نقوس المهدي
كاتب
يفتتح الدكتور نوري جعفر بمقدمة لمؤلفه (مع الحريري في مقاماته) الصادر عن دار الشؤون الثقافية عام1986 على شكل (موسوعة صغيرة) تحتوي على (190) صفحة محاولة شخصية-هي الأولى من نوعها على ما أعلم- لدراسة مقامات الحريري من حيث محتواها الاجتماعي (السايكولوجي) ولا نتطرق إلا عرضاً إلى دراسة تلك المقامات من الناحية اللغوية التي أولاها الباحثون اهتمامهم الأول وقصروا دراستهم بكاملها عليها مع ملاحظات عارضة عن ظاهرة (الكدية) التي أنطوت عليها المقامات. وأود- قبل أن أبدأ بعرض موضوع هذه الدراسة أن أشير إلى قضيتين أساسيتين بنظري ترتبطان أوثق الأرتباط بالبحث وتمهدان للدخول في تفاصيله أولهما-أن هذه الدراسة التي أضعها بين يدي القارئ لست سوى ملاحظات عامة عابرة أبديتها على مقامات الحريري وآثرت أن أسجلها في بحث تتيسر مراجعته، وربما عدت إلى تحويرها واستصلاحها حين يقظيني البحث ذاك في المستقبل، ولهذا فأني أعتبرها ملاحظات قابلة للتجريح أو التعديل على يدي أو يد غيري من المعنيين بدراسة التراث الفكري العربي في الأدب وغير الأدب، وعلى أي حال فأنني لا أعدها إلا محاولة أولى تمهد إلى محاولات أخرى. أرجو أن تكون أعمق وأوفى، كما أود أن أبين أيضاً بصدد علاقتنا بالتراث (أو علاقة الحاضر بالماضي) أن الاهتمام بالماضي يجب ألا يكون (مفرطاً) أو منصباً على جوانبه السلبية وتجسيدها تجسيداً (أنفعالياً) على أعتبار أن الحاضر هو نتائج الماضي الذي لابد من العودة إليه لرفع الحاضر المتخلف إلى مستوى أعلى من الناحيتين المادية والثقافية، فالحاضر ليس هو مجرد (الزمن) الذي يأتي في أعقاب الماضي ولا هو وليده، بل هو (الحياة) في حركتها الصاعدة المتدفقة أبداً إلى الأعلى والأمام إذ تترك الماضي وراءها. أي أن الحاضر ليس مرده إلى الماضي عن كونه أحد تعبيراتها. فلابد أن يكون الحاضر وحده (بمشكلاته وإمكانياته وخصائصه وفي ضوء قرينته التاريخية) منطلقنا وأن يصار إلى التراث بمقدار تعلقه بالحاضر وأن يكون اهتمام المعنيين بدراسة التراث مركزاً على جوانبه الإيجابية وتطويرها وإثرائها وفق مستلزمات المرحلة التاريخية الراهنة وفي المستقبل أيضاً، أما النقطة الثانية فتتعلق بالتراث الفكري العربي نفسه، كما أراه لأنه الإطار العام الذي تبلورت ضمن حدوده (مقامات الحريري) التي نحن بصدد تحليل محتواها تحليلاً (سايكولوجياً واجتماعياً)..! وعبر القراءة المتأتية والمشخصة توصلت إلى المفاهيم العلمية والثقافية للحريري الذي عاش قبل زهاء 1000 عام (1054-1122) كاتباً تقدمياً بارزاً وأصيلاً بمقاييس عصره ومجتمعه وبمقاييسنا الراهنة على حد سواء.
لقد كان – (الحريري) أديباً تقدمياً ملتزماً من الناحيتين الاجتماعية والأيديولوجية ومن الناحية الفنية الجمالية اللغوية. أي أنه بنظرنا أديب ملتزم من ناحية محتوى أدبه ومن ناحية أسلوب التعبير، فقد كان ملتزماً (من حيث المحتوى الاجتماعي) بمبدأ العدالة الاجتماعية وملتزماً أيضاً بإستهجان الظلم والاضطهاد، وكان ملتزماً (من ناحية التعبير) بكل ما هو أنيق وجميل من حيث الألفاظ المترفة المنتقاة ومن ناحية أنتظامها في العبارات والفقرات والمقامات. وهذا يعني بعبارة أخرى أنه كاتب لامع تخطى حدود عصره ومجتمعه وخاطب الأجيال اللاحقة وما زال كذلك إلى اليوم وسيبقى، فما زالت مقاماته تتحدى الزمان والمكان ولا تقتصر أهميتها على ظروفها المحلية الزمانية والمكانية، أي أن (الحريري) لم يكتب لمعاصريه حسب وإنما كتب أيضاً لغير معاصريه حسب وإنما كتب أيضاً لغير معاصريه: للقراء المحتملين عبر الأجيال وفي مختلف المجتمعات. يقول (الباحث) أن مجتمع (الحريري) كان (متخلفاً) من بعض الجوانب بالمقاييس الحضارية الحديثة، حيث أنتشر نظام الإقطاع ونزعة الحكم الفردي المطلق وأن كان ذلك المجتمع – في الوقت نفسه- مجتمعاً تقدمياً-بالنسبة لظروف الزمانية والمكانية وفي ضوء قرينته التاريخية. وهذا يعني أن مجتمع (الحريري) أتصف أيضاً بجوانب إنسانية تقدمية وأن جوانبه السلبية لا ينفرد وحده دون سائر المجتمعات التي عاصرته والتي جاءت من بعده، ويلوح أن الجوانب السلبية هي التي حملت (الحريري) -وهو الأديب المرهوف الحس- ما لا طاقة له به فعبر عن أمتعاضه منها بطريقته الخاصة ومبالغاته الطرية تعبيراً (سايكولوجياً) عميقاً تصبغه اللوعة وحرارة المشاعر الجامحة. أن (الحريري) عاش في ظروف اجتماعية (اقتصادية وسياسية) متردية منذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي (القرن الخامس الهجري) وبخاصة بالنسبة لجماهير الشعب ومراتبه الدنيا. فقد ساعدت كثيراً الأوضاع الاقتصادية والإدارية، وأصبح الاستقرار السياسي-مفقوداً والأمن مزعزعاً، وبدا الناس يشعرون بالتمزق والضياع أو عدم الانتماء. أما العوامل الأساسية التي أدت إلى ذلك فتعود في الأساس إلى تدهور السلطة المركزية (الخلافة العباسية) الأمر الذي أدى إلى تمرد الأمراء وانفصالهم في مقاطعاتهم عن جسم الدولة الواحد تلو الآخر وتكوينهم (دويلات) أو إمارات متعددة ومتنافرة: (وتفرقوا شيعاً فكل مدينة: فيها أمير المؤمنين ومنبر) بعضها غريب عن البيئة العربية كما حصل أثناء فترة الحكم (البويهي) (334-447هـ) وأثناء فترة حكم السلاجقة الذي أعقب ذلك واستمر أكثر من قرن وهو العهد الذي نشأ فيه (الحريري) وترعرع وشهد أيضاً مصرع الملك السلجوقي (ملكشاه ووزيره نظام الملك). كما أن الفترة التي عاش فيها الحريري شهدت بداية الحروب الصليبية واحتلال القدس وكان ذلك قبيل سقوط الخلافة العباسية بزهاء قرن ونصف.
- تجنب الحريري على القدر المستطاع الأنغمار المباشر والعنيف في الملابسات السياسية والتيارات الاجتماعية الحادة المتضاربة، وتحامي الصراع الدائر آنذاك بين مختلف الفئات السياسية المتنافسة من (الأستئثار) بالسلطة السياسية رغم روابطه بالمسترشد بالله (1093-1132) الخليفة العباسي التاسع والعشرين.
- أتصف (الحريري) بثقافته اللغوية الواسعة وبمعرفته العميقة بأسرار اللغة العربية، وعبر عن ذلك في مقاماته التي بلغت الخميس في القامة البصرية. وفي كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص) الذي يبين فيه أوهام الكتّاب وأخطاءهم وفي أرجوزته في النحو المسماة (ملحمة الأعراب) هذا بالإضافة إلى ديوان رسائله وشعره الكثير بالإضافة إلى الشعر الذي ورد في المقامات. وتلك علامات على انصرافه إلى الأدب وانغماره فيه كهواية رغم كساد سوقه. والعامل الرئيس في ذلك هو حالته المالية الجيدة التي ساعدته كثيراً على الأنصراف نحو دراسة الأدب، فقد كان والده -على ما يقول الرواة- تاجر حرير في مدينة البصرة ومن هنا اكتسب تسميته بالحريري كما أن لوالده أيضاً بساتين نخيل ورثها ابنه بعد وفاته، أما صفة الحريري الأخرى (الحرامي) فلكونه عاش في منطقة بني حرام في البصرة وهم قبيلة عربية، كما أن مقامته (الحرامية) مشتقة من هذا الاسم.
وفي خاتمة المقامات حيث عاد (السروجي) إلى مسقط رأسه. وأستقرت به النوى وفي المقامة كما هو واضح شجب لجميع الأعمال المنكرة التي مارسها (السروجي) أيام الشباب وعود إلى الاستقامة والخلق القويم، وفيها أيضاً وصف عميق لأخلاق (البصريين) ومزاياهم الاجتماعية البارزة التي ما تزال ماثلة للعيان إلى اليوم. ورحم الله أبا نؤاس حيث قال:
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم = وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
فبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه = فإذا عصارة كل ذاك أثام