د
د.محمد عبدالحليم غنيم
من الظلم البين أن نضع الكاتب الكبير فاروق خورشيد في خانة الباحث في التراث الشعبي ضاربين بعرض الحائط إبداعه المتميز في القصة والرواية ، والذي لا يعرفه الكثيرون أن الإبداع القصصي هو الهم الأكبر الذي يشغل كاتبنا ، وإبداع القصة القصيرة على وجه الخصوص ، ففي شهادته التى أدلى بها لمجلة فصول عام 1982 م يقول " لم أنصرف عن القصة القصيرة ، فدخولي عالمها لم يكن عبثا وإنما كان طريق حياة ، وقد تجفوني بعض حين ولكنها تلازمني مهما طال الجفاء وأعود إليها صاغرا مهما شرقت وغربت في أشكال التعبير الفنى الأخرى ، فالقصة عندي قدر " . ( 1 )
أصدر فاروق خورشيد ست مجموعات قصصية قصيرة خلال رحلته الإبداعية التى بدأت منذ أواخر الأربعينات من هذا القرن ، وهى الكل باطل 1961 م _ القرصان والتنين 1971 م _ المثلث الدامي 1980 م _ حبال السأم 1987 م _ كل الأنهار 1997 م _ ثم أخيرا زهرة السلوان 1999 م ، التى نتعرض لها الآن . ( 2 )
وتشتمل المجموعة " زهرة السلوان " على اثنتي عشرة قصة قصيرة تسودها تيمة واحدة تقريبا هي الاستعانة بالتراث وتوظيفه في النسيج القصصي ( السردي ) وهو تراث متنوع ببن التراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي والتراث الوثني الفرعوني والبابلي ، والتراث الشعبي العربي المتمثل في السير الشعبية وألف ليلة وليلة وهو تراث لا يطغى على الجوانب الواقعية في القصص ، إذ أنه لا يشكل سوى خلفية تحدد ملامح الشخصية وتعمق بناءها أو رمز يثرى دلالة الحدث ويوسع آفاق المعنى بصورة عامة .
على أن ثمة ثلاث قصص توظف فيها التيمة التراثية بشكل غير مباشر هي : " عم عبده الأخضرانى"و"درة مشوي
و" اللي هو" حيث نلمح أصداء لأثر القيم الأخلاقية السامية في البيئة الشعبية ، مثل الإخلاص ، روح التعاون ،والوقوف بجوار الضعيف .
في "زهرة السلوان " قصة العنوان يصور المؤلف قصة هذا اللقاء المرصود في اللوح المحفوظ من قديم الأزل بين الزهرة والفراشة ، هذه الزهرة التى عشقت الفراشة ولم تجد سلوانا غيرها ، إنها قصة رمزية ، لذلك فالزهرة ترمز إلى المرأة والفراشة ترمز إلى الرجل ، إن القصة في النهاية معادل لهذه العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة .
وفى" عطر الرغبة " تتبدل الأدوار فتصبح المرأة فراشة تنجذب إلى عطر الرجل ، فثمة امرأة عاشقة ذات تجارب واسعة مثل ، إيزيس التى خدعت رع تقع في حب رجل جميل ، ولأنها تحبه فهي تخاف عليه ، تلملم أشلاءه مثل إيزيس التى أحبت أوزوريس .
وفى " أرز لبنان المر " رثاء لبيروت الجريحة التى مزقتها الحرب الداخلية ، وتكتمل قصيدة الرثاء بقصة "سفر الخروج" وهو عنوان مأخوذ من التوراة ، هنا يكاد يتحول الرثاء إلى هجاء لاذع لكل من شارك في تمزيق لبنان ، وتشريد أهلها ، والجدير بالذكر أن الكاتب كتب هذه القصة إثر مذبحة قانا عام 1995 م ، التى قتل فيها ما يقرب من أربعمائة لبناني .
ويتجلى توظيف التراث بشكل أكثر وضوحا في القصة الأخيرة "مضاض ومي" حيث يعيد الكاتب صياغة قصة مشهورة في التراث العربي ذكرها وهب بن منبه في كتابه " التيجان في ملوك حمير" على لسان الحارث الجرهمى وقد سبق لفاروق خورشيد أن أوردها في كتابه "في الرواية العربية" الذي صدر عام 1959 م ، حيث اتخذها دليلا قاطعا على وجود القصة في الأدب العربي القديم ، ليثبت أن العرب ليسوا أقل من الغرب ، بل سبقوهم في إنتاج القصة القصيرة ، أما هنا فإنه يعيد صياغتها في شكل قصة قصيرة حديثة ، يبرز فيها إمكانياته الفنية .
والذي يمكن استنتاجه باطمئنان أن الكاتب يتخفى إهاب التراث ليقول كل ما يريده في الواقع من نقد وهجاء لاذع مرير ، أي أن التراث لا يأخذ بالكاتب بعيدا عن الواقع ، بل يضعه في قلبه ، وعلى مستوى الشكل ينوع الكاتب في البناء السردي ، معتمدا وجهات نظر خارجية غالبا ، حيث يقف السارد خلف الأحداث أو يكمن في أحد الشخصيات القصصية ، وهذا يجعلنا أقرب الشخصيات حيث يميل البناء السردي نحو العرض الدرامي .
