دراسة خديجة الشاوي - حينما يكون الأدب في خدمة الفكر.. قراءة نقدية في "قصة ميت" لأحمد بن إدريس


جميل أن تكتب، والأجمل أن تبدع ، حتى اذا تعطلت لغة القلم فترة، يشعر القارئ بغيابك، وهذا مؤشر في حد ذاته علىأن ما تكتبه هو إبداع . هذه المرة لم أقف عند حدود القراءة ، ووجدتني مندفعة لأحييك على ما تقدمه لنا من تميز وصور جمالية في السرد وعمق في المضامين ودلالات في الحروف.
صراحة اعترتني الدهشة عندما قرأت لك( قصة ميت)، وكان وقعها علي شديدا ومضاعفا، لكونها من الروائع. يا له من عنوان: "قصة ميت"... دهشته في حروفه الظاهرة ، وفي ايحاءاته الفلسفية التي تأكّدَت في مضمون النص. يفرض العنوان، من أول وهلة، على القارئ قراءات شتى ، كما يحمل في طياته حوارات عميقة، وجدلا قويا يشترك فيه : العقل والقلب والجسم والروح . حقا ، تكلم الفلاسفة عن الموت من منظورهم ، وكذا الشعراء والأدباء عامة ، لكن ميزة حمولة هذا النص أن البطل ، وهو يحتضر، لم يفقد حواسه فكان يستطيع أن يسمع ويتكلم ويتحاور، فيا له من جديد ويا لها من جدة، شكلا وموضوعا .
أمر ثان متميز، هو أن فكرة النص لا تقتصر على الموت الذي يأتي تلبية لنداء ملك الموت، فيأخذ ما يأخذ ثم يترك الجثة هامدة ؛ بل الغرض يتجاوز ذلك بكثير؛إنه وصف من الميت نفسه لحال الأحياء، ولاسيما المقربون الذين يصرون على الحضور والظهور وقت الاحتضار، لأن المفروض أن يكونوا قريبين.
الأمر الثالث ، أن الميت، ولأنه ميت ، يكشف الوجه الآخر لأولئك المقربين ، الوجه الذي لا يظهر للأحياء أمثالهم. صورة : يكشف فيها السارد ( الميت) أحوال الأحياء الذي هبوا لتوديع المحتضر، وهم يتبادلون أدوار الحزن ، في جو حربائي الألوان لا يمت لحقيقة مشاعرهم بصلة.
من ثمة يتصدى لفضح نفاقهم وإسقاط أقنعتهم، رغم أنهم يجيدون ويبرعون في التمثيل، لكن لأنه الميت فهو الوحيد الذي يشعر بموت الأحاسيس الصادقة فيهم، بل لا يشعر بموت تلك الأحاسيس سواه، لأنه عايشهم على طبعهم الحقيقي ، وها هو يكتشف التطبع ، والأخطر في عمق النص أنه يجعل القارئ نفسه يحس رويدا رويدا أنه قد يكون من أولئك الأحياء أيضا، فيتأثر بما يقرأه، وقد يتقمص الدور كمن يكون هو الذي حضر معاناة السارد حال موته ,,, أو مثَّل مرة دور أحد أولئك الذين حضروا.
أمور شتى في نص هذا الكاتب - الميت، تتوالى منفصلة الفقرات والصور كأنها مسرحية ، لكنها تتلاحق بنظام، متصلة بعضها ببعض من حيث المضمون برابط سردي غاية في الدهشة ، لفت منها انتباهي شاهدان لمح إليهما بشكل خفي:
الصورة الأولى : ورد الشاهد فيها بأقرب الناس إلى الميت، إنها (أنثاه) وهي تتقمص أمام الملإ سلوك شخصية عائشة (زوجة الرسول) وكيف تصرفت يوم وفاة زوجها ، كأنه يحاول الإشارة إلى اهتمام البعض بتقليد النهايات الكبرى والمقدسة، باعتبارها لا يعلى عليها.
الصورة الثانية : الشاهد فيها هو التمايز بين مطرقة النبض وسنديان المقدس، لم يشفع له فيها سوى البكاء على غياب أو تغييب الأقرب إلى القلب (الحبيبة ) ، والأرقى في الوفاء من الإنسان ( الكلب) وذلك حين حضرت الملائكة .
صورتان قويتان ، وحيرة ما بعدها حيرة أبعدته عن الموت وقرّبته من الجنون، مفضلا هذه الحالة حتى يستطيع أن يحيا، وتكون حياته جديدة مختلفة، لا يخاف فيها من البوح بكل ما يقيد نبضه وعقله إزاء كل المثبطات.
فهنيئا له بهذا الموت الذي أحيا به شعلة أطفأها من هم حوله ، ومن سيطروا على التوجيه المعرفي . وكم هو رائع أن يأتي صراخ حياته الجديدة من صلب موت وجنازة أشرف على تهييئ طقوسها بنفسه. وكم هو جميل أكثر أن يسهم الأدب في نسف الأسس العميقة الداعمة للفكر المنغلق أو الجامد.
قد يبدو لنا ضرب من الخيال التفكير في تجسيد لحظة الموت وتشخيص دور الميت بين الأحياء ، ويكون هو البطل! بل لعل الصور تجاوزت الخيال بكثير، لكني أرى فيها جرأة متفردة في التعبير عن نتاج أيام تمر بوجعها ومرارتها ، وكيف أن الأحياء تطبعوا على السكوت إلى حد النفاق بدل مواجهة القيود التي تكبلهم ، كأنه يصرخ لنا بحقائق قلما نجهر بها... إنها صورة موجعة لوصفه حالة ميت على قيد الحياة، يشل و يعطل عن عمد كل شيء رغبة في رفع الستار عما يدفن معنا دون علم الآخر به ، ودون أن نجرؤ على البوح به لأسباب شتى بما فيها الخوف من الاختلاف. و يا لها من رحلة عرت بإبداع عن اجتهاد الانسان في الحفاظ على كل ماهو سطحي و إهمال الجوهر. ناهيك عندما يصبح الجميع من زمرة الفقهاء يتقنون فن القول في عز الجهل، وبعضهم يتقن فن الإخلاص بقناع النفاق.
قصتك سيدي غنية بالأفكار المثقلة بحمولة إنسانية في قالب فلسفي مفعم بالواقعية عميق الدلالات و المعاني، إنها تستحق الغوص وقراءة نقط حروفها لما تحمله من درر تجعل التمتع بألوانها وبريقها ليس بالأمر الهين.
أخيرا ، لم يتبدل الأسلوب ولم يتغير، بل يحيل على صاحبه؛ وكم هو جميل أيضاأن يعرف صاحب النص من حروفه، والأكثر جدة كذلك هو قدرة الكاتب وتحكمه بقوة في السرد بمنح نفسه بطولة القصة لكن في صمت قاتل؛ مقابل ذلك كان سعيه هو تحريك عالم من الشخصيات بضجيج شديد الايقاع يجعل القارئ يعيش معها قلبا و قالبا في مدها و جزرها ، بكل أريحية و برغبة شديدة في المتابعة.
بورك قلمك أستاذي و دمت بهذا التميز ولك مني كامل الاحترام و التقدير .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


النص :
قصة ميّت
[SIZE=6]أحمد بن إدريس[/SIZE]

حضرتُ ، على غير عادة الأموات، جنازتي.
وقفت خاشعا أمامي وأنا أموت . كنت أستطيع أن أرى وأسمع ، وأن أتكلم من دون لسان.كلما سقطتْ يدي وثقُلت رأسي على صدري،تمتد الأيدي إلى أطرافي، ويسرع الفقهاء في التلاوة ، وتختلط الأصوات، وتنطلق الحناجر .
***
دعوات تلو أخرى لتسهيل سكرات الموت وأهوال القبروأحاديث في المكارم والمناقب . وأنا الميت أبحث فيهم عن الإنسان . فيتخشب جلدي، وتصرخ أعماقي : يا للهول ، أفي البكاء على الميت فقط يتذكر المرء المروءة ؟ ما أقبحنا حين نغدو غريبي المشاعر، وتتلون فينا النفوس بلا ألوان.
***
اقتربتْ أنثاي مني ، فقطعت حبل تفكيري. أخَذتِ السواك وليَّنَتْه بفمها ووضعته في فمي طريا، ثم ابتسمت وقالت : ما أسعدني، آخر شيء دخل جوفه اختلط فيه ريقه بريقي، وهي تدري أن بينهما برزخ فلا يمتزجان، وأن السعادة ماتت قبلي من زمان.
***
لجأت إلى قلبي، غبت في دقاته الباقيات، حتى عني. سمعتها لي تغني ، كما اعتادت: طبتَ حيا وطبتَ ميتا حبيب الروح. لٍمن تكلني يا هذا أم تراكَ تسعى إلى حور العين ؟
بشكل صاعق ، انسابت دموعي كموج نهر يتلوى ليموت في لجة بحر ، قلتُ : آه ، ثم آه يا جنة الخلد في حياتي ... هل عليَّ، كلما عبر حنيني إليك ، أن أمر على جسر نهر من الدموع؟
***
لحظات أبعدتني من الموت ، واقتربت بي من الجنون . خاطبني عقلي ، وقد اندهش من حيرتي: ماذا جرى ؟ ألفتك في ثبات الجنان. قلت : آه من حياة لا يستطيع أن يدلي فيها الحي بشهادته كاملة. ألا ترى أنهم طردوا كلبي من غرفتي حتى تحضر الملائكة جنازتي؟ اسمع إنه يبكي ... هل أستطيع أن أثبت أنه وحده (إنسان) بين الحضور؟ إني أموت ... كي أحيا ، وأستطيع الكلام . لدي الكثير مما أقول,,,



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* خديجة الشاوي : فيرجينا، الولايات المتحدة الأمريكية






 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...