علية الأندلسي - إطلالة على الحضارة المرينية

2

يمكن تعليل تذبذب الدولة المرينية في سياستها الخارجية أحيانا -أيها القراء الأفاضل- إلى الأسباب الآتية حسب أغلب المصادر والمراجع التاريخية المعتمدة:
أولا: واجهت الدولة المرينية في فتوحاتها دولا منظمة في العُدة والعَتاد ومصممة على الدفاع عن وجودها وكيانها، ففي المغرب الأوسط عارضهم "بنو عبد" كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وفي الأندلس تكونت ثلاث ممالك مسيحية: مملكة قشتالة ومملكة أرَاغُون، ومملكة البرتغال، واتسعت رقعتها على حساب مساحة الأندلس الإسلامية، كما تكونت طوائف دينية وعسكرية ومليشيات لمحاربة المسلمين هناك وفق ما تذكر المصادر الأجنبية التي اهتمت بالتأريخ لهذه الحقبة الزمنية.
ثانيا: لم تتوفر الدولة المرينية على أسطول بحري مميز وقوي كأسطول الموحدين الشهير الذي كان يصول ويجول في البحر الأبيض المتوسط، ويذود عن حمى الوطن والدين وبلغت شهرته شرقا وغربا، ومن تم كان لذلك آثارا سلبية على فتوحاتها بالمغرب والأندلس لما للأسطول البحري من أهمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، عكس النصارى الذين أصبح لهم أسطولا ضخما يتجول بالبحر الأبيض المتوسط ويمنع تنقل الأفراد والبضائع التجارية، و يعترض سبيل المرنيين ويمنع وصول الزاد والذخيرة إلى المسلمين؛ وبفضله استطاع النصارى هزيمة الخليفة أبي الحسن المريني في إحدى المعارك البحرية..
ثالثا: يذكر المؤرخون أن سياستهم الخارجية كانت تفتقر إلى الاستقرار وحُسن التدبير وبُعد نظر، ولم يوفقوا في استخلاص النتائج من انتصاراتهم العابرة مع كامل الأسف، ففي الأندلس كانت حملاتهم متقطعة إذ كانوا يغيرون على بلاد الخصم في فصل الصيف فيخربونها قصد تضعيفه، ثم يعودون عند اقتراب فصل الشتاء، وفي المغرب الأوسط وإفريقية لم يحضوا بتأييد السكان؛ لأن فتوحاتهم لم تكن لها مبررات سياسية ودينية مقنعة وقوية، ولكونهم اعتبروا أن البلاد فتحت عنوة اقتطعوها بين المرينيين، وانتزعوا من باقي السكان الإقطاعات والامتيازات التي كانوا يتمتعون بها من قبل.
باختصار شديد يمكن القول بأن المرينيين حاولوا الإقتداء بالمرابطين والموحدين والسير على ضربهم في سياستهم الخارجية، لكنهم لم يرقوا إلى مرتبة القوة التي تمتعت بها هذه الدول، كما أنهم لم يدركوا حجم الظروف العامة التي تحولت لصالح خصومهم وفق ما ترويه عنهم المصادر التي اهتمت بهذه الحقبة التاريخية[1].
لكن رغم ما يذكر عن الدولة المرينية من وجود سلبيات وإكراهات وعوائق كانت تعترض سياستها الخارجية من حين إلى أخر؛ فإنها كانت لها انتصارات لا يُستهان بها ذكرتها بعض المصادر التاريخية النفيسة ككتاب ابن الحاج النميري الغرناطي (ت770ه/1369م)[2] مثل انتصارات أبي عنان على الملك البرتغالي ألفونسو الرابع في المعركة الكبرى "لاقُشْ" (LAGOS) سنة (756ه/1355م)، والتي تعتبر من أكبر المعارك التي عرفتها منطقة البحر الأبيض المتوسط آنذاك، و"لاقُش" مدينة على المحيط الأطلسي في جنوب دولة البرتغال، ويصف المؤلف هذه المعركة بالتفصيل الدقيق حيث يرسم صورة مدققة للموكب المريني عند خروج السلطان أبي عنان المريني من مدينة فاس، كما يولي اهتماما أكبر بفرق الجيش في لباسها وترتيبها وشاراتها وأعلامها وموسيقاها، وعند وصول الموكب إلى مرسى مدينة "قسنطينة" يصف ابن الحاج النميري أسطول أبي عنان بقطعه وأعلامه ورؤسائه وشاراته، ويختتم الكتاب بوصف موكب العاهل المريني عند عودته منتصرا إلى مدينة فاس؛ بالإضافة إلى وجود تفاصيل ممتعة عن مشاهد الرحلة، وما أثارته وقائعها من أشعار وقصائد تفيض بها قرائح الأدباء أمثال الشاعر المكناسي محمد بن جابر الغساني (ت827ه) الذي كان من شعراء أبي عنان المريني وتوفي عن سن عالية[3]. وتجدر الإشارة إلى كون هذا الكتاب النفيس قد قدم لتاريخ الحضارة المرينية معلومات دقيقة لا تقدر بثمن يمكن للباحث الاعتماد عليها في دراسة الحقبة المرينية.