ففي قصة "عم عبده الأخضرانى" تأتى الأحداث على لسان ضمير الغائب من خلال وجهة نظر محيطة بكل شيء غير أنها سرعان ما تتقيد بوجهة نظر الشخصية الرئيسية "عم عبده" ثم تعود في نهاية القصة للراوي العليم ولكن من خلال الشخوص الأخرى . فنحن نتابع من خلال عين الراوي العليم عم عبده وهو يسقى الزرع في هذا المنزل الكبير ونكاد نتعرف على ملامحه الخارجية ، غير أن ملامحه الداخلية لا تظهر إلا من خلال المونولوج الداخلي المختلط بصوت الراوي ، فنعرف تاريخ الرجل منذ كان يعمل ناقشا ، ودخوله السجن وخروجه للعمل بستانيا وحبه وإخلاصه لعمله ، أما وفاته فتأتى على لسان ابنته . إن الكاتب في القصة يسمو بالشخصية ويضع يده على الجانب الإنساني ، مما يذكرنا بقصة العجوز لتشيكوف .
إن وقوفنا عند البناء السردي لهذه القصة لايعنى إنها أفضل نماذج الكاتب في المجموعة ، ولكن أردنا أن نعرض نموذجا محددا ، هو نموذج قصة الشخصية ، حيث يمكننا أن نلمح نموذجين لآخرين في هذه المجموعة يشكلان مع هذه القصة الأبنية السردية الرئيسية .
النموذج الأول ، قصة الحبكة حيث يعمد الكاتب إلى البناء التقليدي في القصص من بداية ووسط ونهاية وصراع يحسم لأحد الطرفين مثل قصص "مضاض ومي" و"ذرة مشوي" و" اللي هو" .
أما النموذج الثاني في البناء السردي ن فهو الذي يخفت فيه الصراع الدرامي وتختفى الحبكة في الظاهر وتميل القصة نحو البناء الشعري ،فيسيطر الجو القصصي أو الرمز في القصص ، مثل قصص "عطر الرغبة "و" أرز لبنان المر"
وبعد فإن تميز خورشيد في هذه المجموعة ، لا يقف عند تنوع الأبنية السردية فحسب ، ولكن لابد أن نثمن للكاتب قدرته العالية على استخدام التيمة التراثية بأشكال متنوعة ، مما كان له الأثر الكبير في بناء القصة السردي ، وهو أثر يستحق وقفة أخرى لبيانه بالتفصيل وإبراز جمالياته .
---------------------------
1 _ مجلة فصول ، المجلد الثانى ، العدد الرابع ، يوليو/ أغسطس/سبتمبر،1982 م، ص 297 .
2 _ صدرت مجموعة"زهرة السلوان" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1999 م .
أصدر فاروق خورشيد ست مجموعات قصصية قصيرة خلال رحلته الإبداعية التى بدأت منذ أواخر الأربعينات من هذا القرن ، وهى الكل باطل 1961 م _ القرصان والتنين 1971 م _ المثلث الدامي 1980 م _ حبال السأم 1987 م _ كل الأنهار 1997 م _ ثم أخيرا زهرة السلوان 1999 م ، التى نتعرض لها الآن . ( 2 )
وتشتمل المجموعة " زهرة السلوان " على اثنتي عشرة قصة قصيرة تسودها تيمة واحدة تقريبا هي الاستعانة بالتراث وتوظيفه في النسيج القصصي ( السردي ) وهو تراث متنوع ببن التراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي والتراث الوثني الفرعوني والبابلي ، والتراث الشعبي العربي المتمثل في السير الشعبية وألف ليلة وليلة وهو تراث لا يطغى على الجوانب الواقعية في القصص ، إذ أنه لا يشكل سوى خلفية تحدد ملامح الشخصية وتعمق بناءها أو رمز يثرى دلالة الحدث ويوسع آفاق المعنى بصورة عامة .
على أن ثمة ثلاث قصص توظف فيها التيمة التراثية بشكل غير مباشر هي : " عم عبده الأخضرانى"و"درة مشوي
و" اللي هو" حيث نلمح أصداء لأثر القيم الأخلاقية السامية في البيئة الشعبية ، مثل الإخلاص ، روح التعاون ،والوقوف بجوار الضعيف .
في "زهرة السلوان " قصة العنوان يصور المؤلف قصة هذا اللقاء المرصود في اللوح المحفوظ من قديم الأزل بين الزهرة والفراشة ، هذه الزهرة التى عشقت الفراشة ولم تجد سلوانا غيرها ، إنها قصة رمزية ، لذلك فالزهرة ترمز إلى المرأة والفراشة ترمز إلى الرجل ، إن القصة في النهاية معادل لهذه العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة .
وفى" عطر الرغبة " تتبدل الأدوار فتصبح المرأة فراشة تنجذب إلى عطر الرجل ، فثمة امرأة عاشقة ذات تجارب واسعة مثل ، إيزيس التى خدعت رع تقع في حب رجل جميل ، ولأنها تحبه فهي تخاف عليه ، تلملم أشلاءه مثل إيزيس التى أحبت أوزوريس .
وفى " أرز لبنان المر " رثاء لبيروت الجريحة التى مزقتها الحرب الداخلية ، وتكتمل قصيدة الرثاء بقصة "سفر الخروج" وهو عنوان مأخوذ من التوراة ، هنا يكاد يتحول الرثاء إلى هجاء لاذع لكل من شارك في تمزيق لبنان ، وتشريد أهلها ، والجدير بالذكر أن الكاتب كتب هذه القصة إثر مذبحة قانا عام 1995 م ، التى قتل فيها ما يقرب من أربعمائة لبناني .
ويتجلى توظيف التراث بشكل أكثر وضوحا في القصة الأخيرة "مضاض ومي" حيث يعيد الكاتب صياغة قصة مشهورة في التراث العربي ذكرها وهب بن منبه في كتابه " التيجان في ملوك حمير" على لسان الحارث الجرهمى وقد سبق لفاروق خورشيد أن أوردها في كتابه "في الرواية العربية" الذي صدر عام 1959 م ، حيث اتخذها دليلا قاطعا على وجود القصة في الأدب العربي القديم ، ليثبت أن العرب ليسوا أقل من الغرب ، بل سبقوهم في إنتاج القصة القصيرة ، أما هنا فإنه يعيد صياغتها في شكل قصة قصيرة حديثة ، يبرز فيها إمكانياته الفنية .
والذي يمكن استنتاجه باطمئنان أن الكاتب يتخفى إهاب التراث ليقول كل ما يريده في الواقع من نقد وهجاء لاذع مرير ، أي أن التراث لا يأخذ بالكاتب بعيدا عن الواقع ، بل يضعه في قلبه ، وعلى مستوى الشكل ينوع الكاتب في البناء السردي ، معتمدا وجهات نظر خارجية غالبا ، حيث يقف السارد خلف الأحداث أو يكمن في أحد الشخصيات القصصية ، وهذا يجعلنا أقرب الشخصيات حيث يميل البناء السردي نحو العرض الدرامي .
ففي قصة "عم عبده الأخضرانى" تأتى الأحداث على لسان ضمير الغائب من خلال وجهة نظر محيطة بكل شيء غير أنها سرعان ما تتقيد بوجهة نظر الشخصية الرئيسية "عم عبده" ثم تعود في نهاية القصة للراوي العليم ولكن من خلال الشخوص الأخرى . فنحن نتابع من خلال عين الراوي العليم عم عبده وهو يسقى الزرع في هذا المنزل الكبير ونكاد نتعرف على ملامحه الخارجية ، غير أن ملامحه الداخلية لا تظهر إلا من خلال المونولوج الداخلي المختلط بصوت الراوي ، فنعرف تاريخ الرجل منذ كان يعمل ناقشا ، ودخوله السجن وخروجه للعمل بستانيا وحبه وإخلاصه لعمله ، أما وفاته فتأتى على لسان ابنته . إن الكاتب في القصة يسمو بالشخصية ويضع يده على الجانب الإنساني ، مما يذكرنا بقصة العجوز لتشيكوف .
إن وقوفنا عند البناء السردي لهذه القصة لايعنى إنها أفضل نماذج الكاتب في المجموعة ، ولكن أردنا أن نعرض نموذجا محددا ، هو نموذج قصة الشخصية ، حيث يمكننا أن نلمح نموذجين لآخرين في هذه المجموعة يشكلان مع هذه القصة الأبنية السردية الرئيسية .
النموذج الأول ، قصة الحبكة حيث يعمد الكاتب إلى البناء التقليدي في القصص من بداية ووسط ونهاية وصراع يحسم لأحد الطرفين مثل قصص "مضاض ومي" و"ذرة مشوي" و" اللي هو" .
أما النموذج الثاني في البناء السردي ن فهو الذي يخفت فيه الصراع الدرامي وتختفى الحبكة في الظاهر وتميل القصة نحو البناء الشعري ،فيسيطر الجو القصصي أو الرمز في القصص ، مثل قصص "عطر الرغبة "و" أرز لبنان المر"
وبعد فإن تميز خورشيد في هذه المجموعة ، لا يقف عند تنوع الأبنية السردية فحسب ، ولكن لابد أن نثمن للكاتب قدرته العالية على استخدام التيمة التراثية بأشكال متنوعة ، مما كان له الأثر الكبير في بناء القصة السردي ، وهو أثر يستحق وقفة أخرى لبيانه بالتفصيل وإبراز جمالياته .
---------------------------
1 _ مجلة فصول ، المجلد الثانى ، العدد الرابع ، يوليو/ أغسطس/سبتمبر،1982 م، ص 297 .
2 _ صدرت مجموعة"زهرة السلوان" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1999 م .
التعديل الأخير بواسطة المشرف: