رسلان عامر
كاتب
الحب!
الحب بين الرجل و المرأة!
لعلها على مر العصور و في مختلف الحضارات الكلمة الأكثر ترددا على ألسنة الناس، و الفكرة الأكثر إلهاما لخيالات الفنانين و الأدباء و المفكرين!
إنه فطرة فينا، وعامل جوهري في تكويننا الوجداني، وهو الشعور الأكثر حرارة و سحرا، و القوة الخلاقة التي تجعل وجداننا يتألق و يتوهج، و يشع بضوء إنساني مشرق، فنرى في رُوائه العالم في صورة مختلفة، صورة يصبح فيها لوحة إبداع كوني حية، مزينة بأبهى و أحلى الألوان، و معطرة بأشذى العطور، وغنية بأجمل و أنبل المعاني.
إنه حالة قد يحياها الإنسان البسيط في أكثر أشكالها بساطة و عفوية و قربا من الطبيعة، و قد يحياها الفنان أو المفكر أو العالم و أمثالهم، فتأخذ لديهم أبعادا و مضامين و تجليات مختلفة، و تدخلهم إلى آفاق و رحاب و أعماق غير مسبوقة، ليكتشفوا من خلالها معان جديدة للحياة و الوجود، و يدركوا عبرها ذرا أعلى في مراقي الذات الإنسانية.
لكن الحب ليس حالة منفصلة يحياها الإنسان بمعزل عن ثقافته و بيئته الاجتماعية، و لا هو شكل موحد يختبره الناس رغم اختلاف العصور و الظروف و الوقائع، فالحب يتداخل دوما- فاعلا و منفعلا- مع العناصر الأخرى المكونة لكل من الذات الفردية و البيئة الاجتماعية، و المؤثرة فيهما، و هذا يدفعنا للسؤال عن طبيعة الحب، و أسبابه، و علاقته بالعوامل الفاعلة الأخرى في كل من الفرد و المجتمع.
و ربما يكون من أكثر هذه الأسئلة إلحاحا، الأسئلة عن علاقة الحب و الجنس، وعن طبيعة الحب بحد ذاته، و دور كل من المحب و المحبوب في نشوئه، و تأثير الظروف و العوامل الموضوعية المحيطة عليه، وهذا ما سنذهب إلى النظر فيه في الفقرات التالية.
1- العلاقة بين الحب الجنس:
إن ما يجمع الحب و الجنس هو كون كل منهما دافعا طبيعيا جوهريا يدفع كلا من المرأة و الرجل نحو الآخر، و في تفسير العلاقة بينهما تختلف المواقف بين من يطابق و من يميز بينهما.
فبالنسبة للمطابقين، يـُنظر إلى كل من الحب و الجنس كمظهرين لنفس القوة الدافعة نحو الجنس الآخر، فيفسر الجنس بأنه تمظهر لهذه القوة على المستوى الجسدي الحسي، فيما يفسر الحب بأنه تمظهرها على المستوى العاطفي الشعوري، و هنا يصبح من الوارد الكلام عن:
- حب جسدي، وهو الجنس.
- حب رومانسي، و هو الحب العاطفي.
و يصبح من الممكن في هذا السياق الكلام أيضا عن:
- حب عقلي، وهو الإعجاب أو التقدير.
لكن هذه العلاقة الخطية التسلسلية المترابطة بين الحب و الجنس، يمكن مقابلتها بعلاقة أخرى، يمكن وصفها بأنها علاقة استقلال و توازٍ و تفاعل، و فيها ينظر إلى الحب و الجنس كقوتين مستقلتين متمايزتين.
في هذه المقاربة ينتمي الجنس إلى الجانب البيولوجي الغريزي في تكوين الإنسان، و فيه يتشابه مع الكثير من أنواع الحيوانات المتطورة و في طليعتها الثدييات، و هو هنا نشاط جسدي متشابه في شكل أدائه و وظيفته البيولوجية عند كل من الإنسان و هذه الحيوانات.
لكن هذا لا يعني بتاتا تطابق النشاط الجنسي عند كل من الإنسان و الحيوان، فهذا النشاط هو عند الحيوان نشاط طبيعي روتيني محض، و كل الحيوانات المنتمية لنفس النوع كانت و ما زالت تقوم بنشاطها الجنسي و غير الجنسي منذ نشأت على الأرض وحتى الآن و في مختلف بقاع الأرض بنفس الشكل، و بدون أي تغير أو تطور.
أما الإنسان فهو كائن جد مختلف! فهو ليس مجرد كائن طبيعي، بل كائن اجتماعي و ثقافي و تطوري، وهو ليس مكونا من بنية فيزيولوجية و حسب، بل لديه بناه السيكولوجية و العقلية و الروحية، ومع أن شيئا من السيكولوجيا و الذكاء يتواجدان بدرجة أو بأخرى عند هذا النوع أو ذاك من الحيوانات، إلا أن وجودهما بدائي و جد محدود، و لا يلعب أدوارا جوهرية في حياتها كما هو الحال عند الإنسان.
الجنس عند الحيوان يقوم على الليبيدو المحض، أما عند الإنسان فيتداخل الليبيدو الغريزي الفيزيولوجي مع السيكولوجيا و الفكر و الثقافة و غيرهما من العوامل الذاتية و الموضوعية ليشكل شكلا آخر للجنس، شكلا يمكننا تسميته بـ "الأيروس".
و في الوقت الذي يتمظهر فيه الدافع الجنسي عند الحيوان كليبيدو جسدي غريزي و حسب، فهو عند الإنسان يتمظهر أيضا سيكولوجيا و فكريا على مستوى الفرد، و ثقافيا على مستوى الجماعة، ليعيش الإنسان حياته الجنسية بشكل تتفاعل فيه عواملها الجسدية و السيكولوجية و الفكرية الذاتية، و تؤطرها النواظم و الضوابط الثقافية و الاجتماعية الموضوعية.
و بينما يحافظ الحيوان تماما على شكل أدائه الجنسي البسيط و العفوي، نجد الإنسان بشكل مستمر يغير و يطور نشاطه الجنسي و مواقفه من الجنس، و يكوّن تقاليد وعادات و أعراف، بل و فلسفات و معتقدات جنسية متغيرة في الزمان و المكان و الظرف، فتارة يوضع فيها الجنس في مكانه الطبيعي المعتدل، فيما يرفع تارة أخرى إلى مستويات عالية من التبجيل و الاحترام، بل وحتى التقديس أحيانا ليصل حالة ما يسمى بـ"الجنس المقدس"، و لكن بالمقابل يمكن أن يـُحـَطـّ قدره و مكانته ليـُرى فعلا دنسا نجسا حقيرا، و يتم التعامل معه كشر لا مفر منه؛ هذا إضافة إلى أن التقاليد البشرية تنتج باستمرار تغيرا و تعددا في أشكال الجنس المشروعة على مدى التاريخ و امتداد الجغرافيا.
في كل هذا و ذاك و ذلك، الحب له موقعه المستقل، فهو لا ينتمي إلى المجال الفيزيولوجي، و لا إلى المجال الشهواني، اللذين ينتمي إليهما الجنس على امتداده من الليبيدو إلى الأيروس، فالحب ينتمي إلى المجال العاطفي و الشعوري عند الإنسان، وهذا مجال إنساني بامتياز يتميز فيه الإنسان عن سواه من الكائنات، لكنه أيضا مثل الجنس ليس منفصلا عن الفكر و الثقافة و الظروف المحيطة، كما أنه بدوره متداخل و متفاعل مع الجنس.
2- العلاقة بين الحب و الجنس و الثقافة:
العلاقة بين هذه الأطراف الثلاثة وثيقة و قوية، فالثقافة تؤثر مباشرة على كل من الحب و الجنس على حدة، و تؤثر بشكل غير مباشر في التأثير المتبادل بينهما، وقد تم التطرق أعلاه إلى تأثير الثقافة المحيطة على الجنس، وهي تؤثر تقريبا بنفس الآلية على الحب، فقد تضعه في موقع وسطي مرحبا به، وقد ترفعه و تعظم شأنه، و قد تعيبه و تسفهه، بل وحتى تحاربه! و في ثقافتنا العربية لدينا صورة جد متدنية و مأزومة للجنس، لكن وضع الحب ليس أحسن حالا، فبالرغم من كثرة ما لدينا قديما و حديثا من قصص الحب، و أشعاره و أنثاره و أغانيه، وما شابه، فما تزال حتى اليوم علاقة الحب العاطفية مرفوضة غالبا، و مقرونة بالعيب و الشذوذ في معظم مناطق عالمنا العربي! فالعلاقة بين الجنسين بكل أبعادها ما تزال لدينا محكومة بأقسى التابوهات غير السوية.
إن تأثير الثقافة على كل من الحب و الجنس- كما سلف القول- ينعكس بشكل جوهري على العلاقة بينهما، ففي البيئات المحافظة عموما، التي يقيد فيها الجنس بقيود صارمة، و التي غالبا ما تحاصر الحب نفسه بنفس الدرجة من الحظر و التقييد، يجد الحب بالرغم من ذلك مجالا أوسع للحضور من البيئات المتحررة، التي تضعف فيها القيود و الحدود الجنسية، فينمو فيها الشكل الاستهلاكي للجنس و يتصدر المشهد على حساب كل من الحب العاطفي و أشكال الأيروس الراقي المرتبطة بنظم ثقافية و دينية محافظة محددة، كما هو الحال مثلا لدى بعض المذاهب الهندية و التبتية و غيرها، حيث يعطى للجنس صفة المقدس.
