نقوس المهدي
كاتب
في “خريطة” ألف ليلة وليلة، استمرارية جمالية وسردية وفكرية لشعوب حضارات الشرق على مدى عقود طويلة. وفي كنه هذا الغنى تكمن عظمتها وسحرها اللذان لم يتوقفا يوماً. إلا أن قصص الجن والسحر والخيال ترسم فضاءً لطرح تساؤلات عن مفاهيم حساسة وعميقة، وفي هذا المقال، نتناول أحدها: العقاب.
تناقش ألف ليلة وليلة رؤى السلطة والحكم من خلال تجليها في جدل الشخصي والجماعة، أي قرار الملك بعقاب نساء المملكة جماعياً، ونجاح شهرزاد في إعادة نشوء الملك كجزء من الجماعة، وإدراج “سلطته” في “السرد”. وتعبّر عن فهم “معاشٍ” للعدل تزعزع من خلاله الاعتقاد بوجود مفاهيم مبلورة للعقاب.
تبدأ ألف ليلة في مملكة مستقرة، وحكم مزدهر للملك شهريار وأخيه شاه زمان. ومن الحياة المستقرة الهانئة، تأتي صدمة اكتشافهما خيانة زوجتيهما لهما. وما يعانيه الملك من غضب وإحساس بالغدر بعد ذلك يؤثر على المملكة كلها، حين يقرر أن يتزوج كل ليلة، وينهي حياة عروسه مع شروق الشمس. يفعل ذلك بمساعدة وزيره، الذي يفشل في دوره بتقديم النصح، إلى أن تأخذ ابنته شهرزاد على عاتقها مسؤولية النصح. فتتزوج الملك، وبحكاياتها تشفع لمملكتها، وتعيد الاستقرار للبلاد.
حكاية “الجني والتاجر”
تستهل شهرزاد ليلتها الأولى مع شهريار بحكاية “الجني والتاجر”، وهي عبارة عن “محاكمات” قصيرة، تتشابك أسبابها ونتائجها، وتعطينا، كما أعطت شهريار، فرصة للتأمل بمعنى العقاب.
القصة تتبع ترحال تاجر من التجار، “كثير المال والمعاملات”، وتتوقف عند يوم اشتد فيه الحر، وأراد التاجر أن يأخذ استراحة قصيرة، فجلس تحت شجرة، وأكل تمرة كانت معه. هذا التفصيل الصغير، يصبح محورياً. فحين انتهى التاجر من أكل التمرة رمى النواة، وإذ بعفريت طويل القامة يهجم وبيده سيف، ويهدد التاجر بالقتل. ويصرخ فيه: “قم حتى أقتلك مثلما قتلت ولدي”. يتعجب التاجر لغضب العفريت، ولم يدر أن نواة التمرة التي رماها جاءت في صدر ابن العفريت وقتلته. في هذه “المحاكمة”، يبدو ذنب التاجر لنا لا يستحق العقاب. فقد رمى النواة بغير قصد، إلا أن الضرر قد حصل، وحياة ابن العفريت التي ضاعت تستوجب عقاباً. إذاً التاجر بريء في أعيننا، ومذنبٌ في عالم الجن. وهذه الحبكة المثيرة، والسؤال الملح لهذه المحاكمة.
حالما عرف التاجر ما نتج عن فعلته، قبل العقاب بحزن غامر، ولكن من دون أن يجادل فيه. لكنه طلب من العفريت أن يعطيه وقتاً ليودع أهله، ويوفي مواثيقه، ويرد الحقوق التي عليه إلى أهلها، فيمنحه العفريت طلبه. ومع بداية العام الجديد، يعود التاجر إلى المكان، وينتظر قدره مع العفريت. وبينما هو جالس ينتظر “في غم وهم”، مر به 3 شيوخ، الأول معه غزالة، والثاني معه كلبتان سلوقيتان، والثالث بغلة زرزورية. وحين سمعوا قصته، قرروا البقاء بجانبه. بالنسبة إلينا الشيوخ الثلاثة، هم بمثابة الشهود، وأيضاً شخصيات نسكنها في عالم القصة كقراء ومستمعين، ومن خلالهم نشارك في المحاكمة الدائرة.
ووسط زوبعة عظيمة، يظهر العفريت وبيده سيف مسلول “وعيونه ترمي بالشرر”، وينادي على التاجر: “قم أقتلك كما قتلت ولدي وحشاشة كبدي!”. ينحب التاجر، ويبكي لحزنه الشيوخ الثلاثة، الذين يطلبون تباعاً من العفريت فداء “ثلث” دم التاجر إن حكى له كل منهم قصته مع الحيوان الذي برفقته، شرط أن تنال القصة إعجاب العفريت. هكذا يصل الجميع لاتفاق مشروط يؤجل تنفيذ الحكم الجائر في نظرنا، العادل في نظر العفريت.
يحكي الشيخ الأول قصته عن الغزالة التي برفقته، وهي ابنة عمه وزوجته، بعد 30 عاماً تحولت بفعل سحر إلى غزالة عقاباً لها. تستأثر القصة باهتمام العفريت، وحين ينتهي التاجر من سرده، يقول له الجني: “هذا حديث عجيب وقد وهبت لك ثلث دم التاجر”.
يبدأ التاجر الثاني بسرد قصته، ويخبرنا أن الكلبيتين اللتين ترافقانه، هما شقيقتاه، تحولتا إلى كلبتين بسبب غيرتهما من زوجته، وبسبب جشعهما. إلا أنهما في ذلك اليوم، كانتا في طريقهما لفك السحر عنهما بعد أن قضتا 10 سنوات عقاب. والحكاية عن الزوجة العفريتة التي سحرتهما تستهوي العفريت وتشده، فيقبل أن يفتدي “ثلث دم التاجر”. أما قصة التاجر الثالث، فكانت أعجب من الحكايتين الأخريين. البغلة التي معه هي زوجته التي سحرته كلباً عندما وجدها مع عشيقها، الذي كان “عبداً أسود”، وبعد أن فك سحرها عنه، سحرها بغلة لعقابها.
الحكايات الثلاث تشاركنا في محاكمة العفريت للتاجر، ومنها في محاكمة كل من الشيوخ للنساء اللواتي تحولن إلى حيوانات. وفي كل منها تعاند ألف ليلة وليلة “نهائية” العقاب، وتعيد طرحه في أكثر من صياغة لمعنى العدل. وفي كل منها أيضاً، يحلّ السؤال والتجربة محلّ الجواب والحكم القاطع: فنحن نتساءل أكثر مما نقبل بما نقرأ ونسمع في هذه المحاكمات. في القصة الأولى عقابٌ للزوجة التي تسببت بمآس لزوجها بأن تحولت إلى غزالة، والثانية فيها عقاب لشقيقتي الراوي لفترة محددة، وكان في طريقه لإطلاق سراحهما. يكون العقاب إذاً محسوباً محدداً بمدة وليس متعسفاً. أما القصة الثالثة، فهي تطرح فكرة العقاب المتبادل، وحبكتها تكرر مشهد الخيانة التي اختبرها كل من شهريار وأخيه الملك شاه زمان. وأكثر ما يلفت الانتباه تغييب كل القصص لفكرة العقاب الجماعي. متضمنة بذلك نقداً لها، واستعاضة عنها بنقاش لجدوى العقاب واستحقاقه.
من الممتع تتبع مداعبة قصص الشيوخ الثلاثة لقصة التاجر، الذي قتل ابن العفريت مصادفة، ومنها للقصة الإطار كما تم التعارف على تسميتها، فهي تفضي في كل تفاصيلها إلى موضوع العقاب، وتضمن النقاش حول استحقاق العقاب، أو بمعنى آخر “العدل”. وبذلك تعبر عن عمق القلق الذي دفع بشهريار لتنفيذ عقاب تعسفي، جماعي، بحق كل نساء مملكته.
في الليلة الثالثة، تختتم شهرزاد قصتها الأولى وتغري شهريار بقصة “أعجب”. هي حكاية الصياد مع العفريت، وفيها تتابع البحث في مفهوم العقاب، ولكن هذه مادة لمقالة أخرى!
بعد ليال قضتها شهرزاد تحكي قصة بعد أخرى، يعدل شهريار عن قراره ويعود الاستقرار إلى حكمه، مجسداً بالطفل الذي يرزق به من شهرزاد.
في ألف ليلة وليلة، أنساق تشير إلى هوياتها الثقافية المتنوعة: فمن الهند، سياسة رواية القصص لتنجي من موت محتم، وقصص شبيهة بكليلة ودمنة، ومن إيران، ليس فقط أسماء الشخصيات وعالم السحر، إنما أيضاً أقدم وثيقة تذكر هذا العمل في “فهرست” ابن النديم، إذ يسميها باسمها الفارسي “هزار آفسانة”. ومن الثقافة اليهودية تأخذ القصص طابعها الوعظي عن الحياة الآخرة، ومن العراق، تأخذ من ملامح الأدب، ومن قصص الخلافة أيام العباسيين، فيتكرر ظهور الخليفة هارون الرشيد. وفي تصويرها للحياة الاجتماعية، ما يشير إلى مصر في عصر المماليك. ومع أننا لا نستطيع فصل إحداها عن الأخرى، يمكننا في معالجتها للعقاب في قصة العفريت والتاجر، أن نرى التأثير الإسلامي، ففي عمقها تقاوم القصة فكرة العقاب الجماعي، وتحل محله فكرة العقاب الذي يحل بالشخص الذي يقترف الفعل الخاطئ دون غيره. مرددة ضمناً دعوة القرآن بأن “لا تزر وازرة وزر أخرى”.
__
رصيف22
تناقش ألف ليلة وليلة رؤى السلطة والحكم من خلال تجليها في جدل الشخصي والجماعة، أي قرار الملك بعقاب نساء المملكة جماعياً، ونجاح شهرزاد في إعادة نشوء الملك كجزء من الجماعة، وإدراج “سلطته” في “السرد”. وتعبّر عن فهم “معاشٍ” للعدل تزعزع من خلاله الاعتقاد بوجود مفاهيم مبلورة للعقاب.
تبدأ ألف ليلة في مملكة مستقرة، وحكم مزدهر للملك شهريار وأخيه شاه زمان. ومن الحياة المستقرة الهانئة، تأتي صدمة اكتشافهما خيانة زوجتيهما لهما. وما يعانيه الملك من غضب وإحساس بالغدر بعد ذلك يؤثر على المملكة كلها، حين يقرر أن يتزوج كل ليلة، وينهي حياة عروسه مع شروق الشمس. يفعل ذلك بمساعدة وزيره، الذي يفشل في دوره بتقديم النصح، إلى أن تأخذ ابنته شهرزاد على عاتقها مسؤولية النصح. فتتزوج الملك، وبحكاياتها تشفع لمملكتها، وتعيد الاستقرار للبلاد.
حكاية “الجني والتاجر”
تستهل شهرزاد ليلتها الأولى مع شهريار بحكاية “الجني والتاجر”، وهي عبارة عن “محاكمات” قصيرة، تتشابك أسبابها ونتائجها، وتعطينا، كما أعطت شهريار، فرصة للتأمل بمعنى العقاب.
القصة تتبع ترحال تاجر من التجار، “كثير المال والمعاملات”، وتتوقف عند يوم اشتد فيه الحر، وأراد التاجر أن يأخذ استراحة قصيرة، فجلس تحت شجرة، وأكل تمرة كانت معه. هذا التفصيل الصغير، يصبح محورياً. فحين انتهى التاجر من أكل التمرة رمى النواة، وإذ بعفريت طويل القامة يهجم وبيده سيف، ويهدد التاجر بالقتل. ويصرخ فيه: “قم حتى أقتلك مثلما قتلت ولدي”. يتعجب التاجر لغضب العفريت، ولم يدر أن نواة التمرة التي رماها جاءت في صدر ابن العفريت وقتلته. في هذه “المحاكمة”، يبدو ذنب التاجر لنا لا يستحق العقاب. فقد رمى النواة بغير قصد، إلا أن الضرر قد حصل، وحياة ابن العفريت التي ضاعت تستوجب عقاباً. إذاً التاجر بريء في أعيننا، ومذنبٌ في عالم الجن. وهذه الحبكة المثيرة، والسؤال الملح لهذه المحاكمة.
حالما عرف التاجر ما نتج عن فعلته، قبل العقاب بحزن غامر، ولكن من دون أن يجادل فيه. لكنه طلب من العفريت أن يعطيه وقتاً ليودع أهله، ويوفي مواثيقه، ويرد الحقوق التي عليه إلى أهلها، فيمنحه العفريت طلبه. ومع بداية العام الجديد، يعود التاجر إلى المكان، وينتظر قدره مع العفريت. وبينما هو جالس ينتظر “في غم وهم”، مر به 3 شيوخ، الأول معه غزالة، والثاني معه كلبتان سلوقيتان، والثالث بغلة زرزورية. وحين سمعوا قصته، قرروا البقاء بجانبه. بالنسبة إلينا الشيوخ الثلاثة، هم بمثابة الشهود، وأيضاً شخصيات نسكنها في عالم القصة كقراء ومستمعين، ومن خلالهم نشارك في المحاكمة الدائرة.
ووسط زوبعة عظيمة، يظهر العفريت وبيده سيف مسلول “وعيونه ترمي بالشرر”، وينادي على التاجر: “قم أقتلك كما قتلت ولدي وحشاشة كبدي!”. ينحب التاجر، ويبكي لحزنه الشيوخ الثلاثة، الذين يطلبون تباعاً من العفريت فداء “ثلث” دم التاجر إن حكى له كل منهم قصته مع الحيوان الذي برفقته، شرط أن تنال القصة إعجاب العفريت. هكذا يصل الجميع لاتفاق مشروط يؤجل تنفيذ الحكم الجائر في نظرنا، العادل في نظر العفريت.
يحكي الشيخ الأول قصته عن الغزالة التي برفقته، وهي ابنة عمه وزوجته، بعد 30 عاماً تحولت بفعل سحر إلى غزالة عقاباً لها. تستأثر القصة باهتمام العفريت، وحين ينتهي التاجر من سرده، يقول له الجني: “هذا حديث عجيب وقد وهبت لك ثلث دم التاجر”.
يبدأ التاجر الثاني بسرد قصته، ويخبرنا أن الكلبيتين اللتين ترافقانه، هما شقيقتاه، تحولتا إلى كلبتين بسبب غيرتهما من زوجته، وبسبب جشعهما. إلا أنهما في ذلك اليوم، كانتا في طريقهما لفك السحر عنهما بعد أن قضتا 10 سنوات عقاب. والحكاية عن الزوجة العفريتة التي سحرتهما تستهوي العفريت وتشده، فيقبل أن يفتدي “ثلث دم التاجر”. أما قصة التاجر الثالث، فكانت أعجب من الحكايتين الأخريين. البغلة التي معه هي زوجته التي سحرته كلباً عندما وجدها مع عشيقها، الذي كان “عبداً أسود”، وبعد أن فك سحرها عنه، سحرها بغلة لعقابها.
الحكايات الثلاث تشاركنا في محاكمة العفريت للتاجر، ومنها في محاكمة كل من الشيوخ للنساء اللواتي تحولن إلى حيوانات. وفي كل منها تعاند ألف ليلة وليلة “نهائية” العقاب، وتعيد طرحه في أكثر من صياغة لمعنى العدل. وفي كل منها أيضاً، يحلّ السؤال والتجربة محلّ الجواب والحكم القاطع: فنحن نتساءل أكثر مما نقبل بما نقرأ ونسمع في هذه المحاكمات. في القصة الأولى عقابٌ للزوجة التي تسببت بمآس لزوجها بأن تحولت إلى غزالة، والثانية فيها عقاب لشقيقتي الراوي لفترة محددة، وكان في طريقه لإطلاق سراحهما. يكون العقاب إذاً محسوباً محدداً بمدة وليس متعسفاً. أما القصة الثالثة، فهي تطرح فكرة العقاب المتبادل، وحبكتها تكرر مشهد الخيانة التي اختبرها كل من شهريار وأخيه الملك شاه زمان. وأكثر ما يلفت الانتباه تغييب كل القصص لفكرة العقاب الجماعي. متضمنة بذلك نقداً لها، واستعاضة عنها بنقاش لجدوى العقاب واستحقاقه.
من الممتع تتبع مداعبة قصص الشيوخ الثلاثة لقصة التاجر، الذي قتل ابن العفريت مصادفة، ومنها للقصة الإطار كما تم التعارف على تسميتها، فهي تفضي في كل تفاصيلها إلى موضوع العقاب، وتضمن النقاش حول استحقاق العقاب، أو بمعنى آخر “العدل”. وبذلك تعبر عن عمق القلق الذي دفع بشهريار لتنفيذ عقاب تعسفي، جماعي، بحق كل نساء مملكته.
في الليلة الثالثة، تختتم شهرزاد قصتها الأولى وتغري شهريار بقصة “أعجب”. هي حكاية الصياد مع العفريت، وفيها تتابع البحث في مفهوم العقاب، ولكن هذه مادة لمقالة أخرى!
بعد ليال قضتها شهرزاد تحكي قصة بعد أخرى، يعدل شهريار عن قراره ويعود الاستقرار إلى حكمه، مجسداً بالطفل الذي يرزق به من شهرزاد.
في ألف ليلة وليلة، أنساق تشير إلى هوياتها الثقافية المتنوعة: فمن الهند، سياسة رواية القصص لتنجي من موت محتم، وقصص شبيهة بكليلة ودمنة، ومن إيران، ليس فقط أسماء الشخصيات وعالم السحر، إنما أيضاً أقدم وثيقة تذكر هذا العمل في “فهرست” ابن النديم، إذ يسميها باسمها الفارسي “هزار آفسانة”. ومن الثقافة اليهودية تأخذ القصص طابعها الوعظي عن الحياة الآخرة، ومن العراق، تأخذ من ملامح الأدب، ومن قصص الخلافة أيام العباسيين، فيتكرر ظهور الخليفة هارون الرشيد. وفي تصويرها للحياة الاجتماعية، ما يشير إلى مصر في عصر المماليك. ومع أننا لا نستطيع فصل إحداها عن الأخرى، يمكننا في معالجتها للعقاب في قصة العفريت والتاجر، أن نرى التأثير الإسلامي، ففي عمقها تقاوم القصة فكرة العقاب الجماعي، وتحل محله فكرة العقاب الذي يحل بالشخص الذي يقترف الفعل الخاطئ دون غيره. مرددة ضمناً دعوة القرآن بأن “لا تزر وازرة وزر أخرى”.
__
رصيف22