نقوس المهدي
كاتب
ألّف كشاجم في القرن العاشر "كتاب أدب النديم"، وذكر في مقدمته: "وجدت مَن تقدم من العلماء، وعُني بتأليف الكتب من الأدباء، قد جرّدوا بذكر الشراب كتباً، ضمّنوها من نعوت أصنافه وأوصاف محلله ومحرمه، وتبيّن خصاله ولطائفه، وحدود منافعه ومضاره، وضروب ملاذّه ومسارّه، ما استغرقوا فيه المعنى، واستوفوا به المدى، وأغفلوا ذكر النديم بما يجب ذكره، والتنبيه الى منزلته وموقعه وإفراده من القول بما يبيّن عن فضله ويدل على محلّه، إلا في جمل أدرجوها ولم يبسطوها، ولُمَع في أطراف الكتب فرّقوها ولم يؤلفوها. فأحببت أن أجرّد في ذلك كتاباً أفصّله وأبوّبه، وأوفي كل معنى فيه حقه وأضمّ الى كل شكل شكله، وأجمع إلى ما تستنبطه القريحة أحسن ما وجدته في هذا المعنى، متفرقاً في أمثال الحكماء، ومنظوم الشعراء، ومنثور البلغاء، وأخبار الظرفاء". تعيد "منشورات الجمل" اليوم إصدار هذا الكتاب بتحقيق معمّق من توقيع سحبان أحمد مروه، يثريه ويعطيه طابعاً علمياً متيناً تفتقر إليه الغالبية العظمى من النصوص التراثية المنشورة حديثاً.
في كتاب "الفهرست"، يقدّم ابن النديم تعريفا مختصرا بكشاجم: "هو أبو الفتح محمود بن الحسين، وأدبه وشعره مشهور، وله من الكتب كتاب أدب النديم، كتاب الرسائل، كتاب ديوان شعر". في المقابل، يذكر ابن العماد في "شذرات الذهب" أنه "من الشعراء المجيدين والفضلاء المبرزين، حتى قيل إن لقبه هذا منحوت من علوم عدة كان يتقنها، فالكاف للكتابة، والشين من الشعر، والألف من الإنشاء، والجيم من الجدل، والميم من المنطق، وكان يُضرب بملحه المثل، فيقال ملح كشاجم"، و"هو من أهل الرملة من نواحي فلسطين، وكان رئيساً في الكتابة ومقدّماً في الفصاحة والخطابة، له تحقيق يتميز به عن نظرائه، وتدقيق يربى به على أكفائه، وتحديق في علوم التعليم أضرم في شعلة ذكائه، فهو الشاعر المفلق والنجم المتألق". "وكان من شعراء أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة. قيل إنه كان طباخ سيف الدولة"، "ثم طلب علم الطب حتى مهر فيه وصار أكبر علمه، فزيد في اسمه طاء من طبيب، وقدمت فقيل طكشاجم، ولكنه لم يشتهر".
نقع في مصادر تراثية أخرى على معلومات إضافية خاصة بكشاجم، ونجد خلاصة لهذه المعلومات في التعريف الذي وضعه خير الدين الزركلي في "الأعلام"، ومما جاء فيه: "فارسي الأصل، كان أسلافه الأقربون في العراق. تنقّل بين القدس ودمشق وحلب وبغداد، وزار مصر أكثر من مرة، واستقر بحلب، فكان من شعراء أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، ثم ابنه سيف الدولة". مؤلفاته المطبوعة "ديوان شعر"، "أدب النديم"، المصايد والمطارد"، وغير المطبوعة "الرسائل"، "خصائص الطرب"، و"الطبيخ". ورأى العلامة السيد محسن الأمين في "أعيان الشيعة" أن ديوان كشاجم من جمع أبي بكر محمد بن عبد الله الحمدوني، وقد سمّاه "الثغر الباسم في شعر كشاجم".
طُبع "أدب النديم" في مصر في نهاية القرن التاسع عشر، واقتصرت هذه الطباعة على نص الكتاب، مع تصدير يقول "كتاب أدب النديم لأديب وأريب عصره وأوانه أبي الفتح محمود بن الحسين الكاتب المعروف بكشاجم لا زال منهلا عليه إحسان ربّه الكريم الدائم". جاء على غلاف الكتاب الذي أعيد طبعه، وحققه سحبان أحمد مروه، اسم "صنعة". في المقدمة التي صدّر بها هذه الطبعة الجديدة، قال المحقق إن نص الكتاب يعتوره النقص، وإنه حاول سد هذا النقص من خلال العودة إلى مؤلفات أخرى تضمنت فصولا منه، فاستند إلى طبعة "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيد، تحقيق وداد القاضي، وطبعة "مروج الذهب" للمسعودي، تحقيق شارل بلاّ، و"قطب السرور في أوصاف الخمور" للرقيق النديم أبي إسحاق القيرواني، تحقيق أحمد الجندي، و"الوصلة" لابن العديم، تحقيق سليمى محجوب ودريّة الخطيب. إلى ذلك، قدّم سحبان أحمد مروه في تحقيقه تعريفاً بكل الأعلام الذين ذُكروا في الكتاب، كما سعى إلى تسمية الشعراء الذين "وردت أشعارهم غفلا من نسبتها إليهم".
الشريك والمعين
جعل كشاجم "كتاب أدب النديم" في ثلاثة عشر بابا، أولها "باب مدح النديم وذكر فضائله وذم التفرد بشرب النبيذ"، ومطلعه: "أخبرني جماعة من الموثوق بهم في اللغة أن العرب إنما سمّت النديم نديما، لأنّه يُندم على فراقه. وفخَر امرؤ القيس مع شرفه وملوكيته بالندّام فقال: ونادمت قيصر في ملك/ فأوجهني وركبت البريدا". في المعنى نفسه، قال المتقدّمون: "لسان الملك كاتبه، ووجهه حاجبه، وجليسه كله". وجاء في رواية من الروايات أن أحد الكتّاب فاخر نديما، "فقال الكاتب: أنا معونة وأنت مؤونة، وأنا للجد وأنت للهزل، وأنا للشدة وأنت للذة، وأنا للحرب وأنت للسلم. فقال النديم: أنا للنعمة وأنت للخدمة، وأنا للحظوة وأنت للمهنة، تقوم وأنا جالس، وأنت تحتشم وأنا مؤانس، تدأب لراحتي وتشقى لسعادتي، فأنا شريك وأنت معين، كما أنك تابع وأنا قرين". بعد هذه المقدمة، يتحدث كشاجم عن فضائل النبيذ "التي لا تُدفع"، وخصائصه "التي لا تُجحد"، ثم يذكر مساوئ السكر، و"هو أكبر عيوبه، حتى إن الملل كلها مجتمعة على تحريمه غير مختلفة فيه"، كما حرّمتها "في الجاهلية جماعة من كبراء العرب وأفاضلهم". ينقل الكاتب طائفة من الأخبار والأشعار في ذم النبيذ ومدحه، قبل أن يضيف: "فإذا كانت هذه صورة النبيذ فإنما يُغتفر له ما ذكرنا ويتجوّز فيه ويتجافى عنه لما بُني عليه وجعل سبيلا إليه من اجتماع الشمل، وأنس المنادمة، وأريحية المذاكرة. ولو تفرّد النبيذ بنفسه، وحصل عليه وحده دون النديم المساعد والسماع المطرب، لكان الوعاء أولى به. فقد تبيّن بهذا أن المعاقر أفضل من العقار والنديم فائدة المدام".
يذكر كشاجم في خاتمة هذا الباب باقة من الأبيات، منها قول أبي نواس:
خلوتُ بالراحِ أُناجيها/ آخذ منها وأُعاطيها
نادمتها إذ لم أجد مسعداً/ أرضاه أن يشركني فيها
ويضيف معلّقاً: "فهذا بعد يدل على فضل النديم، وأنه لم ينفرد بالنبيذ مختاراً وإنما توحد به ضرورة لقوله إنه لم يجد نديماً مرتضى. أوليس هو القائل:
طيبة وليس تمامُها/ إلا بطيب خلائق الجلاَّسِ".
نصل إلى الباب الثاني، وعنوانه "باب أخلاق النديم وصفاته"، وفيه: "وليس أحد، من أصحاب الملوك ولا من خلطائهم، هو أولى باجتماع محاسِنِ الأخلاق، وأفاضل الآداب، وطرائف الملح، وغرائب النتف، من النديم، حتى إنه ليحتاج أن يكون فيه أشياء متضادة، فيكون فيه مع سرو الملوك تواضعُ العبيد، ومع عفاف النسّاك، مجون الفُتَّاك، ومع وقار الشيوخ مزاح الأحداث". ومن صفات النديم حُسن "العبث والمزاح"، وقد سأل أحدهم الخليفة المأمون: "أيأذن أمير المؤمنين في المداعبة؟"، فأجاب: "وهل العيش إلا فيها؟". "ولا يستحق النديم هذا الاسم حتى يكون له جمال ومروءة. أما جماله فنظافة ثوبه وطيب رائحته وفصاحة لسانه، وأما مروءته فكثرة حيائه في انبساط إلى جميل ووقار مجلسه، مع طلاقة وجهه في غير سخف". يشكّل الباب الرابع تكملة لهذا الباب، وهو مخصّص لفن "التداعي للمنادمة"، ويحوي طائفة أخرى من الأخبار والأشعار، منها قول المأمون لأمير البصرة جعفر بن سليمان: "الطيب والطعام لا يزيد في جودتهما كثرة الإنفاق عليهما ولكن إصابة المعنى". "وكان يقال: ثلاثة تضني: سراج لا يضيء، ورسول بطيء، ومائدة ينتظر بها من يجيء". "وقال آخر: المودة شجرة ثمرتها الزيارة". وقيل أيضا: "المودة روح والزيارة شخصها". ننتقل في الباب الرابع إلى "ذكر عدد الندامى وكثرتهم وقلتهم"، وممّا قيل فيه: "فأمّا كثرة عدد الشَّرب وقلتهم، فهم يسمّون الاثنين مِنشاراً ويكرهونهما، وكان الثلاثة أتمّ مجلساً، لأن الاثنين ينهض أحدُهما لبعض شأنه فيجم الآخر وينفرد، وربما عرض له الفِكر فلا يكون لحبسه من تخلفه في مؤانسة، وليس كذلك أمر الثلاثة".
