نقوس المهدي
كاتب
الأنوثة حيز اجتماعي يتكون من جملة أدوار، قد تكون سلبية وقد تكون إيجابية في جماليتها. فالبشاعة جمالية سلبية. ولا أتكلم عن الجمالية السلبية، وإنما أتكلم عن الأنوثة كخلق، أو كطينة مفترضة. التراث العربي -وله استمراريات أساسية في هذا العصر بالنسبة إلى التشكل الجمالي للأنوثة ليس فقط كمفهوم مجرد، وإنما كمفهوم معيش- هناك عنصران، وهذا ليس جديداً، وقاله أناس كثيرون عرب وإفرنج: الأنثى كمخلوق متصور نجده في العبارات الشعبية، وفي الكلام الشعبي بين الناس، نراه في ألف ليلة وليلة وفي الحديث الشريف، وفي القرآن وفي الأدب.
فهذه الأنثى المتصورة والمتخيلة، مخلوق برأسين: ملاك وأفعى، لا واسطة أو صلة بينهما. أو حورية وأفعى، هناك الأنثى الأم ضامن الاستقرار النفسي والاجتماعي، ضامن مفهوم الجماعة عبر مفهوم الشرف وإعادة إنتاج الجماعة القيمية، ونرى طبعاً، أن الجماعة إنما هي جماعة الذكور الأشداء الأبطال، يضمن شرفها مخلوق ناقص، هو المرأة! وهذا طبعاً يودي بنا إلى وجه آخر إلى وجه أفعوي فظيع للمرأة، وهذا الوجه الأفعوي هو المخلوقة المتآمرة والمحتالة الشبقة ليلا ونهاراً (دون إذن من البعل أو الوليّ) المتحايلة على القوانين والأعراف، وعلى البعل وبعولة هذا البعل وإخوته وأهله. لدينا هذان التصوران، ونراهما منسابين في كل زوايا الخطاب العربي العالم والجاهل على حد سواء.
ينتمي هذا التصور إلى عالم مخيالي تشاركه فيه صورة المرأة الجميلة في التراث، أو المرأة الشهية، فنراها مركبة من عناصر لو تكاملت بشكل صورة لكانت مسخاً للهيئة الجسدية للبشرية، كما رأينا مسخاً للهيئة الوجدانية.
فالمرأة الجميلة في عرف هذا الوصف (ونحن للمناسبة نرى مجمل هذه العناصر مجتمعة في صورة حورية الجنة) هي من ناحية كاعب، أي ذات نهدين صغيرين، وليس هذان النهدان بنهدي امرأة صغيرة النهدين، ولكنهما نهدا فتاة على عتبة البلوغ، كنهدي عائشة وهي عروس. وهي ذات ردفين يجتمعان في عجيزة فخمة، لعل أبلغ من وصفها هو نجيب محفوظ في معرض كلامه عن الذوق النسائي للسيد أحمد عبدالجواد.
وهي أيضاً، أي هذه المرأة، مثالية الجمال، ذات فخذين لعظمهما عجزت عن القيام أو كادت. لكأنما الرجل المهلوس على هذه الصورة يروم دخول بحر متلاطم الأمواج، وكأن كل ثنية من ثنايا الشحم المترامي تحت الجلد بمثابة رحم مستأنف لرجل طفولي أوديبي على الدوام.
المصادمات التي حصلت في التراث، وعلى الأقل المصادمات التي نعرف عنها شيئاً، كانت حول مواقع موضعية. علينا أن نتذكر أن القيان وبعض الجواري، وخصوصاً غاليات الثمن الفارهات منهن، كن قادرات على إقامة علاقات متكافئة فكرياً وجماعياً مع الرجل. ولكن علينا أن نتذكر دائماً القصور القانوني لوجودهن
ما أعتقده أن كل المصادمات التي حصلت في التراث، وعلى الأقل المصادمات التي نعرف عنها شيئاً، كانت حول مواقع موضعية. علينا أن نتذكر أن القيان وبعض الجواري، وخصوصاً غاليات الثمن الفارهات منهن، كن قادرات على إقامة علاقات متكافئة فكرياً وجماعياً مع الرجل. ولكن علينا أن نتذكر دائماً القصور القانوني لوجودهن. وعلى ذلك فإن الطريقة الوحيدة التي كانت في متناولهن لإقامة نوع من التوازن في العلاقات، كانت عن طريق الإغواء بالمعنى المكيافيلي للعبارة، أي دولة الحريم، وحيز الحريم في الحياة العامة وعلينا أن نستذكر أن العلاقات بين القيان والرجال كانت بالغة الصراحة وكان فيها كلام متطور ونقاش للأدب والجسد والشعر والموسيقى، ولكن الأمر الذي لم يتعرض إلى أيّ مسألة، وهذا ليس مستغرباً على الإطلاق، كان تصور الأنوثة، والدونية الدنيوية التي انطوى عليها هذا التصور، إذن هو تصور قائم على إتاحة المجال لخيال الرجل دون مساءلة. وفي الأحيان القليلة التي حصلت فيها مساءلة على نحو جدي، لم تنته على خير، بل سجّل خطابها وكأنه هجاء للذات، كما حصل في بعض الحكايات البغدادية التي يروي لنا الجاحظ بعضاً منها، كحكاية الجارية التي سلكت مع غلام سلوك اللائط بالملاط به، شهّرت في الأسواق على ظهر جمل، وإن كانت لم تحجم عن الاستمرار في الاعتراض وفي التنديد، وهي مشهّر بها.
فالعنصر الأساسي هنا، في هذا الموضوع، هو أن من المفترض أن يكون تصور الأنوثة ثابتا، ومنه الموضعي المنفعل، والمفعول به رسمياً، حتى لو كانت العلاقات الاجتماعية غير الرسمية تشي بغير ذلك. فإذا كان أيّ خروج على هذه العبارة الرسمية بغض النظر عن تمثيلها أو عدم تمثيلها للواقع المعيش (لأننا جميعاً نعلم موقع النساء وسلطة النساء في العلاقات الاجتماعية الفعلية في البيت، وفي علاقات القوى المنزلية، وهذه العلاقات التي نراها في التعلق المرضي أو شبه المرضي للرجال العرب بأمهاتهم، تماماً كالرجال اليهود) فيجب على هذا الخروج أن يدرج في سجل الاعتبار الثاني لتصور المرأة: وهو المرأة الشر/ والمرأة الفتنة/ المرأة الخراب، المرأة التلبيس على سوية المجتمع. وبالتالي المرأة الخطر.
فإذا لم يكن ممكناً إرجاع صورة المرأة إلى دور “الأنوثة” المنطوي على الإذعان والانفعال، صورت وكأنها إما شيطان وإما امرأة مسترجلة تُغلب تطبعاً إيلاجياً قاهراً مسيطراً على طبع مولج به مذعن. أي أن الخطاب الأدبي والفقهي واليومي عن المرأة نزع عنها إنسانيتها -أي فاعليتها وشخصيتها وكيانها الوضعي- واختصرها في أنوثتها المفهومة على أنها انفعال، ورمى بواقعها إلى حيز ما هو غير طبيعي. ولذا أصبح من الصعب الكلام عن المرأة في واقعها، أو التعامل معها على أساس من هذا الواقع، إلا أن وصم هذا الموقع بالخروج على الأنوثة -أي بما يخيف الرجل الناقص من خشية عدم دوام صورة السيطرة- تصبح المرأة الحقيقية لعنة، أو فتنة أو شيطنة، وكل هذا مواضع للوجل والكراهية.
من نافل القول إن هذه أمور ليست تستقيم إلا بناء على مفهوم مكمل للرجولة، وهو مفهوم بدائي يرى الرجولة مرادفاً للفظاظة والخشونة والنفور من الأدب والفن، ويرى بذلك في علاقة الرجل بالمرأة علاقة تملّك، ومن جهة أخرى علاقة استيلاء واصطياد. وكأن ظاهر التملك هذا هو عين ضمان الرجولة، وكأن ضمان الرجولة لا يتأتى إلى بالجدية البالغة اللاهية عن واقع المرأة المعيش: لا لهو ولا لعب في هذه العلاقة إلا للأنثى (وليس غريباً ضجرها من ذلك الرجل).
فالأنثى وحدها اللعوب دون الرجل في هذا التصور. نحن هنا بإزاء رجل قاصر يحاول استصلاح سلطة اجتماعية في سبيل التهرب من تعامل إنساني ونديّ مع المرأة. هناك نقائض لهذا القصور في الخطاب النسائي حول النساء والرجال غير المدون المتداول حصراً بين النساء (خصوصاً في القرى ولدى بعض النساء الطليعيات والمثقفات) والذي يرشح لنا أحياناً البعض منه. ولذلك فإننا عندما نجد أن كل حركات النكوص الاجتماعي وعلى رأسها الحركات السياسية الإسلامية تجعل من المرأة ومن السيطرة على المرأة عنوان السوية الاجتماعية والصحة المجتمعية وعنوان الوفاء للتراث وللجماعة المتخيلة.
والواقع أن هناك علاقة مرضية بين النكوصية الاجتماعية والأيديولوجية وبين النساء. ومن الطبيعي أننا نرى أن النساء العربيات على مر العصور استثمرن هاتين الصورتين للمرأة لتثبيت وضع اجتماعي مريح في البيت وأيّ أثر كان من النساء على الحياة العامة كان من خلال التأثير عن طريق الرجال، أي عبر أزواجهن وأبنائهن وإخوتهن. وهذا هو ما أعنيه بالضبط بسياسة الحريم. أي ممارسة الأثر في الحياة العامة عن طريق القنوات التي تسمح بها العناصر العلنية في هذه الحياة، أي بتكوينهن جماعات ضغط منزلية، ولو لم يكن بين هذه الجماعات تكامل نسوي يشمل المجتمع، فقد كانت هناك تكافلات أو تعاضدات بيتية. طبعا البيت يشمل أبناء العمومة، إلخ… وهذا، طبعا، أمر كان يجري تبعا لطبيعة المجتمعات العربية الإسلامية القديمة التي لا تتمايز عن غيرها من المجتمعات الوسيطية، بل هي تشترك معها بكونها قائمة على تراتبية اجتماعية معلومة، عبّر عنها الفقه الإسلامي في فصله للقابلية القانونية للأفراد بين الحرّ والعبد والمرأة والرجل، والمسلم والذمي والمستأمن.. إلخ.
ولكن التاريخ قد منّ علينا في القرنين الأخيرين بتصور مغاير يقوم على اعتبار المرأة بوصفها مواطنة، أي دون تمييز قانوني بينها وبين الرجل، في وضع ليس هناك فيه تفريق بين الحرّ والعبد، والمؤمن والملحد. وعلى ذلك فإن سياق المواطنة هو الشرط الأساسي لجعل شخصية المرأة العربية تخرج عن سياق معوقات المجتمعات العربية المتقادمة، وتدخل في سياق الحداثة. في هذا الأمر صعوبات على كل حال، إذ أن هناك تمايزا ولكنه تفاضلي بين الأفكار السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمعات العربية (وأنا أستثني هنا النكوصية الإسلامية) وبين الواقع الاجتماعي المعيش والخطاب اليومي حول المرأة.
هناك تفوق تاريخي للفكر السياسي على الفكر الاجتماعي في حاضر العرب، وهناك تفوق تاريخي لمبادئ التنظيم الثقافي والسياسي العربي على الخطاب اليومي. فنحن نعيش في مجتمعات عربية متفاوتة وتائر التحول، ولو كانت كل هذه الوتائر بالغة السرعة. ونحن نرى اليوم أنه حتى التحول باتجاه النكوص هو بالغ السرعة أيضا. ومن نتائج هذا التفاوت في وتائر التحول تفوّق نسبي لقطاع السياسة والفكر على قطاع المجتمع. ونحن نرى ذلك حتى في الحركات السياسية الإسلامية التي نرى لأنماط تنظيمها عقلانية حركية لا يضاهيها فكر هذه الحركات.
الإسلام والمرأة
الإسلام على شاكلة معظم الأديان، خصوصا التوحيدية منها، يذكر السلطة الإلهية بالسليقة، ويجعل منها سلطة أبوية. ثمة دور بالغ الأهمية، في بعض الأحيان، لشخصيات مقدسة نسائية كالعذراء مريم. ولكننا نرى أن الدور الذي تلعبه العذراء ليس دور المقرر والفاعل، بل هو دور الشفيع. أما ما يقال من أن الإسلام دين تقدمي في تصوره للمرأة ودورها الاجتماعي، فهذا أمر فيه نظر.
أولا: لأن النصوص الإسلامية تقنّن الدونية الدنيوية للمرأة، وذلك كدأب كل المجتمعات السابقة على الحداثة التي تجعل من الصفة القانونية للناس صفة تفاضلية. أي أن هناك حكما للعبد، وقانونا للحر، وحكما للمرأة وقانونا للرجل وحكما للذمي وحكما للمسلم، إن لم يكن في كل الأمور ففي بعضها وبعض إلهام منها (الزواج، الشهادة، الميراث).
ولئن كان الفقه الإسلامي لا يحجر حرية المرأة في التصرف بالممتلكات والأموال الخاصة بها ولا ينيط هذا التصرف بموافقة الزوج (كما الحال في القانون الفرنسي مثلا حتى غير بعيد)، إلا أن هذا -كالمواريث- أمر ذو بواعث دنيوية. وهذان على كل حال يشيران إلى ارتباط الأمور الحاصلة في الماضي بتواريخها. وهذه تواريخ فاتت وتقادمت.
ونحن نرى أن الحديث، والتراث الإسلامي بعامة، يحذر من المرأة، ويقوم عليها حفاظا عليها وعلى غيرها ممن قد تفتن. وإذا استثنينا عادة الوأد عند عرب الجاهلية، فإنني لست على يقين تام بأن ما شرّعه الإسلام المبكّر للمرأة العربية يعتبر بالضرورة أمرا متقدما على ما كان قبل ذلك، خصوصا في ما يتعلق بعلاقتها بالرجل. كما أننا يجب أن نعتبر قوانين الإرث وما إلى ذلك من الأمور التي تمت ليس بأثر من التشريع الديني، بل من ضروريات اجتماعية معينة. وتشير الدراسات التاريخية الأخيرة إلى أن قوانين الميراث الإسلامية المبكرة كانت ذات علاقة وثيقة بالخلاف على إرث النبي، هو دنيوي وليس بالخلاف الشرعي، أو الديني، ولو قنّن بعد ذلك واعتبر شرعا.
النصوص الإسلامية تقنّن الدونية الدنيوية للمرأة، وذلك كدأب كل المجتمعات السابقة على الحداثة التي تجعل من الصفة القانونية للناس صفة تفاضلية. أي أن هناك حكما للعبد، وقانونا للحر، وحكما للمرأة وقانونا للرجل وحكما للذمي وحكما للمسلم، إن لم يكن في كل الأمور ففي بعضها
وعلى ذلك، فإنني أعترض على كتابات بعض التقدميات العربيات ممن يحاولن أن يضارعن الخطاب الإسلامي حول المرأة بخطاب ذي منطوق تقدمي استنادا إلى أقوال معزوّة إلى النبي، وأعمال منسوبة إلى صحبه. أرى أن في ذلك تجاوزا لاعتبار الوقائع التاريخية واعتمادا على عين المصادر الإسلامية القديمة التي لم تعرض، بعد، للتمحيص التاريخي الدقيق، وبالتالي لا يمكن الركون إلى حقيقة ما جاءت به.
ثم إن هؤلاء التقدميات والتقدميين يشرعنون بهذا العمل المنطق النصي للاحتجاج، ومنطق إلزام الاحتكام إلى النصوص الذي يشكل أرضية الخطاب النكوصي الإسلامي. بعبارة أخرى أرى ضرورة الركون إلى واقع كون الماضي ماضيا، وإلى ضرورات الحاضر والمستقبل الموضوعية، بدلا من اعتماد تاريخ فات ومضى، كمحك لسلوكنا اليوم. وعلينا أن نكون على يقين تام بأن ما حدث في مكة والمدينة منذ ألف وأربعمئة سنة أمر ليس على العاقل أن يعتمده في تصور سلوكه اليوم، لتحوّل الدنيا واختلاف الأزمنة ومقتضيات العيش.
ولذلك، فإننا نرى، للأسف، أن هذه الكتابات تقدمية النوايا، تدخل في باب مشروع هيمنة منهج الاحتكام للنصوص، وبالتالي هيمنة من يقوم بالاحتكام للنصوص على نحو أكثر حزما وإحكاما واتساقا. هي تشكل بذلك رديفا ضمنيا لمشروع الهيمنة الاجتماعية والثقافية للإسلام السياسي، ولو اعتبرها صاحباتها وأصحابها من ذوي النوايا الطيبة ضربا من التشاطر على الإسلاميين ومن الفهلوة الفكرية. وفي أحسن الأحوال، نرى في هذه المحاولات عودة إلى قاسم أمين، دون الالتفات إلى أن هذا الرجل، على تواضع ما طالب به، كتب منذ ما يقرب القرن، وأعتقد أنه عليها أن نتحرك بعض الشيء ونتقدم.
إنني أعتقد إذن بالضرورة الحاسمة لإيجاد نص بديل وتام الغربة عن نص النص التراثي، ودون ذلك سنستمر في الدوران في حلقة مفرغة هي حلقة تربيع الدوائر. وأعني بالنص البديل أيّ نص جديد يستشرف واقع الحياة وضرورات المستقبل الذي يجب ألاّ يعتبر محاولة إحياء لماض هو في الواقع قد فات. نص يبني نفسه، ولا يحاول أن يلزم القرآن والحديث بما لا يمكن أن يقويا على قوله، أو الذهاب إلى أن القرآن ما عنى ما يقول، أو أن نص القرن السابع قادر على أن يتكلم بلسان القرن الحادي والعشرين.
شرف الرجولة
منذ أيام محمد رشيد رضا (بعد انقضاء فترة استنارته وتتلمذه على محمد عبده) جعل الإسلاميون من قضية المرأة المسألة المحورية لإدارة الصراع الاجتماعي والفكري، فصارت قضية المرأة وحقوقها وتحررها الاجتماعي والفكري والسياسي والجسدي كناية -وأعني كناية بأكثر المعاني صرامة- عن مجمل المجالات الأخرى في الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين. فباستشارة قضية المرأة يصار إلى استدعاء جملة أوسع كثيرا من القضايا الخلافية في المجتمعات العربية، وعلى رأسها مرجعية السلوك الاجتماعي والسياسي. ولذلك فإننا نرى أن الحجر، بأشكاله المختلفة، على المرأة وحركتها، والتشديد على الحجاب، والفصل بين الجنسين في المعاهد والمسابح وأماكن العمل يعتبر لبنة أساسية، أو بالأحرى اللبنة الأساسية للمشروع الاجتماعي والفكري الإسلامي. إذ أن رؤية المرأة المغلقة على جسدها الضامنة لشرف رجلها ورجولته يعتبر على الصعيد الرمزي التعبير عن مجمل النواحي الأخرى من المشروع السياسي والاجتماعي الإسلامي، وأن تنفيذ عملية الحجر الرمزي هذه، إنما هي دوما المحطة الأولى والأخيرة للتأكيد على مدى نجاح هذا المشروع بالنسبة إلى أصحابه. ذلك أننا نرى فئات اجتماعية مدينية أو قريبة التمدن قد رُمي بها من بنى اجتماعية صلبة نسبيا إلى فضاء من التخلخل الاجتماعي والاقتصادي، مما لا يترك لبعض هؤلاء الرجال ذوي الشخصيات غير القوية كفاية من مجال للتأكيد على تماسك كيانهم إلا مفهوم متخلف للرجولة قائم على دونية المرأة، مهما كانت هذه الدونية خداعة أو مقنعة للواقع.
من نافل القول إن العلاقة بين الأصولية وبين الكبت الجنسي علاقة قوية ومباشرة، علاقة تضافر يصار فيها إلى إزاحة الرغبة الدنيوية وإعلائها إلى تجريد لاإنساني.
ويذكرني هذا الموضوع بفيلم سينمائي أعتبره أروع أفلام فليني الراحل، وهو فيلم واقعي أبيض وأسود أخرج أوائل الخمسينات تحت عنوان I VITELLONI (أي العجول)، ويحكي قصة رجل صقلي (أيّ رجل من مجتمع مضارع لمجتمعاتنا العربية) أغوى ابنته أحد الأشقياء فحملت منه، ونقضي بقية الفيلم مع هذا الأب الصقلي وهو يرتّب الوضع في البلدة بحيث يظهر أن ابنته شريفة ونقية وفي النهاية ينجح في فبركة هذا الوضع، وهو عارف، والقرية، كلها عارفة أن هذه المظاهر كاذبة، ولكن البلدة بأكملها تعاونت في هذا الأمر، وتواطأت مع الأب. والواضح هنا أن “شرف البنت” كان يحمل دلالة رمزية تعني القرية بأكملها. وهي كذلك في بعض قطاعات المجتمع العربي. وهي مستجدة في قطاعات الخيال الاجتماعي المستحدثة القائمة تحت عنوان الشريعة، التي قد لا تذبح الأخت السائبة بل تروم رجمها ولو رجما رمزيا، وهي تقوم بالرجم الرمزي لأكثرية المجتمع غير المنتمي إلى مجال خيالها الشرعي.
لوحة: سارة شمة
أنوثة وذكورة
لا أعتقد أن ثقافتنا العربية المعاصرة بلورت خطاباً حول الأنوثة. هناك صوت أنثوي، وهناك خطابات كثيرة ذكرت، وأخرى انثنت، وقد قدم لنا جورج طرابيشي دراسة ممتازة للعلاقة بين التأنيث وتصوّر الغرب لبعض النصوص الروائية.