و في علاقة الحب و الجنس، و وفقا للثقافة المحيطة بهما، و تداخلات العوامل الذاتية و الموضوعية في محصلتها على مستوى الفرد، قد نجد التوافق و التكامل، أو التعايش، أو قد نجد التضاد و التنافي! ففي حالة ثقافية تنظر إلى الجنس كنشاط دنيء و منحط، سيجد الحب نفسه تلقائيا في موضع تضاد مع الجنس، و ستتعالى نظرة المحب إلى المحبوب عن المستوى الجنسي، وهنا قد يحدث صراع بين هذين الدافعين يزعزع الاستقرار الداخلي للشخص، أو ربما تضعف الشهوة الجنسية تجاه المحبوب، و قد تضمحل مع تنامي الحب؛ و هذا أيضا ممكن الحدوث أحيانا حتى في حالة نظرة طبيعية سليمة، بل و حتى إعلائية للجنس، فمن الممكن أن تحدث حالة من التسامي العاطفي إلى درجة التجاوز الجنسي! لكن في الجهة المقابلة، يمكن أن نجد حالات مختلفة، يتكامل فيها الحب و الجنس، فيرقـّي الحب أو الثقافة، أو كليهما معا، الجنس ليعطيانه صفة العلاقة الحميمية النبيلة و السامية المناظرة للحب؛ كما يمكن لهما أن يعطيا للجنس صفة لا تتعدى حدود الحاجة الطبيعية الاعتيادية؛ و في ظروف معينة محكومة بعوامل فردية أو مجتمعية أو كلاها معا يمكن للجنس أيضا أن يوجد بلا حب، و هذا ممكن في كل من البيئات المتحررة التي ينتشر فيها الجنس الاستهلاكي العابر، و البيئات التقليدية التي يسود فيها الزواج التقليدي، المحكوم بالعادات والتقاليد و الأعراف، و الذي غالبا ما يغيب عنه عنصر الحب قبل الزواج و خلاله لاحقا، بل و يغيب عنه في الحالات الشديدة المحافظة حتى عنصر الإرادة و الاختيار و بالأخص بالنسبة للمرأة، و هنا تقوم علاقة بين طرفين جنسيين لا تربطهما جنسيا أية عاطفة فعالة، و لا يجذبهما إلى بعض إلا الرغبة الغريزية، و التي يمكن حتى أن تكون غير متبادلة في بعض الحالات، فيتدنى الجنس في هذه الحالة إلى بعض من درجاته الدنيا، ليصبح شكلا من أشكال الواجب، أو الفعل التقايضي.
3- طبيعة الحب و ماهيته بين الذات و الآخر:
الحب شعور وعاطفة، جذره فطري، و هو ينتمي إلى مملكة القلب، مقصودا بالقلب المنظومة العاطفية الشعورية عند الإنسان، ويبقى دور العقل – من حيث المبدأ- مقصورا على مراقبته و الاعتراف به أو تعزيزه، أو العكس، و لذا يصعب علينا أن نجد أجوبة منطقية عن الأسئلة المرتبطة بالحب من قبيل "لماذا نحب الجنس الآخر، وماذا نحب فيه بالتحديد؟".
لكن نستطيع أن نقول أن طبيعة الإنسان مفطورة على اللامحدود، وعلى السعي الدائم إلى الكشف و الاختبار و التفاعل مع ما تكتشفه و تختبره و الارتقاء بواسطته إن كان قابلا لذلك؛ وهي أيضا مفطورة على حب الجمال، وهناك في داخلنا معيارية إحساسية كامنة و فاعلة لمعايشة الجمال و عرفانه و اختباره و الحس به؛ و مفطورة أيضا على دافع التفاعل مع الموجودات الأخرى و التقارب معها بقدر ما يتجسد فيها من جمال، و على أنسنة و تمثل كل حد أو درجة تدركهما في الكشف و الاختبار الوجودي لتجليات الجمال و حضوراته.
و الجنس الآخر، تبعا لطبيعتنا الجنسية، هو أكثر أشكال الآخر ندية و إثارة و جذبا بالنسبة لنا، إنه الآخر الذي يمثل بشكل مباشر صورة أخرى للذات على مستوى النوع، و هو الأولى بالكشف و العرفان و التمثل، بل و التذييت في الذات، و هو الأولى بإيجاد فيه أحلى و أرقى قيم و أشكال الجمال و التواصل و التكامل معها و الاكتمال بها! و هذا ما نسعى لتحقيقه بالحب.
فنحن عندما نحب نقوم بشكل عفوي برسم صورة في منتهى الجمال للمحبوب، صورة جمالية مثلى نحبه فيها و نعرفه من خلالها عرفانا داخليا بجعله يعيش بواسطتها في صميم وجداننا، وهذه الصورة فيها من الجمال جزء موعى، لكن الجزء الأكبر منها هو دائما غير موعى، فما هو بمرسوم من قبل الوعي، فهذه الصورة نكوّنها للمحبوب بشكل غير واع، ونتفاعل أيضا معها بشكل غير واع، فنتلقاها و نعايشها كإحساس و شعور، و كأن فينا (أنا خفية رائعة) تفعل كل ذلك وفقا لنواميسها الخاصة.
و لذا فعندما نسأل أنفسنا عما نحبه في الشخص الآخر، فقد نجد بعضا من الجواب في بعض الأحيان، و لكنا غالبا لا نجد جوابا محددا أو مقنعا.
إن الصورة التي نرسمها للآخر، هي قطعا ليست صورة انعكاسية محض موضوعية له، مهما كانت قريبة من صورته الحقيقية و ضمت عناصر مشتركة معها، فهذه الصورة فيها جانب ذاتي يتضمن الكثير مما يراه عالمنا الشعوري الداخلي جميلا و رائعا، بحيث يمكننا القول أن الصورة التي نرسمها للمحبوب هي في جزء منها تركيب من عناصر موضوعية كائنة فيه و من عناصر ذاتية كامنة فينا، و لكن مع ذلك ففي هذه الصورة أجزاء تتجاوزنا كلينا معا في إطار شخصيتينا، و من الممكن القول أنها تنطلق بنا نحو أبعاد و رحاب أعمق و أشمل و أغنى لتـُصور صورة إنسانية مثلى للمحبوب، تمثل النظير الإنساني المكمل لذاتنا في شكلها الأمثل، لنحبها فنتكامل معها و نكتمل بها.
