قصدت من وراء هذا البحث الأولي دراسة علاقة مدرسة الجاحظ في القرن الثالث الهجري، بمدرسة ابن العميد في القرن الرابع.
بيد أن تلك هي الخطوة الأولى لما يتلوها ثانياً، وهو قراءة وجوه التجديد الموضوعي والأسلوبي التي أنجزها الجاحظ، والتي تركت تأثيراً في مرحلة نشوء مقامة بديع الزمان الهمذاني، الذي يقال انه مبدع ذاك الفن أو ذاك الجنس الأدبي المشهور.
وهنـاك هـدف فـرعي ثالث هو علاقة الأدباء في المقاطعات الشرقية من الامبراطورية العباسية، في القرن الرابع، بالجاحظ وفنه النثري.
لقد رأيت ان الهمذاني استخدم الجاحظ الناثر في شكل مقارن ليشـــير الى تميز ابن العميد من حيث الشكل والمضـمون. ولأن مدرســة ابــن العــميد كانت تمـــتلك رؤيــة أخـــرى لعلائـق النثر بالشعـــر، فقد درســـت أيضـــاً تطور النـظـــرية الشــعرية بين المدرستــين، وطـــرائق استعمال تلك العلاقة المعقدة بعض الشيء.
وفي حين كان النثر مستقلاً تماماً عن الشعر في الاستعمال عند الجاحظ، فإن أسلوب الامتزاج ساد لدى ابن العميد"ومن أمثلة ذلك:"أنا يعرب الأستاذ - أطال الله بقاءه - كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه كما انتفض العصفور بلّلهُ القطرُ، ومن الامتزاج بولائه كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمرآه كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرطب...". ومن الواضح ان العبارات الموضوعة بين قوسين هي اعجاز أبياتٍ شعريةٍ أدخلها ابن العميد في النص النثري.
وقد عرضت بعد ذلك للعيوب التي يراها الهمذاني في نثر الجاحظ، أو لنقل وجوه القصور، مقارنةً بنثريات ابن العميد. ثم انني ختمت البحث بالمقارنة بين حديث خالد بن يزيد بن معاوية في البخلاء للجاحظ، ومقامة الكرية لبديع الزمان الهمذاني، لأوضح طبائع العلاقة بين النصين والفنين.
* أستاذ في الجامعة الأميركية - بيروت.
.