نقوس المهدي
كاتب
1
غواية الخلود..
قد تكون أجمل وأخطر فكرة في ممارسة الجنس هي الوهم، وهم الاستمرار المغوي، القدرة على الخلود لا باعتباره استقراراً ساكناً بل دهشة أبدية، الشهوة الطاغية التي تعد بالمزيد، إنه في كثير من الأحيان يتركز على الذات أولاً، وليس على الشريك بخلاف ما هو متوقع، أنت تشتهي امرأة جميلة جداً لأنك تركز على نفسك وأنت تمارس الجنس معها، على شهوتك المؤججة بالجمال، الجنس يحمل وعوداً صارخة خارقة وخيالية ومع ذلك أثناء ممارسة الجنس تتحول إلى شيء مادي محسوس، وهنا تأتي خطورة التكرار، فرادة الشهوة الجامحة تأتي من استحالة تطبيقها، من استحالة الاستمرارية التي تخرق المستحيل، أو بشكل أدق التي تحول المستحيل إلى ممكن، إذاً التناقض هنا بين المشتهى والإيمان بالقدرة على فعله وبين استحالته يمنح الجنس بريقاً خاصاً، نكهة سحرية تقترب من الألوهة.
2
الخيال والأرض
هناك عادة تفارق ما بين الخيال حول الجنس والجنس نفسه، كتب عن ذلك عبدالرحمن منيف في مدن الملح، عن أمراء يفضلون سماع حكاية عن الجنس على الجنس نفسه، لمستُ ذلك بشكلٍ كاريكاتوري أثناء وجودي في اليمن، حيث تسيطر الثقافة الشفاهية، سيطرة المتخيل على الواقع، وأقصد الحديث عن الغواية تحديداً، عن امرأة لا يظهر منها شيء، وبصدق يصعب التأكد من أنها امرأة وليست فتى نحيلاً ملتفعاً بالسواد، الأمر له علاقة بالتخيل أولاً، تخيل رغباتٍ وتفاصيل لا علاقة لها بالواقع، الجنس الذي ينتمي إلى المتخيل مما يجعل الجنس الفعلي باهتاً وممسوخاً أمام المأمول خاصة أن ختان الإناث هناك شبه قاعدة، شبقٌ واشتهاءٌ داعر مغلّفٌ بالسواد، والكبت يغذي هذه التخيلات بحكايات مريضة عن نساءٍ
“يسحبن آلام الظهر”، “يعصرنه”، بشبقهن المتوحش، أعلم أن الذكورة أساس هذه الكارثة ولكن الكل ضحايا هنا، حكاية عن جنس بين أشخاصٍ لا يعرفون أي مفاتيح لاكتشاف الجسد غير تفاصيل لها علاقة بالعنف أو القوة، أكثر ما يفلح فيه المتكلمون هو توصيف شراسة الجنس. مغامرة لفظية تنتهي بفشلٍ مريع على مستوى الواقع. ويتعزز فيها دور السواد كفاصلٍ بين عالمين، يزداد أثره المريض بخيالاتٍ مريضة.
3
في النهد..
كثيراً ما أحس بهول المفارقة بين التفكير بالمرأة كشبق متحرك، بالنظر على ردفيها كأرجوحة شهوة، وبين التفكير فيها كجسد طبيعي، عادي، كأن تفكر في رائحة عرقها عند التعب أو الجهد الشديد، المفارقة بين أن تفكر في أعضائها الحميمية كطاقةٍ جاذبة عصية عن التفسير، وبين أن تكون جهازاً يمرر دماً بضعة أيام كل شهر، هناك تفارقٌ شديد بين الحالتين يجري في أرض المتأمِل وليس في حقل الموضوع أي الجسد نفسه، هنا يتبدى أن الغموض المتعلق بالحالة الأولى هو جوهر الجذب، الماورائية الكامنة في الجسد، الوعود الخفية، سيل الأفكار والأحلام القديم العابر للجسد، إن التعلق هنا تعلقٌ بالجنس الكامن خلف الجسد، الجسد هنا بوابة عبور، إلى جنة خفية، تصلها ولكنك تعجز عن الحياة فيها، جنة تُمسّ ولا تَستقّر، الشهوة لا تقبل الاستقرار، إنها متحركة وهذا من شروطها الأولية، النهد هنا يتكلم، يئن ببحة فاسقة، يتعرق بتلألؤ، يغوي على مهلٍ.
كثيراً ما كنت من المعارضين وبشدة لفكرة شواطئ العراة، لم أتفهم أن أرى نهداً جميلاً دون أن أحتفي به، أو ببساطة أن أساوي بينه وبين ربلة الساق مثلاً، أن أغيّر معايير تقييم الأشياء من حقل الوقْع النفسي إلى حقل الشكل أو الوزن مثلاً، أو ببساطة أكثر إجحافاً أن أمنع نفسي من النظر والتقييم. كثيراً ما كنت أنتبه إلى أن الانفعال الذي يولّده نهدٌ ما قد يكون أجمل من النهد نفسه، اللهفة الراكضة وراء معبودٍ لا يُدرِك بالضرورة أنه معبود، إله غافلٌ عن عذوبة أثره، وهذا لا يُنقص من جماله أبداً، بل قد يجعله أكثر إغراءً، النهد هنا يصبح رمزاً أكثر من كينونة، رمزاً يتعدد بتعدد النساء، ولكن فرادته لا تنقص، لا توجد إيديولوجيا تقسم النهود إلى طبقات اجتماعية تتصارع، النهد لا يتم التعامل معه إلا بشكلٍ مفرد وهذا ما يحافظ على خصوصيته، ألقه، كبريائه، والأهم فرادته، كثيراً ما كنت أفكر في النهد بشكلٍ مفرد وبشكلٍ سكوني، بشيء يشبه لوحات عصر النهضة، أي بتكثيف العالم في لحظةٍ تملك كمونها الغني، التعامل مع النهد يتم كما نتعامل مع منحوتة بديعة، قد نرغب في شمها أو لثمها لكن التأمل يأخذ الحيز الأكبر، في حين أن التعامل مع النهدين معاً يختلف، هذه ليست قاعدة بالتأكيد، ولكن الحركة تغدو أكثر حضوراً، تحضر في حالة النهدين العلاقةُ بينهما، تكميل أحدهما للآخر، البحث عن توازنٍ في المشهد، توازن تكسره الحركة، ومن هنا تحضر الحركة بشكلٍ أكبر، أتخيل نهدين يتقاربان ويتباعدان أثناء مشيٍ سريع، لا يمكن النظر إلى النهدين دون أن يحضر السهل الضيق بينهما، العنق المُستثار، النهدان معاً نوعٌ من الاحتفال الضاج في حين أن النهد الواحد نوعٌ من الرمز لعبادة، النهدان معاً دعوة صارخة للحركة، للرقص، للتمرغ بينهما، في حين النهد الواحد دعوة للتمهل، للغرق اللذيذ، إذاً بهذا المعنى أفترض وجود تناقضٍ غير قابلٍ للحل، مع امرأةٍ مشتهاة أنت ضائعٌ بين نهدٍ ونهدٍ وبين نهدين معاً، بين عالمين، مهارتُك تأتي في التمتع بهما معاً بدل أن تقع في تضادهما، الأجمل في كل التأملات السابقة أنها متحركة ومتطورة وتخضع للتغير مع الزمن، الرغبة في ملامسة النهد في غضاضة المراهقة، والتصورات المفترضة عنه والمأخوذة بشكلٍ جمعي كجزء من ثقافة عامة تختلف إلى حدود كبيرة عن تلك التي تتطور مع الوقت، الخبرة المتراكمة في الاقتراب منه تغير من طبيعة العلاقة، الارتكاسات الناجمة لدى الأنثى عن هذا الاقتراب تغير في تطور العلاقة أيضاً، ومن المحزن أيضاً أن النمطية المتكررة في شكل وطريقة الاقتراب قد تؤثر أكثر من كل ما سبق.