هنا لا مفر من طرح سؤال ظريف: هل نحب الشخص الآخر بسبب الصورة المثلى التي نرسمها له؟ أم نرسم له صورة مثلى لأننا نحبه؟ و إن كنا نحب ما نرسمه، أفلا يمكننا عندها أن نرسم هذه الصورة و نسقطها على أي شخص من الجنس الآخر، و نحبه من خلالها؟!
ذكر أعلاه أن هذه الصورة تتضمن عناصر من شخصية المحبوب، وهذه العناصر هي التي تحرك عاطفتنا تجاهه، وتدفعها لإكمال الصورة، و بهذه العملية تتحقق جدلية الحب التكاملية بين الذات و الآخر، فلو أحببنا الآخر فقط في صورته الموضوعية بالنسبة لنا، لكنا في موقع السلبية و الانفعال المحض من هذه الصورة المحدودة المنعكسة المحبوبة، و لكننا عندما نقوم بإكمال الصورة وفق جمالية ذاتنا و معايير أنانا المثلى، فنحن نشرك هذا المحبوب في ذاتنا، بل في الشكل الأمثل لهذه الذات، عن طريق صورته الأرقى التي نسهم في خلقها له، و في إعادة خلقه وخلقنا فيها.
و هذا يعني أنني عندما أحب شخصا من الجنس الآخر، فأنا لا أحبه في صورة منعكسة لشخصيته فيّ، و لا أحبه في صورة إسقاطيه لشخصيتي عليه، بل أحبه في صورة تتوحد فيها ذاتينا، و تتعالى متخطية شخصيتينا من حدود الواقع إلى مشارف المثال.
أفليس في هذا اختلاق وهمي و تزييف للحقيقة و الواقع؟!
لكن ما هو الواقع؟ و ما علاقته بالحقيقة؟ و ما هي الحقيقة بحد ذاتها؟
إن مصطلح "الواقع" يدل على ما هو موجود و قائم في الزمان و المكان الراهنين بكل ما فيه من سلبيات و إيجابيات؛ أما مصطلح "الحقيقية" فهو مصطلح غير محدد و لا محدود، و مثالي الإيحاء، و مع ذلك فإذا كان "الواقع" يعني "حاصل الوجود"، فـ "الحقيقة" يمكن أن تعني كلا من "ممكن الوجود" من حيث المبدأ و "واجب الوجود" من حيث القيمة، و بما أن المطابقة بين الواقع و الحقيقة تعطي صورة جد منقوصة و محدودة للحقيقة، لا تلبي طموحات النفس الإنسانية، و لا ترضي معايير العقل العقلانية، فلا بد من طرح العلاقة بين الواقع و الحقيقة وفقا لذلك بالقول أن الحقيقة هي الواقع الأمثل؛ أو الواقع في صورته المثلى، و في الواقع الإنساني، الإنسان كائن ناقص محدود، و لكنه الوحيد المفطور و المؤهل على تجاوز نقصه و تخطي محدوديته، و هو الوحيد القادر على وعي قيم الحق و الخير و الجمال، و الإحساس بها، و عرفانها و تمثلها، و السعي بالتالي لأنسنتها، و الارتقاء بها و إليها! و هذه القيم تبقى قيما مجردة إن لم يرها الإنسان حقيقة محققة في عالمه في إنسان مثله! و هذا التحقق سعى الإنسان عبر تاريخه لتحقيقه بصور شتى تتدرج بين الواقع و الخيال، فجسد الآلهة و الكائنات السماوية في بشر، و اخترع الكائنات الأسطورية و الخرافية على صورته، و صنع الأبطال و القديسين و الحكماء و العظماء و العباقرة و المبدعين، و ما شابه من المثل و الرموز الإنسانية، و لكن كل ما تقدم يخلق لدينا بشكل عام شعورا بأنه بعيد عنا، لأنه يمثل نماذج فردية فريدة من الناس أو من الكائنات غير الواقعية أرقى و أعظم منا، هذا من ناحية، و غير قابلة للتواصل و التفاعل معنا من ناحية أخرى؛ أما في الحب و مع المحبوب، فنحن نزيل الحدود بين بعدي صورتنا، الواقعي و المثالي، و نشعر بأننا انفتحنا على صورة الإنسان المتعالي فينا و اتصلنا بها، فعبر حبنا لمن نحب و تواصلنا معه في صورة تتخطى شخصيته و لا تنفصل عنها، و إعادة خلقه و اكتشافه في صورته المثلى، نتعالى إلى صورتنا المثلى دون إلغاء شخصيتنا الواقعية و السقوط في الوهم.
هذا لا يعني أننا في هذه العملية نتحول إلى شخصيات مثلى، لكن بقدر ما نكون أقدر على مثل هذا الحب، و على تعزيزه بالوعي المستنير و المعرفة العقلانية الحكيمة و الأخلاق الإنسانية الرفيعة، نصبح قادرين أكثر على الاقتراب بصورتنا الواقعية من صورتنا المثلوية، و يكون الحب في تجربتنا اكتمال، و تزكية للذات بتمثلها للجمال المؤنسن وتكاملها معه عبر تواصلها مع الآخر في صورته الأجمل، و تفتح و إزهار و إثمار للإنسان الأمثل فينا!
***
22- 7-2017
سوريا- السويداء
***
هذا المقال منشور أيضا على:
- موقع الأوان
- وموقع الامبراطور
***
الحب بين الرجل و المرأة!
لعلها على مر العصور و في مختلف الحضارات الكلمة الأكثر ترددا على ألسنة الناس، و الفكرة الأكثر إلهاما لخيالات الفنانين و الأدباء و المفكرين!
إنه فطرة فينا، وعامل جوهري في تكويننا الوجداني، وهو الشعور الأكثر حرارة و سحرا، و القوة الخلاقة التي تجعل وجداننا يتألق و يتوهج، و يشع بضوء إنساني مشرق، فنرى في رُوائه العالم في صورة مختلفة، صورة يصبح فيها لوحة إبداع كوني حية، مزينة بأبهى و أحلى الألوان، و معطرة بأشذى العطور، وغنية بأجمل و أنبل المعاني.
إنه حالة قد يحياها الإنسان البسيط في أكثر أشكالها بساطة و عفوية و قربا من الطبيعة، و قد يحياها الفنان أو المفكر أو العالم و أمثالهم، فتأخذ لديهم أبعادا و مضامين و تجليات مختلفة، و تدخلهم إلى آفاق و رحاب و أعماق غير مسبوقة، ليكتشفوا من خلالها معان جديدة للحياة و الوجود، و يدركوا عبرها ذرا أعلى في مراقي الذات الإنسانية.
لكن الحب ليس حالة منفصلة يحياها الإنسان بمعزل عن ثقافته و بيئته الاجتماعية، و لا هو شكل موحد يختبره الناس رغم اختلاف العصور و الظروف و الوقائع، فالحب يتداخل دوما- فاعلا و منفعلا- مع العناصر الأخرى المكونة لكل من الذات الفردية و البيئة الاجتماعية، و المؤثرة فيهما، و هذا يدفعنا للسؤال عن طبيعة الحب، و أسبابه، و علاقته بالعوامل الفاعلة الأخرى في كل من الفرد و المجتمع.
و ربما يكون من أكثر هذه الأسئلة إلحاحا، الأسئلة عن علاقة الحب و الجنس، وعن طبيعة الحب بحد ذاته، و دور كل من المحب و المحبوب في نشوئه، و تأثير الظروف و العوامل الموضوعية المحيطة عليه، وهذا ما سنذهب إلى النظر فيه في الفقرات التالية.
1- العلاقة بين الحب الجنس:
إن ما يجمع الحب و الجنس هو كون كل منهما دافعا طبيعيا جوهريا يدفع كلا من المرأة و الرجل نحو الآخر، و في تفسير العلاقة بينهما تختلف المواقف بين من يطابق و من يميز بينهما.
فبالنسبة للمطابقين، يـُنظر إلى كل من الحب و الجنس كمظهرين لنفس القوة الدافعة نحو الجنس الآخر، فيفسر الجنس بأنه تمظهر لهذه القوة على المستوى الجسدي الحسي، فيما يفسر الحب بأنه تمظهرها على المستوى العاطفي الشعوري، و هنا يصبح من الوارد الكلام عن:
- حب جسدي، وهو الجنس.
- حب رومانسي، و هو الحب العاطفي.
و يصبح من الممكن في هذا السياق الكلام أيضا عن:
- حب عقلي، وهو الإعجاب أو التقدير.
لكن هذه العلاقة الخطية التسلسلية المترابطة بين الحب و الجنس، يمكن مقابلتها بعلاقة أخرى، يمكن وصفها بأنها علاقة استقلال و توازٍ و تفاعل، و فيها ينظر إلى الحب و الجنس كقوتين مستقلتين متمايزتين.
في هذه المقاربة ينتمي الجنس إلى الجانب البيولوجي الغريزي في تكوين الإنسان، و فيه يتشابه مع الكثير من أنواع الحيوانات المتطورة و في طليعتها الثدييات، و هو هنا نشاط جسدي متشابه في شكل أدائه و وظيفته البيولوجية عند كل من الإنسان و هذه الحيوانات.
لكن هذا لا يعني بتاتا تطابق النشاط الجنسي عند كل من الإنسان و الحيوان، فهذا النشاط هو عند الحيوان نشاط طبيعي روتيني محض، و كل الحيوانات المنتمية لنفس النوع كانت و ما زالت تقوم بنشاطها الجنسي و غير الجنسي منذ نشأت على الأرض وحتى الآن و في مختلف بقاع الأرض بنفس الشكل، و بدون أي تغير أو تطور.
أما الإنسان فهو كائن جد مختلف! فهو ليس مجرد كائن طبيعي، بل كائن اجتماعي و ثقافي و تطوري، وهو ليس مكونا من بنية فيزيولوجية و حسب، بل لديه بناه السيكولوجية و العقلية و الروحية، ومع أن شيئا من السيكولوجيا و الذكاء يتواجدان بدرجة أو بأخرى عند هذا النوع أو ذاك من الحيوانات، إلا أن وجودهما بدائي و جد محدود، و لا يلعب أدوارا جوهرية في حياتها كما هو الحال عند الإنسان.
الجنس عند الحيوان يقوم على الليبيدو المحض، أما عند الإنسان فيتداخل الليبيدو الغريزي الفيزيولوجي مع السيكولوجيا و الفكر و الثقافة و غيرهما من العوامل الذاتية و الموضوعية ليشكل شكلا آخر للجنس، شكلا يمكننا تسميته بـ "الأيروس".