السماع والمحادثة
خّصّص الباب الخامس لـ"أدب السماع"، وهو من أجمل فصول الكتاب. يأتي الكلام على لسان أحد الأدباء: "إذا رافق السماع من الشارب ما ذكا عرفه، وعذب على اللهوات طعمه، وأُخلص من شوائب العكر جرمه، وناب عن مرقص الآل شعاعه، وتحلى بزيّ العقبان لونه، وكان المنادمون عليه إخواناً ألباء، وخلاناً أدباء، مساميح الأخلاق، كرام الأعراق، قد أذكتهم المعرفة، وأدّبتهم الحكمة، وكان الغرض في الشرب غير الإفراط المؤدي بإكثاره إلى النوازل، لتعديل الطبائع، وإيثار المنافع، ونفي الخلاف، وإيجاب الائتلاف، وحسم السخائم، ونبذ النمائم، على وجه سماء، وصبو هواء، وصفو ماء، وخضرة كلأ، من كف بارع الظرف، ساحر الطرف، فائق الوصف، مصيب الخدمة، ذكي الفطنة، صادق الكمال، واصل الحبال، كأنه خوط بان، أو جِدل عنان، كان نهاية الحبور، وغاية السرور". ينقل كشاجم قول الكندي "أن الغناء شيء يخص النفس دون الجسم، فيشغلها عن مصالح الجسم، كما أن لذة المأكول والمشروب تشغل الجسم دون النفس". ويستشهد بقول الحكماء: "الغناء فضلة في المنطق أشكلت على النفس فأخرجتها ألحاناً". ثم يضيف: "كما أن الألحان أشرف المنظوم، فكذلك النفس الطروب إليها المستخف لها أشرف النفوس، وكل ذي ذهن لطيف، ونفس فاضلة، أحرص على السماع وأحنّ إليه بالمشاكلة". ويتوجه بالكلام "إلى بعض من كان يزهد في السماع"، ويُسمعهم من شعره:
إن كنت تنكر أن في الـ/ ألحان فائدة ونفعا
فأنظر إلى الإبل التي/ هي ويك أغلظ منك طبعا
تصغي لأصوات الحدا/ ة فتقطع الفلوات قطعا
بعد هذه الأبيات، يذكر كشاجم وصفا آخر مطوّلا للسماع يقول في مطلعه: "من فضيلته انه يبعث مع التنائي على الأشجان، ويحدو على التلهي في موضع الأحزان، ويؤنس الخلو الوحيد، ويسرّ العاشق الفريد، ويبرد غليل القلوب، ويثير من خواطر الفتيان خطرة ليست من الملاهي لغيره، يسري رقّها في أجزاء الجسد فيهيج النفس، ويقوي الحسّ".
نأتي إلى "باب المحادثة"، وهي "أخف اللذات مؤونة، وأقلها إتعابا للحاسّة". ينقل كشاجم عن أمير البصرة المهلب بن أبي صفرة قوله: "العيش كله في الجليس الممتع، ثم يستطرد كعادته في نقل الآراء قبل أن يدعو إلى التوفيق بين الحديث والإنشاد، مستشهدا بقول أحد الرواة: "لا تجعلوا مجلسكم حديثا كله، وإنشادا كله، ولكن امزجوه، واجعلوا من كل شيء نصيبا".
ينتقل الكاتب إلى "باب غسل اليد" حيث يغلب على حديثه طابع "آداب السلوك". ويليه "باب إدارة الكأس على اليمين" الذي يعتوره نقص كبير، بحسب رأي محقّق النص. يجزم كشاجم هنا بأن أدب إدارة الكأس "موافق لسنّة الإسلام، ومذهب الجاهلية، لم يغيروه، ولم يبدل به". يُروى عن الرسول "أنه أُتي بسقاء من لبن، فشرب منه، وكان على يمينه حديث السن، وعن يساره رجل من مشيخة أصحابه، فدفعه إلى الغلام، وقال: الأيمن فالأيمن". وبمثل هذه العادة، قال عمرو بن كلثوم: "تحيد الكأس عنّا أم عمرو/ وكان الكأس مجراها اليمينا". وفقا لهذا التقليد، قيل: "ولا ينبغي أن يكون الساقي إلا مليح الوجه، نظيف الثوب، طيب الرائحة، أديباً، ظريفاً، إن سكر أحدٌ من الشراب فأشار إليه بالإعفاء من النبيذ، فعل، ولم يُكره أحداً على الشراب، وأدار الكأس عن يمينه، فإن الأدب فيه موافقة سنَّةِ الإسلام لمذهب الجاهلية".
الرئيس ونديمه
في الباب التاسع، يستعرض المؤلف قصصا في الإكثار والإقلال من الشراب، مستهلا حديثه بالكلام عن الحكام: "أما الرئيس، ذو الملك والأمر النافذ، فلو كان السكر أو ما قاربه حلالاً لا اختلاف فيه لكان عليه خاصاً حراماً، لأن البادرة منه إلى نفسه، وعثرته لا تستقال، وأمره لا يراجع، وأنه يقهر ولا يُقهر، ويحجر ولا يُحجر عليه، وقلما سمعنا بحادثة فظيعة، وغدرة قبيحة، وسطوة عظيمة، استجازها ملك، وجناها على نفسه، أو على نديمه وحميمه وسائر من يخصه من لحمته وبطانته، إلا على سكر، ثم يقع عليه بعد ذلك الندم والسدم، ويلحقه ما لا يتلافاه من العار والمسبة". من ملوك الجاهلية، يذكر الراوي صاحب الحيرة جذيمة بن مالك الدوسي، "وكان من خبره في السكر أنه كان ملكاً شديد الحمية، عظيم الأنفة والغيرة، فرغب عن النساء لهذه العلة، فلم يكن له زوجة يسكن إليها، ولا ولد تقر به عينه". اتخذ هذا الملك نديمين، "وعاقرهما دهراً طويلاً"، إلى أن جاءه رجل يُدعى عدي، "جميل الوجه، ظريف اللسان، حسن العبارة"، فنادمه، وخطب إليه أخته، ثم زوّجه إياها، وجعل من النديمين شاهدين على الزواج، ثم خرج في الصباح إلى شوارع الحيرة، "فلم تمر به ناقة ولا جمل إلا نحره، ودفع إلى أربابها أثمانها، وفرق على الصادر والوارد لحومها". أفاق الملك من السكرة، ورأى "اللحام مقسمة والدماء مهراقة"، فسأل عن السبب، وعرف القصة، فذهب إلى أخته، فقالت: "زوّجتني ونديماك شاهدان على ذلك". وسأل الملك نديميه، فشهدا بذلك، فغضب منهما. "ثم أن جذيمة سكر أيضاً كسكرة ليلة التزويج، فقتل ندمانيه، ودفنهما بباب الكوفة، وبنى عليهما قبرين، وسمّاهما الغريبين، وكان له يوما بؤس ونعيم، فإذا خرج يوم البؤس فلقي بباب الكوفة غريباً قتله، وغرّى قبريهما بدمه، فلذلك سُمّيا الغريبين". بعد هذه الرواية، يذكر كشاجم من ملوك بني أمية الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وقد أدمن السكر "حتى انتشر أمره، واضطرب حبله، فقتل". كذلك، أمر الرشيد بإعدام جعفر البرامكي "بعد أن أثمله الشراب". يختم الكاتب هذا الباب بقوله: "وجماعة كثيرة، كان السبب في هلاكهم وهلاك من يخصّهم، اختيارهم السكر، ومطالبتهم به ندمانهم، ولو ذهبنا إلى تعدادهم وشرح قصصهم لخرجنا بالكتاب على حدّه".
يواصل كجاشم كلامه في الباب التالي عن "طلب الحاجة والاستماحة على النبيذ"، ويتحدث في الباب الحادي عشر عن "هيئة النديم وما يلزمه لرئيسه"، قبل أن يقدّم مداخلة طويلة حول "ما يلزم الرئيس لنديمه"، فيذكر عمر بن عبد العزيز الذي آثر سياسة التحفّظ مع منادميه، على عكس يزيد الذي كان ينادم الأخطل، و"يسوّي بينه وبينه في أكرم المواضع من مجلسه". كذلك، دأب شقيق عثمان بن عفان، الوليد بن عقبة، على منادمة أبي زبيد الطائي، ولما هلك أبو زبيد، حزن واعتلّ، وقيل إنه دفن إلى جانبه، وقال أشجع بن عمرو السلمي يوم مرّ بقبرهما:
مررت على عظام أبي زبيد/ رهينا تحت موحشة صلود
نديم للوليد ثوى فأضحى/ مجاور قبره قبر الوليد
يوصي كجاشم بأن يُفرَد كلّ نديم بآلته ومزاجه، "ويُحكّم على نفسه، ويُقلد سقيها على حسب طاقته واحتماله، إلا أن من كان متجمّلا غير متسع في الآلة والآنية، فمهما أعجزه وتعذر عليه منها، فإن العدل في السقي يُمكنه ولا يُعجزه". وخير تعبير عن هذه الحالة قول أبي نواس:
ولست بمستعفٍ من السكر صاحياً/ إذا كان يهوى أن أصير إلى السكر
ولكنني أسعى إلى السكر واثقاً/ بما فيه إن أخطأت من سعةِ الصدر
ولست بقائل لنديم صدق/ وقد أخذ الشراب بوجنتيه
تناولها وإلا لم أذقها/ فيشربها وقد ثقلت عليه
ولكني أحيد الكأس عنه/ وأتركها بغمزة حاجبيه
وإن طلب الوساد لنوم سكر/ دفعت وسادتي أيضا إليه
التمييز والفطنة
نصل إلى الباب الأخير، وفيه أحاديث في أدب لعب الشطرنج والنرد يختمها كشاجم معلّقا: انتهى بنا القول إلى هذه الغاية، وفي بعض ما قدّمنا كفاية لذي التمييز والفطنة، وهداية إلى كريم الأخلاق في المنادمة، وإن لم نكن أحطنا بما يفي بشرطنا في التثبيت فقد نبّهنا بيسير ما تهيّأ أن نذكره على الجليل، ودللنا بالقليل منه على الكثير، ونرجو أن نسلم ما قصدنا له من الحض على جميل المروءة، ونهجنا من السبيل إلى حسن العشرة مما يمنى به مؤلف الكتاب من المطاعن، ويستهدف له من المعايب إن شاء الله تعالى"
عن ملحق النهار الثقافي 10/4/2011
في كتاب "الفهرست"، يقدّم ابن النديم تعريفا مختصرا بكشاجم: "هو أبو الفتح محمود بن الحسين، وأدبه وشعره مشهور، وله من الكتب كتاب أدب النديم، كتاب الرسائل، كتاب ديوان شعر". في المقابل، يذكر ابن العماد في "شذرات الذهب" أنه "من الشعراء المجيدين والفضلاء المبرزين، حتى قيل إن لقبه هذا منحوت من علوم عدة كان يتقنها، فالكاف للكتابة، والشين من الشعر، والألف من الإنشاء، والجيم من الجدل، والميم من المنطق، وكان يُضرب بملحه المثل، فيقال ملح كشاجم"، و"هو من أهل الرملة من نواحي فلسطين، وكان رئيساً في الكتابة ومقدّماً في الفصاحة والخطابة، له تحقيق يتميز به عن نظرائه، وتدقيق يربى به على أكفائه، وتحديق في علوم التعليم أضرم في شعلة ذكائه، فهو الشاعر المفلق والنجم المتألق". "وكان من شعراء أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة. قيل إنه كان طباخ سيف الدولة"، "ثم طلب علم الطب حتى مهر فيه وصار أكبر علمه، فزيد في اسمه طاء من طبيب، وقدمت فقيل طكشاجم، ولكنه لم يشتهر".
نقع في مصادر تراثية أخرى على معلومات إضافية خاصة بكشاجم، ونجد خلاصة لهذه المعلومات في التعريف الذي وضعه خير الدين الزركلي في "الأعلام"، ومما جاء فيه: "فارسي الأصل، كان أسلافه الأقربون في العراق. تنقّل بين القدس ودمشق وحلب وبغداد، وزار مصر أكثر من مرة، واستقر بحلب، فكان من شعراء أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، ثم ابنه سيف الدولة". مؤلفاته المطبوعة "ديوان شعر"، "أدب النديم"، المصايد والمطارد"، وغير المطبوعة "الرسائل"، "خصائص الطرب"، و"الطبيخ". ورأى العلامة السيد محسن الأمين في "أعيان الشيعة" أن ديوان كشاجم من جمع أبي بكر محمد بن عبد الله الحمدوني، وقد سمّاه "الثغر الباسم في شعر كشاجم".
طُبع "أدب النديم" في مصر في نهاية القرن التاسع عشر، واقتصرت هذه الطباعة على نص الكتاب، مع تصدير يقول "كتاب أدب النديم لأديب وأريب عصره وأوانه أبي الفتح محمود بن الحسين الكاتب المعروف بكشاجم لا زال منهلا عليه إحسان ربّه الكريم الدائم". جاء على غلاف الكتاب الذي أعيد طبعه، وحققه سحبان أحمد مروه، اسم "صنعة". في المقدمة التي صدّر بها هذه الطبعة الجديدة، قال المحقق إن نص الكتاب يعتوره النقص، وإنه حاول سد هذا النقص من خلال العودة إلى مؤلفات أخرى تضمنت فصولا منه، فاستند إلى طبعة "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيد، تحقيق وداد القاضي، وطبعة "مروج الذهب" للمسعودي، تحقيق شارل بلاّ، و"قطب السرور في أوصاف الخمور" للرقيق النديم أبي إسحاق القيرواني، تحقيق أحمد الجندي، و"الوصلة" لابن العديم، تحقيق سليمى محجوب ودريّة الخطيب. إلى ذلك، قدّم سحبان أحمد مروه في تحقيقه تعريفاً بكل الأعلام الذين ذُكروا في الكتاب، كما سعى إلى تسمية الشعراء الذين "وردت أشعارهم غفلا من نسبتها إليهم".
الشريك والمعين
جعل كشاجم "كتاب أدب النديم" في ثلاثة عشر بابا، أولها "باب مدح النديم وذكر فضائله وذم التفرد بشرب النبيذ"، ومطلعه: "أخبرني جماعة من الموثوق بهم في اللغة أن العرب إنما سمّت النديم نديما، لأنّه يُندم على فراقه. وفخَر امرؤ القيس مع شرفه وملوكيته بالندّام فقال: ونادمت قيصر في ملك/ فأوجهني وركبت البريدا". في المعنى نفسه، قال المتقدّمون: "لسان الملك كاتبه، ووجهه حاجبه، وجليسه كله". وجاء في رواية من الروايات أن أحد الكتّاب فاخر نديما، "فقال الكاتب: أنا معونة وأنت مؤونة، وأنا للجد وأنت للهزل، وأنا للشدة وأنت للذة، وأنا للحرب وأنت للسلم. فقال النديم: أنا للنعمة وأنت للخدمة، وأنا للحظوة وأنت للمهنة، تقوم وأنا جالس، وأنت تحتشم وأنا مؤانس، تدأب لراحتي وتشقى لسعادتي، فأنا شريك وأنت معين، كما أنك تابع وأنا قرين". بعد هذه المقدمة، يتحدث كشاجم عن فضائل النبيذ "التي لا تُدفع"، وخصائصه "التي لا تُجحد"، ثم يذكر مساوئ السكر، و"هو أكبر عيوبه، حتى إن الملل كلها مجتمعة على تحريمه غير مختلفة فيه"، كما حرّمتها "في الجاهلية جماعة من كبراء العرب وأفاضلهم". ينقل الكاتب طائفة من الأخبار والأشعار في ذم النبيذ ومدحه، قبل أن يضيف: "فإذا كانت هذه صورة النبيذ فإنما يُغتفر له ما ذكرنا ويتجوّز فيه ويتجافى عنه لما بُني عليه وجعل سبيلا إليه من اجتماع الشمل، وأنس المنادمة، وأريحية المذاكرة. ولو تفرّد النبيذ بنفسه، وحصل عليه وحده دون النديم المساعد والسماع المطرب، لكان الوعاء أولى به. فقد تبيّن بهذا أن المعاقر أفضل من العقار والنديم فائدة المدام".
يذكر كشاجم في خاتمة هذا الباب باقة من الأبيات، منها قول أبي نواس:
خلوتُ بالراحِ أُناجيها/ آخذ منها وأُعاطيها
نادمتها إذ لم أجد مسعداً/ أرضاه أن يشركني فيها
ويضيف معلّقاً: "فهذا بعد يدل على فضل النديم، وأنه لم ينفرد بالنبيذ مختاراً وإنما توحد به ضرورة لقوله إنه لم يجد نديماً مرتضى. أوليس هو القائل:
طيبة وليس تمامُها/ إلا بطيب خلائق الجلاَّسِ".
نصل إلى الباب الثاني، وعنوانه "باب أخلاق النديم وصفاته"، وفيه: "وليس أحد، من أصحاب الملوك ولا من خلطائهم، هو أولى باجتماع محاسِنِ الأخلاق، وأفاضل الآداب، وطرائف الملح، وغرائب النتف، من النديم، حتى إنه ليحتاج أن يكون فيه أشياء متضادة، فيكون فيه مع سرو الملوك تواضعُ العبيد، ومع عفاف النسّاك، مجون الفُتَّاك، ومع وقار الشيوخ مزاح الأحداث". ومن صفات النديم حُسن "العبث والمزاح"، وقد سأل أحدهم الخليفة المأمون: "أيأذن أمير المؤمنين في المداعبة؟"، فأجاب: "وهل العيش إلا فيها؟". "ولا يستحق النديم هذا الاسم حتى يكون له جمال ومروءة. أما جماله فنظافة ثوبه وطيب رائحته وفصاحة لسانه، وأما مروءته فكثرة حيائه في انبساط إلى جميل ووقار مجلسه، مع طلاقة وجهه في غير سخف". يشكّل الباب الرابع تكملة لهذا الباب، وهو مخصّص لفن "التداعي للمنادمة"، ويحوي طائفة أخرى من الأخبار والأشعار، منها قول المأمون لأمير البصرة جعفر بن سليمان: "الطيب والطعام لا يزيد في جودتهما كثرة الإنفاق عليهما ولكن إصابة المعنى". "وكان يقال: ثلاثة تضني: سراج لا يضيء، ورسول بطيء، ومائدة ينتظر بها من يجيء". "وقال آخر: المودة شجرة ثمرتها الزيارة". وقيل أيضا: "المودة روح والزيارة شخصها". ننتقل في الباب الرابع إلى "ذكر عدد الندامى وكثرتهم وقلتهم"، وممّا قيل فيه: "فأمّا كثرة عدد الشَّرب وقلتهم، فهم يسمّون الاثنين مِنشاراً ويكرهونهما، وكان الثلاثة أتمّ مجلساً، لأن الاثنين ينهض أحدُهما لبعض شأنه فيجم الآخر وينفرد، وربما عرض له الفِكر فلا يكون لحبسه من تخلفه في مؤانسة، وليس كذلك أمر الثلاثة".
السماع والمحادثة
خّصّص الباب الخامس لـ"أدب السماع"، وهو من أجمل فصول الكتاب. يأتي الكلام على لسان أحد الأدباء: "إذا رافق السماع من الشارب ما ذكا عرفه، وعذب على اللهوات طعمه، وأُخلص من شوائب العكر جرمه، وناب عن مرقص الآل شعاعه، وتحلى بزيّ العقبان لونه، وكان المنادمون عليه إخواناً ألباء، وخلاناً أدباء، مساميح الأخلاق، كرام الأعراق، قد أذكتهم المعرفة، وأدّبتهم الحكمة، وكان الغرض في الشرب غير الإفراط المؤدي بإكثاره إلى النوازل، لتعديل الطبائع، وإيثار المنافع، ونفي الخلاف، وإيجاب الائتلاف، وحسم السخائم، ونبذ النمائم، على وجه سماء، وصبو هواء، وصفو ماء، وخضرة كلأ، من كف بارع الظرف، ساحر الطرف، فائق الوصف، مصيب الخدمة، ذكي الفطنة، صادق الكمال، واصل الحبال، كأنه خوط بان، أو جِدل عنان، كان نهاية الحبور، وغاية السرور". ينقل كشاجم قول الكندي "أن الغناء شيء يخص النفس دون الجسم، فيشغلها عن مصالح الجسم، كما أن لذة المأكول والمشروب تشغل الجسم دون النفس". ويستشهد بقول الحكماء: "الغناء فضلة في المنطق أشكلت على النفس فأخرجتها ألحاناً". ثم يضيف: "كما أن الألحان أشرف المنظوم، فكذلك النفس الطروب إليها المستخف لها أشرف النفوس، وكل ذي ذهن لطيف، ونفس فاضلة، أحرص على السماع وأحنّ إليه بالمشاكلة". ويتوجه بالكلام "إلى بعض من كان يزهد في السماع"، ويُسمعهم من شعره:
إن كنت تنكر أن في الـ/ ألحان فائدة ونفعا
فأنظر إلى الإبل التي/ هي ويك أغلظ منك طبعا
تصغي لأصوات الحدا/ ة فتقطع الفلوات قطعا
بعد هذه الأبيات، يذكر كشاجم وصفا آخر مطوّلا للسماع يقول في مطلعه: "من فضيلته انه يبعث مع التنائي على الأشجان، ويحدو على التلهي في موضع الأحزان، ويؤنس الخلو الوحيد، ويسرّ العاشق الفريد، ويبرد غليل القلوب، ويثير من خواطر الفتيان خطرة ليست من الملاهي لغيره، يسري رقّها في أجزاء الجسد فيهيج النفس، ويقوي الحسّ".
نأتي إلى "باب المحادثة"، وهي "أخف اللذات مؤونة، وأقلها إتعابا للحاسّة". ينقل كشاجم عن أمير البصرة المهلب بن أبي صفرة قوله: "العيش كله في الجليس الممتع، ثم يستطرد كعادته في نقل الآراء قبل أن يدعو إلى التوفيق بين الحديث والإنشاد، مستشهدا بقول أحد الرواة: "لا تجعلوا مجلسكم حديثا كله، وإنشادا كله، ولكن امزجوه، واجعلوا من كل شيء نصيبا".
ينتقل الكاتب إلى "باب غسل اليد" حيث يغلب على حديثه طابع "آداب السلوك". ويليه "باب إدارة الكأس على اليمين" الذي يعتوره نقص كبير، بحسب رأي محقّق النص. يجزم كشاجم هنا بأن أدب إدارة الكأس "موافق لسنّة الإسلام، ومذهب الجاهلية، لم يغيروه، ولم يبدل به". يُروى عن الرسول "أنه أُتي بسقاء من لبن، فشرب منه، وكان على يمينه حديث السن، وعن يساره رجل من مشيخة أصحابه، فدفعه إلى الغلام، وقال: الأيمن فالأيمن". وبمثل هذه العادة، قال عمرو بن كلثوم: "تحيد الكأس عنّا أم عمرو/ وكان الكأس مجراها اليمينا". وفقا لهذا التقليد، قيل: "ولا ينبغي أن يكون الساقي إلا مليح الوجه، نظيف الثوب، طيب الرائحة، أديباً، ظريفاً، إن سكر أحدٌ من الشراب فأشار إليه بالإعفاء من النبيذ، فعل، ولم يُكره أحداً على الشراب، وأدار الكأس عن يمينه، فإن الأدب فيه موافقة سنَّةِ الإسلام لمذهب الجاهلية".
الرئيس ونديمه
في الباب التاسع، يستعرض المؤلف قصصا في الإكثار والإقلال من الشراب، مستهلا حديثه بالكلام عن الحكام: "أما الرئيس، ذو الملك والأمر النافذ، فلو كان السكر أو ما قاربه حلالاً لا اختلاف فيه لكان عليه خاصاً حراماً، لأن البادرة منه إلى نفسه، وعثرته لا تستقال، وأمره لا يراجع، وأنه يقهر ولا يُقهر، ويحجر ولا يُحجر عليه، وقلما سمعنا بحادثة فظيعة، وغدرة قبيحة، وسطوة عظيمة، استجازها ملك، وجناها على نفسه، أو على نديمه وحميمه وسائر من يخصه من لحمته وبطانته، إلا على سكر، ثم يقع عليه بعد ذلك الندم والسدم، ويلحقه ما لا يتلافاه من العار والمسبة". من ملوك الجاهلية، يذكر الراوي صاحب الحيرة جذيمة بن مالك الدوسي، "وكان من خبره في السكر أنه كان ملكاً شديد الحمية، عظيم الأنفة والغيرة، فرغب عن النساء لهذه العلة، فلم يكن له زوجة يسكن إليها، ولا ولد تقر به عينه". اتخذ هذا الملك نديمين، "وعاقرهما دهراً طويلاً"، إلى أن جاءه رجل يُدعى عدي، "جميل الوجه، ظريف اللسان، حسن العبارة"، فنادمه، وخطب إليه أخته، ثم زوّجه إياها، وجعل من النديمين شاهدين على الزواج، ثم خرج في الصباح إلى شوارع الحيرة، "فلم تمر به ناقة ولا جمل إلا نحره، ودفع إلى أربابها أثمانها، وفرق على الصادر والوارد لحومها". أفاق الملك من السكرة، ورأى "اللحام مقسمة والدماء مهراقة"، فسأل عن السبب، وعرف القصة، فذهب إلى أخته، فقالت: "زوّجتني ونديماك شاهدان على ذلك". وسأل الملك نديميه، فشهدا بذلك، فغضب منهما. "ثم أن جذيمة سكر أيضاً كسكرة ليلة التزويج، فقتل ندمانيه، ودفنهما بباب الكوفة، وبنى عليهما قبرين، وسمّاهما الغريبين، وكان له يوما بؤس ونعيم، فإذا خرج يوم البؤس فلقي بباب الكوفة غريباً قتله، وغرّى قبريهما بدمه، فلذلك سُمّيا الغريبين". بعد هذه الرواية، يذكر كشاجم من ملوك بني أمية الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وقد أدمن السكر "حتى انتشر أمره، واضطرب حبله، فقتل". كذلك، أمر الرشيد بإعدام جعفر البرامكي "بعد أن أثمله الشراب". يختم الكاتب هذا الباب بقوله: "وجماعة كثيرة، كان السبب في هلاكهم وهلاك من يخصّهم، اختيارهم السكر، ومطالبتهم به ندمانهم، ولو ذهبنا إلى تعدادهم وشرح قصصهم لخرجنا بالكتاب على حدّه".
يواصل كجاشم كلامه في الباب التالي عن "طلب الحاجة والاستماحة على النبيذ"، ويتحدث في الباب الحادي عشر عن "هيئة النديم وما يلزمه لرئيسه"، قبل أن يقدّم مداخلة طويلة حول "ما يلزم الرئيس لنديمه"، فيذكر عمر بن عبد العزيز الذي آثر سياسة التحفّظ مع منادميه، على عكس يزيد الذي كان ينادم الأخطل، و"يسوّي بينه وبينه في أكرم المواضع من مجلسه". كذلك، دأب شقيق عثمان بن عفان، الوليد بن عقبة، على منادمة أبي زبيد الطائي، ولما هلك أبو زبيد، حزن واعتلّ، وقيل إنه دفن إلى جانبه، وقال أشجع بن عمرو السلمي يوم مرّ بقبرهما:
مررت على عظام أبي زبيد/ رهينا تحت موحشة صلود
نديم للوليد ثوى فأضحى/ مجاور قبره قبر الوليد
يوصي كجاشم بأن يُفرَد كلّ نديم بآلته ومزاجه، "ويُحكّم على نفسه، ويُقلد سقيها على حسب طاقته واحتماله، إلا أن من كان متجمّلا غير متسع في الآلة والآنية، فمهما أعجزه وتعذر عليه منها، فإن العدل في السقي يُمكنه ولا يُعجزه". وخير تعبير عن هذه الحالة قول أبي نواس:
ولست بمستعفٍ من السكر صاحياً/ إذا كان يهوى أن أصير إلى السكر
ولكنني أسعى إلى السكر واثقاً/ بما فيه إن أخطأت من سعةِ الصدر
ولست بقائل لنديم صدق/ وقد أخذ الشراب بوجنتيه
تناولها وإلا لم أذقها/ فيشربها وقد ثقلت عليه
ولكني أحيد الكأس عنه/ وأتركها بغمزة حاجبيه
وإن طلب الوساد لنوم سكر/ دفعت وسادتي أيضا إليه
التمييز والفطنة
نصل إلى الباب الأخير، وفيه أحاديث في أدب لعب الشطرنج والنرد يختمها كشاجم معلّقا: انتهى بنا القول إلى هذه الغاية، وفي بعض ما قدّمنا كفاية لذي التمييز والفطنة، وهداية إلى كريم الأخلاق في المنادمة، وإن لم نكن أحطنا بما يفي بشرطنا في التثبيت فقد نبّهنا بيسير ما تهيّأ أن نذكره على الجليل، ودللنا بالقليل منه على الكثير، ونرجو أن نسلم ما قصدنا له من الحض على جميل المروءة، ونهجنا من السبيل إلى حسن العشرة مما يمنى به مؤلف الكتاب من المطاعن، ويستهدف له من المعايب إن شاء الله تعالى"
عن ملحق النهار الثقافي 10/4/2011