4
الشهوة والآخر دونكيشوت الحميدية
تعاودني منذ فترة قصة قديمة سمعتها غير مرة عن مجنون يسير في سوق مزدحم بالنساء “سوق الحميدية في روايتين”، وهو يرتدي قميصاً فقط وعضوه التناسلي ظاهرٌ ومنتصب بشدة، كان يسير بين النساء فحسب لم تقل القصة على تعدد الرواة وتعدد الأزمنة والأمكنة إن المجنون حاول الاعتداء على أي من النساء، بل لم تؤكد الحكاية أنه كان يراهنَّ فعلاً إذ كان يكتفي بالسير بينهن مسرنماً كالنائم، من السهل التعامل مع ردة فعل النساء “التقليدية” المتوقعة أو مع رد فعل المجتمع المحافظ، لكن الصعوبة (والإغراء) يكمن في التعامل مع الحكاية من وجهة نظر المجنون، ولابد من الانتباه إلى أن وصفه بالمجنون يأتي كبترٍ للحكاية إذ يضع سلوكه في حيز اللامنطق، أي أنه يقطع الطريق على أي تفسير أو حتى مقاربة لعالمه الداخلي “المجنون”، أعتقد أن هذه الرواية من أجمل الروايات الإيروتيكية التي سمعتها، أتخيل سيل الأفكار والمشاعر التي تعبر رأسه وهو يسير بعضوه المنتصب في نهر النساء، الملامسات العرَضية (أو التصادمات) التي ستحصل بين مقدم سفينته وبحر النساء اللعوب، التأوهات التي سيطلقنها بشبقٍ منفلت من أسره، أنين الرغبة الداعر، المرأة عابرة في خياله، المرأة-الفكرة أو الحلم والتي تشمل كل النساء اللواتي يرين عضوه ويصبن بالذعر، الذعر باعتباره أداة إغراء أزلية، الذعر باعتباره خفراً وحياءً يزيد من الإغراء، أتخيل بطل الرواية يرفض تخيل قدوم إحدى النساء إلى عضوه الفروسي من باب الإعجاب لتمارس الجنس، ذلك لا يتجاوز حدود “البورنو” الرخيص، لا، إنه يحرص على حياء النساء وعلى عموميتهن في لعبته، إنه يسير ناظراً إلى الأمام كفارسٍ مكلل بتاريخٍ طويل لفرسان مكللين بكبرياءٍ وهزيمة تزيد من جمالهم، إنه يكثف تاريخاً طويلاً من البطولة والغوايات، التأوهات والحب والشبق في عضوه العابر للتاريخ، عضوه الخارق للمجتمع والعادات والتقاليد، عضوه الذي يمس الريح فتفيق، ويدخل الظلام الطري لسوق الحميدية المسقوف فيشع، إنه رمح النصر المتبقي من هزائم عدة، يسير دون وعيٍ ودون التفاتٍ لأن ذلك جزء من فروسيته، أتخيله شبه غائبٍ عن الوعي ويحلم بطريقٍ لا ينتهي وبنساء لا ينتهين، وبشهوةٍ تلتصق على جسده من شذى أجسادهن، من رعشة أثدائهن المختبئة، من الرطوبة التي تسيل على أفخاذهن في أوقات الأنين والوحدة، من فحيح الرغبة العميق والأزلي الذي يتقد، رغبة في الجنس، الجنس باعتباره اجتماعاً مقدساً وليس فعلاً جسدياً رياضياً محضاً، وليس فعل حب بالضرورة، الحكاية هنا لا علاقة لها بالحب، عند بطلنا الجنس فعل نشوة وغياب، فعلٌ يفوق صاحبه، يصبح نوعاً من العبادة القديمة، نوعاً من الألوهة العابرة في الأشخاص، إنه سليل أولئك الذين كانوا يقطعون خصاهم ليخيطوا قلادة لآلهة الحب عشتار، لكنه يرفض أن يحول النشوة إلى فعلٍ باتر مؤلم، إنه يحولها إلى رحلة في نهر الاشتهاء، يقف
عند المراحل الواعدة والحالمة للجنس، بدايات الشهوة النقية والمخدوعة، المخدوعة بقدرتها على الخلود، الجنس باعتباره حالة يتمنى صاحبها دوامها وتصاعدها قبل أن يخونه جسده وينهي هذه النشوة بذروة دراماتيكية يليها سقوط إلى الحياة الواقعية، سقوط إلى عالم الأحياء بكل ما يحمله من صفات متوقعة ومتناقضة، أتخيل بطلنا (بطلي) يسير متمتعاً بتراكم الشهوة، ولا أقدر أن أتخيله وهو يقذف مثلاً، لا إنه يحرص على ألا يحدث ذلك لأنه يرغب في إطالة حدث الشهوة، في تسعيره وليس رميه إلى نهايته، وهنا يأتي التناقض الإيروتيكي العذب، ولهذا يرفض أن ينجر إلى أفخاخ النساء المتراميات بخوفهن المغوي، ولهذا يسير مسرنماً، حالماً ومنفصلاً عن الواقع، يخلق زجاجاً وهمياً بينه وبينهن، كيلا تنكسر اللعبة بالتماس الموقظ، يسير بطلي