دراسة علي حاج علي - قراءات نقدية في دفتر الاديب معاوية محمد نور احتفالا بمئويته. نص (المكان)

مدخل للنص:
عندما تقرا نص (المكان) للأديب معاوية محمد نور تجد نفسك في تلك الأمكنة التي ذكرها الكاتب، وفي تلك الأمكنة المتشابكة تتخيل أخرى عايشتها (أنت) منذ أزمنة سحيقة وهاهي تقفز أمامك فجاءة وكأنما نص (المكان) كان بمثابة المنشط لذاكرتك بان تعيد قراءة تلك الأمكنة. والمكان لا ينفصل عن الزمان والأشخاص والحركة والصوت في لحظة معينة. وكل تلك العناصر تظهر عبقرية المكان الذي يبقى ملتصقا بالذاكرة، وما أن تنشط الذاكرة حتى تشعر بذلك الإحساس الذي يجعلك تسعى لعناق الأمكنة والحوائط والشقوق والخرائب، ويعزف معها سموفينية البقاء الأبدي.
قبل أن يبدأ الكاتب قصته عن المكان، قام بتعريفها لنا في مقدمة اعتبرها (هو) ضرورية وهامة لتعريف القراء بذلك النوع الجديد من الفن القصصي، وفي تلك المقدمة أدركنا أن هذا النوع الجديد من القصص لا يعني بتفاصيل العلاقات الاجتماعية ونوعها ولا حتى بوصف المكان ولا بالعواطف، هو يعني قبل كل شيء بالأحاسيس البشرية الخاصة تجاه الحياة ومسائلها الكبرى، وتجاه تضاد الأفكار في لحظة واحدة عند شخص من الأشخاص.
هذا النوع من الفن القصصي يعبر لنا عن كاتبه بصراحة.
يقول:
((ويغلب في كتاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم، فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان وتغيير الأمكنة والأزمان والأسماء))
بهذه المقدمة بدأت القصة التحليلية للمكان ومباشرة وضعنا الكاتب أمام (مجدي) بطل القصة ذلك الشخص الذي سوف نغوص في داخله عندما يحكي لنا عن علاقته بالمكان أو عن علاقة المكان به وتأثيره عليه، وكان الكاتب يريد أن يعلمنا إن هذه القصة تتحدث عن شخص حقيقي انطلاقا من تلك البداية وكما كانت البداية تشعرك بالبطل واقف أو جالس أمامك، كانت النهاية تحمل نفس الإحساس، وهنا تظهر براعة الكاتب في انه وضع فكرته بين حركتين للبطل، وما بين الحركة الأولى والحركة الثانية كان الإحساس بالمكان مسيطرا على كل المساحات السردية للقصة.
الحركة الأولى في بداية القصة يقول:
((فتح مذكرته التي يدون فيها خواطره.... ))
الحركة الثانية في نهاية القصة يقول:
((وبعد أن كتب هذه الأشياء شعر بأنه قد تعب وفتح مذكرته التي يدون فيها خواطره....))
قبل أن نبدأ قراءاتنا لنص المكان، لا بد أن نقول إن الكاتب تحدث عن أحاسيسه صراحة في النص بلسان (مجدي) وعن علاقته بالأشياء والأصوات والحركة، وأخيرا بالمكان.
وذلك الإحساس بالمكان كان يخامر خيال وعقل الكاتب منذ فترة طويلة وتحديدا منذ أن كتب القصتين اللتان وصف فيهما تلك الأمكنة في مدينتين مختلفتين كان لهما الأثر الكبير في حياته.
القصة الأولى:
في الخرطوم ((خواطر وذكريات محزونة))
القصة الثانية:
امدرمان ((مدينة السراب والحنين))
في هاتين القصتين وصف لنا الكاتب المكان في كل من المدينتين وصفا شاعريا فيه شحنة من الحنين الدفاق إلى وطنه والى تلك الأمكنة التي عاش فيها أو زارها أو مر بها مرورا عابرا، فهو يصف النيل بفروعه ويتحدث عن مصبه، وذكر جزيرة توتي وذلك الشارع على النيل الأزرق وتحدث عن الترام والاتومبيل ووصف حي وشارع الموردة بأسواقها وصخبها وحكى لنا عن قبة المهدي. وغيرها من الأمكنة التي علقت بذاكرته وعندما شعر بان الوصف لا يكفيه ليعبر عن علاقته بالمكان، قام بكتابة هذه القصة التحليلية ليتحدث مع المكان ويبثه شجونه وآلامه ويتبادل معه الإحساس بالإحساس.
انظر:
((وقد يلج به هذا الإحساس المكاني في ساعات تيقظه إلى ما هو اغرب من ذلك. فإذا مر بالسوق لج به الخاطر إن حياته لا تكمل إذا لم ير كل الدكاكين والشوارع فإذا فرغ من هذه العملية ود لو إن في مكنته أن يدخل كل حوانيت البقالة ويرى من قرب حوائطها الداخلية وزواياها وترابها))
اهتمام الكاتب بالتفاصيل والحركة والأصوات وربطها بالمكان خاصية انفرد بها منذ فترة مبكرة من حياته، ربما كان ذلك لكثرة سفره وتجواله وابتعاده عن أسرته وأهله لفترة أو فترات طويلة وهذا الاغتراب نما فيه الإحساس بالمكان.
إن ما يميز النص (المكان) هو مخاطبة الكاتب لإحساسه تجاه المكان، وعبر هذا الخطاب بينه وبين المكان، كان يصور لنا بصدق كل أحاسيسه نحو مكان بعينه بعد أن يربط ذلك المكان بحركة أو صوت أو لون أو حادثة.
فالعلاقة بينه وبين حوائط المدرسة الابتدائية تصل إلى قمتها في يوم العطلة الكبرى، فهو يشفق على الحوائط عندما يتركها لوحدها بدون التلاميذ والمدرسين وصوت الجرس لطابور الصباح لذلك يقوم بوداع الحوائط والشقوق في مدرسته واحدة بعد الأخرى.
يقول:
((فلا يترك المدرسة يوم العطلة إلا بعد أن ينظر إلى كل حائط وكل شق ويذرع الحوش ثم يودعها ويلبث ينظر إليها وهو في الطريق إلى إن تغيب عن نظره))
هو لم يتعامل مع حوائط المدرسة باعتبارها (جماد) لا يحس بل تعامل معها باعتبارها تمتلك إحساس وتبادله هذا الإحساس وتعيشه معه لحظة بلحظة، ولنا الحق أن نتخيله، فهو كما يودع حوائط المدرسة يوم العطلة، بلا شك هو سوف يلاقيها بفرح غامر عندما تفتح المدرسة أبوابها.
إن الإحساس المتبادل بين (مجدي) وما حوله في مكان ما، أو إحساسه هو بالمكان يوضحه لنا في المقطع التالي من القصة.
انظر:
((وإننا أحياء من أوائل ألازمان إلى أخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي يختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد والأشياء. وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة الصماء والأشجار وعي وإحساس من نوع وعينا وإحساسنا..))
إن الكاتب في هذا النص جعل (مجدي) يتواصل مع الحوائط والمادة الصماء ومع الأشجار، ويتحاور معها ويحس بها، وهي بالتالي بادلته ذلك الإحساس فكأنما الحوائط والمادة الصماء والخرائب تخبر بعضها البعض بان هناك شخص اسمه (مجدي) يملك المقدرة على التواصل معها، لذلك كانت خرائب امدرمان تناديه وكانوا عندما يذكرون له مكان ما لم يسبق له أن زاره كان يتخيله بأدق تفاصيله وعندما تتاح له الفرصة بزيارته يراه كما تخيله تماما. بفضل إحساسه بالمكان وامتلاكه تلك الخاصية في التواصل مع المكان والإحساس به.
انظر:
((وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثل ما تخيله حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان))
كان (مجدي) بتواصله مع المكان والإحساس به يعرف الأمكنة من خلال حركة أو صوت يرتبط بشكل ما مع المكان أو بحادثة معينة أثرت في حياته، وحالما يسمع ذلك الصوت أو يتخيل تلك الحركة يذكر المكان بكل تفاصيله.
إن صوت (البوري) كان يذكره بأحزانه وبخاله الذي مات وكان يذكره أيضا بالمستعمر الذي جثم على صدر بلاده وعلى صدره هو شخصيا، لان الكاتب كان ملاحق من قبل المستعمر الإنجليزي بسبب سفره إلى مصر وبسبب قلمه الحر النزيه. لذلك كان كلما يسمع صوت (البوري) يتذكر خاله والأحزان ويتذكر وطنه والأشواق، وكل الأمكنة فيه التي أحس بها وبادلته الإحساس.
ومن شدة تأثير صوت (البوري) عليه نجده يكرره في ثلاثة من القصص التي كتبها.
في قصته الخرطوم (خواطر وذكريات محزونة) يذكر صوت (البوري).
انظر:
((وسماعي لذلك البوري الذي يهز كياني هزا، ويلعج نفسي ويذكرها بمن مات من أهلي وأحبابي! ولا ادري أي علاقة لذلك الصوت وتلك الذكريات المحزونة، فلربما لان خالي كان ضابطا وان ذلك البوري كان يضرب لعشاء الضباط، وخالي قد مات))
وفي قصة امدرمان (مدينة السراب والحنين)
يقول:
((ثم سمع صوت البوري يرن حزينا شجيا وسط ذلك السكون الصامت وفي أجواز ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشي من الحنين البعيد والحزن الفاتر المنبسط))
وفي القصة التي نحن بصددها الآن يذكر صوت (البوري) في إشارة إلى تأثره بذلك الصوت وعلاقته بحادثة هامة في حياته ألا وهي موت خاله.
انظر:
((فإذا ذهب لينام في الليل وسمع صوت البوري الذي يضرب عادة لعشاء الضباط الإنجليز ذهب خياله توا إلى من فقد من أهله وقرابته))
ويقول أيضا:
((وكان صوت ذلك البوري دائم الاقتران بصورة خاله الذي مات))
هذا ما كان من أمر الإحساس بالمكان وعلاقته بالصوت، أما الإحساس بالمكان واتصاله بالحركة يقول الكاتب.
انظر:
((وهذه الظاهرة هي الأخرى لا يستطيع لها تفسيرا فانه قل أن يذكر الناس الذين عرفهم من ماتوا من أهله أو من هم بعيدون عنه الا في هيئة الحركة. وفي اغلب الأحيان في حركة بعينها وفي مكان بعينه ويوم وساعة بعينهما))
لذلك يتجسد صوت (البوري) والحركة عند الكاتب بشكل قاطع (تمام) في المكان ويذكره بالحزن على من فقد من أهله وبالتالي بالأمكنة التي تواجدوا وعاشوا فيها وماتوا ودفنوا فيها، وصوت (البوري) يذكره بوطنه والحنين إليه ولأهله.
الكاتب ببراعة الأديب تحدث عن نفسه وأحاسيسه وشعوره بدون تستر ولا (تكلف) فهو ترك الحرية لخياله في التذكر واسترجاع الماضي، وكتب بصدق عن شعوره وإحساسه بالمكان وذلك الرابط (المتين) الذي يجمعه بكل من حوله. أو كما قال ((بشعر الحياة ومسائلها الكبرى))
وأخيرا يقول بلسان (مجدي) متحدثا عن نفسه، معبرا عن الكثير من البشر.
يقول:
((ولمجدي عادة تقلقه ولا تريحه، لكنه يحس في ممارستها والشوق إليها راحة وطمأنينة. فهو إذا لم يضع ملابسه وكتبه وسريره في أمكنة بعينها وفي أوضاع خاصة لا يرتاح باله قط. فإذا وجد اقل تغيير في وضع كتبه وملابسه غيرها إلى نفس الوضع والمكان لأنه يتفاءل بأمكنة بعينها ويتشاءم من أخرى))
وأخيرا لابد أن الكثير منا أو كلنا يحس نفسه في المقطع السابق......
 
(المكان) قصة قصيرة للاديب معاوية محمد نور

فتح مذكرته التي يدون فيها خواطره وأسماء الموضوعات التي يود الكتابة عنها فقراء فيها أسماء هذه الموضوعات:
1. حماسة شاعر عصري
2. هكذا نحن!
3. حرفة الكتابة
4. الأولاد الأشقياء في الليل
5. إحساس بالمكان.