والذي يبدو أن التذكير والتأنيث كالأبيض والأسود، واليمين والشمال والفوق والتحت إحداثيات ذات دلالات رمزية كبيرة في كل الثقافات. وقد قرأنا نصوصاً كولونيالية أوروبية تنتمي إلى القرن التاسع عشر نرى فيها تذكيراً للذات الكولونيالية القاهرة الفاعلة، وتأنيثاً أو تخنيثاً للذوات المستعمرة والمقهورة والمفعول بها.
ثم نحن نرى في الخطاب الأيديولوجي المعاصر، خصوصاً خطاب الأصالة، فعلاً أساسياً لعمليتي التذكير والتأنيث هذه، بحيث تبدو “الذات” العربية، أو الإسلامية عند البعض، مذكرة مبدئياً، ومؤنثة في واقع الأمر، أو مخنثة في أحسن الأحوال، إن اعتبرنا الذكورة مرادفة للفعل دون الانفعال بقاهر غربي.
لذلك أعتقد أن من الأجدى أن نتكلم حول التذكير والتأنيث ومجالات الفعل الخطابية والرمزية لهاتين العمليتين بدلاً من الكلام حول مفاهيم قارة للذكورة والأنوثة. ولكن لو أردنا أن نتطرق إلى الممارسة الاجتماعية أو الوجود الاجتماعي لمفهوم الذكورة والأنوثة، فهذا ينقلنا إلى مجال آخر.
هناك الكثير من الخطابات العربية المعاصرة التي تتناول قضايا متعلقة بالأنوثة، ولكنها ليست خطابات نسوية أو أنثوية، بل هي خطابات اجتماعية تتعلق بواقع المرأة والأنوثة، خصوصا بقصورها القانوني في ما يختص بالأحوال الشخصية، وليس هذا بالخطاب النسوي أساسا ولا بالضرورة، كما ليس فيه تصور للأنوثة ولا للرجولة، بل هو خطاب أعتقد أنه أساسي وبالغ الأهمية يتعلق بحقوق المواطنة، أي بضرورة اعتبار المساواة الحقوقية والاجتماعية لجميع المواطنين بغض النظر عن جنسهم ودونما استثناءات. ولذلك هناك خطابات، ولو خفتت أصوات بعضها، تنادي بمزيد من التقدم في إصلاح قوانين الأحوال الشخصية، واستكمال رفعها من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. بل نرى أن الكثيرين يعتقدون، أو على الأقل يقولون إنهم يعتقدون أن قانون الأحوال الشخصية التونسي (وهو على علاته الأكثر تقدما في عالمنا العربي) هو سقف ما تجب المطالبة به. وأعتقد أن ذلك إجحاف منهن بحقهن وبحقوقهن المنشودة، بل الضرورية التأسيس وإن كان لنا أن نبني مجتمعات متكاملة وحديثة وقابلة للديمقراطية، ذلك أن الديمقراطية يجب أن تبتدئ في الخلية الاجتماعية الأساسية التي هي الأسرة.
ثمة هناك خطابات نسوية عربية: خطابات أنثوية غير مدونة ومتداولة شفهياً. وخطابات نسوية تحريضية مكتوبة ومتداولة. وهذه الأخيرة على أهميتها وفائدتها في مجال التوعية والإعلان عن وقائع ونتائج الدونية الاجتماعية للمرأة، وصفاقة وحتى همجية العلاقات الاجتماعية البطريركية، إلا أنني أرى أنها فكرياً -أي في مجال التحليل الاجتماعي والنفسي والسياسي- ضعيفة نسبياً بل وساذجة أو حتى بدائية في بعض الأحيان.
ريادة الرجل خطاب تحرر المرأة
هناك خطاب نسائي عربي قويّ وفعّال، وهو خطاب أدبي في المصاف الأول، وأذكر على سبيل المثال اثنتين من أعلامه هما غادة السمان وليلى بعلبكي. ليس هذا الخطاب خطاباً نسوياً بالضرورة، بل هو صوت نسائي، أو أنثوي، يؤنسن المرأة بما يضاف على كونها أنثى. وهو خطاب يخرّب خطاب الأنوثة المطلقة، تتبدى فيه الأنثى كائناً فاعلاً، فاعلاً في سلوك وشخصية وثورة في بعض الأحيان، كائناً واعياً سخّف معظم الرجال حولها ممن يتمنى لها الأنوثة المطلقة ولنفسه الذكورة الصرفة. وفي هذا الخطاب إفصاح عن الواقع الاجتماعي والإنساني الذي ليس بجدي أبداً، بل هو إخراج إلى العلن والتداول لما هو مضمر. أرى مذكرات فدوى طوقان مثلاً جيداً آخر على ذلك.
ولكنني أعتقد في النهاية أن الصوت الرجولي أكبر وقعا وأكثر إقناعا للكافة. ذلك أن اعتقادا مازال سائدا (وهو اعتقاد سلوكي وحياتي، وليس فكريا بالضرورة) يرى أن للمرأة في المجتمع حيزات معينة كالقيام على البيت والخياطة والسكرتارية والتدريس (الابتدائي خصوصا) وكتابة روايات الحب وتذوق شعر نزار قباني. ونرى تلك القناعة السلوكية مترجمة في سياسات المؤسسات والاتحادات الرسمية للمرأة في الدول العربية المختلفة، ومنها الدول اللادينية، حيث تقتصر فيها برامج التأهيل المهني على حرف كالخياطة والتطريز والسكرتارية، وشيء من التمريض، وما أشبه من الحرف “اللائقة” بالسيدات.
الخطاب التحرري النسوي
الثورات ليست بالضرورة حركات كليّة. وحتى لو نظرنا إلى المجتمعات المتقدمة، فإننا نرى أن قطاع الراديكالية النسوية مازال قطاعا هامشيا، ولو أن له مواضع مؤسساتية هامة، في إطار ما يدعى في الولايات المتحدة بـ”التعددية الثقافية”، فيصار إلى اعتبار النسوية وكأنّها شأن مضارع ثقافيا للوحدات الإثنية المختلفة، أو الفرق الدينية، أو الجماعات القائمة على المثلية الجنسية، ويصار بالتالي إلى إقصاء هذا الخطاب عن التيارات المركزية الفاعلة في المجتمع، ويصبح تأثيرها في ذلك، بمثابة التأثير لا في الحياة اليومية، بل عن طريق مقايضة الامتيازات والحقوق، كما تقايض بها جماعات الضغط على أساس من الحصصية المؤسسية، وليس على أساس من الاندماج في نسيج المجتمع.
أما لدينا، فما زلنا نعاني من درجة عالية من التخلف الاجتماعي والمؤسسي، مما لم يسمح، حتى الآن، بتبلور جماعات ضغط فعلية، ناهيك عن جماعات الضغط التي تستند إلى اعتبارات نسوية، وبالتالي فإذا كانت صورة المرأة في الغرب هي نظير صورة الآخر… فإن المرأة العربية هي آخر الآخر.
ولكن طبعا، ليس هناك شك في أن خطابا نسويا ما من قبل النساء يبث في أطر اجتماعية متميزة يعتبر حينها علامة على تميز اجتماعي مضاعف.
ولكن كان في الحياة العربية الحديثة خطاب نسائي تحرري قام في الحركات اليسارية، وخصوصا الماركسية منها، إلا أن مصير هذا الخطاب اندرج في مسار الحركات، ولا ينفصل عنها سياسيا ولا اجتماعيا، علما أن هذا الخطاب قام في إطار منظمات سياسية آل فيها، في كثير من الأحيان، دور الرفيقات إلى صنع القهوة والشاي، ولو أنه في أحيان أخرى أدى إلى انعتاق فعلي لبعض النساء وبعض الرجال ولقيام علاقات سوية، بقيت هامشية على مستوى المجتمع الأوسع.
حركة التفكير النقدي الحديث، بل والتحديثي، استبعدت قضية المرأة إلى حد كبير، ولو أشارت إلى ضرورة تنمية نصف المجتمع بما هي ضرورة أخلاقية عامة، ولكنها ظلت مستبعدة من التحليل والنقاش العيني للواقع، لأن الفكر التحديثي العربي الحديث، وخصوصا السياسي منه، قد جفل أمام حقائق التخلف الاجتماعي، ولم ينتقد إلا في صورة الشعارات والعناوين العامة، أو ما أراد في معظم تياراته أن يبرز أولوية التحول الاجتماعي الشامل، ومحور هذا التحول الشامل هو تحرر المرأة، لأن مقياس تقدم الأمة هو تحرر المرأة فيها.
فالمرأة عقدة عقد المجتمع. يرتبط هذا الأمر بوجل مرضيّ في الثقافية العربية الحديثة تجاه أركان التخلف الاجتماعي، وتسامح بالغ مع من يتباهى بمظاهر التخلف كالحجاب، باسم الأصالة والديانة. ونجد حتى نصيرا كبيرا للمرأة مثل محمد أمين بيهم، وهو زوج نازك العابد (الوحيدة التي بقيت من فلول العساكر والرجال العرب لمعالجة يوسف العظمة في جرحه في معركة ميسلون) قد أفصح عن الضرورة الظرفية لتغييب قضية المرأة من واجهة العمل الفكري والوطني بحجة عدم الإجماع الاجتماعي عليها في فترة حصار وانتداب أجنبيين.
أما في نظري أنا، فإنني أعتقد أن أيّ نهوض بالمجتمعات العربية، وأيّ مقاومة لعمليات السلب والسيطرة الأجنبيتين يجب أن يستندا إلى نهوض اجتماعي شامل تشكل قضية المرأة ركنا أساسيا فيه.
لكن ما حصل، عمليا، هو تأجيل هذه القضايا الأساسية بحجة ضرورات الظرف، عقدا بعد عقد إلى ما وصلنا إليه اليوم. فقد كان همود التحديثيين في ما يختص بإحياء المجتمع، وإحياء نصفه أمرا ساهم مساهمة أكيدة في إيجاد خلاء فكري ملأته الدعوات النكوصية.
وكمثال، فإن قضية نظيرة زين الدين استوعبت كليا في إطار الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، بل وفي إطار حاول فيه الدينيون أن يلغوا ما قالت به نظيرة، وذلك بإدراجه، على صورة كلية في خانة الخطاب الكولونيالي. وهذا أمر بالغ الحساسية لدينا. وعلينا في اعتقادي ألا نفزع من تهمة التغرّب فأنا لا أعتقد أنها تهمة. ليس فقط لأنني لا أرى في الغرب نموذجا، أو لأنني أرى الخطاب الغربي في الحريات خطابا أصبح عالميا، بل أيضا لأنني أرى أن هذا الخطاب ليس حكرا على الغرب، ولو كان نشأ في الغرب، فهو خطاب عالمي إنساني نشترك فيه، دون أن يعني هذا الاشتراك على الإطلاق بأننا مرتهنون بالظروف الغربية الآنية التي قد ينتج بعض هذا الخطاب فيها.
بعبارة أخرى، لا أرى في الغرب، وفي الخطاب الغربي سقفا لخطاب الحريات، أو وعاء شاملا له. بل إن الواضح هو أن الخطاب الغربي في الحريات، في معظم الأحيان، يقتصر تطبيقه الغربي إن تم ذلك على الغربيين وتستثنى منه الشعوب الأخرى التي يصار إلى اعتبارها على أنها متخلفة بالسليقة وبالطبيعة، وبأن المجتمعات العربية، على سبيل المثال محكومة بسقف تاريخي هو التجربة الإسلامية المبكرة.
مما يفيد بالنسبة إلى أصحاب هذا الخطاب الحصري للحريات بأن الشكل السياسي والاجتماعي المناسب لنا هو ما قد تتفتق عنه مخيلة السلطة الشاملة للإسلاميين. ونرى هنا محطة أخرى من محطات اللقاء الموضوعي بين الخطاب العنصري في الغرب، وبين توصيف الإسلاميين لنفسهم وأصالتهم المزعومتين.
أما سبب استثناء الصوت النسائي من مجال التداول العام، فهو يعود إلى ما أسلفت القول فيه حول قصور الفكر التقدمي العربي عن مجابهة التخلف الاجتماعي، وعلى إيلاء العادات الاجتماعية الصوت النائي موضعا هامشيا، أي موضعا آخر، لا مجال له في هذا التصور إلا في “حديث النسوان”.
أما المقبول في حديث النسوان هذا لدى الكافة، فهو الكلام الرسمي عن الحب ولوعته وناره كما تتغنى به أم كلثوم وغيرها (وهذا كلام أقوله رغما من متعتي بالاستماع إلى أغانيها) من كلام يرضي الرجال المتخلفين في وجدانهم، كلام فيد للاحتباس الأنثوي والتعبير عن الرضا بهذا الاحتباس وإعلائه إلى ذرى روحية.
بذلك تصبح أم كلثوم معشوقة وأمّا في آن. ولعل المبيعات الضخمة لشريط فيروز الأخير “كيف إنت” -وفيه بعض أجمل أغاني الحب العربية- يدل على شيء من التقدم الاجتماعي الذي يشي به وضوح الصوت الأنثوي في هذه المجموعة.
اللغة والجنس
أعتقد أن كل اللغات تساوق تطور (أو نكوص) حركة المجتمع. وأتكلم، طبعاً، حول حركة المجتمع على الآماد الطويلة. لا أعتقد -إجابة على سؤالك- أن أيّ لغة قادرة على مقاومة صياغة الخطاب العلمي بها، إن كان هذا الخطاب قد تأصل في مؤسسات الفكر التي تستخدم هذه اللغة. وأرى ذلك، حسبما أفهم من العارفين في التحول البالغ الذي طرأ على اللغة العبرية (وكانت لغة عبادة صرفة في نصف القرن الماضي)، وبالمعنى نفسه، لا أرى أن أيّ لغة غير قابلة في جوهرها لصياغة أيّ خطاب كان ومن ذلك خطاب التحرر والمساواة وغيرها من الخطابات. ولذلك، فإني لا أرى في اللغة العربية أيّ مواضع تتعالى على التاريخ، وعلى الواقع. وبذلك تكون قادرة على صياغة خطاب مساواتي إن تجذّر في مؤسسات الفكر والمجتمع. لذلك أرى ما يحدث في الولايات المتحدة شأناً مضحكاً عندما يصار إلى سن قوانين تتعلق بنزع صفة التأنيث أو التذكير عن بعض العبارات، مثل رئيس الجلسة أي تحويل (CHAIR WOMAN) إلى (CHAIR PERSON) ولا أرى في ذلك إلا نوعاً من القسر غير الطبيعي للغة، ولو أنني لا أستبعد أن يكون لهذا العمل بعض النتائج الإيجابية على المدى القصير فقط.
أعتقد أن أيّ نهوض بالمجتمعات العربية، وأيّ مقاومة لعمليات السلب والسيطرة الأجنبيتين يجب أن يستندا إلى نهوض اجتماعي شامل تشكل قضية المرأة ركنا أساسيا فيه. لكن ما حصل، عمليا، هو تأجيل هذه القضايا الأساسية بحجة ضرورات الظرف، عقدا بعد عقد إلى ما وصلنا إليه اليوم
تصور ما سيحدث إن حاولنا تذكير الذبابة والأفعى والعنكبوت توخياً لعدم تحقير المرأة، أو تأنيث ابن آوى أو الصرصار (تجدر الإشارة إلى أن اللفظ العربي القديم للصراصير كان “بنات وردان”) توخياً الانتقام منها.
ثم إن في نزع الصفة الجنسية عن العبارة نوعا من رفض. وهو رفض تحقيري للنعت المؤنث لهذه العبارة فإن كان ولا بد، لا مانع من أن تترأس الجلسة سيدة تدعى (CHAIR WOMAN) أو السيدة رئيسة الجلسة. المقصود في أميركا هو “موضعة” رئاسة الجلسة، ولكن هذا أمر ممكن إن نزع عن التذكير والتأنيث الحكم التفاضلي. وليس غريباً هذا الأمر في أميركا على كل حال حيث القسر التشريعي أمر مألوف.
دعوني بالمناسبة أن أضيف ملاحظة أو ملاحظتين حول النسوية الأميركية وما شاكلها أو تأثر بها في أوروبا وغيرها. ويبدو لي أن سمة تكاد تغلب على هذا الخطاب النسوي هي سمة طهرانية غير تحررية قائمة على اتقاء الرجل، سمة تقدم نقداً أخلاقياً للرجل بوصفه منحطاً بالسليقة، هو خطاب ذم للرجل ومساجلة له وهو خطاب يشبه ما كان متداولاً في الأوساط الأخلاقية البرجوازية المحافظة في أوروبا وأميركا (البروتستانتينية على وجه الخصوص) منذ أكثر من نصف قرن. بل نرى في هذا الخطاب تشديداً على عفة المرأة وغياب هذه العفة عند الرجل، وكأننا بموازاة الخطاب الإسلامي الذي يعزو العفة للرجل والشبق المنحل للمرأة. ثم إن المنتهى العملي لهذا الخطاب – في أميركا خصوصاً- يستتبع (كالإسلام) إقامة العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس تقنين حقوقي ينطوي على ذكورة متخيلة وأنوثة هي الأخرى بدورها متخيلة، تقنين يشدد على ضرورة قمع حيز العلاقة بين الجنسين، باسم سد ذرائع التحرش العفوية (على أهمية احترام الجنس للجنس الآخر، وعلى سماجة وفجاجة ما هو معهود من التحرش).
خطاب الجسد
ليس غريبا ألاّ يكون ثمة خطاب يتعلق بالجسد، ولو كانت هناك خطابات كثيرة في التراث العربي والتراث الإسلامي تتناول بعض فاعليات الجسد وأعضائه. هناك في المصاف الأول الخطاب الفقهي الذي يقنن علاقات الأعضاء المختلفة بما عداها من الجسد.
وهناك خطاب حكائي تهييجي يتناول علاقة أعضاء جسد بأعضاء جسد آخر. وهناك أيضا خطاب فقهي بالغ السعة في هذا المضمار. ولكن الجسد كوحدة متكاملة، ما كان موضوعا لخطاب متكامل، ولو كان كلّ من أعضاء هذا الجسد وأطرافه ومواضعه وحيّزاته مواضيع الخطاب أكان خطابا فقهيا أو خطابا بصاصا. بذلك يقتطع الجسد إلى مناطق ويقنن إما عن طريق مفاهيم فقهية، أو عن طريق مناطق غير مترابطة للرؤية وللفعل (مثال ذلك ما أسلفته حول نموذج المرأة الجميلة الشهية في التراث، ووصف تسمية أعضاء المرأة الجنسية استنادا إما إلى شكلها أو حجمها، أو الصوت الذي تصدره عندما تخضع لعمليات شتى).
يستثني هذا الخطاب مفهوم اللذة بالمعنى الفعلي للعنوان. لأن اللذة يستعاض عنها في هذا الخطاب بمراقبة الممارسة التامة السيطرة على الجسد المتخيل للآخر. ونحن نرى بذلك كيف يرتبط هذا التصور البلاستيكي البحت للجسد بمفاهيم الجمال التي سبق وتكلّمت عليها. فالرجال في الجنة لا يرغبون ولا يرتوون. بل إنهم يراقبون أنفسهم، فاعلين في موضوعات للفعل، هي تلك الأصنام المصنوعة من المسك والعنبر ذات النهود الكاعبة والأرداف الضخمة التي تسمى بـ”الحوريات”.
وهنا أذكّر بالحديث الذي يعزو للنبي إجابة حول كيفية نكاح الناس في الجنة على أنه “لا منيّ ولا منية دحما دحما”. وهذا تمنّ نرجسي ساذج من قبل واضعي هذا الحديث، مع التشديد على أنني لست ضد النرجسية فهي، ضمن حدود، حق طبيعي للجميع، بغض النظر عما إذا استحقها أصحابها أم لا. ولكنني أشدد على سذاجة هذه النرجسية المبتغاة، وكونها ضربا من حلم يقظة بصاص الطابع، كأن يبصبص الرجل على نفسه وهو يمارس فعلا مطلقا، أي ذكورة فجة صرفة بالمعنى الذي أسلفت.
أما الوصف المجازي لصلة المحبّ الصوفي بربه، فهو جماع خطاب الشهوة واللذة بمعناه الحقيقي. أما لماذا أزحنا الرغبة عن موضعها فهذا شأن يتعلق بتدين المخيلة. وفي هذا الوجد الصوفي جمالية مرهفة وشاملة لكيان المحب والمحبوب في آن، ومجال للاجتماع بين شبق الشهوة ولذة الوصال وتحقق هذه اللذة. في هذا الوضع ليس الاغتلام إلا عرضا حدثيا بينما هو في وصف الجنة محور لذة الانتشاء بالتفكير في مشهد مقدرة النفس على الإنعاظ الأبدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عزيز العظمة أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة أكستر. صوت جريء، غنيّ عن التعريف لجلّ القراء المهتمين بقضايا التراث والإسلام والحداثة، وهو صاحب جولات في الجدل حول المسائل المثارة والمطروحة في الحياة الفكرية العربية. وهذا النص الإشكالي المنشور هنا بقلمه كتبه أساسا بصوته في جلسة بيننا تركّزت حول عدد من التساؤلات المتصلة بموقع الأنوثة من الثقافة العربية، ولئن اتخذ النص شيئا من صفات المقال، فذلك بفضل عودة العظمة إلى قوله بشيء من المراجعة والتنقيح.
يجتهد النص هنا في محاولة الإجابة عن طائفة من الأسئلة الحارة المتعلقة بقضايا الأنوثة والمرأة والتخلف والحداثة والسلفية وظواهر النكوص الفكري والاجتماعي.
ومن دون أن نستبق القارئ إلى فحوى النص، واستهدافاته، نشير إلى أن بعض ما يشغل العظمة هنا، هو السؤال حول أسباب فشل العقل العربي الحديث في تخليص الجسد الإنساني من الأوهام والمقولات المستبدة به التي تناوبت قمعه على مر التاريخ، لا سيما جسد المرأة بصفته الموضوع المركزي للمخيّلة الجمالية العربية، والمفصول عن الكيان الكلي للمرأة بفعل الإقصاء والإلحاق والتشييء الذي مارسه الكفر القمعي ومجتمعاته المتقادمة ضدها.
فهذه الأنثى المتصورة والمتخيلة، مخلوق برأسين: ملاك وأفعى، لا واسطة أو صلة بينهما. أو حورية وأفعى، هناك الأنثى الأم ضامن الاستقرار النفسي والاجتماعي، ضامن مفهوم الجماعة عبر مفهوم الشرف وإعادة إنتاج الجماعة القيمية، ونرى طبعاً، أن الجماعة إنما هي جماعة الذكور الأشداء الأبطال، يضمن شرفها مخلوق ناقص، هو المرأة! وهذا طبعاً يودي بنا إلى وجه آخر إلى وجه أفعوي فظيع للمرأة، وهذا الوجه الأفعوي هو المخلوقة المتآمرة والمحتالة الشبقة ليلا ونهاراً (دون إذن من البعل أو الوليّ) المتحايلة على القوانين والأعراف، وعلى البعل وبعولة هذا البعل وإخوته وأهله. لدينا هذان التصوران، ونراهما منسابين في كل زوايا الخطاب العربي العالم والجاهل على حد سواء.
ينتمي هذا التصور إلى عالم مخيالي تشاركه فيه صورة المرأة الجميلة في التراث، أو المرأة الشهية، فنراها مركبة من عناصر لو تكاملت بشكل صورة لكانت مسخاً للهيئة الجسدية للبشرية، كما رأينا مسخاً للهيئة الوجدانية.
فالمرأة الجميلة في عرف هذا الوصف (ونحن للمناسبة نرى مجمل هذه العناصر مجتمعة في صورة حورية الجنة) هي من ناحية كاعب، أي ذات نهدين صغيرين، وليس هذان النهدان بنهدي امرأة صغيرة النهدين، ولكنهما نهدا فتاة على عتبة البلوغ، كنهدي عائشة وهي عروس. وهي ذات ردفين يجتمعان في عجيزة فخمة، لعل أبلغ من وصفها هو نجيب محفوظ في معرض كلامه عن الذوق النسائي للسيد أحمد عبدالجواد.
وهي أيضاً، أي هذه المرأة، مثالية الجمال، ذات فخذين لعظمهما عجزت عن القيام أو كادت. لكأنما الرجل المهلوس على هذه الصورة يروم دخول بحر متلاطم الأمواج، وكأن كل ثنية من ثنايا الشحم المترامي تحت الجلد بمثابة رحم مستأنف لرجل طفولي أوديبي على الدوام.
المصادمات التي حصلت في التراث، وعلى الأقل المصادمات التي نعرف عنها شيئاً، كانت حول مواقع موضعية. علينا أن نتذكر أن القيان وبعض الجواري، وخصوصاً غاليات الثمن الفارهات منهن، كن قادرات على إقامة علاقات متكافئة فكرياً وجماعياً مع الرجل. ولكن علينا أن نتذكر دائماً القصور القانوني لوجودهن
ما أعتقده أن كل المصادمات التي حصلت في التراث، وعلى الأقل المصادمات التي نعرف عنها شيئاً، كانت حول مواقع موضعية. علينا أن نتذكر أن القيان وبعض الجواري، وخصوصاً غاليات الثمن الفارهات منهن، كن قادرات على إقامة علاقات متكافئة فكرياً وجماعياً مع الرجل. ولكن علينا أن نتذكر دائماً القصور القانوني لوجودهن. وعلى ذلك فإن الطريقة الوحيدة التي كانت في متناولهن لإقامة نوع من التوازن في العلاقات، كانت عن طريق الإغواء بالمعنى المكيافيلي للعبارة، أي دولة الحريم، وحيز الحريم في الحياة العامة وعلينا أن نستذكر أن العلاقات بين القيان والرجال كانت بالغة الصراحة وكان فيها كلام متطور ونقاش للأدب والجسد والشعر والموسيقى، ولكن الأمر الذي لم يتعرض إلى أيّ مسألة، وهذا ليس مستغرباً على الإطلاق، كان تصور الأنوثة، والدونية الدنيوية التي انطوى عليها هذا التصور، إذن هو تصور قائم على إتاحة المجال لخيال الرجل دون مساءلة. وفي الأحيان القليلة التي حصلت فيها مساءلة على نحو جدي، لم تنته على خير، بل سجّل خطابها وكأنه هجاء للذات، كما حصل في بعض الحكايات البغدادية التي يروي لنا الجاحظ بعضاً منها، كحكاية الجارية التي سلكت مع غلام سلوك اللائط بالملاط به، شهّرت في الأسواق على ظهر جمل، وإن كانت لم تحجم عن الاستمرار في الاعتراض وفي التنديد، وهي مشهّر بها.
فالعنصر الأساسي هنا، في هذا الموضوع، هو أن من المفترض أن يكون تصور الأنوثة ثابتا، ومنه الموضعي المنفعل، والمفعول به رسمياً، حتى لو كانت العلاقات الاجتماعية غير الرسمية تشي بغير ذلك. فإذا كان أيّ خروج على هذه العبارة الرسمية بغض النظر عن تمثيلها أو عدم تمثيلها للواقع المعيش (لأننا جميعاً نعلم موقع النساء وسلطة النساء في العلاقات الاجتماعية الفعلية في البيت، وفي علاقات القوى المنزلية، وهذه العلاقات التي نراها في التعلق المرضي أو شبه المرضي للرجال العرب بأمهاتهم، تماماً كالرجال اليهود) فيجب على هذا الخروج أن يدرج في سجل الاعتبار الثاني لتصور المرأة: وهو المرأة الشر/ والمرأة الفتنة/ المرأة الخراب، المرأة التلبيس على سوية المجتمع. وبالتالي المرأة الخطر.
فإذا لم يكن ممكناً إرجاع صورة المرأة إلى دور “الأنوثة” المنطوي على الإذعان والانفعال، صورت وكأنها إما شيطان وإما امرأة مسترجلة تُغلب تطبعاً إيلاجياً قاهراً مسيطراً على طبع مولج به مذعن. أي أن الخطاب الأدبي والفقهي واليومي عن المرأة نزع عنها إنسانيتها -أي فاعليتها وشخصيتها وكيانها الوضعي- واختصرها في أنوثتها المفهومة على أنها انفعال، ورمى بواقعها إلى حيز ما هو غير طبيعي. ولذا أصبح من الصعب الكلام عن المرأة في واقعها، أو التعامل معها على أساس من هذا الواقع، إلا أن وصم هذا الموقع بالخروج على الأنوثة -أي بما يخيف الرجل الناقص من خشية عدم دوام صورة السيطرة- تصبح المرأة الحقيقية لعنة، أو فتنة أو شيطنة، وكل هذا مواضع للوجل والكراهية.
من نافل القول إن هذه أمور ليست تستقيم إلا بناء على مفهوم مكمل للرجولة، وهو مفهوم بدائي يرى الرجولة مرادفاً للفظاظة والخشونة والنفور من الأدب والفن، ويرى بذلك في علاقة الرجل بالمرأة علاقة تملّك، ومن جهة أخرى علاقة استيلاء واصطياد. وكأن ظاهر التملك هذا هو عين ضمان الرجولة، وكأن ضمان الرجولة لا يتأتى إلى بالجدية البالغة اللاهية عن واقع المرأة المعيش: لا لهو ولا لعب في هذه العلاقة إلا للأنثى (وليس غريباً ضجرها من ذلك الرجل).
فالأنثى وحدها اللعوب دون الرجل في هذا التصور. نحن هنا بإزاء رجل قاصر يحاول استصلاح سلطة اجتماعية في سبيل التهرب من تعامل إنساني ونديّ مع المرأة. هناك نقائض لهذا القصور في الخطاب النسائي حول النساء والرجال غير المدون المتداول حصراً بين النساء (خصوصاً في القرى ولدى بعض النساء الطليعيات والمثقفات) والذي يرشح لنا أحياناً البعض منه. ولذلك فإننا عندما نجد أن كل حركات النكوص الاجتماعي وعلى رأسها الحركات السياسية الإسلامية تجعل من المرأة ومن السيطرة على المرأة عنوان السوية الاجتماعية والصحة المجتمعية وعنوان الوفاء للتراث وللجماعة المتخيلة.
والواقع أن هناك علاقة مرضية بين النكوصية الاجتماعية والأيديولوجية وبين النساء. ومن الطبيعي أننا نرى أن النساء العربيات على مر العصور استثمرن هاتين الصورتين للمرأة لتثبيت وضع اجتماعي مريح في البيت وأيّ أثر كان من النساء على الحياة العامة كان من خلال التأثير عن طريق الرجال، أي عبر أزواجهن وأبنائهن وإخوتهن. وهذا هو ما أعنيه بالضبط بسياسة الحريم. أي ممارسة الأثر في الحياة العامة عن طريق القنوات التي تسمح بها العناصر العلنية في هذه الحياة، أي بتكوينهن جماعات ضغط منزلية، ولو لم يكن بين هذه الجماعات تكامل نسوي يشمل المجتمع، فقد كانت هناك تكافلات أو تعاضدات بيتية. طبعا البيت يشمل أبناء العمومة، إلخ… وهذا، طبعا، أمر كان يجري تبعا لطبيعة المجتمعات العربية الإسلامية القديمة التي لا تتمايز عن غيرها من المجتمعات الوسيطية، بل هي تشترك معها بكونها قائمة على تراتبية اجتماعية معلومة، عبّر عنها الفقه الإسلامي في فصله للقابلية القانونية للأفراد بين الحرّ والعبد والمرأة والرجل، والمسلم والذمي والمستأمن.. إلخ.
ولكن التاريخ قد منّ علينا في القرنين الأخيرين بتصور مغاير يقوم على اعتبار المرأة بوصفها مواطنة، أي دون تمييز قانوني بينها وبين الرجل، في وضع ليس هناك فيه تفريق بين الحرّ والعبد، والمؤمن والملحد. وعلى ذلك فإن سياق المواطنة هو الشرط الأساسي لجعل شخصية المرأة العربية تخرج عن سياق معوقات المجتمعات العربية المتقادمة، وتدخل في سياق الحداثة. في هذا الأمر صعوبات على كل حال، إذ أن هناك تمايزا ولكنه تفاضلي بين الأفكار السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمعات العربية (وأنا أستثني هنا النكوصية الإسلامية) وبين الواقع الاجتماعي المعيش والخطاب اليومي حول المرأة.
هناك تفوق تاريخي للفكر السياسي على الفكر الاجتماعي في حاضر العرب، وهناك تفوق تاريخي لمبادئ التنظيم الثقافي والسياسي العربي على الخطاب اليومي. فنحن نعيش في مجتمعات عربية متفاوتة وتائر التحول، ولو كانت كل هذه الوتائر بالغة السرعة. ونحن نرى اليوم أنه حتى التحول باتجاه النكوص هو بالغ السرعة أيضا. ومن نتائج هذا التفاوت في وتائر التحول تفوّق نسبي لقطاع السياسة والفكر على قطاع المجتمع. ونحن نرى ذلك حتى في الحركات السياسية الإسلامية التي نرى لأنماط تنظيمها عقلانية حركية لا يضاهيها فكر هذه الحركات.
الإسلام والمرأة
الإسلام على شاكلة معظم الأديان، خصوصا التوحيدية منها، يذكر السلطة الإلهية بالسليقة، ويجعل منها سلطة أبوية. ثمة دور بالغ الأهمية، في بعض الأحيان، لشخصيات مقدسة نسائية كالعذراء مريم. ولكننا نرى أن الدور الذي تلعبه العذراء ليس دور المقرر والفاعل، بل هو دور الشفيع. أما ما يقال من أن الإسلام دين تقدمي في تصوره للمرأة ودورها الاجتماعي، فهذا أمر فيه نظر.
أولا: لأن النصوص الإسلامية تقنّن الدونية الدنيوية للمرأة، وذلك كدأب كل المجتمعات السابقة على الحداثة التي تجعل من الصفة القانونية للناس صفة تفاضلية. أي أن هناك حكما للعبد، وقانونا للحر، وحكما للمرأة وقانونا للرجل وحكما للذمي وحكما للمسلم، إن لم يكن في كل الأمور ففي بعضها وبعض إلهام منها (الزواج، الشهادة، الميراث).
ولئن كان الفقه الإسلامي لا يحجر حرية المرأة في التصرف بالممتلكات والأموال الخاصة بها ولا ينيط هذا التصرف بموافقة الزوج (كما الحال في القانون الفرنسي مثلا حتى غير بعيد)، إلا أن هذا -كالمواريث- أمر ذو بواعث دنيوية. وهذان على كل حال يشيران إلى ارتباط الأمور الحاصلة في الماضي بتواريخها. وهذه تواريخ فاتت وتقادمت.
ونحن نرى أن الحديث، والتراث الإسلامي بعامة، يحذر من المرأة، ويقوم عليها حفاظا عليها وعلى غيرها ممن قد تفتن. وإذا استثنينا عادة الوأد عند عرب الجاهلية، فإنني لست على يقين تام بأن ما شرّعه الإسلام المبكّر للمرأة العربية يعتبر بالضرورة أمرا متقدما على ما كان قبل ذلك، خصوصا في ما يتعلق بعلاقتها بالرجل. كما أننا يجب أن نعتبر قوانين الإرث وما إلى ذلك من الأمور التي تمت ليس بأثر من التشريع الديني، بل من ضروريات اجتماعية معينة. وتشير الدراسات التاريخية الأخيرة إلى أن قوانين الميراث الإسلامية المبكرة كانت ذات علاقة وثيقة بالخلاف على إرث النبي، هو دنيوي وليس بالخلاف الشرعي، أو الديني، ولو قنّن بعد ذلك واعتبر شرعا.
النصوص الإسلامية تقنّن الدونية الدنيوية للمرأة، وذلك كدأب كل المجتمعات السابقة على الحداثة التي تجعل من الصفة القانونية للناس صفة تفاضلية. أي أن هناك حكما للعبد، وقانونا للحر، وحكما للمرأة وقانونا للرجل وحكما للذمي وحكما للمسلم، إن لم يكن في كل الأمور ففي بعضها
وعلى ذلك، فإنني أعترض على كتابات بعض التقدميات العربيات ممن يحاولن أن يضارعن الخطاب الإسلامي حول المرأة بخطاب ذي منطوق تقدمي استنادا إلى أقوال معزوّة إلى النبي، وأعمال منسوبة إلى صحبه. أرى أن في ذلك تجاوزا لاعتبار الوقائع التاريخية واعتمادا على عين المصادر الإسلامية القديمة التي لم تعرض، بعد، للتمحيص التاريخي الدقيق، وبالتالي لا يمكن الركون إلى حقيقة ما جاءت به.
ثم إن هؤلاء التقدميات والتقدميين يشرعنون بهذا العمل المنطق النصي للاحتجاج، ومنطق إلزام الاحتكام إلى النصوص الذي يشكل أرضية الخطاب النكوصي الإسلامي. بعبارة أخرى أرى ضرورة الركون إلى واقع كون الماضي ماضيا، وإلى ضرورات الحاضر والمستقبل الموضوعية، بدلا من اعتماد تاريخ فات ومضى، كمحك لسلوكنا اليوم. وعلينا أن نكون على يقين تام بأن ما حدث في مكة والمدينة منذ ألف وأربعمئة سنة أمر ليس على العاقل أن يعتمده في تصور سلوكه اليوم، لتحوّل الدنيا واختلاف الأزمنة ومقتضيات العيش.
ولذلك، فإننا نرى، للأسف، أن هذه الكتابات تقدمية النوايا، تدخل في باب مشروع هيمنة منهج الاحتكام للنصوص، وبالتالي هيمنة من يقوم بالاحتكام للنصوص على نحو أكثر حزما وإحكاما واتساقا. هي تشكل بذلك رديفا ضمنيا لمشروع الهيمنة الاجتماعية والثقافية للإسلام السياسي، ولو اعتبرها صاحباتها وأصحابها من ذوي النوايا الطيبة ضربا من التشاطر على الإسلاميين ومن الفهلوة الفكرية. وفي أحسن الأحوال، نرى في هذه المحاولات عودة إلى قاسم أمين، دون الالتفات إلى أن هذا الرجل، على تواضع ما طالب به، كتب منذ ما يقرب القرن، وأعتقد أنه عليها أن نتحرك بعض الشيء ونتقدم.
إنني أعتقد إذن بالضرورة الحاسمة لإيجاد نص بديل وتام الغربة عن نص النص التراثي، ودون ذلك سنستمر في الدوران في حلقة مفرغة هي حلقة تربيع الدوائر. وأعني بالنص البديل أيّ نص جديد يستشرف واقع الحياة وضرورات المستقبل الذي يجب ألاّ يعتبر محاولة إحياء لماض هو في الواقع قد فات. نص يبني نفسه، ولا يحاول أن يلزم القرآن والحديث بما لا يمكن أن يقويا على قوله، أو الذهاب إلى أن القرآن ما عنى ما يقول، أو أن نص القرن السابع قادر على أن يتكلم بلسان القرن الحادي والعشرين.
شرف الرجولة
منذ أيام محمد رشيد رضا (بعد انقضاء فترة استنارته وتتلمذه على محمد عبده) جعل الإسلاميون من قضية المرأة المسألة المحورية لإدارة الصراع الاجتماعي والفكري، فصارت قضية المرأة وحقوقها وتحررها الاجتماعي والفكري والسياسي والجسدي كناية -وأعني كناية بأكثر المعاني صرامة- عن مجمل المجالات الأخرى في الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين. فباستشارة قضية المرأة يصار إلى استدعاء جملة أوسع كثيرا من القضايا الخلافية في المجتمعات العربية، وعلى رأسها مرجعية السلوك الاجتماعي والسياسي. ولذلك فإننا نرى أن الحجر، بأشكاله المختلفة، على المرأة وحركتها، والتشديد على الحجاب، والفصل بين الجنسين في المعاهد والمسابح وأماكن العمل يعتبر لبنة أساسية، أو بالأحرى اللبنة الأساسية للمشروع الاجتماعي والفكري الإسلامي. إذ أن رؤية المرأة المغلقة على جسدها الضامنة لشرف رجلها ورجولته يعتبر على الصعيد الرمزي التعبير عن مجمل النواحي الأخرى من المشروع السياسي والاجتماعي الإسلامي، وأن تنفيذ عملية الحجر الرمزي هذه، إنما هي دوما المحطة الأولى والأخيرة للتأكيد على مدى نجاح هذا المشروع بالنسبة إلى أصحابه. ذلك أننا نرى فئات اجتماعية مدينية أو قريبة التمدن قد رُمي بها من بنى اجتماعية صلبة نسبيا إلى فضاء من التخلخل الاجتماعي والاقتصادي، مما لا يترك لبعض هؤلاء الرجال ذوي الشخصيات غير القوية كفاية من مجال للتأكيد على تماسك كيانهم إلا مفهوم متخلف للرجولة قائم على دونية المرأة، مهما كانت هذه الدونية خداعة أو مقنعة للواقع.
من نافل القول إن العلاقة بين الأصولية وبين الكبت الجنسي علاقة قوية ومباشرة، علاقة تضافر يصار فيها إلى إزاحة الرغبة الدنيوية وإعلائها إلى تجريد لاإنساني.
ويذكرني هذا الموضوع بفيلم سينمائي أعتبره أروع أفلام فليني الراحل، وهو فيلم واقعي أبيض وأسود أخرج أوائل الخمسينات تحت عنوان I VITELLONI (أي العجول)، ويحكي قصة رجل صقلي (أيّ رجل من مجتمع مضارع لمجتمعاتنا العربية) أغوى ابنته أحد الأشقياء فحملت منه، ونقضي بقية الفيلم مع هذا الأب الصقلي وهو يرتّب الوضع في البلدة بحيث يظهر أن ابنته شريفة ونقية وفي النهاية ينجح في فبركة هذا الوضع، وهو عارف، والقرية، كلها عارفة أن هذه المظاهر كاذبة، ولكن البلدة بأكملها تعاونت في هذا الأمر، وتواطأت مع الأب. والواضح هنا أن “شرف البنت” كان يحمل دلالة رمزية تعني القرية بأكملها. وهي كذلك في بعض قطاعات المجتمع العربي. وهي مستجدة في قطاعات الخيال الاجتماعي المستحدثة القائمة تحت عنوان الشريعة، التي قد لا تذبح الأخت السائبة بل تروم رجمها ولو رجما رمزيا، وهي تقوم بالرجم الرمزي لأكثرية المجتمع غير المنتمي إلى مجال خيالها الشرعي.
لوحة: سارة شمة
أنوثة وذكورة
لا أعتقد أن ثقافتنا العربية المعاصرة بلورت خطاباً حول الأنوثة. هناك صوت أنثوي، وهناك خطابات كثيرة ذكرت، وأخرى انثنت، وقد قدم لنا جورج طرابيشي دراسة ممتازة للعلاقة بين التأنيث وتصوّر الغرب لبعض النصوص الروائية.
والذي يبدو أن التذكير والتأنيث كالأبيض والأسود، واليمين والشمال والفوق والتحت إحداثيات ذات دلالات رمزية كبيرة في كل الثقافات. وقد قرأنا نصوصاً كولونيالية أوروبية تنتمي إلى القرن التاسع عشر نرى فيها تذكيراً للذات الكولونيالية القاهرة الفاعلة، وتأنيثاً أو تخنيثاً للذوات المستعمرة والمقهورة والمفعول بها.
ثم نحن نرى في الخطاب الأيديولوجي المعاصر، خصوصاً خطاب الأصالة، فعلاً أساسياً لعمليتي التذكير والتأنيث هذه، بحيث تبدو “الذات” العربية، أو الإسلامية عند البعض، مذكرة مبدئياً، ومؤنثة في واقع الأمر، أو مخنثة في أحسن الأحوال، إن اعتبرنا الذكورة مرادفة للفعل دون الانفعال بقاهر غربي.
لذلك أعتقد أن من الأجدى أن نتكلم حول التذكير والتأنيث ومجالات الفعل الخطابية والرمزية لهاتين العمليتين بدلاً من الكلام حول مفاهيم قارة للذكورة والأنوثة. ولكن لو أردنا أن نتطرق إلى الممارسة الاجتماعية أو الوجود الاجتماعي لمفهوم الذكورة والأنوثة، فهذا ينقلنا إلى مجال آخر.
هناك الكثير من الخطابات العربية المعاصرة التي تتناول قضايا متعلقة بالأنوثة، ولكنها ليست خطابات نسوية أو أنثوية، بل هي خطابات اجتماعية تتعلق بواقع المرأة والأنوثة، خصوصا بقصورها القانوني في ما يختص بالأحوال الشخصية، وليس هذا بالخطاب النسوي أساسا ولا بالضرورة، كما ليس فيه تصور للأنوثة ولا للرجولة، بل هو خطاب أعتقد أنه أساسي وبالغ الأهمية يتعلق بحقوق المواطنة، أي بضرورة اعتبار المساواة الحقوقية والاجتماعية لجميع المواطنين بغض النظر عن جنسهم ودونما استثناءات. ولذلك هناك خطابات، ولو خفتت أصوات بعضها، تنادي بمزيد من التقدم في إصلاح قوانين الأحوال الشخصية، واستكمال رفعها من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. بل نرى أن الكثيرين يعتقدون، أو على الأقل يقولون إنهم يعتقدون أن قانون الأحوال الشخصية التونسي (وهو على علاته الأكثر تقدما في عالمنا العربي) هو سقف ما تجب المطالبة به. وأعتقد أن ذلك إجحاف منهن بحقهن وبحقوقهن المنشودة، بل الضرورية التأسيس وإن كان لنا أن نبني مجتمعات متكاملة وحديثة وقابلة للديمقراطية، ذلك أن الديمقراطية يجب أن تبتدئ في الخلية الاجتماعية الأساسية التي هي الأسرة.
ثمة هناك خطابات نسوية عربية: خطابات أنثوية غير مدونة ومتداولة شفهياً. وخطابات نسوية تحريضية مكتوبة ومتداولة. وهذه الأخيرة على أهميتها وفائدتها في مجال التوعية والإعلان عن وقائع ونتائج الدونية الاجتماعية للمرأة، وصفاقة وحتى همجية العلاقات الاجتماعية البطريركية، إلا أنني أرى أنها فكرياً -أي في مجال التحليل الاجتماعي والنفسي والسياسي- ضعيفة نسبياً بل وساذجة أو حتى بدائية في بعض الأحيان.
ريادة الرجل خطاب تحرر المرأة
هناك خطاب نسائي عربي قويّ وفعّال، وهو خطاب أدبي في المصاف الأول، وأذكر على سبيل المثال اثنتين من أعلامه هما غادة السمان وليلى بعلبكي. ليس هذا الخطاب خطاباً نسوياً بالضرورة، بل هو صوت نسائي، أو أنثوي، يؤنسن المرأة بما يضاف على كونها أنثى. وهو خطاب يخرّب خطاب الأنوثة المطلقة، تتبدى فيه الأنثى كائناً فاعلاً، فاعلاً في سلوك وشخصية وثورة في بعض الأحيان، كائناً واعياً سخّف معظم الرجال حولها ممن يتمنى لها الأنوثة المطلقة ولنفسه الذكورة الصرفة. وفي هذا الخطاب إفصاح عن الواقع الاجتماعي والإنساني الذي ليس بجدي أبداً، بل هو إخراج إلى العلن والتداول لما هو مضمر. أرى مذكرات فدوى طوقان مثلاً جيداً آخر على ذلك.
ولكنني أعتقد في النهاية أن الصوت الرجولي أكبر وقعا وأكثر إقناعا للكافة. ذلك أن اعتقادا مازال سائدا (وهو اعتقاد سلوكي وحياتي، وليس فكريا بالضرورة) يرى أن للمرأة في المجتمع حيزات معينة كالقيام على البيت والخياطة والسكرتارية والتدريس (الابتدائي خصوصا) وكتابة روايات الحب وتذوق شعر نزار قباني. ونرى تلك القناعة السلوكية مترجمة في سياسات المؤسسات والاتحادات الرسمية للمرأة في الدول العربية المختلفة، ومنها الدول اللادينية، حيث تقتصر فيها برامج التأهيل المهني على حرف كالخياطة والتطريز والسكرتارية، وشيء من التمريض، وما أشبه من الحرف “اللائقة” بالسيدات.
الخطاب التحرري النسوي
الثورات ليست بالضرورة حركات كليّة. وحتى لو نظرنا إلى المجتمعات المتقدمة، فإننا نرى أن قطاع الراديكالية النسوية مازال قطاعا هامشيا، ولو أن له مواضع مؤسساتية هامة، في إطار ما يدعى في الولايات المتحدة بـ”التعددية الثقافية”، فيصار إلى اعتبار النسوية وكأنّها شأن مضارع ثقافيا للوحدات الإثنية المختلفة، أو الفرق الدينية، أو الجماعات القائمة على المثلية الجنسية، ويصار بالتالي إلى إقصاء هذا الخطاب عن التيارات المركزية الفاعلة في المجتمع، ويصبح تأثيرها في ذلك، بمثابة التأثير لا في الحياة اليومية، بل عن طريق مقايضة الامتيازات والحقوق، كما تقايض بها جماعات الضغط على أساس من الحصصية المؤسسية، وليس على أساس من الاندماج في نسيج المجتمع.
أما لدينا، فما زلنا نعاني من درجة عالية من التخلف الاجتماعي والمؤسسي، مما لم يسمح، حتى الآن، بتبلور جماعات ضغط فعلية، ناهيك عن جماعات الضغط التي تستند إلى اعتبارات نسوية، وبالتالي فإذا كانت صورة المرأة في الغرب هي نظير صورة الآخر… فإن المرأة العربية هي آخر الآخر.
ولكن طبعا، ليس هناك شك في أن خطابا نسويا ما من قبل النساء يبث في أطر اجتماعية متميزة يعتبر حينها علامة على تميز اجتماعي مضاعف.
ولكن كان في الحياة العربية الحديثة خطاب نسائي تحرري قام في الحركات اليسارية، وخصوصا الماركسية منها، إلا أن مصير هذا الخطاب اندرج في مسار الحركات، ولا ينفصل عنها سياسيا ولا اجتماعيا، علما أن هذا الخطاب قام في إطار منظمات سياسية آل فيها، في كثير من الأحيان، دور الرفيقات إلى صنع القهوة والشاي، ولو أنه في أحيان أخرى أدى إلى انعتاق فعلي لبعض النساء وبعض الرجال ولقيام علاقات سوية، بقيت هامشية على مستوى المجتمع الأوسع.
حركة التفكير النقدي الحديث، بل والتحديثي، استبعدت قضية المرأة إلى حد كبير، ولو أشارت إلى ضرورة تنمية نصف المجتمع بما هي ضرورة أخلاقية عامة، ولكنها ظلت مستبعدة من التحليل والنقاش العيني للواقع، لأن الفكر التحديثي العربي الحديث، وخصوصا السياسي منه، قد جفل أمام حقائق التخلف الاجتماعي، ولم ينتقد إلا في صورة الشعارات والعناوين العامة، أو ما أراد في معظم تياراته أن يبرز أولوية التحول الاجتماعي الشامل، ومحور هذا التحول الشامل هو تحرر المرأة، لأن مقياس تقدم الأمة هو تحرر المرأة فيها.
فالمرأة عقدة عقد المجتمع. يرتبط هذا الأمر بوجل مرضيّ في الثقافية العربية الحديثة تجاه أركان التخلف الاجتماعي، وتسامح بالغ مع من يتباهى بمظاهر التخلف كالحجاب، باسم الأصالة والديانة. ونجد حتى نصيرا كبيرا للمرأة مثل محمد أمين بيهم، وهو زوج نازك العابد (الوحيدة التي بقيت من فلول العساكر والرجال العرب لمعالجة يوسف العظمة في جرحه في معركة ميسلون) قد أفصح عن الضرورة الظرفية لتغييب قضية المرأة من واجهة العمل الفكري والوطني بحجة عدم الإجماع الاجتماعي عليها في فترة حصار وانتداب أجنبيين.
أما في نظري أنا، فإنني أعتقد أن أيّ نهوض بالمجتمعات العربية، وأيّ مقاومة لعمليات السلب والسيطرة الأجنبيتين يجب أن يستندا إلى نهوض اجتماعي شامل تشكل قضية المرأة ركنا أساسيا فيه.
لكن ما حصل، عمليا، هو تأجيل هذه القضايا الأساسية بحجة ضرورات الظرف، عقدا بعد عقد إلى ما وصلنا إليه اليوم. فقد كان همود التحديثيين في ما يختص بإحياء المجتمع، وإحياء نصفه أمرا ساهم مساهمة أكيدة في إيجاد خلاء فكري ملأته الدعوات النكوصية.
وكمثال، فإن قضية نظيرة زين الدين استوعبت كليا في إطار الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، بل وفي إطار حاول فيه الدينيون أن يلغوا ما قالت به نظيرة، وذلك بإدراجه، على صورة كلية في خانة الخطاب الكولونيالي. وهذا أمر بالغ الحساسية لدينا. وعلينا في اعتقادي ألا نفزع من تهمة التغرّب فأنا لا أعتقد أنها تهمة. ليس فقط لأنني لا أرى في الغرب نموذجا، أو لأنني أرى الخطاب الغربي في الحريات خطابا أصبح عالميا، بل أيضا لأنني أرى أن هذا الخطاب ليس حكرا على الغرب، ولو كان نشأ في الغرب، فهو خطاب عالمي إنساني نشترك فيه، دون أن يعني هذا الاشتراك على الإطلاق بأننا مرتهنون بالظروف الغربية الآنية التي قد ينتج بعض هذا الخطاب فيها.
بعبارة أخرى، لا أرى في الغرب، وفي الخطاب الغربي سقفا لخطاب الحريات، أو وعاء شاملا له. بل إن الواضح هو أن الخطاب الغربي في الحريات، في معظم الأحيان، يقتصر تطبيقه الغربي إن تم ذلك على الغربيين وتستثنى منه الشعوب الأخرى التي يصار إلى اعتبارها على أنها متخلفة بالسليقة وبالطبيعة، وبأن المجتمعات العربية، على سبيل المثال محكومة بسقف تاريخي هو التجربة الإسلامية المبكرة.