دونكيشوتاً خارجاً عن الواقع في حربٍ متمهلة، حرب لا أعداء فيها، لا جن ولا مردة، ولا آلهة، لم تعد “دولينسيه” رمز الحب وأجمل نساء الأرض، لقد باتت الهواء العابق بالشهوة، مجمل النساء الخفرات، الحكاية هنا، كما قلت سابقاً، حكاية الشهوة لا الحب، قصة إيروتيكية بامتياز، ومع ذلك فهو يشبه الدونكيشوت بتفارقه مع الواقع ورفضه له من جانب، ومن جانبٍ آخر من زاوية احترامه للمرأة، بل تقديسها باعتبارها جزءاً من الطقس المقدس، إنه يحترمها ويحبها ولا يقصد أي إساءة بتعريضها لفيض الشهوة المقدس، إنه يتعبد وجودها، عطرها، صوت خلخالها، يتنشق الهواء العابر تحت الثياب، ويحلم، يحلم بوصلها، إنه يدرك أن الحلم أجمل من تحقيقه لذلك يضخمه، يجعله مستحيلاً، لن يغيب عن القارئ اليقظ أن السوق يحوي رجالاً أيضاً، لكن وجودهم هنا عرضي، فائض، كتفصيلٍ مكمل في اللوحة يمكن تغييره أو حذفه ببساطة، إنهم كالشجرة البعيدة في منظر طبيعي يركز على المرأة الجميلة في الحديقة، لم يفكر بهم حتى كأعداء، لسبب بسيط أن شهوته لا تسمح بفرض تفاصيل مشوشة، والأهم أنه لا يسيء لأحد، لا يصارع أحداً، لذلك رفضه الانتباه لهم تأكيد لمسالمته، لا أريد أن أعرف كيف انتهت الحكاية، والحق يقال أنه لم يذكر ذلك أي من الرواة، لأنهم يقفون عند حدّ الغرابة، أو الجنون كما تفرض قوانين العالم المريض، يسهون عن جوهر الحكاية الغامض وعذوبة الجنس الطاغية فيها، تقديس المرأة والتضحية لأجلها، بصمت، وتواضع، أفكر أحياناً بالأحلام التي قد تراود بعض النسوة في ليلة الحكاية، لا أجد الخوف منطقياً أبداً، لأن البطل لم يمسس إحداهن بسوء، لم ينظر إليهن، ولعله لو نظر إلى إحداهن لأصابها شيء من الفرح، أن ينتقيها من بين كل النساء، أن تكون محط إعجاب، أعلم أن استطرادي الأخير فيه الكثير من الشطط، لكن من الجميل أن نعلم أن بعض الحكايات العذبة قادرة على الاستمرار، على العدوى، أستطيع تخيل إحدى النساء في السوق لم تشعر
بالخوف من هذا الحالم، ولنقل أن تركيزها انصبّ بالدرجة الأولى على العضو المنتصب، فضول مخلوط بخرق المحرم، والتبس الأمر عليها لأنها لم تستطع أن تفسر ملامح الرجل إلا بالحزن، قد تكون مستها حيرة من موقفها تجاهه ولكن هناك شيء من الشفقة أكثر حضوراً من سواه، شفقة على الرجل ليس لأنه مجنون بل من وطأة ما يحس به، انتصاب عضوه هنا دلالة على اتقاد الرغبة الممضة، فكرت في أنها أول مرة ترى فيها عضواً منتصباً لرجل بالغ، ستفكر حتماً في التغيرات التي تحدث على أعضاء الأطفال ولن تقدر أن تهرب من مقارنته بأعضاء الأطفال الذكورية المحببة، أكثر ما سيزعجها حيرتها أمام المشهد المفاجئ، ستحس أنها مطالبة بتفسير ما، ولكنها ستكون عاجزة، ستكتفي بذلك الإحساس الغامض بالشهوة الطاغية لدى الرجل، الشهوة الموصلة إلى “الجنون”. أستطيع أن أتخيل طفلة ما تسير مع أمها، ستستغرب المشهد بالتأكيد ولكنها قد تستغرب رد فعل أمها أكثر، لن تفهم سبب التوتر الحاد والشروع في الهرب من شيء يبدو غريباً لكنه ليس مثيراً للرعب، ستفكر بالشيء البارز وبعريه الغريب، والأهم بغيابه، ستفكر كثيراً بهذا الرجل “المخيف”، ستبحث في أسباب الخوف منه وستتبارز في رأسها عشرات الأسئلة لن تفي عبارة “قلة الأدب” أو “الجنون” بتفسيرها، لكنها ستبدأ في التفكير في فكرة أن الأعضاء الذكرية تحمل خطراً كامناً سيعززه المجتمع بعد سنوات، لن تسمح بساطتها بتكوين فكرة واضحة حول العضو، حول ما يمثله من سطوة ذكورية واحتلال لأنوثتها، ما يمثله من إلغاء لجمالها، ستكبر الفتاة وتمر بلحظات يأس عديدة، وسيحصل أنها في بعض هذه اللحظات ستتذكر ذلك “المجنون” التابع لعضوه، ستحس بحزنٍ شديدٍ تجاهه، وستعجز عن تفسير هذا الحزن، لكن الذكرى ستمنحها نوعاً من المواساة.
الشهوة النبيلة هي البطلة الفعلية في هذه الحكاية، التحدي المجنون والمسالم للكبت، من الجميل أن أفترض أن مجنوناً غيري تبنى جنون البطل، أعاد إحياءه في عالمه الداخلي، شخص آخر يفكر في الجنس خارج قوالب الرذيلة والكبت وباقي القوالب النمطية، يفكر في الشهوة باعتبارها عالماً أصيلاً في داخلنا جميعاً، طقساً نقياً نحلم به ونعاني منه ولأجله، الشهوة باعتبارها حنيناً ممضاً، يغمر الروح ويفيض أحياناً، حنيناً عضالاً، قد يقع في تضادّ وحشي مع العالم، في موقع الصدام بين اللحم والحديد، صدام يفرض نهاية تراجيدية تكمل المشهد، قد نتخيل الدم المتناثر من فمه من هول الضربات، ستنقلب التفاصيل الفائضة في اللوحة (الرجال) على هامشيتها وتنتقل على المركز، تحتله، أتخيل بطلنا يُضرب بشراسة في الشارع، وهو لا يرد، لا يدافع عن نفسه ولا يعترض على كونه ضحية، وسيَصدم الضاربَ بمسالمته،سيؤكد الناس أن بطلنا “مجنون”، ويرسلونه إلى النسيان والحرمان، يرسلونه إلى الغياب لتبقى الحكاية وحدها بانتظار من يعيد إحياءها.
5
الصمت .. والكلام
الصمت بين جسدين تركيز، عمقٌ، جمع الحواس في اللحظة، في حين أن الكلام هذر سطحي لأن هناك لغةً أخرى تحتية، نظراتٌ ونَفَسْ، تآمرٌ ضمني بين العاشقين، الصمت هو الفاصل الذي يعلو فيه صوت الداخل، الصمت الموحي، المغري، الواعدْ. والكلام الفائضُ قد يفسد التوازن أحياناً، لكنه، يوقدُ أحياناً أخرى، لا أقصد أي كلام، أقصد ذلك الكلام المؤجج، الذي يفتتح أبواباً جديدة، كلامٌ له انعكاساته الشرطية، بعيداً عن التكرار المميت، كلامٌ مبتكر وحيوي، شِعرٌ بدائيٌّ، إنه جنسٌ إضافي فوق الجنس. هناك تناقضٌ محكمٌ بين الصمت والكلام، تناقضٌ مغوٍ أحياناً، ومدمّرٌ في أخرى.
6
اللذة.. الألم.
من الأشياء الغريبة وغير المنصفة في الجنس فكرة ارتباط اللذة بالألم، فلو نظرت إلى وجه امرأة تستمتع بالجنس دون أن تعرف أنها تمارس الجنس لكان الانطباع الأول أنها تتألم، تتألم من فرط اللذة، هنا تناقضٌ أزلي يفتح الباب على انحرافات متعددة لكن جوهره حيواني غريزي خارج عن السيطرة، جوهره قد يكون في فعل الاختراق في القوة المفترضة لدى الذكر، وفي إحساسه الغامر بالسيطرة على الأنثى وليس جسدها فقط.
7
الهام والهامشي ..
البدايات.. الإغراء الأكثر أصالة، التفاصيل الصغيرة التي يمحوها المركز، الجسد، النظرات الأولى، صوت الخطوات، العطر، والنفس. الوعود الطرية، كلها تجتمع أمام الجنس بمعناه الأضيق، الأمر أشبه بالوصول إلى الشلال حيث يليه السقوط، القوة في اللحظات التي تسبق الوصول، هنا تكمن الكثافة الحسية، في اللهفة للمس حلمة النهد، في الرعشة الخفيفة في اليد والقلب، في تلك الخفقة الغامرة. البدايات هي الأكثر إغراءً وإثارةً، اللحظات التي تبنى فيها الحكايا وتحمل احتمالاتٍ متعددة، لحظات الإغواء، التي تجعل من البشر مرغوبين، الرغبة البكر، العذرية التي لا تتعلق بعدد المرات التي تمارس فيها الجنس، العذرية المتجددة. هنا يغدو فعل الجنس نفسه تتويجاً أخرق لهذه الطاقة، لهذه الإثارة، هنا التمهل في المتعة يطيل أمدها، وهنا تصبح الخبرة وسيلة لإطالة أمد المتعة خارج الجنس..، البدايات المغوية جزء هام من الأسباب التي تدفع العشاق لخيانة بعضهم، البدايات التي تعيد لأعمارٍ أخرى، تلعب بالزمن، تحيي خياراتٍ أخرى لم تُتخذ، الأمر أعقد من فكرة الجسد فقط، إنه الحياة بصيغةٍ أخرى، أنه أخذ ما خسرته من الخيارات، إنه قلقٌ وجودي من نمطٍ خاص..
8
فخاخ الحس
الجنس كحدث يأخذ أبعاداً أخرى في الذاكرة، يتغير وزن التفاصيل لدى كلٍّ من الشريكين، تحدث عن فخ الذاكرة ميلان كونديرا في رواية الجهل، لكن في الجنس يغدو الأمر مختلفاً، الجنس هنا فعلياً حداثان، “جنسان”، مساران متقاطعان ومتشابكان بدرجاتٍ تزيد أو تنقص، وقد تصل حدود التلاشي أثناء ممارسة الجنس مع عاهرة، هناك تفارق بين عالمي الشريكين، ما تحسه الأنثى يختلف عما يحسه الذكر، طبيعة الشهوة تختلف، توحشها، عدائيتها، شهوتان تكملان بعضهما، لكنهما شهوتان، الأمر معقد فعلاً، فلمس النهد مثلاً فعلٌ، لكن أثره عند الأنثى يختلف عن ذلك عند الذكر، حتى التساوي في الفعل كشم العطر، يختلف أثره لدى العاشقين، الذاكرة الحسية انتقائية ومخاتلة وتنقل الهامشي أحياناً لتضعه في المركز، تضخم التفاصيل بالتكرار، والأهم بالتعديل، الذاكرة عن فعل الحب تتغير، تتطور مع الوقت رغم أن الفعل هو ذاته، لكن من يتغير هو الراوي الداخلي، ذلك الشريط السينمائي الذي يضيف على نفسه ويحذف.
تنويهٌ لا بدّ منه:
هذه المادة ليست دراسة وإنما هي تحاول أن تدخل في عالم الشهوة وتناقضاتها المغرية، هي ترصد بعض التفاصيل بشكلٍ خاص، والأهم أنها لا تسعى لأن تكون شاملة، فهناك مئات التفاصيل الأخرى التي سيفكر فيها المتلقي وقد يراها أهم، ومنها على سبيل المثال الخيانة، أو تعدد العشاق، أو القوة والضعف، أو التقدم في السن. بالنسبة لي هذا بحد ذاته هدف، أن يكمل الآخر الكتابة ولو في ذهنه.
* شاعر سوري مقيم في ألمانيا
* عن الامبراطور
غواية الخلود..