و في الوقت الذي يتمظهر فيه الدافع الجنسي عند الحيوان كليبيدو جسدي غريزي و حسب، فهو عند الإنسان يتمظهر أيضا سيكولوجيا و فكريا على مستوى الفرد، و ثقافيا على مستوى الجماعة، ليعيش الإنسان حياته الجنسية بشكل تتفاعل فيه عواملها الجسدية و السيكولوجية و الفكرية الذاتية، و تؤطرها النواظم و الضوابط الثقافية و الاجتماعية الموضوعية.
و بينما يحافظ الحيوان تماما على شكل أدائه الجنسي البسيط و العفوي، نجد الإنسان بشكل مستمر يغير و يطور نشاطه الجنسي و مواقفه من الجنس، و يكوّن تقاليد وعادات و أعراف، بل و فلسفات و معتقدات جنسية متغيرة في الزمان و المكان و الظرف، فتارة يوضع فيها الجنس في مكانه الطبيعي المعتدل، فيما يرفع تارة أخرى إلى مستويات عالية من التبجيل و الاحترام، بل وحتى التقديس أحيانا ليصل حالة ما يسمى بـ"الجنس المقدس"، و لكن بالمقابل يمكن أن يـُحـَطـّ قدره و مكانته ليـُرى فعلا دنسا نجسا حقيرا، و يتم التعامل معه كشر لا مفر منه؛ هذا إضافة إلى أن التقاليد البشرية تنتج باستمرار تغيرا و تعددا في أشكال الجنس المشروعة على مدى التاريخ و امتداد الجغرافيا.
في كل هذا و ذاك و ذلك، الحب له موقعه المستقل، فهو لا ينتمي إلى المجال الفيزيولوجي، و لا إلى المجال الشهواني، اللذين ينتمي إليهما الجنس على امتداده من الليبيدو إلى الأيروس، فالحب ينتمي إلى المجال العاطفي و الشعوري عند الإنسان، وهذا مجال إنساني بامتياز يتميز فيه الإنسان عن سواه من الكائنات، لكنه أيضا مثل الجنس ليس منفصلا عن الفكر و الثقافة و الظروف المحيطة، كما أنه بدوره متداخل و متفاعل مع الجنس.
2- العلاقة بين الحب و الجنس و الثقافة:
العلاقة بين هذه الأطراف الثلاثة وثيقة و قوية، فالثقافة تؤثر مباشرة على كل من الحب و الجنس على حدة، و تؤثر بشكل غير مباشر في التأثير المتبادل بينهما، وقد تم التطرق أعلاه إلى تأثير الثقافة المحيطة على الجنس، وهي تؤثر تقريبا بنفس الآلية على الحب، فقد تضعه في موقع وسطي مرحبا به، وقد ترفعه و تعظم شأنه، و قد تعيبه و تسفهه، بل وحتى تحاربه! و في ثقافتنا العربية لدينا صورة جد متدنية و مأزومة للجنس، لكن وضع الحب ليس أحسن حالا، فبالرغم من كثرة ما لدينا قديما و حديثا من قصص الحب، و أشعاره و أنثاره و أغانيه، وما شابه، فما تزال حتى اليوم علاقة الحب العاطفية مرفوضة غالبا، و مقرونة بالعيب و الشذوذ في معظم مناطق عالمنا العربي! فالعلاقة بين الجنسين بكل أبعادها ما تزال لدينا محكومة بأقسى التابوهات غير السوية.
إن تأثير الثقافة على كل من الحب و الجنس- كما سلف القول- ينعكس بشكل جوهري على العلاقة بينهما، ففي البيئات المحافظة عموما، التي يقيد فيها الجنس بقيود صارمة، و التي غالبا ما تحاصر الحب نفسه بنفس الدرجة من الحظر و التقييد، يجد الحب بالرغم من ذلك مجالا أوسع للحضور من البيئات المتحررة، التي تضعف فيها القيود و الحدود الجنسية، فينمو فيها الشكل الاستهلاكي للجنس و يتصدر المشهد على حساب كل من الحب العاطفي و أشكال الأيروس الراقي المرتبطة بنظم ثقافية و دينية محافظة محددة، كما هو الحال مثلا لدى بعض المذاهب الهندية و التبتية و غيرها، حيث يعطى للجنس صفة المقدس.
و في علاقة الحب و الجنس، و وفقا للثقافة المحيطة بهما، و تداخلات العوامل الذاتية و الموضوعية في محصلتها على مستوى الفرد، قد نجد التوافق و التكامل، أو التعايش، أو قد نجد التضاد و التنافي! ففي حالة ثقافية تنظر إلى الجنس كنشاط دنيء و منحط، سيجد الحب نفسه تلقائيا في موضع تضاد مع الجنس، و ستتعالى نظرة المحب إلى المحبوب عن المستوى الجنسي، وهنا قد يحدث صراع بين هذين الدافعين يزعزع الاستقرار الداخلي للشخص، أو ربما تضعف الشهوة الجنسية تجاه المحبوب، و قد تضمحل مع تنامي الحب؛ و هذا أيضا ممكن الحدوث أحيانا حتى في حالة نظرة طبيعية سليمة، بل و حتى إعلائية للجنس، فمن الممكن أن تحدث حالة من التسامي العاطفي إلى درجة التجاوز الجنسي! لكن في الجهة المقابلة، يمكن أن نجد حالات مختلفة، يتكامل فيها الحب و الجنس، فيرقـّي الحب أو الثقافة، أو كليهما معا، الجنس ليعطيانه صفة العلاقة الحميمية النبيلة و السامية المناظرة للحب؛ كما يمكن لهما أن يعطيا للجنس صفة لا تتعدى حدود الحاجة الطبيعية الاعتيادية؛ و في ظروف معينة محكومة بعوامل فردية أو مجتمعية أو كلاها معا يمكن للجنس أيضا أن يوجد بلا حب، و هذا ممكن في كل من البيئات المتحررة التي ينتشر فيها الجنس الاستهلاكي العابر، و البيئات التقليدية التي يسود فيها الزواج التقليدي، المحكوم بالعادات والتقاليد و الأعراف، و الذي غالبا ما يغيب عنه عنصر الحب قبل الزواج و خلاله لاحقا، بل و يغيب عنه في الحالات الشديدة المحافظة حتى عنصر الإرادة و الاختيار و بالأخص بالنسبة للمرأة، و هنا تقوم علاقة بين طرفين جنسيين لا تربطهما جنسيا أية عاطفة فعالة، و لا يجذبهما إلى بعض إلا الرغبة الغريزية، و التي يمكن حتى أن تكون غير متبادلة في بعض الحالات، فيتدنى الجنس في هذه الحالة إلى بعض من درجاته الدنيا، ليصبح شكلا من أشكال الواجب، أو الفعل التقايضي.
3- طبيعة الحب و ماهيته بين الذات و الآخر:
الحب شعور وعاطفة، جذره فطري، و هو ينتمي إلى مملكة القلب، مقصودا بالقلب المنظومة العاطفية الشعورية عند الإنسان، ويبقى دور العقل – من حيث المبدأ- مقصورا على مراقبته و الاعتراف به أو تعزيزه، أو العكس، و لذا يصعب علينا أن نجد أجوبة منطقية عن الأسئلة المرتبطة بالحب من قبيل "لماذا نحب الجنس الآخر، وماذا نحب فيه بالتحديد؟".
لكن نستطيع أن نقول أن طبيعة الإنسان مفطورة على اللامحدود، وعلى السعي الدائم إلى الكشف و الاختبار و التفاعل مع ما تكتشفه و تختبره و الارتقاء بواسطته إن كان قابلا لذلك؛ وهي أيضا مفطورة على حب الجمال، وهناك في داخلنا معيارية إحساسية كامنة و فاعلة لمعايشة الجمال و عرفانه و اختباره و الحس به؛ و مفطورة أيضا على دافع التفاعل مع الموجودات الأخرى و التقارب معها بقدر ما يتجسد فيها من جمال، و على أنسنة و تمثل كل حد أو درجة تدركهما في الكشف و الاختبار الوجودي لتجليات الجمال و حضوراته.
و الجنس الآخر، تبعا لطبيعتنا الجنسية، هو أكثر أشكال الآخر ندية و إثارة و جذبا بالنسبة لنا، إنه الآخر الذي يمثل بشكل مباشر صورة أخرى للذات على مستوى النوع، و هو الأولى بالكشف و العرفان و التمثل، بل و التذييت في الذات، و هو الأولى بإيجاد فيه أحلى و أرقى قيم و أشكال الجمال و التواصل و التكامل معها و الاكتمال بها! و هذا ما نسعى لتحقيقه بالحب.
فنحن عندما نحب نقوم بشكل عفوي برسم صورة في منتهى الجمال للمحبوب، صورة جمالية مثلى نحبه فيها و نعرفه من خلالها عرفانا داخليا بجعله يعيش بواسطتها في صميم وجداننا، وهذه الصورة فيها من الجمال جزء موعى، لكن الجزء الأكبر منها هو دائما غير موعى، فما هو بمرسوم من قبل الوعي، فهذه الصورة نكوّنها للمحبوب بشكل غير واع، ونتفاعل أيضا معها بشكل غير واع، فنتلقاها و نعايشها كإحساس و شعور، و كأن فينا (أنا خفية رائعة) تفعل كل ذلك وفقا لنواميسها الخاصة.
و لذا فعندما نسأل أنفسنا عما نحبه في الشخص الآخر، فقد نجد بعضا من الجواب في بعض الأحيان، و لكنا غالبا لا نجد جوابا محددا أو مقنعا.
إن الصورة التي نرسمها للآخر، هي قطعا ليست صورة انعكاسية محض موضوعية له، مهما كانت قريبة من صورته الحقيقية و ضمت عناصر مشتركة معها، فهذه الصورة فيها جانب ذاتي يتضمن الكثير مما يراه عالمنا الشعوري الداخلي جميلا و رائعا، بحيث يمكننا القول أن الصورة التي نرسمها للمحبوب هي في جزء منها تركيب من عناصر موضوعية كائنة فيه و من عناصر ذاتية كامنة فينا، و لكن مع ذلك ففي هذه الصورة أجزاء تتجاوزنا كلينا معا في إطار شخصيتينا، و من الممكن القول أنها تنطلق بنا نحو أبعاد و رحاب أعمق و أشمل و أغنى لتـُصور صورة إنسانية مثلى للمحبوب، تمثل النظير الإنساني المكمل لذاتنا في شكلها الأمثل، لنحبها فنتكامل معها و نكتمل بها.
