبله يتزوج من فتاة داعرة لها عاشق.
· حديث القرية: فلاح يقتل زوجته وعشيقها.
· الفخ: قوّاد يتظاهر بأنّه من الأعيان، وأنّه فقد وعيه من الخمر، ويجر ضحاياه إلى داره وهي ماخور.
· الكهلة المزهوة: امرأة عجوز أرمل تتزوج من نصاب يبدد أموالها.
القضية أصبحت واضحة هنا أكثر من ذي قبل، بعد أن تحولت المشكلة إلى مرحلة أكثر تعقيداً، فالعلاقة بين الرجل والمرأة تشكّل موضوعاً أساسياً في المجموعة.
في قصة (حديث القرية)، يُدعي الراوي لزيارة إحدى القرى مع صديق له، وهناك يلتقي مع الفلاحين وبؤسهم، فيحاول أن يبذر في نفوسهم بذور التمرد على واقعهم المرّ، غير أن المأذون – الأب الروحي للفلاحين ومشكلاتهم – يستهين بمحاولات الراوي، ويبدأ في سرد حكاية "عبد السميع" الإسكافي الذي (لم يرضَ بما قسمه الله له وأراد أن يرفع نفسه درجة لم تكتب له في الأزل)، فاشتغل حاجباً خصوصياً لأحد الموظفين بالمركز. وكان هذه الموظف أعزب (باع الآخرة بالدنيا) فاستدرج زوجة عبد السميع – وكانت رائعة الجمال رغم فقرها – وعملت عنده خادماً، إلى أن كانت إحدى الليالي حين أمر الموظف حاجبه أن يذهب إلى عمدة القرية برسالة، وأن يعود بالرد في الصباح "سار عبد السميع على جسر السكة الحديدية يفكر في حاله والشك يملأ قلبه، وكان القمر يضيء له الطريق، فأبصر بين القضبان قطعة من الحديد بطول الذراع، فتملكته الرغبة أن يعود للدار، وهو يؤكد فيما بعد أنه حاول التغلب على هذه الرغبة فلم يستطع، كأن قوة خفيّة كانت تجره إلى الوراء. وأخيراً عاد وفاجأ العاشقين، فرأى سيده (في مكانه الزوجية من امرأته). ضج السامعون بالتأفف والاشمئزاز ولجأوا إلى الله بطلباتٍ لا تحصى. "أهوى عبد السميع بقطعة الحديد على رأسيهما فماتا فوراً". يعبّر السامعون عند هذه القول عن تأييدهم واستحسانهم "ولم يكتف عبدالسميع بذلك، بل ظلّ يضربهما حتى تناثر المخ من رأسيهما، والتصق بعضه بالجدار"، وهنا تنبعث من سامعيه أصوات استحسان واشمئزاز في وقت واحد.
في هذه القصة يحيط لاشين بجملة الظروف الضائعة للمأساة، فيبرز "الفقر" كمصدر حاسم في تمزق الفلاحين اجتماعياً، فهم ينقادون ببساطة لا واعية وراء المأذون، والمأذون يحمل في جيوبه مخدراً شديد الوطأة على نفوسهم هو مجموعة من قصص الفضائح، لكنه يتخير فضائح من نوعٍ خاص يؤثر بها على هذه النفوس فلا تكاد إحداها تخرج عن نطاق (الجريمة والجنس)، بل لعل الجنس هو ما يقصد إليه مباشرة، وما الجريمة إلا إحدى نتائجه. ويكشف المأذون – بغير وعي – عن جراح الفلاح الغائرة في وجدانه. الفلاحون يتأهون في أعماقهم من الفقر، أما "الخطيئة" فهي أكبر وأقوى من "الحياة" لذلك فإن معنىً خاصاً للشرف تحدده هذه الحياة؛ إنه هذا الشعور النائم في خلايا دمائهم تحركه أقل هزّة من الخارج، من السطح، أن الفلاح يشتعل بالغضب الرهيب عند سماعه نبأ اغتصاب زوجة عبد السميع، وتبدأ أعصابه في الارتخاء مع ضربات قطع الحديد فوق رأسها ورأس عشيقها. على أن استغراق الفلاحين التام في القصة وتجاوبهم الشديد مع أحداثها يؤكد أن هزّة "السطح" هذه ليست من الخارج، إنها صدى صريح لدوامة تشمل كيانهم، أو هي همزة الوصل بين هذه الأزمة وظروفهم المحيطة بهم. أما الفنان فيصور المأساة في قالب حي يوائم – إلى حدٍ ما – المضمون الاجتماعي الذي يقدمه. فهو يتوخى – في الدرجة الأولى – تسجيل الانعكاسات النفسية في صدور الفلاحين، إزاء تفاصيل القصة. ولا يجنح إلى إبراز المعنى الجنسي في صورته الفوتوغرافية. بل يكتفي بأن يقول عن الزوج (رأي سيده في مكان الزوجية من امرأته) ملخصاً بذلك موقفاً كاملاً، استعاض عن رؤيته الجامدة بتحليل مقدماته وأسبابه ونتائجه، مرحباً بما يعتمل في جوانح هذه الفئة من الناس من إرادة في (الستر). وها نحن نفرق بين "زينب" و "حديث القرية" ثانيةً فنقول أن الفلاح في قصة "لاشين" كان أكثر تسامحاً واضطراراً لمواجهة مشكلاته وعلاقاته حتى ولو كان من بينها العلاقة الجنسية. كذلك لا نرى شبيهاً لـ "حامد" الثري المستسلم، بل تواجه الطبقة المتوسطة ممثلةً في معاون الإدارة الموظف بالمركز، وهكذا تتعدد مستويات الأقصوصة وتتنوع مناسيبها، رغم أن "القرية" هي الأرض المشتركة بين هيكل ولاشين.
غير أن الأديب "عيسى عبيد" في قصته "مأساة قروية" هو الذي بلّور بشكل رائع هذه المناسيب والمستويات، والقصة لفتاة قروية وقع ابن عمها في هواها، ولكنها تصد عنه لتستسلم مختارة لابن صاحب الأرض. إذ وجدت عنده في طفولتها شيئاً لم تألفه، هو رقة الحديث والتودد إليها، وتوهمت فيما بعد أنها تجد بين أحضانه خلاصاً من حياتها الضائعة في الفقر والمهانة. أما الشاب فلا يدفعه نحوها سوى شهوته، وكان في البداية حين شعر بحاجته للحب، لم يجد حوله فتاة تشاركه عواطفه، لأن التقاليد حرمت الاختلاق بين الجنسين، فالتمس الحب عند إحدى بائعات الهوى، فلما وقف على فهم جديد لعلاقة الرجل بالمرأة تحول عن غرام الأولى، وأصبح لا يعرف من الحب إلا ما علمته إياه البغي. حينئذٍ يعزم ابن عم الفتاة على قتل الشاب المستهتر فيجرحه دون أن يصرعه، ولكنه ينجح بمساعدة الأسرة في قتل الفتاة ثأراً لشرفهم.
هنا تبدو "القرية" هي مهد التجربة الفنية في القصص الثلاث. وإن كانت دلالة الجنس تتطور من واحدة إلى الأخرى، فلأن المجتمع كان يتطور هو الآخر، فإننا كنا نرى الشاب الثري في قصة عبيد، لا يتوقف عند أعقاب الرومانسية في فهم العلاقة الجنسية، وإنما يتجاوزها إلى ما تورط فيه مع الفلاحة الفقيرة. والفلاحة هنا تختلف عن "زينب" التي لم تلقِ بالاً للشاب الغني، وأحبّت "إبراهيم" رئيس العمال، فالفلاحة في قصة عبيد يستهويها الشاب الثري – فيتخلص الكاتب بذلك من مثالية زينب غير المبررة فنياً أو اجتماعياً – ثم تستسلم له معلنةً بذلك مفهومها في الحب الذي يحمله الثراء أو الغنى إلى الفراش.
"القرية" موضوع أساسي للأدباء بصفة عامة، وموضوع خصب للجنس بصفة خاصة، ولا نجد تغييراً مقبولاً للعناية المفرطة بالريف – آنذاك – إلا بأن المدينة – بشكلها الحضاري الجديد – لم تكن قد حُفرت في وجدان الأدباء إحساساً عميقاً بمشكلاتها وقضاياها، ذلك أن التكوين الصناعي كان في خطواته الأولى المتعثرة، قبل أن يصبح تكويناً متكاملاً يدعى المدينة.
وكان توفيق الحكيم أول من أدرك هذا المعنى الجديد في روايته "الرباط المقدس" التي صدرت عام 1944، فقد أوضحت شعوره الحاد بالتمزقات التي رافقت ذلك التكوين الحضاري الوافد. والمحور الدرامي في الرواية هو أزمة المرأة الجديدة الحائرة بين الرجل الذي يطلب منها الجسد والأطفال و"عش زوجية سعيدة"، والرجل الذي يبادلها الجسد بالقلب، ولقد بلغ الحكيم مستوى عالياً في التقاط مظاهرها. ويبدو أنّ هذه الحيرة القلقة لم تقف على المرأة فحسب، وإنما سطت على قلب الرجل، فجعلته عاجزاً أمامها. ولذلك وقف الحكيم تجاه المظاهر والسطوح الخارجية دون الولوج في أغوار الأزمة. ولأنه لا يمتلك منهجاً يغوص به إلى جذور المأساة تراه يقف طويلاً عند القشور، وكأنها السبب اليتيم فيما أدت إليه الأحداث من كوارث. لنقرأ مثلاً ما كتبته المرأة في كراستها الحمراء إذ تقول "فقادني إلى حجرة نومه، وتلقى جسمينا ديوان وثير، وقال لي في همسة عذبة: يا حبوبتي، وطوقني والتصقت شفاهنا، وتنفسنا والعين في العين. فخيّل إليّ أني أشرب أنفاسه شرباً، وأنّها تهبط إلى سويداء قلبي. فأدركت عندئذٍ أن جسدي كان جوعان حباً، وإن هذه الرجل يستطيع أن يصنع بي ما يشاء. وهنا شعرت بأصابعه اللبقة تفك أزرار ثوبي وتجردني منه بغير لهفة ولا عجلة، ثم جعل يعجب بي وأنا هكذا. ثم أخذ يداعبني بيده وفمه، أنّها عين القبلة التي عرفتها فيما مضى، ولكنها من قبل كانت تطبع على جسد هامدة، يتمنى في قرارته الخلاص، ويود لو يدفع عنه تلك المداعبات الثقيلة التي يتكلف احتمالها تكلفاً. أما هذا الحبيب فلا شيء منه أكرهه مطلقاً.. لقد خُيّل إليّ أنني أريد بدوري لو أغطي جمسه بقبلاتي. وأخيراً حملني وأنا في شبه غيبوبة إلى سريره المعطر. وتركني واختفى لحظة، ثم عاد متدثراً في روب دي شامبر خفيف من الحرير والملاعبة من جديد... وجعل يهدهدني بكلمات الحب: يا حبيبتي، يا معبودتي، يا حياتي، إلى أن صرنا جسماً واحداً لا تفصل بيننا شعرة".
والسؤال هنا: لو أن المشكلة اقتصرت على هذه الصورة، لما كانت هناك مشكلة على الإطلاق. فكيف يمكن إقناعنا بأن "سيدة" تعيش في كنف زوج ناجح يتيح لها حياة طالما تمنتها، ولا يكشف لنا الفنان عيباً أو نقصاً واحداً يمكن أن نأخذه على الزوج، ويمكن بدوره أن يمهد لهذه العلاقة مع الرجل الآخر. ثم لا نكتشف في الرجل الآخر ما يميزه عن سائر الرجال، اللهم كونه نجماً لامعاً؟ على أن هذا لا يمنطق الأحداث إذا علمنا أن ما ينقص المرأة ليس هو الشهوة. ورغم هذا كله فإن توفيق الحكيم في "الرباط المقدس" شيء ممكن الحدوث، فلو تجاوز "خارج الظاهرة" إلى "داخلها"، أي لو أنه تعمق في الأزمة من باطنها، لتكشفت له المسببات الحقيقية لها، ولاستطعنا أن نقتنع بها وجدانياً، دون الحاجة إلى عرض قطاع مسطح لإحدى زواياها كما فعل الحكيم.
إن منهجه في التعبير – الذي اضطره إلى سرد المشهد الجنسي في لحظته الميكانيكية – هو تطبيق لمنهجه في التفكير الذي أوقفه عند المظهر، وما جعل منه شيئاً غريباً هو هذه الوقفة السطحية من الفنان، الجوهر.
وتبقى هذه القصة هي بمثابة نقطة البداية عند أدبائنا للإحساس بالمدينة إحساساً حضارياً يتمثل أزماتها ومشكلاتها ومآسياه على نحو يغاير أحاسيسهم الريفية.
مراجع:
شكري، غالي: أزمة الجنس في القصة العربية، دار الشروق، 1991، القاهرة.