مما يفيد بالنسبة إلى أصحاب هذا الخطاب الحصري للحريات بأن الشكل السياسي والاجتماعي المناسب لنا هو ما قد تتفتق عنه مخيلة السلطة الشاملة للإسلاميين. ونرى هنا محطة أخرى من محطات اللقاء الموضوعي بين الخطاب العنصري في الغرب، وبين توصيف الإسلاميين لنفسهم وأصالتهم المزعومتين.
أما سبب استثناء الصوت النسائي من مجال التداول العام، فهو يعود إلى ما أسلفت القول فيه حول قصور الفكر التقدمي العربي عن مجابهة التخلف الاجتماعي، وعلى إيلاء العادات الاجتماعية الصوت النائي موضعا هامشيا، أي موضعا آخر، لا مجال له في هذا التصور إلا في “حديث النسوان”.
أما المقبول في حديث النسوان هذا لدى الكافة، فهو الكلام الرسمي عن الحب ولوعته وناره كما تتغنى به أم كلثوم وغيرها (وهذا كلام أقوله رغما من متعتي بالاستماع إلى أغانيها) من كلام يرضي الرجال المتخلفين في وجدانهم، كلام فيد للاحتباس الأنثوي والتعبير عن الرضا بهذا الاحتباس وإعلائه إلى ذرى روحية.
بذلك تصبح أم كلثوم معشوقة وأمّا في آن. ولعل المبيعات الضخمة لشريط فيروز الأخير “كيف إنت” -وفيه بعض أجمل أغاني الحب العربية- يدل على شيء من التقدم الاجتماعي الذي يشي به وضوح الصوت الأنثوي في هذه المجموعة.
اللغة والجنس
أعتقد أن كل اللغات تساوق تطور (أو نكوص) حركة المجتمع. وأتكلم، طبعاً، حول حركة المجتمع على الآماد الطويلة. لا أعتقد -إجابة على سؤالك- أن أيّ لغة قادرة على مقاومة صياغة الخطاب العلمي بها، إن كان هذا الخطاب قد تأصل في مؤسسات الفكر التي تستخدم هذه اللغة. وأرى ذلك، حسبما أفهم من العارفين في التحول البالغ الذي طرأ على اللغة العبرية (وكانت لغة عبادة صرفة في نصف القرن الماضي)، وبالمعنى نفسه، لا أرى أن أيّ لغة غير قابلة في جوهرها لصياغة أيّ خطاب كان ومن ذلك خطاب التحرر والمساواة وغيرها من الخطابات. ولذلك، فإني لا أرى في اللغة العربية أيّ مواضع تتعالى على التاريخ، وعلى الواقع. وبذلك تكون قادرة على صياغة خطاب مساواتي إن تجذّر في مؤسسات الفكر والمجتمع. لذلك أرى ما يحدث في الولايات المتحدة شأناً مضحكاً عندما يصار إلى سن قوانين تتعلق بنزع صفة التأنيث أو التذكير عن بعض العبارات، مثل رئيس الجلسة أي تحويل (CHAIR WOMAN) إلى (CHAIR PERSON) ولا أرى في ذلك إلا نوعاً من القسر غير الطبيعي للغة، ولو أنني لا أستبعد أن يكون لهذا العمل بعض النتائج الإيجابية على المدى القصير فقط.
أعتقد أن أيّ نهوض بالمجتمعات العربية، وأيّ مقاومة لعمليات السلب والسيطرة الأجنبيتين يجب أن يستندا إلى نهوض اجتماعي شامل تشكل قضية المرأة ركنا أساسيا فيه. لكن ما حصل، عمليا، هو تأجيل هذه القضايا الأساسية بحجة ضرورات الظرف، عقدا بعد عقد إلى ما وصلنا إليه اليوم
تصور ما سيحدث إن حاولنا تذكير الذبابة والأفعى والعنكبوت توخياً لعدم تحقير المرأة، أو تأنيث ابن آوى أو الصرصار (تجدر الإشارة إلى أن اللفظ العربي القديم للصراصير كان “بنات وردان”) توخياً الانتقام منها.
ثم إن في نزع الصفة الجنسية عن العبارة نوعا من رفض. وهو رفض تحقيري للنعت المؤنث لهذه العبارة فإن كان ولا بد، لا مانع من أن تترأس الجلسة سيدة تدعى (CHAIR WOMAN) أو السيدة رئيسة الجلسة. المقصود في أميركا هو “موضعة” رئاسة الجلسة، ولكن هذا أمر ممكن إن نزع عن التذكير والتأنيث الحكم التفاضلي. وليس غريباً هذا الأمر في أميركا على كل حال حيث القسر التشريعي أمر مألوف.
دعوني بالمناسبة أن أضيف ملاحظة أو ملاحظتين حول النسوية الأميركية وما شاكلها أو تأثر بها في أوروبا وغيرها. ويبدو لي أن سمة تكاد تغلب على هذا الخطاب النسوي هي سمة طهرانية غير تحررية قائمة على اتقاء الرجل، سمة تقدم نقداً أخلاقياً للرجل بوصفه منحطاً بالسليقة، هو خطاب ذم للرجل ومساجلة له وهو خطاب يشبه ما كان متداولاً في الأوساط الأخلاقية البرجوازية المحافظة في أوروبا وأميركا (البروتستانتينية على وجه الخصوص) منذ أكثر من نصف قرن. بل نرى في هذا الخطاب تشديداً على عفة المرأة وغياب هذه العفة عند الرجل، وكأننا بموازاة الخطاب الإسلامي الذي يعزو العفة للرجل والشبق المنحل للمرأة. ثم إن المنتهى العملي لهذا الخطاب – في أميركا خصوصاً- يستتبع (كالإسلام) إقامة العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس تقنين حقوقي ينطوي على ذكورة متخيلة وأنوثة هي الأخرى بدورها متخيلة، تقنين يشدد على ضرورة قمع حيز العلاقة بين الجنسين، باسم سد ذرائع التحرش العفوية (على أهمية احترام الجنس للجنس الآخر، وعلى سماجة وفجاجة ما هو معهود من التحرش).
خطاب الجسد
ليس غريبا ألاّ يكون ثمة خطاب يتعلق بالجسد، ولو كانت هناك خطابات كثيرة في التراث العربي والتراث الإسلامي تتناول بعض فاعليات الجسد وأعضائه. هناك في المصاف الأول الخطاب الفقهي الذي يقنن علاقات الأعضاء المختلفة بما عداها من الجسد.
وهناك خطاب حكائي تهييجي يتناول علاقة أعضاء جسد بأعضاء جسد آخر. وهناك أيضا خطاب فقهي بالغ السعة في هذا المضمار. ولكن الجسد كوحدة متكاملة، ما كان موضوعا لخطاب متكامل، ولو كان كلّ من أعضاء هذا الجسد وأطرافه ومواضعه وحيّزاته مواضيع الخطاب أكان خطابا فقهيا أو خطابا بصاصا. بذلك يقتطع الجسد إلى مناطق ويقنن إما عن طريق مفاهيم فقهية، أو عن طريق مناطق غير مترابطة للرؤية وللفعل (مثال ذلك ما أسلفته حول نموذج المرأة الجميلة الشهية في التراث، ووصف تسمية أعضاء المرأة الجنسية استنادا إما إلى شكلها أو حجمها، أو الصوت الذي تصدره عندما تخضع لعمليات شتى).
يستثني هذا الخطاب مفهوم اللذة بالمعنى الفعلي للعنوان. لأن اللذة يستعاض عنها في هذا الخطاب بمراقبة الممارسة التامة السيطرة على الجسد المتخيل للآخر. ونحن نرى بذلك كيف يرتبط هذا التصور البلاستيكي البحت للجسد بمفاهيم الجمال التي سبق وتكلّمت عليها. فالرجال في الجنة لا يرغبون ولا يرتوون. بل إنهم يراقبون أنفسهم، فاعلين في موضوعات للفعل، هي تلك الأصنام المصنوعة من المسك والعنبر ذات النهود الكاعبة والأرداف الضخمة التي تسمى بـ”الحوريات”.
وهنا أذكّر بالحديث الذي يعزو للنبي إجابة حول كيفية نكاح الناس في الجنة على أنه “لا منيّ ولا منية دحما دحما”. وهذا تمنّ نرجسي ساذج من قبل واضعي هذا الحديث، مع التشديد على أنني لست ضد النرجسية فهي، ضمن حدود، حق طبيعي للجميع، بغض النظر عما إذا استحقها أصحابها أم لا. ولكنني أشدد على سذاجة هذه النرجسية المبتغاة، وكونها ضربا من حلم يقظة بصاص الطابع، كأن يبصبص الرجل على نفسه وهو يمارس فعلا مطلقا، أي ذكورة فجة صرفة بالمعنى الذي أسلفت.
أما الوصف المجازي لصلة المحبّ الصوفي بربه، فهو جماع خطاب الشهوة واللذة بمعناه الحقيقي. أما لماذا أزحنا الرغبة عن موضعها فهذا شأن يتعلق بتدين المخيلة. وفي هذا الوجد الصوفي جمالية مرهفة وشاملة لكيان المحب والمحبوب في آن، ومجال للاجتماع بين شبق الشهوة ولذة الوصال وتحقق هذه اللذة. في هذا الوضع ليس الاغتلام إلا عرضا حدثيا بينما هو في وصف الجنة محور لذة الانتشاء بالتفكير في مشهد مقدرة النفس على الإنعاظ الأبدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عزيز العظمة أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة أكستر. صوت جريء، غنيّ عن التعريف لجلّ القراء المهتمين بقضايا التراث والإسلام والحداثة، وهو صاحب جولات في الجدل حول المسائل المثارة والمطروحة في الحياة الفكرية العربية. وهذا النص الإشكالي المنشور هنا بقلمه كتبه أساسا بصوته في جلسة بيننا تركّزت حول عدد من التساؤلات المتصلة بموقع الأنوثة من الثقافة العربية، ولئن اتخذ النص شيئا من صفات المقال، فذلك بفضل عودة العظمة إلى قوله بشيء من المراجعة والتنقيح.
يجتهد النص هنا في محاولة الإجابة عن طائفة من الأسئلة الحارة المتعلقة بقضايا الأنوثة والمرأة والتخلف والحداثة والسلفية وظواهر النكوص الفكري والاجتماعي.
ومن دون أن نستبق القارئ إلى فحوى النص، واستهدافاته، نشير إلى أن بعض ما يشغل العظمة هنا، هو السؤال حول أسباب فشل العقل العربي الحديث في تخليص الجسد الإنساني من الأوهام والمقولات المستبدة به التي تناوبت قمعه على مر التاريخ، لا سيما جسد المرأة بصفته الموضوع المركزي للمخيّلة الجمالية العربية، والمفصول عن الكيان الكلي للمرأة بفعل الإقصاء والإلحاق والتشييء الذي مارسه الكفر القمعي ومجتمعاته المتقادمة ضدها.