ولابن الحاج أيضا كتاب اسمه "الرحلة"[4] قام بها بمعية السلطان أبي الحسن المريني عام (745ه)، زار فيها مدينة سبتة السليبة وطنجة وأصيلا وفاس وسلا، وما يلفت النظر هو إثبات ابن الحاج في هذا الكتاب نص رسالة مطولة من ابن الأحمر محمد الثاني الغرناطي إلى أبي يعقوب يوسف المريني عام (699ه)، يشرح فيها العاهل الغرناطي إلى السلطان المريني تفاصيل المعركة التي كللت بانتزاع قلعة "القبذاق" الموجودة بحوز مدينة "قرطبة" من يد القشتالين، وفي هذا الصدد كذلك نشير إلى رسالة بعثها السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني (656-685ه) إلى فيليب الثالث ملك فرنسا الملقب "بالجَسور" وفيها يذكر سلطان المغرب المساعدة التي قدمها إلى ملك قشتالة ألفوُنسُو العاشر لاسترداد عرشه الذي اغتصبه ابنه ضُون سَانشُو، ويبين أن هذه المساعدة أملاها عليه القيام بالواجب رغم اختلاف الديانتين وليست من أجل مصالح شخصية، ويطلب من عاهل فرنسا أن يساعد من جهته ألفونسو العاشر لاسترداد ملكه الضائع، الرسالة مؤرخة سنة (681ه/1282م)[5].
كما كانت للدولة المرينية بصمات جد مهمة على الحياة الاجتماعية والحضارية والمعمارية حيث تتجلى الميزة الأساسية في حضارتهم في الأسلوب الخاص في فن البناء والزخرفة الذي تشهد عليه مآثرهم الخلابة المتواجدة إلى عصرنا هذا، والتي تفننوا في زخرفتها ما شاءت لهم أريحيتهم..
• الحياة الاجتماعية والاقتصادية:
قبل التطرق إلى الجانب المعماري للدولة المرينية –أعزائي القراء الأفاضل- نعرج معا على بعض الجوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذا العهد الذي درسه العلامة ابن خلدون رحمه الله بالتفصيل في كتابه الجامع المفيد "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، والذي يعد كتابه "المقدمة" أول دراسة علمية للتاريخ ولحياة المجتمعات وتطورها.
ولقد وصف ابن خلدون (ت808ه/1406م) رحمة الله عليه وهو شاهد على العصر الحياة الاجتماعية في ذلك العهد بقوله في كتابه السالف الذكر: "غصَّ المغرب بساكنه من أمم لا يحصيهم إلا خالقهم"، ويفهم من هذا الوصف أن المغرب كان وافر السكان، والراجح أن عدد سكان المدن وخاصة مدينة فاس العالمة تضاعف كثيرا، ولا غرو أنه تجاوز المائة ألف وهي تقديرات إجمالية اعتمدتها بعض المراجع وليست إحصائية دقيقة؛ إذ تذكر بعض الروايات أن العمران استبحر بمدينة فاس وأن سكانها تنافسوا في البناء والتشييد، وتغالوا في أثمان العقار إذ بلغت قيمته فوق المعتاد في ذلك الزمان، أما مجموع عدد سكان البلاد فقد ظل على الأقل ثابتا حيث كانت البلاد تتعرض بصفة دورية للمجاعات والأوبئة الفتاكة، فتقضي على عدد كبير من أهلها ثم تتلوها سنوات الخير والرخاء فيتضاعف عددهم، وبذلك تحقق نوع من التوازن في عدد السكان.
وإذا كان عدد السكان ظل ثابتا فإن توزيعهم داخل البلاد تغير بعض الشيء، إذ أن هجرة سكان البادية إلى المدن اتسعت، وأبرزها هجرة بني مرين من المغرب الشرقي نحو مدينة فاس وناحيتها، استمر زحف القبائل من الجنوب الشرقي نحو الشمال الغربي ولم تتوقف هذه الحركة إلا في مطلع القرن العشرين، وتجدر الإشارة إلى أن أهم التنقلات في عصر الدولة المرينية هي تنقل الرُّحل في جنوب المغرب وشرقه في ما بين منطقة سوس والساقية الحمراء من جهة، وتافيلالت والملوية إلى مدينة تازة والريف الشرقي من جهة أخرى؛ ولم تنجو من هذه التنقلات سوى السهول والهضاب الداخلية حيث كانت تعيش القبائل المستوطنة قديما حياة الاستقرار[6].
أما بالنسبة للحياة الفلاحية والصناعية والتجارية فلم تختلف اختلافا كبيرا قبل منتصف القرن الثامن الهجري عما كانت عليه في عهد الدولة الموحدية، فلم تتأثر الحياة الفلاحية بالظروف الجديدة كتأسيس ملكيات كبرى لفائدة بني مرين والقبائل الموالية لهم، أو نزوح البدو الرحل من الجنوب والشرق، فقد ظلت الزراعة مزدهرة وظل إنتاج المغرب من الحبوب والقطاني والفواكه وافرا، بل أن انتقال البدو من الشمال والجنوب سهل تبادل الغلات الزراعية بين النواحي المختلفة؛ ففي ناحيتي مدينة تازة وشرق الريف على سبيل المثال كانت الأسواق تعجُّ بالزائرين بعد موسم الحصاد؛ لأن البدو الرحل يرتادونها لاقتناء القمح والشعير وفي نفس الوقت يحملون إليها من واحات دَرعَة الحِنَّاء والتَمر والنِّيلة؛ كما استمرت زراعة قصب السكر في ناحيتي مدينة مراكش وسوس وتحسنت طريقة تصفيته[7].
والملاحظ أنه في عهد الدولة المرينية ازدهرت تربية المواشي على اختلاف أنواعها في أنحاء المغرب، وفي هذا الصدد نشير إلى أنه يعود الفضل إلى الكسَّابين المرينيين في إدخال الكباش ذات الصوف الجيدة الممتازة إلى الأندلس الرطيب، وهي ما زالت تنسب إليهم إلى الآن وتعرف باسم "مَرِينُوس" "MARINOCE"، وكانت الخيول والبغال من جملة الهدايا وأهمها التي يتحف بها السلاطين المغاربة ملوك الدول الصديقة؛ كما كانوا يتحفونهم بالبضائع الصناعية التي ينتجها الحرفيون بمدينة فاس ومراكش وسلا، وكانت الحرف اليدوية الجميلة قد احتفظت بجودتها حيث كانت بضائعها تصدر إلى السودان وأوروبا، ولقد استفاد المغرب وبالأخص سكان المدن من وساطته في التجارة بين إفريقيا وأوروبا بصفة عامة حيث أبرمت معاهدات تجارية بين السلطان أبي عنان المريني والدول الأوروبية كإيطاليا سنة (759ه/1358م)[8] وغيرها..
صفوة القول أيها القراء الفضلاء أن الدولة المرينية كانت لها بصماتها الخاصة والمتميزة على عدوة الأندلس رغم توتر العلاقات بينها وبين المغرب نظرا لسطو النصارى على جل المدن الأندلسية، وتضييق الخناق على المسلمين هناك.. لكن كل هذا لم يمنع الخلفاء المرينيون من ربط جسر التواصل والتعاون مع الأندلس الرطيب، والحرص على التبادل التجاري في ما بينهم[9].. والعبور إليها والدفاع عنها كل ما سنحت الفرصة بذلك، وعلى هذا النهج السديد سارت الدولة المرينية للحفاظ على المكاسب التي ورثتها عن الدولتين العظيمتين المرابطية والموحدية، وللذود عن حمى الوطن والدين.. هذا ما يسر الله جمعه وذكره باقتضاب شديد في هذا العدد أيها الفضلاء وللحديث بقية بحول الله وقوته..
والله من وراء القصد و يهدي السبيل..



------------------------------
1. للتوسع انظر: عبد الرحمن بن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، مطبعة بولاق، طبعة مصر: 1284ه.
2. للتوسع انظر: ابراهيم بن الحاج النميري، فيض العباب وإفاضة قداح الآداب في الحركة السعيدة إلى قسنطينة والزاب، مخطوط الخزانة الملكية بالرباط، رقم:3267.
3. انظر قصيدته التي نظمها بمناسبة انتصار أبي عنان في الرحلة الإفريقية عام (758ه)، وهنئه بها في كتاب "فيض العباب" لابن الحاج النميري، مخطوط الخزانة الملكية السالف الذكر، ص:231.
4. توجد نسختين من هذا الكتاب بمكتبة الإسكوريال باسبانيا تحت رقم: 483، ورقم: 1734.
5. توجد نسخة من الرسالة بالمكتبة الوطنية بباريس تحمل رقم: 6100. و للمزيد من المعلومات يرجع إلى مجلة هسبريس.الجزءين:3-4.سنة:1957م.
6. للمزيد انظر:الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية.مؤلف مجهول. طبعة دار المنصور. الرباط:1972م. وانظر: مقالا مفصلا عن مؤلف هذا الكتاب للعلامة الجليل سيدي عبد الله كنون منشور بمجلة "تطوان" العدد الثاني. 1962م.
7. انظر:الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى. أحمد بن خالد الناصري السلاوي. الجزء: 3-4. طبعة الدار البيضاء: 1954-1956م.
8. انظر:الشروط والمعاهدات بين جمهوريات إيطاليا وسلاطين مصر وغيرهم. المستشرق الإيطالي أماري. طبعة فلورنس في جزءين. سنة:1863م.
9. للتوسع انظر: محمد الشريف. سبتة الإسلامية: دراسات في تاريخها الاقتصادي والاجتماعي في عصر الموحدين والمرينيين. طبعة تطوان.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...