قد تكون أجمل وأخطر فكرة في ممارسة الجنس هي الوهم، وهم الاستمرار المغوي، القدرة على الخلود لا باعتباره استقراراً ساكناً بل دهشة أبدية، الشهوة الطاغية التي تعد بالمزيد، إنه في كثير من الأحيان يتركز على الذات أولاً، وليس على الشريك بخلاف ما هو متوقع، أنت تشتهي امرأة جميلة جداً لأنك تركز على نفسك وأنت تمارس الجنس معها، على شهوتك المؤججة بالجمال، الجنس يحمل وعوداً صارخة خارقة وخيالية ومع ذلك أثناء ممارسة الجنس تتحول إلى شيء مادي محسوس، وهنا تأتي خطورة التكرار، فرادة الشهوة الجامحة تأتي من استحالة تطبيقها، من استحالة الاستمرارية التي تخرق المستحيل، أو بشكل أدق التي تحول المستحيل إلى ممكن، إذاً التناقض هنا بين المشتهى والإيمان بالقدرة على فعله وبين استحالته يمنح الجنس بريقاً خاصاً، نكهة سحرية تقترب من الألوهة.
2
الخيال والأرض
هناك عادة تفارق ما بين الخيال حول الجنس والجنس نفسه، كتب عن ذلك عبدالرحمن منيف في مدن الملح، عن أمراء يفضلون سماع حكاية عن الجنس على الجنس نفسه، لمستُ ذلك بشكلٍ كاريكاتوري أثناء وجودي في اليمن، حيث تسيطر الثقافة الشفاهية، سيطرة المتخيل على الواقع، وأقصد الحديث عن الغواية تحديداً، عن امرأة لا يظهر منها شيء، وبصدق يصعب التأكد من أنها امرأة وليست فتى نحيلاً ملتفعاً بالسواد، الأمر له علاقة بالتخيل أولاً، تخيل رغباتٍ وتفاصيل لا علاقة لها بالواقع، الجنس الذي ينتمي إلى المتخيل مما يجعل الجنس الفعلي باهتاً وممسوخاً أمام المأمول خاصة أن ختان الإناث هناك شبه قاعدة، شبقٌ واشتهاءٌ داعر مغلّفٌ بالسواد، والكبت يغذي هذه التخيلات بحكايات مريضة عن نساءٍ
“يسحبن آلام الظهر”، “يعصرنه”، بشبقهن المتوحش، أعلم أن الذكورة أساس هذه الكارثة ولكن الكل ضحايا هنا، حكاية عن جنس بين أشخاصٍ لا يعرفون أي مفاتيح لاكتشاف الجسد غير تفاصيل لها علاقة بالعنف أو القوة، أكثر ما يفلح فيه المتكلمون هو توصيف شراسة الجنس. مغامرة لفظية تنتهي بفشلٍ مريع على مستوى الواقع. ويتعزز فيها دور السواد كفاصلٍ بين عالمين، يزداد أثره المريض بخيالاتٍ مريضة.
3
في النهد..
كثيراً ما أحس بهول المفارقة بين التفكير بالمرأة كشبق متحرك، بالنظر على ردفيها كأرجوحة شهوة، وبين التفكير فيها كجسد طبيعي، عادي، كأن تفكر في رائحة عرقها عند التعب أو الجهد الشديد، المفارقة بين أن تفكر في أعضائها الحميمية كطاقةٍ جاذبة عصية عن التفسير، وبين أن تكون جهازاً يمرر دماً بضعة أيام كل شهر، هناك تفارقٌ شديد بين الحالتين يجري في أرض المتأمِل وليس في حقل الموضوع أي الجسد نفسه، هنا يتبدى أن الغموض المتعلق بالحالة الأولى هو جوهر الجذب، الماورائية الكامنة في الجسد، الوعود الخفية، سيل الأفكار والأحلام القديم العابر للجسد، إن التعلق هنا تعلقٌ بالجنس الكامن خلف الجسد، الجسد هنا بوابة عبور، إلى جنة خفية، تصلها ولكنك تعجز عن الحياة فيها، جنة تُمسّ ولا تَستقّر، الشهوة لا تقبل الاستقرار، إنها متحركة وهذا من شروطها الأولية، النهد هنا يتكلم، يئن ببحة فاسقة، يتعرق بتلألؤ، يغوي على مهلٍ.
كثيراً ما كنت من المعارضين وبشدة لفكرة شواطئ العراة، لم أتفهم أن أرى نهداً جميلاً دون أن أحتفي به، أو ببساطة أن أساوي بينه وبين ربلة الساق مثلاً، أن أغيّر معايير تقييم الأشياء من حقل الوقْع النفسي إلى حقل الشكل أو الوزن مثلاً، أو ببساطة أكثر إجحافاً أن أمنع نفسي من النظر والتقييم. كثيراً ما كنت أنتبه إلى أن الانفعال الذي يولّده نهدٌ ما قد يكون أجمل من النهد نفسه، اللهفة الراكضة وراء معبودٍ لا يُدرِك بالضرورة أنه معبود، إله غافلٌ عن عذوبة أثره، وهذا لا يُنقص من جماله أبداً، بل قد يجعله أكثر إغراءً، النهد هنا يصبح رمزاً أكثر من كينونة، رمزاً يتعدد بتعدد النساء، ولكن فرادته لا تنقص، لا توجد إيديولوجيا تقسم النهود إلى طبقات اجتماعية تتصارع، النهد لا يتم التعامل معه إلا بشكلٍ مفرد وهذا ما يحافظ على خصوصيته، ألقه، كبريائه، والأهم فرادته، كثيراً ما كنت أفكر في النهد بشكلٍ مفرد وبشكلٍ سكوني، بشيء يشبه لوحات عصر النهضة، أي بتكثيف العالم في لحظةٍ تملك كمونها الغني، التعامل مع النهد يتم كما نتعامل مع منحوتة بديعة، قد نرغب في شمها أو لثمها لكن التأمل يأخذ الحيز الأكبر، في حين أن التعامل مع النهدين معاً يختلف، هذه ليست قاعدة بالتأكيد، ولكن الحركة تغدو أكثر حضوراً، تحضر في حالة النهدين العلاقةُ بينهما، تكميل أحدهما للآخر، البحث عن توازنٍ في المشهد، توازن تكسره الحركة، ومن هنا تحضر الحركة بشكلٍ أكبر، أتخيل نهدين يتقاربان ويتباعدان أثناء مشيٍ سريع، لا يمكن النظر إلى النهدين دون أن يحضر السهل الضيق بينهما، العنق المُستثار، النهدان معاً نوعٌ من الاحتفال الضاج في حين أن النهد الواحد نوعٌ من الرمز لعبادة، النهدان معاً دعوة صارخة للحركة، للرقص، للتمرغ بينهما، في حين النهد الواحد دعوة للتمهل، للغرق اللذيذ، إذاً بهذا المعنى أفترض وجود تناقضٍ غير قابلٍ للحل، مع امرأةٍ مشتهاة أنت ضائعٌ بين نهدٍ ونهدٍ وبين نهدين معاً، بين عالمين، مهارتُك تأتي في التمتع بهما معاً بدل أن تقع في تضادهما، الأجمل في كل التأملات السابقة أنها متحركة ومتطورة وتخضع للتغير مع الزمن، الرغبة في ملامسة النهد في غضاضة المراهقة، والتصورات المفترضة عنه والمأخوذة بشكلٍ جمعي كجزء من ثقافة عامة تختلف إلى حدود كبيرة عن تلك التي تتطور مع الوقت، الخبرة المتراكمة في الاقتراب منه تغير من طبيعة العلاقة، الارتكاسات الناجمة لدى الأنثى عن هذا الاقتراب تغير في تطور العلاقة أيضاً، ومن المحزن أيضاً أن النمطية المتكررة في شكل وطريقة الاقتراب قد تؤثر أكثر من كل ما سبق.
4
الشهوة والآخر دونكيشوت الحميدية
تعاودني منذ فترة قصة قديمة سمعتها غير مرة عن مجنون يسير في سوق مزدحم بالنساء “سوق الحميدية في روايتين”، وهو يرتدي قميصاً فقط وعضوه التناسلي ظاهرٌ ومنتصب بشدة، كان يسير بين النساء فحسب لم تقل القصة على تعدد الرواة وتعدد الأزمنة والأمكنة إن المجنون حاول الاعتداء على أي من النساء، بل لم تؤكد الحكاية أنه كان يراهنَّ فعلاً إذ كان يكتفي بالسير بينهن مسرنماً كالنائم، من السهل التعامل مع ردة فعل النساء “التقليدية” المتوقعة أو مع رد فعل المجتمع المحافظ، لكن الصعوبة (والإغراء) يكمن في التعامل مع الحكاية من وجهة نظر المجنون، ولابد من الانتباه إلى أن وصفه بالمجنون يأتي كبترٍ للحكاية إذ يضع سلوكه في حيز اللامنطق، أي أنه يقطع الطريق على أي تفسير أو حتى مقاربة لعالمه الداخلي “المجنون”، أعتقد أن هذه الرواية من أجمل الروايات الإيروتيكية التي سمعتها، أتخيل سيل الأفكار والمشاعر التي تعبر رأسه وهو يسير بعضوه المنتصب في نهر النساء، الملامسات العرَضية (أو التصادمات) التي ستحصل بين مقدم سفينته وبحر النساء اللعوب، التأوهات التي سيطلقنها بشبقٍ منفلت من أسره، أنين الرغبة الداعر، المرأة عابرة في خياله، المرأة-الفكرة أو الحلم والتي تشمل كل النساء اللواتي يرين عضوه ويصبن بالذعر، الذعر باعتباره أداة إغراء أزلية، الذعر باعتباره خفراً وحياءً يزيد من الإغراء، أتخيل بطل الرواية يرفض تخيل قدوم إحدى النساء إلى عضوه الفروسي من باب الإعجاب لتمارس الجنس، ذلك لا يتجاوز حدود “البورنو” الرخيص، لا، إنه يحرص على حياء النساء وعلى عموميتهن في لعبته، إنه يسير ناظراً إلى الأمام كفارسٍ مكلل بتاريخٍ طويل لفرسان مكللين بكبرياءٍ وهزيمة تزيد من جمالهم، إنه يكثف تاريخاً طويلاً من البطولة والغوايات، التأوهات والحب والشبق في عضوه العابر للتاريخ، عضوه الخارق للمجتمع والعادات والتقاليد، عضوه الذي يمس الريح فتفيق، ويدخل الظلام الطري لسوق الحميدية المسقوف فيشع، إنه رمح النصر المتبقي من هزائم عدة، يسير دون وعيٍ ودون التفاتٍ لأن ذلك جزء من فروسيته، أتخيله شبه غائبٍ عن الوعي ويحلم بطريقٍ لا ينتهي وبنساء لا ينتهين، وبشهوةٍ تلتصق على جسده من شذى أجسادهن، من رعشة أثدائهن المختبئة، من الرطوبة التي تسيل على أفخاذهن في أوقات الأنين والوحدة، من فحيح الرغبة العميق والأزلي الذي يتقد، رغبة في الجنس، الجنس باعتباره اجتماعاً مقدساً وليس فعلاً جسدياً رياضياً محضاً، وليس فعل حب بالضرورة، الحكاية هنا لا علاقة لها بالحب، عند بطلنا الجنس فعل نشوة وغياب، فعلٌ يفوق صاحبه، يصبح نوعاً من العبادة القديمة، نوعاً من الألوهة العابرة في الأشخاص، إنه سليل أولئك الذين كانوا يقطعون خصاهم ليخيطوا قلادة لآلهة الحب عشتار، لكنه يرفض أن يحول النشوة إلى فعلٍ باتر مؤلم، إنه يحولها إلى رحلة في نهر الاشتهاء، يقف
عند المراحل الواعدة والحالمة للجنس، بدايات الشهوة النقية والمخدوعة، المخدوعة بقدرتها على الخلود، الجنس باعتباره حالة يتمنى صاحبها دوامها وتصاعدها قبل أن يخونه جسده وينهي هذه النشوة بذروة دراماتيكية يليها سقوط إلى الحياة الواقعية، سقوط إلى عالم الأحياء بكل ما يحمله من صفات متوقعة ومتناقضة، أتخيل بطلنا (بطلي) يسير متمتعاً بتراكم الشهوة، ولا أقدر أن أتخيله وهو يقذف مثلاً، لا إنه يحرص على ألا يحدث ذلك لأنه يرغب في إطالة حدث الشهوة، في تسعيره وليس رميه إلى نهايته، وهنا يأتي التناقض الإيروتيكي العذب، ولهذا يرفض أن ينجر إلى أفخاخ النساء المتراميات بخوفهن المغوي، ولهذا يسير مسرنماً، حالماً ومنفصلاً عن الواقع، يخلق زجاجاً وهمياً بينه وبينهن، كيلا تنكسر اللعبة بالتماس الموقظ، يسير بطلي