ووقف عند هذا الموضوع الأخير يديم فيه ويفكر متى كتبه؟ استجاش إحساسه بالمكان، فذكر إن للمكان من كل ظاهرات الوجود النصيب الأوفر من خياله وإحساسه، واستولى عليه شعور قوي يدفع به لتدوين ما يحسه تجاه المكان. لكنه شعر إن الموضوع مترامي الأطراف متشعب النواحي لا يستطيع صهره وتركيزه وتبويبه على الوجه الذي يرضيه! وكيف يستطيع ذلك والموضوع شائع في كيانه شيوع النور في الفضاء كله. وعلى كل حال ابتدأ بالطريقة الزمنية في توضيح الموضوع ولم أطرافه واستعرض صفحة حياته من طفولته إلى عهده الحاضر.
فذكر انه وهو طفل لم يتجاوز الرابعة من العمر، كان قد أخذه والده إلى بيت زوجته الثانية لكي يلتحق ((بالخلوة)) هناك. وبقي زمنا في ذلك المكان، كانت أعجب الظواهر العقلية عنده انه حالما يستيقظ من النوم مبكرا على صياح الديك يذكر أهله وبيته. لكن شيئا واحدا أعجب له وظل يعجب له طيلة إقامته هناك، وهو انه خيل إليه أن عنده مفتاحا سحريا يعرض أمامه السوق التي كانت تقع بالقرب من بيتهم في كل حركتها وصخبها وحيويتها ولم يبق له لكي يصدق خياله إلا أن يشترى من ذلك البائع أو يضرب ذلك الرجل! فلما كبر قليلا ظن في نفسه إن هذه الظاهرة غريبة فيه وانه يجدر به أن يسال الناس إذا كانوا يحسون ويتخيلون مثلما يحس ويتخيل. لكنه لم يفعل ولعل شيئا من الإشفاق على نفسه والخوف من الضحك عليه منعه من ذلك السؤال.
وكبر ((مجدي)) فادخله والده المدرسة الابتدائية فكان يري حوائط المدرسة حينما تقرب العطلة الكبرى باهته شائخة ويعاوده شيء من الإشفاق عليها، فلا يترك المدرسة يوم العطلة إلا بعد أن ينظر إلى كل حائط وكل شق ويذرع ((الحوش)) ثم يودعها ويلبث ينظر إليها وهو في الطريق إلى أن تغيب عن نظره...!
ثم راح ((مجدي)) إلى المدرسة الثانوية في الخرطوم، فكان وهو في حجرة الدرس يكتب أو يستمع إلى المدرس تقفز به ذاكرته من غير أن يشعر إلى خرائب رآها قبل عشر سنوات في ام درمان! ولا يعرف ما علاقة تلك الخرائب والأطلال التي لم يقف عندها في يوم من الأيام باللحظة الحاضرة، ومالها تلح على خياله وتصوره وتحتلهما من غير أن يناديها أو يفكر فيها حتى في ام درمان كلها – وبعد جهد ليس بالقليل يستطيع صرفهما والانتباه إلى حاضره...!
فإذا ذهب لينام في الليل وسمع صوت البوري الذي يضرب عادة لعشاء الضباط الانجليز ذهب خياله توا إلى من فقد من أهله وقرابته.
واغرب من ذلك كله انه كان لا يسمع صوتا إلا ويعطيه لونا خاصا. فصوت البوري اصفر باهت، وصوت الاتومبيل اسود عامر السواد، كما انه كان ينظر إلى الأرقام المكتوبة كلها بخط واحد، فيتفاءل بالبعض ويتشاءم من البعض الأخر، ويعطي تلك الأرقام ألوانا فالثمانية والأربعة أرقام عامرة طيبة، والخمسة والتسعة أرقام باهته صفراء لا يرتاح إلى رؤيتها أو التيمن بطلعتها!!
وكان صوت ذلك البوري دائم الاقتران بصورة خاله الذي مات. وهو لا يذكر ذلك الخال حينما يذكره إلا على صورة واحدة ولو انه رآه في مختلف الصور والإشكال. يذكره حينما كان معه في المولد النبوي في ليلة مقمرة في حركة واتجاه واحد بعينه دائما!
وهذه الظاهرة هي الأخرى لا يستطيع لها تفسيرا، فانه قل أن يذكر الناس الذين عرفهم من من ماتوا من أهله أو من هم بعيدون عنه إلا في هيئة الحركة. وفي اغلب الأحيان في حركة بعينها وفي مكان بعينه ويوم وساعة بعينهما – فلا يذكر خادمتهم التي ماتت، في البيت مثلا أو في المطبخ أو ما إليه من الأماكن التي طالما رآها فيها، ولكنه يذكرها في مكان بعيد كان برفقتها فيه. في مكان قفر بالقرب من النيل بعيدا عن المدينة وفي خطوة وإيماءة واحدة، حالما يذكر تلك الخادم يذكر ذلك المكان الغريب وتلك الإيماءة من غير قصد ولا تعمل ولا استحضار!!
وهكذا فالصور التي رأي فيها والده كثيرة، ولكنه قل أن يذكره في غير صورة واحدة وحركة واحدة ومكان بعينه!
وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثل ما تخيله حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان، وقد يدهش أحيانا حينما يزور مكانا لأول مرة فيخيل إليه انه قد عرف هذا المكان قبل ألان في حياة أخرى، والكل يظهر أمامه كحلم غريب!.. لكن الالفة أو الإيناس الذي يشعر به نحو الأمكنة ومنعرجاتها يخيل إليه انه قد عرف ذلك وصحبه ردحا من الزمن لا شك في ذلك ولا ريب فيه..
فإذا أمعن في التفكير والتعليل ظن إن هذا الذي نسميه زمنا وهم لا أصل له (Illusion ) أو خرافة تخلقها عقولنا (Fiction ) وان الحقيقة الواحدة الباقية هي المكان وإننا أحياء من أوائل الأزمان إلى أواخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي يختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد والأشياء. وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة الصماء والأشجار وعي وإحساس من نوع وعينا وإحساسنا، إلا انه قليل في الكم بنسبة حظ تلك الأشياء من الحياة والحرية والحركة! وان مهمتنا نحن أن ننتقل من شكل من أشكال الحياة ونمر على تلك الأدوار في تلك الأثناء التي نسميها الزمن، وهو مصدر ذلك الإحساس، وسبب ذلك العطف الذي نحسه نحو أشكال الحياة المختلفة من غير أن نعرف سببه!
ويرى ((مجدي)) إن بعض أحلامه تتكرر فيرى أمكنة غريبة في بلاد لم يعرفها، فلا يمر عام أو عامان حتى يسافر إلى بلد من البلدان يرى فيه نفس المكان الذي رآه في حلمه من قبل أعوام!..
ولمجدي عادة تقلقه ولا تريحه، لكنه يحس في ممارستها والشوق إليها راحة وطمأنينة. فهو إذا لم يضع ملابسه وكتبه وسريره في أمكنة بعينها وفي أوضاع خاصة لا يرتاح باله قط. فإذا وجد اقل تغيير في وضع كتبه وملابسه غيرها إلى نفس الوضع والمكان لأنه يتفاءل بأمكنة بعينها ويتشاءم من أخرى.
وقد يلج به هذا الإحساس المكاني في ساعات تيقظه إلى ما هو اغرب من ذلك. فإذا مر بالسوق لج به الخاطر أن حياته لا تكمل إذا لم ير كل الدكاكين والشوارع. فإذا فرغ من هذه العملية ود لو أن في مكنته أن يدخل إلى كل حوانيت البقالة ويرى من قرب حوائطها الداخلية وزواياها وترابها، كأنما لكل تلك الأشياء قصة معه، وهو لا يعلم من أمر تلك القصة سوى هذا الإحساس العارض الذي يقلقه في بعض الأحيان ولا يرتاح ضميره إلا حين ينفذه!.
استعرض مجدي كل تلك الذكريات والصور والأسباب في خياله في لحظة واحدة من الزمان وظل يفكر .... يفكر.!
(( ما معنى كل ذلك ! ............ معناه .......... معناه.... نعم معناه إن الإنسان لا يموت أبدا. وان ما يسميه موتا هو في واقع الأمر تغيير لشكل الحياة، وإننا نحن والسماء والأرض والأمكنة كلها أخوان وأولاد أعمام وهذا هو سبب العطف والكلف بالمكان!))
فقالت له نفسه الثانية (( لا هذا غير صحيح. وإلا فلماذا يمتاز بعض الناس بهذه الخصلة والبعض الأخر لا يعرفها. ألا تذكر ما قرأت في كتب السيكولوجي إن بعض الناس بتركيبهم اقدر على تخيل المرئيات، وآخرين على المسموعات، والبعض الأخر على المشمومات، وبعض الطلبة يفهمون أكثر إذا قرؤوا الكلام مكتوبا والبعض الأخر إذا سمعه منطوقا)).
(( نعم هذا صحيح، ولكن ما معنى كل ذلك أيضا؟!))
مرة أخري وهو في وادي التفكير العميق ! (( معناه .... معناه.... ماذا يهمني معناه. هذه هي الحياة وكفى .... وليس من معنى لان نعتقد إن وراءها معنى.........! معناها إنها الحياة ويكفيني أن أصور الحياة كما أراها، وليس من مهمتي أن أفسر كل ظواهرها، فلعل هذا الاضطراب وعدم مقدرتنا على ردها إلى سبب واحد هو من خواصها الأساسية. وليس من ذنبي ولا ذنب الحياة إن الناس ينظرون إلى أشياء وراء الحياة.. لعل هذه هي لعبتها الكبرى علينا، وضحكتها المكبوحة التي لا يفتر ثغرها عنها. ويكفيني أن احكي الحياة بالعرض دون التفسير. فلعل العرض نفسه هو التفسير، ولعل الاعتقاد إن وراء كل ظاهرة ظاهرة أخرى خدعة من خدع المنطق. فلنحك الحياة في تقييد خواطرها وولائدها ولا نكن حمقى فنطلب التفسير والتعليل، إذ الحياة تعرف الخلق الذكي ولا تعرف التفكير والتعليل فلأعرض تجاريب إحساسي بالمكان كما أحسست به ورايته، وليعلل ذلك كل وفق مزاجه وتفكيره إذا كان لا بد له من التعليل والتفكير ... !
هذا هو منطق الحياة الصميم. وهكذا يجب أن يكون منطق الفنان الذي يحكيها ........... وارتاح إلى هذا التفكير كثيرا. وابتدأ يلم أطراف موضوعه تهيؤا للكتابة النهائية. فخط في وسط السطر (( إحساسي بالمكان )) وكتب:
1. كيف إنني اذكر الأشخاص الذين عرفتهم دائما في مكان بعينه ويتكرر ذلك المكان كلما ذكرتهم!
2. كيف إنني في ساعات الدرس والتحصيل تلح في ذاكرتي صور وخرائب وأمكنة رايتها منذ عشرات الأعوام فتزورني من غير أن أناديها. وقد يقفز بي مكان في بلد إلى مكان في بلد أخر لا اعرف ما العلاقة بينهما قط ولا استطيع أن اعرف.
3. كيف أتخيل بعض الأمكنة ومواقعها قبل أن أراها، فلما تسعدني الظروف برؤيتها تكون وفق ما تخيلت في اغلب الأحيان!
4. كيف أحس إن المكان الذي رايته لأول مرة في حياتي قد رايته من قبل في حياة سابقة أخرى!
5. كيف إن خاطري في بعض الأحيان يلح بي لكي اذرع حوائط الدكاكين الداخلية – التي لا اعرفها – وأتمعن في ترابها وزواياها كأني قد تركت روحا هناك!
وبعد أن كتب هذه الأشياء شعر بأنه قد تعب وفتح مذكرته التي يدون فيها خواطره وأسماء الموضوعات التي يود الكتابة عنها فقرأ فيها أسماء هذه الموضوعات:
1. حماسة شاعر عصري
2. هكذا نحن!
3. حرفة الكتابة
4. الأولاد الأشقياء بالليل
5. إحساسي بالمكان.!
فقام فجأة من الكرسي ثم رأي وجهه في المرآة ثم ابتدأ ينظر إلى الأفق من شباك غرفته وأراد أن يفكر غير انه أحس إن رأسه أصبح فراغا مطلقا............ !!!

انتهت



* الخلوة: كانت في فترة من الفترات نظام التعليم الأساسي في السودان حيث يحفظ فيها الطالب القران الكريم كله أو أجزاء منه... ثم تطورت وأدخلت فيها علوم أخرى. وهي مستمرة إلى ألان ولكن بصورة اقل...
* الحوش: هو الفناء الذي يكون أمام البناء الداخلي للمدرسة أو المنزل واشتهرت منازل السودان بوجود الحوش... ألان بدأت في الانحسار



* (نشرت في جريدة مصر – العدد10324 – 11نوفمبر سنة 1931)
و منشورة في (الاعمال الكاملة لمعاوية محمد نور – الطبعة الاولى 1994- دار الخرطوم للنشر)
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...