سعيد السريحي - رد المعري على ابن القارح : ميتافيزيقا اللغة في رسالة الغفران

مكتوب على من انعم عليه بولوج جنة "رسالة الغفران" او قدر له ان يصطلي بجحيمها ان يعبر صراط رسالة ابن القارح وهو عبور لا تفرضه بنية الكتاب الذي حققته عائشة عبدالرحمن وصدرته برســالة ابن القارح انطــلاقاً من ادراكها لقيــمة هذه الرسالة على نحو لم يتفطن له تجار الناشرين وهواة المحققين الذين لم يترددوا في إهمال رسالة ابن القارح والاكتفاء بنشر رسالة الغفران.

وليس عبور صراط رسالة ابن القارح امراً يستدعيه ان "رسالة الغفران" جاءت رسالة جوابية على رسالة ابن القارح التي بعث بها الى ابي العلاء المعري بعد ان تعذر عليه ان يلتقي به وانما لأن رسالة ابن القارح تشكل المرجعية لكثير من احالات ابي العلاء المعري وتفك شفرة كثير من الضمائر التي من شأنها ان تربك قارئ "رسالة الغفران" فيما لو حاول ان يقرأها بمعزل عن رسالة ابن القارح. ليس ذلك فحسب وانما تبدوا لنا الرسالتان مشتبكتين بعلاقة عضوية لا تصبح معها الثانية رداً على الاولى وانما محواً لها من حيث انطلاق الرسالتين من موقفين فكريين متناقضين وفكرتين متباينتين للثقافة على نحو يجعل بامكاننا ان نطلق على رسالة ابن القارح "رسالة التفكير" وهي التسمية التي يمكن لنا ان نزعم ان ابا العلاء شاء لقارئه ان ينتهي اليها حين اطلق على رسالته "رسالة الغفران".

تمركز ابن القارح في خندق اصولي متشدد وفتح بوابة الجحيم للشعراء والكتاب انطلاقاً من الاحتكام الى اللغة التي كانوا يكتبون بها. ففتح ابو العلاء المعري لابن القارح جحيم اللغة وتركه يتخبط بين دلالتها حين بنى رسالته على ما هو مستقر في اللغة من لبس دلالي يجعل من الكتابة حركة تنقل بين الكتابة والمحو في آن واحد فلا يكاد يستقر لها بعد ذلك معنى ولا تطمئن لها دلالة.

مع ان ابن القارح قد نعى ما كان يلمسه في اللغة من مجاز اللفظ ومجرى الكتابة إلا انه لم يكن يشك فيها كلغة وانما كان يشك في مستخدمها حين يهدف من ورائها الى التملق والتزلف والتحبب وحين كان يقسم لأبي العلاء المعري على انه يكتب ما يكتب له على وجه الصدق والحقيقة وبعد القصد والعقيدة فانه بذلك يبرهن له على سلامة لغته من ان تقع في ما جرت عادة المستخدمين من التملق والخلابة والمسامحة.

لم تكن اللغة عند ابن القارح كائناً اشكالياً وانما كان المتحدث بها هو الكائن الاشكالي الذي يمكن ان يكون كاذباً ويتظاهر بالصدق او يكون منافقاً ويتجمل بالتقوى او كافراً ويتزيا بزي الاسلام ولذلك تستوجب الكتابة عند ابن القارح البراءة مما جرت عليه العادة من كذب او نفاق او كفر في الوقت الذي تتحول فيه القراءة الى بحث جنائي يحاول المقابلة بين النصوص واستكناه نيات الذين كتبوها وتصيد فلتات ألسنتهم للكشف عما يبطنونه من سوء النيات ومن يتخفى خلف حلاوة اشعارهم ورونق ديباجتها من كفر وزندقة وإلحاد، ولذلك استقام له ان يصفهم بـ"الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين ويرمون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين ويستعذبون القدح في نبوة النبيين صلوات الله عليهم اجمعين".

وقد اشار ابن القارح في رسالته الى ابي العلاء المعري الى قصته مع ابي الفرج الزهرجي قائلاً: "لقيت ابا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كتبه فعرضها علي فقلت: كتبك هذه يهودية قد برئت من الشريعة الحنيفة. فأظهر من ذلك إعظاماً وانكاراً فقلت له: انت على المجرب ومثلي لا يهرف بما لا يعرف وابلغ تيقن. فقرأ هو وولده فقال: صغر الخبر الخبر. وكتب الي رسالة يقرظني فيها".

واذا لم يذكر ابن القارح لنا بعضاً من تلك الكتب التي احتوتها خزانة كتب الزهرجي فان رسالته الى ابي العلاء المعري حفلت بأسماء العديدين من الشعراء والكتاب الذين كشف لأبي العلاد المعري ان في شعرهم وأقوالهم ما في خزانة الزهرجي من كفر وإلحاد حيث يصدق على تلك الاشعار الحكم بأنها هي كذلك يهودية برئت من الشريعة الحنيفة وعلى رأس اولئك المتنبي وبشار وأبو تمام والوليد بن يزيد والحسين بن منصور الحلاج وابن الرومي وصالح بن عبدالقدوس، واذا كان بعض هؤلاء الشعراء قد قتلوا نتيجة الحكم عليهم بالزندقة فان الآخرين قد نجوا من هذا المصير لأنهم احكموا اخفاء كفرهم خلف رونق اشعارهم ولم يهتد لها احد كما فعل ابن القارح الذي جاز له ان يضمهم الى زنادقة آخرين من مدعي الالوهية او النبوة او الخارجين عن الخلافة.

كان ابن القارح يتحدث في رسالته حديث المطمئن الى مصائر اولئك الذين يرى أنهم كانوا ملاحدة وزنادقة ومارقين وكأنما كان يراهم يتقلبون في الجحيم جزاء وفاقاً لما اقترفوه من ذنب القول او إثم الفعل، كان يتحدث حديث من يرى جهنم عند رؤية نار الدنيا في القصة التي رواها حين قال:

"حدثني من اثق به ولا اتهمه عن ابيه وكان زاهداً، قال: كنت مع ابي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق فرأينا شاوياً قد اخرج حملاً من التنور كأنه بسرة نضجاً والى جانبه عمل حلاوي فالوذجا فوقف ينظر اليهما وهو ساه يفكر فقلت: يا مولاي دعني آخذ من هذا وهذا ورقاقاً وخبزاً ومنزلي قريب، تشرفني بأن تجعل راحتك اليوم عندي. فقال: يا هذا، اظننت اني قد اشتهيتها؟ وانما فكري في ان الحيوان كله لا يدخل النار إلا بعد الموت ونحن ندخلها أحياء:
يا رب عفوك عن شيبة وجل = كأنه من حذار النار مجنون
قد كان ذمم أفعالاً مذممة = أيام ليس له عقل ولا دين".

ولعل الانتقال بين النارين نار الدنيا التي يصلاها الحيوان بعد موته ونار الآخرة التي يصلاها الانسان في حياته ضرب من المعراج الذي تجلى بعد ذلك في "رسالة الغفران" التي طافت بأرجاء الجنة وجوانب الجحيم.

واذا كانت النقلة بين الدنيا والآخرة التي توقف عندها ابن القارح جاءت نتاجاً لمراقبة النار فإن نقلة أبي العلاء المعري في "رسالة الغفران" جاءت نتاج مراقبة اللغة التي تــتوافر فيها الدلالات بين المعنى ونقيضه او تتداخل فيها الدلالات على الرغم من البون الشاسع الذي يفصل بينها حيث تتناهب الكلمة الدلالات فلا يطمئن بعدها الى معنى او تنداح آفاق الدلالة فيها بين عالمين مرئي وغيبي فإن لاقت باحدها لم يجز لها ان تليق بالآخر.

ولعل ابا العلاء المعري اراد معابثة ابن القارح حيث سلك به السبل الى الجنة تاركاً طريقه منذ البدء توقفه على عدد من شعراء الجاهلية يتقلبون في نعيمها، فإذا عقدت لسان ابن القارح الدهشة كشفوا له ان في اشعارهم ما يوافق الحنيفية ويدل على الايمان ما شفع لهم بدخول الجنة، وكأنما اراد ابو العلاء المعري ان يستدرج ابن القارح الى ما يمكن ان ينتهي الىه منهجه في الحكم على الشعراء الذين زج بهم في الجحيم لشعر قالوه. فإذا كان هؤلاء الذين ظهروا في العصر الاسلامي استوجبوا النار بما قالوه فان مقتضى ذلك ان يستحق آخرون الجنة بما قالوه كذلك، وفق منطق يرى ان اللغة التي تحمل صاحبها الى النار هي اللغة التي تحمل صاحبها الى الجنة كذلك، وان النهج الذي نهجه ابن القارح في التنقيب عما يدين به بعض الشعراء ببعض ما قواله تقتضي امانة الأخذ به ان يلتمس العفو منهم بما قالوه، كذلك، وهو عفو من حق آخرين ان يحظوا به حتى وان كانوا من تواطأ المؤرخون بوصفهم بأنهم شعراء الجاهلية. ومن شأن الاحتكام عندئذ الى الشعر على التباساته وأقوال الشعراء على تفاوتها ان يقضي الى اضطراب لا يتحقق لأحد بعده ان يحكم لأحد بجنة او على احد بنار اذ يظل الحكم معقوداً باحتمالات التأويل ومؤجلاً حتى معرفة المقاصد، ولذلك انتهى ابو العلاء المعري بعد طوافه بالجنة والنار الى حقيقة ان "سرائر الناس مغيبة وانما يعلم بها علام الغيوب" والى حقيقة اكثر تأصيلاً وهي ان "نطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الانسان".

ويتجاوز ابو العلاء المعري مسألة تعليق الحكم بتفهم نيات المتحدث التي لا يعلمها الا علام الغيوب ليقود ابن القارح الى متاهة اللغة التي تجعل من الكتابة إثباتاً ومحواً في آن واحد، ويجعل من القراءة حركة لمحاولة ضبط مراوغة النص على نحو لا تتضح فيه من الحقيقة غير اشباح لا تكاد تستبين لها ملامح، فهي في حالة تحول دائم مع كل خطوة تتقدم فيها الكتابة وكل خطوة تتراجع فيها القراءة، ويصبح ثراء الدلالات عندئذ سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً.

وتبدوا الحماطة التي في مسكن ابي العلاء المعري كائناً عضوياً تنبت في السطر الثاني من رسالته لتمد اغصانها بعد ذلك مكونة شجرة النص التي تتشعب في كافة الاتجاهات تتنامى منها اشجار الجنة وتدب من حولها افاعي الجحيم.

وحين يفتتح ابو العلاء رسالته بقوله: "قد علم الجبر الذي نسب اليه جبرائيل وهو في كل الخيرات سبيل ان في مسكني حماطة" فان وصل علم الحماطة بجبرائيل يحيلها الى كائن روحاني لا تدرك معانيه إلا بضرب من الاصغاء لما يشبه الوحي، فهي انما توحي بدلالات تدخل في عالم الغيب، وما دام جبرائىل هو الملك الذي انيط به الاخبار عن عالم الغيب وأخبار الآخرة فإن لنا عنــدئذ ان نستـــشعر ما يمكن ان ينتهي اليه علم الحماطة من عوالم تفضي الى عالم الغيب وأخبار الآخرة كذلك، ولذلك لا نلبث ان نرى هـــذه الحماطــة بعدئذ وقد توارت خلف شجرة الكلمة الطيبة فتتحول، كما يقول المعري، الى "معارجة تعرج بها الملائكة من الارض الراكدة الى السماء وتكشف سجوف الظلماء بدليل الآية "اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" وهذه الكلمة المعنية بقوله "الم تر كيف ضـــرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجــرة طيـــبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين باذن ربها".

وكما تتحول شجرة الكلمة الى معراج الى السماء فانها لا تلبث بعد ذلك ان تتكاثر لتكون الجنة على النحو الذي تحدث عنه المعري حين قال: "وفي تلك السطور كلم كثير كله عند الباري تقدس كثير، فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل - ان شاء الله - بذلك الثناء شجر في الجنة لذيذ اجتناء كل شجرة منه تأخذ ما بين المشرق الى المغرب بظل غاط ليست في العين بذات انواط... والولدان المخلدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود وبالمغفرة نيلت السعود وتجرى في اصول ذلك الشجر انها تختلج من ماء الحيوان والكوثر يمدها في كل أوان".

ومن خلال ذلك يتضح لنا ان رحلة ابي العلاء المعري الى عالم الغيب لم تنبن على حلم او رؤيا كما انها لم تتم على جناح ملاك يحمله من الارض الى السماء وانما كانت ولوجاً الى عالم اللغة وتحولات الكلمة بما يمكن ان تشربه الثقافة لها من معان وما تترامى به نحوها من دلالات. فالكلمة لا تلبث ان تؤول الى شجرة ما دام الكلم الطيب يصعد الى السماء، وكأنما السماء هي الغاية التي يترامى اليها الكائنان معاً: الكلمة والشجرة. واذا جاز لشجرة الارض ان تبلغ عنان السماء جاز لها عندئذ ان تتكاثر فيكون منها شجر الجنة.

غير ان ابا العلاء لا يتوقف عن تقليب دلالات الكلمة ليستخرج من دلالاتها ما ينقض ما قد تطمئن اليه النفس. فالحماطة التي اشرنا انها قد نبتت في السطر الثاني من رسالة الغفران ليست خيراً خالصاً واذا كانت قد آلت في خاتمة الامر الى معراج للسماء وتكاثرت في صورة شجر الجنة فانها منذ ان نبتت في مسكن ابي العلاء المعري جاءت صورة مصغرة للجنة كذلك، وكما انسلت الأفعى وقد استبطنها ابليس الى آدم في الجنة فان الحماطة تظل مرتعاً للأفاعي وقد عرفت بأنها الشجرة التي تألفها الحيات وعناها الشاعر في قوله:
أتيح لها وكان اخا عيال = شجاع في الحماطة مستكن

غير ان ابا العلاء لا يلبث غير ان يكر على معنى الحماطة بالمحو حين يخرج بها من معنى الشجرة ليسكنها معنى حبة القلب على النحو الذي قال فيه الشاعر:
رمت حماطة قلب غير منصرف = عنه باسم لحظ لم تكن غربا.

واذا كان ابو العـلاء قد محــا دلالــة الشجرة في المحاطة فانه استبقى منها افاعيها، فقال:

"وان في طمري لحضبا وكل بآذاني لو نطق لذكر شداتي ما هو بساكن في الشقاب ولا بمتشرف على النقاب ما ظهر في شتاء ولا صيف ولا مر بجبل ولا خيف يضمر من محبة مولاي الشيخ ثبت الله اركان العلم بحاته ما لا تضمره للوالد الأم".
والحضب ضرب من الحيات عناه الراجز في قوله:
وقد تطويت انطواء الحضب

ثم لا يلبث ابو العلاء المعري ان يكر على الحضب الافعوان بالمحو ليلتقط في الكلمة معنى آخر كامناً فيها هو حبه القلب كذلك، ويبدو ابو العلاء المعري وكأنما هو يخاتل ابن القارح بالكلمات ويراوغه بدلالاتها يستثير فزعه تارة ثم لا يلبث ان يحمل له الطمأنينة ليعيده تارة اخرى الى الفزع او يعيد الفزع اليه.

ولم تكن مخاتلة ابن العلاء لابن القارح غير منازعة له في ذلك اليقين الذي اطمأن اليه حين اطلقا احكامه على من حكم عليهما، فكما ان للقلوب غيبها الذي لا يجوز لامرئ ان يدعي علمه فان للغة غيبها كذلك الذي لا يقل غموضاً وتناقضاً عن غيب القلوب، اللغة نفسها حماطة كذلك تترامى بفروعها الى السماء غير ان في اصلها ثمة افاعي تتربص تحمل الحياة وتحمل الموت كذلك، تمتد معراجاً بين السماء والارض، وجسراً بين عالم الشهادة والغيب، تنهض بالإفهام حيناً ولكنها تمعن في التلبيس حيناً فلا يكاد يستقيم معها فهم اللغة التي اتخذها ابن القارح وسيلة تفكير في وجه من وجوهها هي اللغة التي اتخذها ابو العلاء المعري رسالة الغفران حينما قلبها على وجهها الآخر.

واذا كانت الكلمات تؤول الى شجرة تصعد الى السماء فان الجنة عندئذ تتحول الى عالم لغوي واذا كان وعينا بالعالم هو في جوهره وعي باللغة او عبر اللغة فان الآخرة عندئذ هي الوجه الغيبي او الوجه المستتر للغة، ولذلك جاز للمعري ان يحيل عالم الجنة والنار الى معترك لغوي يتطارح فيه المنعمون في الجنة والمعذبون في النار مسائل اللغة والنحو والصرف والعروض ويناقشون ما التبس عليهم من امرها في دنياهم.

وكما يتوالد الشعراء بأسمائهم وألقابهم وكناهم من عالم اللغة فتنمحي بينهم الازمنة وتلتقي معهم الامكنة تتولد الجنة والنار من ثنايا اللغة كذلك وحين تنتهي الرسالة، "رسالة الغفران"، لا يتبقى من هذه العوالم غير سواد الحبر محاولة للانسان ان يكتب شيئاً قبل ان يمحوه الزمن ولذلك يجيء ختام الرسالة على لسان المعري:

"وأنا اعتذر الى مولاي الشيخ الجليل من تأخير الاجابة فان عوائق الزمن منعت من إملاء السوداء كأنها سوداء التي عناها القائل:
نبتت سوداء تنآني واطلبها = لقد تباعد شكلانا وما اقتربا
وجدتها في شبابي غير مطلبة = فكيف والرأس جون تسعف الطلبا".


 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...