دونكيشوتاً خارجاً عن الواقع في حربٍ متمهلة، حرب لا أعداء فيها، لا جن ولا مردة، ولا آلهة، لم تعد “دولينسيه” رمز الحب وأجمل نساء الأرض، لقد باتت الهواء العابق بالشهوة، مجمل النساء الخفرات، الحكاية هنا، كما قلت سابقاً، حكاية الشهوة لا الحب، قصة إيروتيكية بامتياز، ومع ذلك فهو يشبه الدونكيشوت بتفارقه مع الواقع ورفضه له من جانب، ومن جانبٍ آخر من زاوية احترامه للمرأة، بل تقديسها باعتبارها جزءاً من الطقس المقدس، إنه يحترمها ويحبها ولا يقصد أي إساءة بتعريضها لفيض الشهوة المقدس، إنه يتعبد وجودها، عطرها، صوت خلخالها، يتنشق الهواء العابر تحت الثياب، ويحلم، يحلم بوصلها، إنه يدرك أن الحلم أجمل من تحقيقه لذلك يضخمه، يجعله مستحيلاً، لن يغيب عن القارئ اليقظ أن السوق يحوي رجالاً أيضاً، لكن وجودهم هنا عرضي، فائض، كتفصيلٍ مكمل في اللوحة يمكن تغييره أو حذفه ببساطة، إنهم كالشجرة البعيدة في منظر طبيعي يركز على المرأة الجميلة في الحديقة، لم يفكر بهم حتى كأعداء، لسبب بسيط أن شهوته لا تسمح بفرض تفاصيل مشوشة، والأهم أنه لا يسيء لأحد، لا يصارع أحداً، لذلك رفضه الانتباه لهم تأكيد لمسالمته، لا أريد أن أعرف كيف انتهت الحكاية، والحق يقال أنه لم يذكر ذلك أي من الرواة، لأنهم يقفون عند حدّ الغرابة، أو الجنون كما تفرض قوانين العالم المريض، يسهون عن جوهر الحكاية الغامض وعذوبة الجنس الطاغية فيها، تقديس المرأة والتضحية لأجلها، بصمت، وتواضع، أفكر أحياناً بالأحلام التي قد تراود بعض النسوة في ليلة الحكاية، لا أجد الخوف منطقياً أبداً، لأن البطل لم يمسس إحداهن بسوء، لم ينظر إليهن، ولعله لو نظر إلى إحداهن لأصابها شيء من الفرح، أن ينتقيها من بين كل النساء، أن تكون محط إعجاب، أعلم أن استطرادي الأخير فيه الكثير من الشطط، لكن من الجميل أن نعلم أن بعض الحكايات العذبة قادرة على الاستمرار، على العدوى، أستطيع تخيل إحدى النساء في السوق لم تشعر
بالخوف من هذا الحالم، ولنقل أن تركيزها انصبّ بالدرجة الأولى على العضو المنتصب، فضول مخلوط بخرق المحرم، والتبس الأمر عليها لأنها لم تستطع أن تفسر ملامح الرجل إلا بالحزن، قد تكون مستها حيرة من موقفها تجاهه ولكن هناك شيء من الشفقة أكثر حضوراً من سواه، شفقة على الرجل ليس لأنه مجنون بل من وطأة ما يحس به، انتصاب عضوه هنا دلالة على اتقاد الرغبة الممضة، فكرت في أنها أول مرة ترى فيها عضواً منتصباً لرجل بالغ، ستفكر حتماً في التغيرات التي تحدث على أعضاء الأطفال ولن تقدر أن تهرب من مقارنته بأعضاء الأطفال الذكورية المحببة، أكثر ما سيزعجها حيرتها أمام المشهد المفاجئ، ستحس أنها مطالبة بتفسير ما، ولكنها ستكون عاجزة، ستكتفي بذلك الإحساس الغامض بالشهوة الطاغية لدى الرجل، الشهوة الموصلة إلى “الجنون”. أستطيع أن أتخيل طفلة ما تسير مع أمها، ستستغرب المشهد بالتأكيد ولكنها قد تستغرب رد فعل أمها أكثر، لن تفهم سبب التوتر الحاد والشروع في الهرب من شيء يبدو غريباً لكنه ليس مثيراً للرعب، ستفكر بالشيء البارز وبعريه الغريب، والأهم بغيابه، ستفكر كثيراً بهذا الرجل “المخيف”، ستبحث في أسباب الخوف منه وستتبارز في رأسها عشرات الأسئلة لن تفي عبارة “قلة الأدب” أو “الجنون” بتفسيرها، لكنها ستبدأ في التفكير في فكرة أن الأعضاء الذكرية تحمل خطراً كامناً سيعززه المجتمع بعد سنوات، لن تسمح بساطتها بتكوين فكرة واضحة حول العضو، حول ما يمثله من سطوة ذكورية واحتلال لأنوثتها، ما يمثله من إلغاء لجمالها، ستكبر الفتاة وتمر بلحظات يأس عديدة، وسيحصل أنها في بعض هذه اللحظات ستتذكر ذلك “المجنون” التابع لعضوه، ستحس بحزنٍ شديدٍ تجاهه، وستعجز عن تفسير هذا الحزن، لكن الذكرى ستمنحها نوعاً من المواساة.
الشهوة النبيلة هي البطلة الفعلية في هذه الحكاية، التحدي المجنون والمسالم للكبت، من الجميل أن أفترض أن مجنوناً غيري تبنى جنون البطل، أعاد إحياءه في عالمه الداخلي، شخص آخر يفكر في الجنس خارج قوالب الرذيلة والكبت وباقي القوالب النمطية، يفكر في الشهوة باعتبارها عالماً أصيلاً في داخلنا جميعاً، طقساً نقياً نحلم به ونعاني منه ولأجله، الشهوة باعتبارها حنيناً ممضاً، يغمر الروح ويفيض أحياناً، حنيناً عضالاً، قد يقع في تضادّ وحشي مع العالم، في موقع الصدام بين اللحم والحديد، صدام يفرض نهاية تراجيدية تكمل المشهد، قد نتخيل الدم المتناثر من فمه من هول الضربات، ستنقلب التفاصيل الفائضة في اللوحة (الرجال) على هامشيتها وتنتقل على المركز، تحتله، أتخيل بطلنا يُضرب بشراسة في الشارع، وهو لا يرد، لا يدافع عن نفسه ولا يعترض على كونه ضحية، وسيَصدم الضاربَ بمسالمته،سيؤكد الناس أن بطلنا “مجنون”، ويرسلونه إلى النسيان والحرمان، يرسلونه إلى الغياب لتبقى الحكاية وحدها بانتظار من يعيد إحياءها.
5
الصمت .. والكلام
الصمت بين جسدين تركيز، عمقٌ، جمع الحواس في اللحظة، في حين أن الكلام هذر سطحي لأن هناك لغةً أخرى تحتية، نظراتٌ ونَفَسْ، تآمرٌ ضمني بين العاشقين، الصمت هو الفاصل الذي يعلو فيه صوت الداخل، الصمت الموحي، المغري، الواعدْ. والكلام الفائضُ قد يفسد التوازن أحياناً، لكنه، يوقدُ أحياناً أخرى، لا أقصد أي كلام، أقصد ذلك الكلام المؤجج، الذي يفتتح أبواباً جديدة، كلامٌ له انعكاساته الشرطية، بعيداً عن التكرار المميت، كلامٌ مبتكر وحيوي، شِعرٌ بدائيٌّ، إنه جنسٌ إضافي فوق الجنس. هناك تناقضٌ محكمٌ بين الصمت والكلام، تناقضٌ مغوٍ أحياناً، ومدمّرٌ في أخرى.
6
اللذة.. الألم.
من الأشياء الغريبة وغير المنصفة في الجنس فكرة ارتباط اللذة بالألم، فلو نظرت إلى وجه امرأة تستمتع بالجنس دون أن تعرف أنها تمارس الجنس لكان الانطباع الأول أنها تتألم، تتألم من فرط اللذة، هنا تناقضٌ أزلي يفتح الباب على انحرافات متعددة لكن جوهره حيواني غريزي خارج عن السيطرة، جوهره قد يكون في فعل الاختراق في القوة المفترضة لدى الذكر، وفي إحساسه الغامر بالسيطرة على الأنثى وليس جسدها فقط.
7
الهام والهامشي ..
البدايات.. الإغراء الأكثر أصالة، التفاصيل الصغيرة التي يمحوها المركز، الجسد، النظرات الأولى، صوت الخطوات، العطر، والنفس. الوعود الطرية، كلها تجتمع أمام الجنس بمعناه الأضيق، الأمر أشبه بالوصول إلى الشلال حيث يليه السقوط، القوة في اللحظات التي تسبق الوصول، هنا تكمن الكثافة الحسية، في اللهفة للمس حلمة النهد، في الرعشة الخفيفة في اليد والقلب، في تلك الخفقة الغامرة. البدايات هي الأكثر إغراءً وإثارةً، اللحظات التي تبنى فيها الحكايا وتحمل احتمالاتٍ متعددة، لحظات الإغواء، التي تجعل من البشر مرغوبين، الرغبة البكر، العذرية التي لا تتعلق بعدد المرات التي تمارس فيها الجنس، العذرية المتجددة. هنا يغدو فعل الجنس نفسه تتويجاً أخرق لهذه الطاقة، لهذه الإثارة، هنا التمهل في المتعة يطيل أمدها، وهنا تصبح الخبرة وسيلة لإطالة أمد المتعة خارج الجنس..، البدايات المغوية جزء هام من الأسباب التي تدفع العشاق لخيانة بعضهم، البدايات التي تعيد لأعمارٍ أخرى، تلعب بالزمن، تحيي خياراتٍ أخرى لم تُتخذ، الأمر أعقد من فكرة الجسد فقط، إنه الحياة بصيغةٍ أخرى، أنه أخذ ما خسرته من الخيارات، إنه قلقٌ وجودي من نمطٍ خاص..
8
فخاخ الحس
الجنس كحدث يأخذ أبعاداً أخرى في الذاكرة، يتغير وزن التفاصيل لدى كلٍّ من الشريكين، تحدث عن فخ الذاكرة ميلان كونديرا في رواية الجهل، لكن في الجنس يغدو الأمر مختلفاً، الجنس هنا فعلياً حداثان، “جنسان”، مساران متقاطعان ومتشابكان بدرجاتٍ تزيد أو تنقص، وقد تصل حدود التلاشي أثناء ممارسة الجنس مع عاهرة، هناك تفارق بين عالمي الشريكين، ما تحسه الأنثى يختلف عما يحسه الذكر، طبيعة الشهوة تختلف، توحشها، عدائيتها، شهوتان تكملان بعضهما، لكنهما شهوتان، الأمر معقد فعلاً، فلمس النهد مثلاً فعلٌ، لكن أثره عند الأنثى يختلف عن ذلك عند الذكر، حتى التساوي في الفعل كشم العطر، يختلف أثره لدى العاشقين، الذاكرة الحسية انتقائية ومخاتلة وتنقل الهامشي أحياناً لتضعه في المركز، تضخم التفاصيل بالتكرار، والأهم بالتعديل، الذاكرة عن فعل الحب تتغير، تتطور مع الوقت رغم أن الفعل هو ذاته، لكن من يتغير هو الراوي الداخلي، ذلك الشريط السينمائي الذي يضيف على نفسه ويحذف.
تنويهٌ لا بدّ منه:
هذه المادة ليست دراسة وإنما هي تحاول أن تدخل في عالم الشهوة وتناقضاتها المغرية، هي ترصد بعض التفاصيل بشكلٍ خاص، والأهم أنها لا تسعى لأن تكون شاملة، فهناك مئات التفاصيل الأخرى التي سيفكر فيها المتلقي وقد يراها أهم، ومنها على سبيل المثال الخيانة، أو تعدد العشاق، أو القوة والضعف، أو التقدم في السن. بالنسبة لي هذا بحد ذاته هدف، أن يكمل الآخر الكتابة ولو في ذهنه.
* شاعر سوري مقيم في ألمانيا
* عن الامبراطور