هنا لا مفر من طرح سؤال ظريف: هل نحب الشخص الآخر بسبب الصورة المثلى التي نرسمها له؟ أم نرسم له صورة مثلى لأننا نحبه؟ و إن كنا نحب ما نرسمه، أفلا يمكننا عندها أن نرسم هذه الصورة و نسقطها على أي شخص من الجنس الآخر، و نحبه من خلالها؟!
ذكر أعلاه أن هذه الصورة تتضمن عناصر من شخصية المحبوب، وهذه العناصر هي التي تحرك عاطفتنا تجاهه، وتدفعها لإكمال الصورة، و بهذه العملية تتحقق جدلية الحب التكاملية بين الذات و الآخر، فلو أحببنا الآخر فقط في صورته الموضوعية بالنسبة لنا، لكنا في موقع السلبية و الانفعال المحض من هذه الصورة المحدودة المنعكسة المحبوبة، و لكننا عندما نقوم بإكمال الصورة وفق جمالية ذاتنا و معايير أنانا المثلى، فنحن نشرك هذا المحبوب في ذاتنا، بل في الشكل الأمثل لهذه الذات، عن طريق صورته الأرقى التي نسهم في خلقها له، و في إعادة خلقه وخلقنا فيها.
و هذا يعني أنني عندما أحب شخصا من الجنس الآخر، فأنا لا أحبه في صورة منعكسة لشخصيته فيّ، و لا أحبه في صورة إسقاطيه لشخصيتي عليه، بل أحبه في صورة تتوحد فيها ذاتينا، و تتعالى متخطية شخصيتينا من حدود الواقع إلى مشارف المثال.
أفليس في هذا اختلاق وهمي و تزييف للحقيقة و الواقع؟!
لكن ما هو الواقع؟ و ما علاقته بالحقيقة؟ و ما هي الحقيقة بحد ذاتها؟
إن مصطلح "الواقع" يدل على ما هو موجود و قائم في الزمان و المكان الراهنين بكل ما فيه من سلبيات و إيجابيات؛ أما مصطلح "الحقيقية" فهو مصطلح غير محدد و لا محدود، و مثالي الإيحاء، و مع ذلك فإذا كان "الواقع" يعني "حاصل الوجود"، فـ "الحقيقة" يمكن أن تعني كلا من "ممكن الوجود" من حيث المبدأ و "واجب الوجود" من حيث القيمة، و بما أن المطابقة بين الواقع و الحقيقة تعطي صورة جد منقوصة و محدودة للحقيقة، لا تلبي طموحات النفس الإنسانية، و لا ترضي معايير العقل العقلانية، فلا بد من طرح العلاقة بين الواقع و الحقيقة وفقا لذلك بالقول أن الحقيقة هي الواقع الأمثل؛ أو الواقع في صورته المثلى، و في الواقع الإنساني، الإنسان كائن ناقص محدود، و لكنه الوحيد المفطور و المؤهل على تجاوز نقصه و تخطي محدوديته، و هو الوحيد القادر على وعي قيم الحق و الخير و الجمال، و الإحساس بها، و عرفانها و تمثلها، و السعي بالتالي لأنسنتها، و الارتقاء بها و إليها! و هذه القيم تبقى قيما مجردة إن لم يرها الإنسان حقيقة محققة في عالمه في إنسان مثله! و هذا التحقق سعى الإنسان عبر تاريخه لتحقيقه بصور شتى تتدرج بين الواقع و الخيال، فجسد الآلهة و الكائنات السماوية في بشر، و اخترع الكائنات الأسطورية و الخرافية على صورته، و صنع الأبطال و القديسين و الحكماء و العظماء و العباقرة و المبدعين، و ما شابه من المثل و الرموز الإنسانية، و لكن كل ما تقدم يخلق لدينا بشكل عام شعورا بأنه بعيد عنا، لأنه يمثل نماذج فردية فريدة من الناس أو من الكائنات غير الواقعية أرقى و أعظم منا، هذا من ناحية، و غير قابلة للتواصل و التفاعل معنا من ناحية أخرى؛ أما في الحب و مع المحبوب، فنحن نزيل الحدود بين بعدي صورتنا، الواقعي و المثالي، و نشعر بأننا انفتحنا على صورة الإنسان المتعالي فينا و اتصلنا بها، فعبر حبنا لمن نحب و تواصلنا معه في صورة تتخطى شخصيته و لا تنفصل عنها، و إعادة خلقه و اكتشافه في صورته المثلى، نتعالى إلى صورتنا المثلى دون إلغاء شخصيتنا الواقعية و السقوط في الوهم.
هذا لا يعني أننا في هذه العملية نتحول إلى شخصيات مثلى، لكن بقدر ما نكون أقدر على مثل هذا الحب، و على تعزيزه بالوعي المستنير و المعرفة العقلانية الحكيمة و الأخلاق الإنسانية الرفيعة، نصبح قادرين أكثر على الاقتراب بصورتنا الواقعية من صورتنا المثلوية، و يكون الحب في تجربتنا اكتمال، و تزكية للذات بتمثلها للجمال المؤنسن وتكاملها معه عبر تواصلها مع الآخر في صورته الأجمل، و تفتح و إزهار و إثمار للإنسان الأمثل فينا!
***
22- 7-2017
سوريا- السويداء
***
هذا المقال منشور أيضا على:
- موقع الأوان
- وموقع الامبراطور
***
التعديل الأخير: