نقوس المهدي
كاتب
قراءة سوسيولوجية في الرسائل العاطفية في الهاتف الجوال
الأكيد عربيا أنّ بين الجيل الذي سلف و الجيل الحاضر مسافة مديدة لا تقاس زمنا إنّما اجتماعيا. فتسارع التغيرات التي تحدث في العالم العربي و خصوصا سرعة دخول تقانة الاتصال الحديثة بالكثافة التي نشهدها جعل من قنوات الاتصال التقليدية بين الأجيال
و الأطر الاجتماعية التي تؤطّر ذاك الاتصال تضعف قبالة تسلل للتقانة إلى تلك العلاقات الاجتماعية حتّى أضحت في كثير من مجالات الاجتماعي ليس مجرّد وسيط بين الفاعلين في المجتمع إنما العلاقة ذاتها على معنى أنّ وسائل الاتصال الحديثة هي التي أضحت تسطّر لنا هويّة تلك العلاقات و تشكّلُها و حدودها و تبُنى الذوات بها و من خلالها. لتلك المعاينة أهميـّتها أنْ كانـت مدخــلاً لفـهم بعـض مـن الآلـيـات الـتي يبـني بـها الشـباب العـربي هويـته الاجتـماعية واستشراف أفق هذه الهوية خلال العقود
المقبلة.
تسعى هذه المقالة إلى محاولة كشف تأثير و سائل الاتصال الحديثة على تشكّل الذات الاجتماعية للشباب العربي. و لقد اتخّذنا هنا موضوعا للبحث الرسائل العاطفية التي تتداول "عربيا" سواء عبر التلفاز أو الإنترنت أو الهاتف الجوال. ذاك أمر يسمح لنا باستنتاج ما يمكن استنتاجه دون الارتباط بخصوصية السياقات العربية و يتيح لنا البحث عمّا يشترك فيه الشاب العربي من حيث المرجعيات الحديثة التي تؤثّر في تشكيل ذاته
و لعلّ وسائل الاتصال ما ييّسر لنا ذلك لذيوعها عربيا و لاشتراك الشباب العربي في استعمالها، و لو بدرجات متفاوتة. أمّا منهجا فقد كانت المقاربة تأويلية، تسعى إلى تحليل خطاب الرسائل المنقاة بعد تبوبها. و إن جنحنا إلى مثل هذا المنهج فلأنّ التكميم هنا لا يفيد في شيء في فهم المعنى الاجتماعي، على المعنى الذي قصده فيبر ***er ،(فيبر، 1953) الذي تتضمّنه الرسالات المقروءة.
1- الحبّ علاقة اجتماعية
"الحب أعزكم الله أوّله هزل وآخره جد"ّ. هكذا عرّفه ابن حزم الأندلسي بيد أنّه مع وسائط التواصل الالكترونية (الجوّال والتلفاز والإنترنت) أضحى في بعض وجوهه غير ذلك أن ظلّ فقيد الجدّ واستوقفه الهزل، على معنى اللعب.
نقصد باللعب هنا من منظور سوسيولوجي تلك الممارسة الاجتماعية الاستفكارية Réflexive ( باخ 1998، و بورديو 2001، و غيدنز 1989) والتي تسم المجتمعات الحديثة. فيها نشهد صعودا لا قابلة له لقيم الفرد و الريبيّة. هي مقوّمات للفعل الاجتماعي. كل ذلك قبالة تراجع أو لنقل اهتراء المؤسّسات التنشيئية والأطر المرجعية "التقليدية "، حتّى تلك الأصلب منها. ما يفيد به براديغم اللعب هنا أنّ المجتمعات الحديثة و بعيدا عن الخوض في خصوصياتها صارت فضاء علاقات يبني فيه الشاب هويته عبر إستراتجيته التي يصطنعها لنفسه إما توكّلا على مختلف البنى الاجتماعية و إمّا استثمارا لها بما يفيد صياغته لتجربته الاجتماعية لبناء الذات على المعنى الذي قصده عالم الاجتماع الفرنسي فرنسوان دوبي François Dubet( دوبي،1994). ذلك أنّ الذات الاجتماعية لم تعد تبُنى بالإحالة، إحالة إلى العائلة والقيم التقليدية و مختلف الأطر المرجعية الأخرى: دين
و مدرسة و نحوه، بقدر ما أضحى التعامل مع جميعها تعاملا انتقائيا فأضحت بذلك رصيدا مختزنا ليس على معنى التراث الهويّ الذي يشكّل الهويّة للشاب العربي، إنّما على معنى استثماري فيُؤخذ منه ما يشكّل به الشاب فعله في المجتمع بحسب السياق الذي يعيشه و بحسب، إذن، استراتيجته في الفعل فيجنّد من الموارد مختلفها و لربّما "متناقضها" (الغربي و العربي- ما هو أصيل و ما هو حديث، ما هو محلّي وما هو كوني، ما هو ديني و ما هو غير ذلك).
نرشّح هاهنا سوسيولوجيا المخاطرة Sociologie du risque نظرية بمقدورها مدّنا بآليات لفهم "ظاهرة " الحب بما هو رابطة ترتقي وترعى عبر وساطة الهاتف الجوّال.
و لأنّها محاولة في الفهم فإنّ القراءة هنا للرسالات messages المتداولة. هي قراءة تأويلية تبحث في الدلالة الثقافية للحب مثلما هو يُصنع و"يتجوّل" بين الفاعلين. ثمّ إنّ سوسيولوجيا المخاطرة تجد تسويغها في ضرورة فهم تسارع التحوّلات التي تتسلّل إلى مجالات متعدّدة في الحياة ونكوص عن هذه التحوّلات مما يجعل براديغم التغير الاجتماعي في منظوره الخطّي للظواهر أبتر عن تفسير صروف السلوك و فهمه، والإجابة عن كلّ الأسئلة التي تطرحها حدّة الظواهر وقراءة مضامينها.
كذلك هي نظرية المخاطرة، تسعف القراءة من الزلل في ثنائيات طالما سكنت السوسيولوجيا بل حتّى أنّها تقي القراءة هنا، آليات تحليل كانت على الفكر العربي ظهيرة. إنّها تحطّم المسافات بين الأزمنة، الماضي والحاضر، وتتنكّر لازدواجية التقليدي والحداثي. من أجل ذلك هي مرشّحة بقوّة لفهم ظواهر خارقة للحدود والمسافات ولربّما للخصوصيات على تكاثرها في أزمنتنا الحاضرة. فالتحولات التي تصيب عالمنا و منها ما يصيب المجتمع العربي تجعل مسوّغاً النظر إلى الأشياء بعيدا عن الثنائيات في فهم الظواهر الاجتماعية.
ما هو مقترح هنا إذن، فكرة مفادها أنّه ثمّة إعادة صياغة لرابطة الحبّ في اتّجاه اللّعب بما هو فعل انعكاسي فردي في سياق اجتماعي أكثر ريبيـّة فيه تكفّل بالقدر الاجتماعي فرديا. المخاطرة هنا اجتماعية على معنى أنها خطرٌ يصطنعه البشر لأنفسهم إمّا تسببّا فيه أم تصرّفا فيه. ولأنّه كذلك فهو مخاطرة RISQUE وليس خطر Danger.
و بعيدا عن الرؤية الأدبية أو الفنيّة أو النفسية للحب، فإنّ ما يمكن الذهاب إليه سويولوجيا أنه رابطة اجتماعية تتشكّل فيها الأنا بالنظر إلى الآخر و لعلّه يؤشّر على تصوّر الإنسان في التواجد مع الآخر أي في الاجتماع البشري على حدّ قولة ابن خلدون . من هنا تأتي أهميّته الاجتماعية. و ليس القصد أيضا الحبّ "الفطري" الذي يسكن ربّما الصلات الاجتماعية التي سندها قرابة دموية.
الحبّ عندنا ما يمكن أن يجعل الأنا تلتقي بالآخر لاستمرار الوجد المشترك و بالتالي الاجتماع الإنساني. ما قيل عن الحبّ و صفا أم رواية كثير لكنّ ما يمسك النظر إليه هو فيما سَكنَ الشِعر والملحمة، فإنّه ظلّ عند حدود الإحساس و الفاجعة .
أمّا سوسيولوجيا فقد رأى الطاهر لبيب (لبيب 1986) أنّ الحبّ العذري حبّ "طبقي" يعبّر عن منزلة اجتماعية صلب تراتبية اجتماعية و ثقافية أكثر ممّا يعبّر عن رؤية مثالية صرف للعالم. كذلك نرى الحبّ في هذه الورقة. هو علاقة بالآخر و بالعالم حمّالة لصورة عن الذات أكثر ممّا هو شعور مع الآخر.
مفارقة الحبّ مثلما يساق عند الشباب العربي و على ما كشفته الرسالات المدروسة أنّه حبّ "أناني" على ما يبدو عليه من كثرة الإحالات التي تستحضر الإحساس فاجعة أو لذّة. فإذا كان الحبّ كأرقى حدود أن تكون مع الآخر صديقا:"صديقك آخرُ هو أنت، إلاّ أنّه غيرك بالشخص" كذلك قال التوحيدي على معنى أنّ الحبّ هو الغير الذي ليس لي أو بالأحرى الغير الذي لست أنا. فإن ما يُقرأ في الرسالات مفارقات تجعل من الحبّ لا ذاتا تبنى بالآخر و آخر يمكن آن يكون آخر اجتماعيا . الحبّ يجري مجرى اللعبة التي ليس بين لاعبيها غير اللعب. لعبة بالوسع أن تعاد بل أن تشترى لا بل أن تصنع و تُسلّع
و تتداول فيستهلك على أنّه كذلك. الخطر هنا إن كان ثمّة خطر، فهو أن ليس للاجتماع على معنى العيش المشترك في السراء و الضرّاء و حين البأس ما يفضي إليه الحبّ
أو هو يدعمه.
2- تعبيرات الحب المتقنن
يسود حديثا عن وسائط الاتصال الحديثة احتماء بنظرية الانشراط بغية تفسير الممارسة التي ترتبط بها استعمالا لها أو استهلاكا لمضامينها. وهي في عمومها تقول بعلوية الوسيلة على مستعملها على معنى تحدّده في موقع المتأثر والسلبي بما هو متلق لا أكثر
و لا أقل. في واقع الأمر تجد هذه الفرضية في التنشئة أسّا لها فيما ساد من أدبيات وظيفية ترى في التنشئة فعل تلقين يفضي إلى أن يستبطن الطفل ما يرُاد له أن يستبطنه دونما وعي منه. حينها يمكن أن ينتمي إلى المجتمع كائنا اجتماعيا من فرط ما ادّخره غرسا فيه من مضمون ثقافي و اجتماعي عبر العائلة. غير أنّ هذه المقاربة البافلوفية على ذيوعها في تفسير سلوكات الأطفال في علاقتها بمشاهدة البرامج التلفزية و تفسير العنف في المجتمعات الحديثة ليس بوسعها أن تفسّر أمر البقية التي تشاهد ما يشاهده الآخرون و لا تفعل ما يفعله الآخرون أو التي تنشأ على ما تنشأ عليه زمرة واحدة لكنّها تفضي إلى ذوات مختلفة. تبدو هنا نظرية الوساطة أكثر خصوبة وقدرة كشفية لفهم العلاقة بين التقنية والإنسان لما تمنحه من إمكان للفاعل في رسم الرابطة بالتقنية وهي في كلّ الحالات رابطة تتحدّد بالسياق الاجتماعي عموما.فعلى خلاف شونان الذي يرسم سيرورة التواصل على أنها رابطة باث و متلق قد تتوسط الآلةُ تلك الرابطة لكأنّها مجرد جسر يفتقر لكلّ تأثير عبره يرسل ما نبتغي إرساله، فإنّ ما نذهب إليه أنّ الآلة هنا هي التي تصوغ تلك الرابطة ليس لكوننا نشرط بها إنما، وهو الأحرى أن يقال، لكونها تحمل معها ثقافة ما قال عنها هابرماس الأيديولوجيا التقنية (هابرماس 1964).
إنّ ما كتبه هابرماس عن أيديولوجية التقانة، الصواب فيه كثير ، على معنى أنّ التقانة حمّالة لعلاقة بالعالم و بالآخرين و من ثمّة بالأنا فتُسدي منظورا نرى منه كل ذلك. غير أنّ قوله ذاك لا يفيد في شيء أنّ التقانة نجد لها انعكاسا – لعلّه على الطريقة الماركسية – فيما يبدو من الناس من أفعال. إنّ أثرها علينا يكمن في أنها غيّرت علاقتنا بالعالم الذي صار يُرى إمكانا مطلقا لما نريد و نتمنّى. هنا تحضر مسألة المسؤولية الاجتماعية للفاعل في المجتمعات الحديثة على المعنى الذي قصده جوناس أي القدرة على تحمّل الفاعل الاجتماعي فعلَه. لقد أضحى الحبّ هنا هذا الإمكان المطلق. لذلك استحال معدمًا، عملا بالقول المأثور إذا بلغ الشيئ حدّه انقلب إلى ضدّه. القصد هنا أنْ لم يبقى للحبّ معاناته
و استحالاته و لا بناء مع الآخر لذات لا تبنى إلا معه. بل ما يسود فيه أنّه أضحى في كلّ مكان و يسمع حيث كان فصار لا هو موجود و لا هو يُسمع.
بيد أنّه مع التقانات الحديثة و تحديدا مع الرسالات الإلكترونية يبدو ثمّة تكثيف لوضع مفارق فيه علاقة تساوق بين نمط التواصل ونمط التفكير ولعلّ الغلبة أحيانا كثيرة إن كانت ثمّة غلبة فهي للأولى على الثانية. لا يعني ذلك عود إلى نظرية الانشراط إنّما هو افتراض بأنّ التقانات الحديثة ليس فقط أداة منظورا إليها وظيفيـا بل هو بنية حمّالة لقواعد ممارسة في الفضاءات الاجتماعية و لايتيقا المسؤولية وهو في حالنا اللاّ مسؤولية .
3- في سمات بناء الذات عند الشاب
فعربيا إذا كان للحب مائة اسم أو يقلّ عن ذلك قليلا حسب الروايات، وخصّصت له أبواب وصنّفت له ضروب في طوق الحمامة فإنّه من خلال الرسالات الإلكترونية انحسر في اغلب استعمالاته فيما يلي من السمات. هي الأهم من حيث تضمّنها للدلالات الثقافية الأهم.
- إمّا باللغة الفرنسية أو الإنجليزية وله فيها مرادف واحد
- أو اختبأ وراء استعارات تحضره حين يغيّبها استعاضة بها عنه وليس تعلية له ( أوكسجين – حياتي – هبال... ) .
- وإمّا يعبّر عنه باللهجة العاميّة ( نموت عليك/ هبلتني /قطّوستي /تحفونتي / ...) .
- وأمّا يرمز صورةً ( القلب الجريح /العصفور الميت/الحية ...)
- وإمّا لغة مرمزّة أو رموزا تفكّك : أن تكتب الحروف أرقاما أو تكتب العربية بأحرف أعجمية: 3=ع و'3=غ و 7=ح و 5=خ و 9=ق و 1=أ
إنّ ما يهمنا هنا من خلال السمات الأهم للحبّ كمل هو حضر هو أنّ التعبير عن الحب أضحى يحال إلى آخر بحيث تقرّه من حيث ننكره عنا. فكثيرة هي الرسالات التي تتوارى و راء اللا إسمية أو وراء الرمز أو اللغة الأعجمية. قد يكون في ذلك خوف من الحبّ باعتباره مسؤولية ايتيقية، مجرّد الإقرار بها يحيل المحبّ غير المحبِّ أي يخوّله ذاتا اجتماعية تحمل مسؤولية تجاه الآخر في عموميته. و قد يكون في ذلك احتماء وراء خصوصية باعتبار أنّ الحبّ لا يعاش إلا تعبيرة عن حميمية لا يُشرك فيها إلاّ من رضي عنه. لكنّ الحبّ لا يكون كذلك إلا متى أعلن في المجتمع كذلك، أي مشهورا لكون في ذلك إعلان عن هويّة اجتماعية. كذلك كان أمر ملحمات العشق التي عرفها العرب و غير العرب فإحساس قيس أو عنترة و غيرهما كثير ما كان ليكون حبّا لولا أن أضحى مشتركا في المجتمع أي ليس علاقة بعبلة فقط إنما من خلالهما علاقة بالناس أجمعين حتّى أولئك الذين هم غير معاصروه. لذلك هو جزء من ثقافة العرب و العالم حتّى، و لذلك هو مجتمعي.
أنْ يختزل التفاعل الاجتماعي إلى الترميز والتشفير يجعل إمكان أن يكون الفاعل غير شفّاف غامض ومجهول هو الإمكان السائد في كلّ علاقة تصبو أن تكون حبّا. فما يكتبه المرسل باعتباره ذاتا اجتماعية من خلال نصّ الرسالة تباعد المناطق الداخليّة " أي الهوية الاجتماعية للشاب عن المناطق الأماميّة أي "الواجهة" الاجتماعية التي يُخرج هويته الاجتماعية بها للناس في الفضاء العام على حدّ تعبيرة غوفمان Goffman (غوفمان، 1978) . إنّ ما تمّت معاينته هنا هو أنّ المحب يعلن عن نفسه دوما بإخفائها وراء اسم مستعار أو شفرة ما. التفرقة هنا مع الحميمية و حفظ الخصوصية ضروري. ذلك أنّه متى أعلن الحب حيث كلّ الناس و ليعلم به الناس أجمعين دون أن يعلن المحب و الحبيب فليس في ذلك احتماء وراء خلق ما بقدر ما هو هروب من مسؤولية أن يعلن الشاب عن نفسه
و بالتالي أن يقحمها في الفضاء العمومي أي مع الآخرين. و إلاّ ما الذي يجعله ينشر حبه في وسائل الاتصال أو يعبّر عنه بما تنمّط من رسائل عاطفية نلقاها ذائعة في الهواتف النقالة بحيث لا نفرّق فيها بين خصوصية كلّ تجربة؟ أنّ ما بوسعنا أن نذهب إليه هو أنّ الشاب يفتقد إلى القدرة على أن يثبت وجوده كائنا اجتماعيا و أن يتحمّل مشاعره أو لعلّه يفتـقر إلـى الأطـر والمرجعيات التي تسنده في ذلك فيؤثر التعبير عن الذات في مناطق هامشية من مختلف الفضاءات و الأطر الاجتماعية و يتوسّل لذلك ليس اللغة مثلما فعل الشعراء و الرواة إنمّا الخربشة. هي لغة ليست باللّغة يعبّر بها و يتواجد بها الحبّ في تخوم المجتمع أو هي في وسطه لكنها مقصيّة منه. قد يكون ذلك من جرّاء أنّ المجتمع أضحى في عموميته لا يعترف بالحبّ و إلى ذلك نذهب في التفسير، لكن الكتابة عن الحبّ بالرمز و الشفرة إنّما فيها أيضا خوف من تحمّل الحبّ اجتماعيا إذ بقدر أنّه لا يطاق فرديا هو أكثر منه اجتماعيا. هكذا يهرب الشاب من أن يكون جزء حاضرا في صلب المجتمع و يؤثر التخفّي فيما هو هامشي أو تخومي منه.
ما تتميّز به المراسلات الإلكترونية هو أنها تُخضع الحبّ إلى حدود الفضاء والرمز الذي تحملها التقانات التي بها ترسل ( الهاتف الجوال بالخصوص) ذلك أنّه يضحى متحكما بدرجات طبعا، في أشكال التعبير عن الحب ومضامينه. ما يحضر هنا ليس اقتصاد المنطق الذي يمثل مقوما للغة العربية بل منطق الاقتصاد. فليس خافيا أنّ للهاتف الجوال كبقية الأحيزة حدودا مكانية و زمانية. الإشكال هنا أنّ تلك الحدود هي التي تحدّد الشعور على معنى ترسم له فضاءاته التي يظهر فيها و يُتداول و الأزمنة لذلك. و على عكس ما تبدو "العولمة " تمنحه للناس من تقلّص للمسافات و الأزمنة بين بينهم، فإنّ في حالنا هو العكس ما يبدو أسلم. فالتفاعل أضحى موسّطا الشاشة ( شاشة الهاتف أو التلفاز أو الكمبيوتر) وأضحت الإمكانات التي تتيحها تلك الشاشة هي حدود الحب الذي نحبّ به أو من خلاله. ما يبدو حقيقة هنا أنه ثمّة غلبة للسوق على المشاعر فتتحدّد تبعا بقيمتها التبادلية أكثر منها قيمتها الاستعمالية. غلبة التقني على المخيالي، والاقتصادي على اللغوي، يعتبر أهم تجليات التشيّؤ Reification مثلما عرض ذلك هابرماس و لوفافر Lebfevre وغولدمان Goldman وهو سيرورة يطال مداها حدّ تكميم النوعي و تسليع المشاعري.
ولعلّ ذلك ما يهلّ من خلال ما استجلينا من محددات صياغة الرسائل ذات المضمون العاطفي. لقد وجدنا أن ما يحدّد الرسالة ليس مضمونها أو دلالاتها بقدر ما هو كميتها أي عدد الأحرف المرسلة وهو ما يبدَّل في مثل هذا الاستعمال نقدا على معنى أنّ الحبّ يحدّد بتكلفته المادية التي ترسل بها الرسالة. لذلك ترُمز الرسالة وتُختصر وتقطع وترسم شكلا وتحرّف لغة طبقا لمنطق الاقتصاد. وهو منطلق استثماري حسابي تُغلّب فيه قيم التكيّف والمرونة و النجاعة على قيمة الإنسان و الايتيقا.
وبشكل مفارق ولئن أضحى الجوال الفضاء الذي يرسم حدود الفعل وتتشكل اللغة العاطفية طبقا لحدوده الفيزيقية المادية فإنّه مكّن الفرد من مد شبكة علاقاته دونما ضيق الجغرافيا أو ضغط الزمن. صحيح في أن ذلك تسامح بإعادة صياغة أثر الأطر المؤسّسة للحب أو المراقبة ونقصد هنا تحديدا العائلة والأخلاق، وصحيح أنّه مكن من انفجار المشاعر (83% من الرسائل هي ذات مضمون عاطفي) إلا أنّ تداول هذه الرسائل فيه حاجة إلى أن يكون الشاب موصولا بالآخرين فيفلت من أن تكون فردا. ثمة بحث من خلال الحب المتداول عن أمن يغذيه توجّس من الريبية و صعوبة في التكفّل بالذات في الفضاء العام فيفلت الشاب بشكل مفارق إلى العمومية على معنى الوجود سرا لكنّه يشارك الآخرين ما لديهم مما يتداول عن الحب حتّى يطمئن قلبه دون أن يشترك معهم فيه.
نلقى هذا الاستنتاج حاضرا مثلا من خلال ما يقال له لدى الفتيات ببحث عن "الصحيح" أو "الرجّال" الذي يرجى منه أن يكون ليس تجربة حبّ، عابرة أو دائمة فذاك أمر ثانوي، إنّما المهمّ أن يكون الشاب موصولا، لا أن يذر نفسه فردا. أو أن يضمن بشكل ما استقرارا أي زيجة في وقت أضـحى فيـه اللا يقين أي المخاطرة تمتد من الاجتماعي إلى السياسي إلى البيئي و تهدد حتّى الوجود البيولوجي للإنسان عينه. فمن خلال الاستعمال الرمزي التراتبي لأرقام الهواتف تعويضا عن تراتبية المجتمع قصد المعاكسة (
في تونس مثلا الأرقام التي تبدأ بـــــ98 هي أعلى الأرقام تراتبيا في المستوى الرمزي لكون أول من تحصّل على الهاتف الجوال في تونس هم ذوي منصب أو جاه أو مستوى اجتماعي راق في عموميته. لذلك ترى المعاكسات بالهاتف كثيرا ما تستعمل صدفة الأرقام التي تبدأ بذاك الرقم ثمّ بــ 97 وهكذا دواليك) بزعم إمكان العثور مصادفة أو "السقوط" أو مثلما يقال"نطيح" على ما تظفر معه بأمن يخرج مما سمي "قلق" "هكذا" أو اللا معنى اجتماعي الذي يعيشه الشاب وهي كلها أجوبة عن صعوبة تحمّل واقع لم يعد يقدم ما يكفي من قدّرة على الإدماج، و عن غياب مؤلم لمعنى اجتماعي ما.
ذاك ما يجعل الإقدام على المخاطرة بالحبّ كما بقيادة السيارات وبغيرها من الظواهر السلوكية لدى الشباب التي تؤشّر على سرعة التغيّرات التي تصيب مجتمعنا دونما ربط لهذه التغيّرات بما أسماه دور كايم يوما "الضمير الجمعي". قد يكون للوسائط الاتصالية الحديثة أمر في ذلك لما تسمح به من تشتت فضائي ولما تتيحه للفرد من إمكان رتق علاقات دون استقرار كبير حيث السرعة وستر الهوية و لمّا توفره ثورة المشاعر التي نراها متفجّرة في كل شيء. لذلك نلقى رسائل كثيرة جدّا متداولة تكاد تكون منمّطة يعبّر بها عمّا هو مشاعري عاطفي وحميمي. هنا قد تكون العلاقات العاطفيّة أكثر كثافة وتعدّدا ولكنها أيضا أكثر هشاشة ورتابة.
قد يفسّر ذلك برغبة في الإحساس برقابة أكبر على المصير حينما يصنع الفرد علاقاته العاطفيّة فيُبقى ما يبقى و يلفظ ما يريد تكريسا لسلطته على ذاته. وقد يكون أيضا مخاطرة ضاغطة مدروسة ومفكّر فيها خاضعة إلى انعكاسية يسكنها هوس في التحكّم في توقعيّة الممارسات.
ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يبدو مثيرا في تجربة الحب عبر وسائط الاتصال الحديثة تلك هو خوف من الانخراط في علاقات دائمة مستقرّة. فالحب في حديث بعض المستجوبين ينتهي دوما إلى الزواج أو هو بالأحرى يبدأ منه. قد يشرّع ملاحظتنا هذه، القول بأنّ الحبّ استحال ولكونه فقد مباشريته ولكونه أضحى حبّا متنكرا مستترا عن الذات ومشتركا بين العموم ليس شعورا إنّما هو إحساس أنّه ثمّة انزلاق من الفكرة إلى اللذّة. إنه حمّال لرغبة في أن يكون الشاب موصولا دون أن يكون مسؤولا. المسؤولية هي ما يغيب مع غياب الحب باعتباره حضورا للذات وانخراطا لها ليس فقط في المجتمع إنّما مع المجتمع.
كذلك هو أمر الحب حيث الحميمية عمومية والمشاعر الخصوصية معمّمة في رسائل منمّطة مفتوحة على الكلّ لمن له رغبة في أن يصل نفسه به وهي رسائل في أغلبها درامية تعلن استحالة الحب أكثر من إمكانه فينزع عن الحب واقعيته ومعايشته علاقةً مباشرةً و يضحى تجربة يخترقها الزمن وتحدّدها ما تقدّه التقانة من إنكار الذات وتوريتها وإمكان انتقال من زمرة إلى زمرة ومن رابطة إلى أخرى بيسر يسير دونما مراجعة أو وقفة ايتيقية. على هذا النحو يختزل الواقع إلى المرئي ويختزل المفكّر فيه إلى المعيش
و يختزل المعيش إلى الوسائطي.
قد يكون لوسائل الاتصال الحديثة تلك، وهي فعلا كذلك، امتدادا للذات أن فيها وبها تحاك روابط اجتماعية كثيفة ولكنها أيضا اختزالا للذات وقدّا لها من روابطها الإنسانية كما لو أن الفرد مالك لمصيره صانع له ّ" الحب كوسيلة اتصال ليس شعورا في حدّ ذاته ولكنه رمز اتصالي يمكنّنا من التعبير " هكذا قال عنه لوهمان Luhmann (لوهمان، 1999).
كذلك هو الحبّ لدى الشباب، تعبير عن هوية للمستعمل محدّدة في العلاقة بالشاشة التي يتوسّط بها العالم عبر مشروع قيد التشكل أكثر مما هو تطابق مع تراث أو تقليد أو ما نشأ عليه. ولئن كان كلّ مشروع يستند على الإستراتيجية، فإنّ الحب في حالنا هذه يخضع لاستراتيجيات، بقدر ما تطلبه، دونما وعي تقصيه حين تخضعه لوساطة تقنية وليس لوساطة مؤسّساتية وهو ما يجعل المجتمع قبالة التقنية وليس مستوعبا لها و مدمجا لها أنْ تضحي جزءً من مكوّناته وثقافته.إلاّ يكون ذلك تبقى التقانة دوما خارج المعرفة العامة
و غريبة عنها حتّى ولو استعملتها و تملّكتها.
ثمّة حاجة إلى إعادة رسم مفاصل العلاقة بين الخاص والعام، الفرد والمجتمع، بمعنى أنّه إن كان ثمّة غياب لتوريث ما بين الأجيال لنماذج معيارية أو لنقل توريث ما لهذه النماذج من بداهة الوجود والتأثير و التي لم تعد لها قوّة تلك البداهة، على معنى إعطاء معنى اجتماعيا للسلوك بين الجنسين. وإن فقدت التقاليد بعضا أو كثيرا من بريق إدماجها وضبطها للممارسات، وأصبحت مدعوة للدفاع عن نفسها أكثر مما تدافع عن مجتمعاتها، فإنّ ذلك لا يجيز أن نستعيض بالتقنية لكونها يستحيل عليها أن تتحول إلى مؤسّسة اجتماعية. إذ لا يجوز أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
خاتمة
لعلّ هذا ما نحتاجه اليوم أكثر مما نحتاج التقانة. نسوق ذلك ليس للقصد بالرجوع القهقرى فذاك أمر ليس بالتاريخي و يتناقض مع بنية فكرة المجتمع. القصد هنا أنّ الشاب في حاجة أكثر من أيّ وقت مضى للأطر التنشيئية أو لمضامين ثقافية تنشيئية جديدة داخل الأطر التقليدية –العائلة و المدرسة - تسدي له معنى اجتماعيا و دلالة لوجوده.
*******************************
الهوامـــــــــــــــــش
الطاهر لبيب، سوسيولوجيا الغزل العذري. ترجمة حافظ ذياب، مصر، الدار العربية للنشر، 1986.
Beck. U,La société du risque, sur la voie d'une autre modernité, trad. Bernardi. L, Paris, Aubier, 2001.
Bourdieu. P, Science de la science et réfléxivité, Paris, Minuit, 1974. Dubet. F, Sociologie de l'expérience, Paris, Minuit, 1994.
Giddens. A, Les conséquences de la modernité, Paris, L'harmattan, 1994.
Habermas. Y, La science et l'idéologie comme idéologie,Paris, L'harmattan, 1964.
***er. M, Economie et société, PUF, 1953.
د. ماهر تريمش
الأكيد عربيا أنّ بين الجيل الذي سلف و الجيل الحاضر مسافة مديدة لا تقاس زمنا إنّما اجتماعيا. فتسارع التغيرات التي تحدث في العالم العربي و خصوصا سرعة دخول تقانة الاتصال الحديثة بالكثافة التي نشهدها جعل من قنوات الاتصال التقليدية بين الأجيال
و الأطر الاجتماعية التي تؤطّر ذاك الاتصال تضعف قبالة تسلل للتقانة إلى تلك العلاقات الاجتماعية حتّى أضحت في كثير من مجالات الاجتماعي ليس مجرّد وسيط بين الفاعلين في المجتمع إنما العلاقة ذاتها على معنى أنّ وسائل الاتصال الحديثة هي التي أضحت تسطّر لنا هويّة تلك العلاقات و تشكّلُها و حدودها و تبُنى الذوات بها و من خلالها. لتلك المعاينة أهميـّتها أنْ كانـت مدخــلاً لفـهم بعـض مـن الآلـيـات الـتي يبـني بـها الشـباب العـربي هويـته الاجتـماعية واستشراف أفق هذه الهوية خلال العقود
المقبلة.
تسعى هذه المقالة إلى محاولة كشف تأثير و سائل الاتصال الحديثة على تشكّل الذات الاجتماعية للشباب العربي. و لقد اتخّذنا هنا موضوعا للبحث الرسائل العاطفية التي تتداول "عربيا" سواء عبر التلفاز أو الإنترنت أو الهاتف الجوال. ذاك أمر يسمح لنا باستنتاج ما يمكن استنتاجه دون الارتباط بخصوصية السياقات العربية و يتيح لنا البحث عمّا يشترك فيه الشاب العربي من حيث المرجعيات الحديثة التي تؤثّر في تشكيل ذاته
و لعلّ وسائل الاتصال ما ييّسر لنا ذلك لذيوعها عربيا و لاشتراك الشباب العربي في استعمالها، و لو بدرجات متفاوتة. أمّا منهجا فقد كانت المقاربة تأويلية، تسعى إلى تحليل خطاب الرسائل المنقاة بعد تبوبها. و إن جنحنا إلى مثل هذا المنهج فلأنّ التكميم هنا لا يفيد في شيء في فهم المعنى الاجتماعي، على المعنى الذي قصده فيبر ***er ،(فيبر، 1953) الذي تتضمّنه الرسالات المقروءة.
1- الحبّ علاقة اجتماعية
"الحب أعزكم الله أوّله هزل وآخره جد"ّ. هكذا عرّفه ابن حزم الأندلسي بيد أنّه مع وسائط التواصل الالكترونية (الجوّال والتلفاز والإنترنت) أضحى في بعض وجوهه غير ذلك أن ظلّ فقيد الجدّ واستوقفه الهزل، على معنى اللعب.
نقصد باللعب هنا من منظور سوسيولوجي تلك الممارسة الاجتماعية الاستفكارية Réflexive ( باخ 1998، و بورديو 2001، و غيدنز 1989) والتي تسم المجتمعات الحديثة. فيها نشهد صعودا لا قابلة له لقيم الفرد و الريبيّة. هي مقوّمات للفعل الاجتماعي. كل ذلك قبالة تراجع أو لنقل اهتراء المؤسّسات التنشيئية والأطر المرجعية "التقليدية "، حتّى تلك الأصلب منها. ما يفيد به براديغم اللعب هنا أنّ المجتمعات الحديثة و بعيدا عن الخوض في خصوصياتها صارت فضاء علاقات يبني فيه الشاب هويته عبر إستراتجيته التي يصطنعها لنفسه إما توكّلا على مختلف البنى الاجتماعية و إمّا استثمارا لها بما يفيد صياغته لتجربته الاجتماعية لبناء الذات على المعنى الذي قصده عالم الاجتماع الفرنسي فرنسوان دوبي François Dubet( دوبي،1994). ذلك أنّ الذات الاجتماعية لم تعد تبُنى بالإحالة، إحالة إلى العائلة والقيم التقليدية و مختلف الأطر المرجعية الأخرى: دين
و مدرسة و نحوه، بقدر ما أضحى التعامل مع جميعها تعاملا انتقائيا فأضحت بذلك رصيدا مختزنا ليس على معنى التراث الهويّ الذي يشكّل الهويّة للشاب العربي، إنّما على معنى استثماري فيُؤخذ منه ما يشكّل به الشاب فعله في المجتمع بحسب السياق الذي يعيشه و بحسب، إذن، استراتيجته في الفعل فيجنّد من الموارد مختلفها و لربّما "متناقضها" (الغربي و العربي- ما هو أصيل و ما هو حديث، ما هو محلّي وما هو كوني، ما هو ديني و ما هو غير ذلك).
نرشّح هاهنا سوسيولوجيا المخاطرة Sociologie du risque نظرية بمقدورها مدّنا بآليات لفهم "ظاهرة " الحب بما هو رابطة ترتقي وترعى عبر وساطة الهاتف الجوّال.
و لأنّها محاولة في الفهم فإنّ القراءة هنا للرسالات messages المتداولة. هي قراءة تأويلية تبحث في الدلالة الثقافية للحب مثلما هو يُصنع و"يتجوّل" بين الفاعلين. ثمّ إنّ سوسيولوجيا المخاطرة تجد تسويغها في ضرورة فهم تسارع التحوّلات التي تتسلّل إلى مجالات متعدّدة في الحياة ونكوص عن هذه التحوّلات مما يجعل براديغم التغير الاجتماعي في منظوره الخطّي للظواهر أبتر عن تفسير صروف السلوك و فهمه، والإجابة عن كلّ الأسئلة التي تطرحها حدّة الظواهر وقراءة مضامينها.
كذلك هي نظرية المخاطرة، تسعف القراءة من الزلل في ثنائيات طالما سكنت السوسيولوجيا بل حتّى أنّها تقي القراءة هنا، آليات تحليل كانت على الفكر العربي ظهيرة. إنّها تحطّم المسافات بين الأزمنة، الماضي والحاضر، وتتنكّر لازدواجية التقليدي والحداثي. من أجل ذلك هي مرشّحة بقوّة لفهم ظواهر خارقة للحدود والمسافات ولربّما للخصوصيات على تكاثرها في أزمنتنا الحاضرة. فالتحولات التي تصيب عالمنا و منها ما يصيب المجتمع العربي تجعل مسوّغاً النظر إلى الأشياء بعيدا عن الثنائيات في فهم الظواهر الاجتماعية.
ما هو مقترح هنا إذن، فكرة مفادها أنّه ثمّة إعادة صياغة لرابطة الحبّ في اتّجاه اللّعب بما هو فعل انعكاسي فردي في سياق اجتماعي أكثر ريبيـّة فيه تكفّل بالقدر الاجتماعي فرديا. المخاطرة هنا اجتماعية على معنى أنها خطرٌ يصطنعه البشر لأنفسهم إمّا تسببّا فيه أم تصرّفا فيه. ولأنّه كذلك فهو مخاطرة RISQUE وليس خطر Danger.
و بعيدا عن الرؤية الأدبية أو الفنيّة أو النفسية للحب، فإنّ ما يمكن الذهاب إليه سويولوجيا أنه رابطة اجتماعية تتشكّل فيها الأنا بالنظر إلى الآخر و لعلّه يؤشّر على تصوّر الإنسان في التواجد مع الآخر أي في الاجتماع البشري على حدّ قولة ابن خلدون . من هنا تأتي أهميّته الاجتماعية. و ليس القصد أيضا الحبّ "الفطري" الذي يسكن ربّما الصلات الاجتماعية التي سندها قرابة دموية.
الحبّ عندنا ما يمكن أن يجعل الأنا تلتقي بالآخر لاستمرار الوجد المشترك و بالتالي الاجتماع الإنساني. ما قيل عن الحبّ و صفا أم رواية كثير لكنّ ما يمسك النظر إليه هو فيما سَكنَ الشِعر والملحمة، فإنّه ظلّ عند حدود الإحساس و الفاجعة .
أمّا سوسيولوجيا فقد رأى الطاهر لبيب (لبيب 1986) أنّ الحبّ العذري حبّ "طبقي" يعبّر عن منزلة اجتماعية صلب تراتبية اجتماعية و ثقافية أكثر ممّا يعبّر عن رؤية مثالية صرف للعالم. كذلك نرى الحبّ في هذه الورقة. هو علاقة بالآخر و بالعالم حمّالة لصورة عن الذات أكثر ممّا هو شعور مع الآخر.
مفارقة الحبّ مثلما يساق عند الشباب العربي و على ما كشفته الرسالات المدروسة أنّه حبّ "أناني" على ما يبدو عليه من كثرة الإحالات التي تستحضر الإحساس فاجعة أو لذّة. فإذا كان الحبّ كأرقى حدود أن تكون مع الآخر صديقا:"صديقك آخرُ هو أنت، إلاّ أنّه غيرك بالشخص" كذلك قال التوحيدي على معنى أنّ الحبّ هو الغير الذي ليس لي أو بالأحرى الغير الذي لست أنا. فإن ما يُقرأ في الرسالات مفارقات تجعل من الحبّ لا ذاتا تبنى بالآخر و آخر يمكن آن يكون آخر اجتماعيا . الحبّ يجري مجرى اللعبة التي ليس بين لاعبيها غير اللعب. لعبة بالوسع أن تعاد بل أن تشترى لا بل أن تصنع و تُسلّع
و تتداول فيستهلك على أنّه كذلك. الخطر هنا إن كان ثمّة خطر، فهو أن ليس للاجتماع على معنى العيش المشترك في السراء و الضرّاء و حين البأس ما يفضي إليه الحبّ
أو هو يدعمه.
2- تعبيرات الحب المتقنن
يسود حديثا عن وسائط الاتصال الحديثة احتماء بنظرية الانشراط بغية تفسير الممارسة التي ترتبط بها استعمالا لها أو استهلاكا لمضامينها. وهي في عمومها تقول بعلوية الوسيلة على مستعملها على معنى تحدّده في موقع المتأثر والسلبي بما هو متلق لا أكثر
و لا أقل. في واقع الأمر تجد هذه الفرضية في التنشئة أسّا لها فيما ساد من أدبيات وظيفية ترى في التنشئة فعل تلقين يفضي إلى أن يستبطن الطفل ما يرُاد له أن يستبطنه دونما وعي منه. حينها يمكن أن ينتمي إلى المجتمع كائنا اجتماعيا من فرط ما ادّخره غرسا فيه من مضمون ثقافي و اجتماعي عبر العائلة. غير أنّ هذه المقاربة البافلوفية على ذيوعها في تفسير سلوكات الأطفال في علاقتها بمشاهدة البرامج التلفزية و تفسير العنف في المجتمعات الحديثة ليس بوسعها أن تفسّر أمر البقية التي تشاهد ما يشاهده الآخرون و لا تفعل ما يفعله الآخرون أو التي تنشأ على ما تنشأ عليه زمرة واحدة لكنّها تفضي إلى ذوات مختلفة. تبدو هنا نظرية الوساطة أكثر خصوبة وقدرة كشفية لفهم العلاقة بين التقنية والإنسان لما تمنحه من إمكان للفاعل في رسم الرابطة بالتقنية وهي في كلّ الحالات رابطة تتحدّد بالسياق الاجتماعي عموما.فعلى خلاف شونان الذي يرسم سيرورة التواصل على أنها رابطة باث و متلق قد تتوسط الآلةُ تلك الرابطة لكأنّها مجرد جسر يفتقر لكلّ تأثير عبره يرسل ما نبتغي إرساله، فإنّ ما نذهب إليه أنّ الآلة هنا هي التي تصوغ تلك الرابطة ليس لكوننا نشرط بها إنما، وهو الأحرى أن يقال، لكونها تحمل معها ثقافة ما قال عنها هابرماس الأيديولوجيا التقنية (هابرماس 1964).
إنّ ما كتبه هابرماس عن أيديولوجية التقانة، الصواب فيه كثير ، على معنى أنّ التقانة حمّالة لعلاقة بالعالم و بالآخرين و من ثمّة بالأنا فتُسدي منظورا نرى منه كل ذلك. غير أنّ قوله ذاك لا يفيد في شيء أنّ التقانة نجد لها انعكاسا – لعلّه على الطريقة الماركسية – فيما يبدو من الناس من أفعال. إنّ أثرها علينا يكمن في أنها غيّرت علاقتنا بالعالم الذي صار يُرى إمكانا مطلقا لما نريد و نتمنّى. هنا تحضر مسألة المسؤولية الاجتماعية للفاعل في المجتمعات الحديثة على المعنى الذي قصده جوناس أي القدرة على تحمّل الفاعل الاجتماعي فعلَه. لقد أضحى الحبّ هنا هذا الإمكان المطلق. لذلك استحال معدمًا، عملا بالقول المأثور إذا بلغ الشيئ حدّه انقلب إلى ضدّه. القصد هنا أنْ لم يبقى للحبّ معاناته
و استحالاته و لا بناء مع الآخر لذات لا تبنى إلا معه. بل ما يسود فيه أنّه أضحى في كلّ مكان و يسمع حيث كان فصار لا هو موجود و لا هو يُسمع.
بيد أنّه مع التقانات الحديثة و تحديدا مع الرسالات الإلكترونية يبدو ثمّة تكثيف لوضع مفارق فيه علاقة تساوق بين نمط التواصل ونمط التفكير ولعلّ الغلبة أحيانا كثيرة إن كانت ثمّة غلبة فهي للأولى على الثانية. لا يعني ذلك عود إلى نظرية الانشراط إنّما هو افتراض بأنّ التقانات الحديثة ليس فقط أداة منظورا إليها وظيفيـا بل هو بنية حمّالة لقواعد ممارسة في الفضاءات الاجتماعية و لايتيقا المسؤولية وهو في حالنا اللاّ مسؤولية .
3- في سمات بناء الذات عند الشاب
فعربيا إذا كان للحب مائة اسم أو يقلّ عن ذلك قليلا حسب الروايات، وخصّصت له أبواب وصنّفت له ضروب في طوق الحمامة فإنّه من خلال الرسالات الإلكترونية انحسر في اغلب استعمالاته فيما يلي من السمات. هي الأهم من حيث تضمّنها للدلالات الثقافية الأهم.
- إمّا باللغة الفرنسية أو الإنجليزية وله فيها مرادف واحد
- أو اختبأ وراء استعارات تحضره حين يغيّبها استعاضة بها عنه وليس تعلية له ( أوكسجين – حياتي – هبال... ) .
- وإمّا يعبّر عنه باللهجة العاميّة ( نموت عليك/ هبلتني /قطّوستي /تحفونتي / ...) .
- وأمّا يرمز صورةً ( القلب الجريح /العصفور الميت/الحية ...)
- وإمّا لغة مرمزّة أو رموزا تفكّك : أن تكتب الحروف أرقاما أو تكتب العربية بأحرف أعجمية: 3=ع و'3=غ و 7=ح و 5=خ و 9=ق و 1=أ
إنّ ما يهمنا هنا من خلال السمات الأهم للحبّ كمل هو حضر هو أنّ التعبير عن الحب أضحى يحال إلى آخر بحيث تقرّه من حيث ننكره عنا. فكثيرة هي الرسالات التي تتوارى و راء اللا إسمية أو وراء الرمز أو اللغة الأعجمية. قد يكون في ذلك خوف من الحبّ باعتباره مسؤولية ايتيقية، مجرّد الإقرار بها يحيل المحبّ غير المحبِّ أي يخوّله ذاتا اجتماعية تحمل مسؤولية تجاه الآخر في عموميته. و قد يكون في ذلك احتماء وراء خصوصية باعتبار أنّ الحبّ لا يعاش إلا تعبيرة عن حميمية لا يُشرك فيها إلاّ من رضي عنه. لكنّ الحبّ لا يكون كذلك إلا متى أعلن في المجتمع كذلك، أي مشهورا لكون في ذلك إعلان عن هويّة اجتماعية. كذلك كان أمر ملحمات العشق التي عرفها العرب و غير العرب فإحساس قيس أو عنترة و غيرهما كثير ما كان ليكون حبّا لولا أن أضحى مشتركا في المجتمع أي ليس علاقة بعبلة فقط إنما من خلالهما علاقة بالناس أجمعين حتّى أولئك الذين هم غير معاصروه. لذلك هو جزء من ثقافة العرب و العالم حتّى، و لذلك هو مجتمعي.
أنْ يختزل التفاعل الاجتماعي إلى الترميز والتشفير يجعل إمكان أن يكون الفاعل غير شفّاف غامض ومجهول هو الإمكان السائد في كلّ علاقة تصبو أن تكون حبّا. فما يكتبه المرسل باعتباره ذاتا اجتماعية من خلال نصّ الرسالة تباعد المناطق الداخليّة " أي الهوية الاجتماعية للشاب عن المناطق الأماميّة أي "الواجهة" الاجتماعية التي يُخرج هويته الاجتماعية بها للناس في الفضاء العام على حدّ تعبيرة غوفمان Goffman (غوفمان، 1978) . إنّ ما تمّت معاينته هنا هو أنّ المحب يعلن عن نفسه دوما بإخفائها وراء اسم مستعار أو شفرة ما. التفرقة هنا مع الحميمية و حفظ الخصوصية ضروري. ذلك أنّه متى أعلن الحب حيث كلّ الناس و ليعلم به الناس أجمعين دون أن يعلن المحب و الحبيب فليس في ذلك احتماء وراء خلق ما بقدر ما هو هروب من مسؤولية أن يعلن الشاب عن نفسه
و بالتالي أن يقحمها في الفضاء العمومي أي مع الآخرين. و إلاّ ما الذي يجعله ينشر حبه في وسائل الاتصال أو يعبّر عنه بما تنمّط من رسائل عاطفية نلقاها ذائعة في الهواتف النقالة بحيث لا نفرّق فيها بين خصوصية كلّ تجربة؟ أنّ ما بوسعنا أن نذهب إليه هو أنّ الشاب يفتقد إلى القدرة على أن يثبت وجوده كائنا اجتماعيا و أن يتحمّل مشاعره أو لعلّه يفتـقر إلـى الأطـر والمرجعيات التي تسنده في ذلك فيؤثر التعبير عن الذات في مناطق هامشية من مختلف الفضاءات و الأطر الاجتماعية و يتوسّل لذلك ليس اللغة مثلما فعل الشعراء و الرواة إنمّا الخربشة. هي لغة ليست باللّغة يعبّر بها و يتواجد بها الحبّ في تخوم المجتمع أو هي في وسطه لكنها مقصيّة منه. قد يكون ذلك من جرّاء أنّ المجتمع أضحى في عموميته لا يعترف بالحبّ و إلى ذلك نذهب في التفسير، لكن الكتابة عن الحبّ بالرمز و الشفرة إنّما فيها أيضا خوف من تحمّل الحبّ اجتماعيا إذ بقدر أنّه لا يطاق فرديا هو أكثر منه اجتماعيا. هكذا يهرب الشاب من أن يكون جزء حاضرا في صلب المجتمع و يؤثر التخفّي فيما هو هامشي أو تخومي منه.
ما تتميّز به المراسلات الإلكترونية هو أنها تُخضع الحبّ إلى حدود الفضاء والرمز الذي تحملها التقانات التي بها ترسل ( الهاتف الجوال بالخصوص) ذلك أنّه يضحى متحكما بدرجات طبعا، في أشكال التعبير عن الحب ومضامينه. ما يحضر هنا ليس اقتصاد المنطق الذي يمثل مقوما للغة العربية بل منطق الاقتصاد. فليس خافيا أنّ للهاتف الجوال كبقية الأحيزة حدودا مكانية و زمانية. الإشكال هنا أنّ تلك الحدود هي التي تحدّد الشعور على معنى ترسم له فضاءاته التي يظهر فيها و يُتداول و الأزمنة لذلك. و على عكس ما تبدو "العولمة " تمنحه للناس من تقلّص للمسافات و الأزمنة بين بينهم، فإنّ في حالنا هو العكس ما يبدو أسلم. فالتفاعل أضحى موسّطا الشاشة ( شاشة الهاتف أو التلفاز أو الكمبيوتر) وأضحت الإمكانات التي تتيحها تلك الشاشة هي حدود الحب الذي نحبّ به أو من خلاله. ما يبدو حقيقة هنا أنه ثمّة غلبة للسوق على المشاعر فتتحدّد تبعا بقيمتها التبادلية أكثر منها قيمتها الاستعمالية. غلبة التقني على المخيالي، والاقتصادي على اللغوي، يعتبر أهم تجليات التشيّؤ Reification مثلما عرض ذلك هابرماس و لوفافر Lebfevre وغولدمان Goldman وهو سيرورة يطال مداها حدّ تكميم النوعي و تسليع المشاعري.
ولعلّ ذلك ما يهلّ من خلال ما استجلينا من محددات صياغة الرسائل ذات المضمون العاطفي. لقد وجدنا أن ما يحدّد الرسالة ليس مضمونها أو دلالاتها بقدر ما هو كميتها أي عدد الأحرف المرسلة وهو ما يبدَّل في مثل هذا الاستعمال نقدا على معنى أنّ الحبّ يحدّد بتكلفته المادية التي ترسل بها الرسالة. لذلك ترُمز الرسالة وتُختصر وتقطع وترسم شكلا وتحرّف لغة طبقا لمنطق الاقتصاد. وهو منطلق استثماري حسابي تُغلّب فيه قيم التكيّف والمرونة و النجاعة على قيمة الإنسان و الايتيقا.
وبشكل مفارق ولئن أضحى الجوال الفضاء الذي يرسم حدود الفعل وتتشكل اللغة العاطفية طبقا لحدوده الفيزيقية المادية فإنّه مكّن الفرد من مد شبكة علاقاته دونما ضيق الجغرافيا أو ضغط الزمن. صحيح في أن ذلك تسامح بإعادة صياغة أثر الأطر المؤسّسة للحب أو المراقبة ونقصد هنا تحديدا العائلة والأخلاق، وصحيح أنّه مكن من انفجار المشاعر (83% من الرسائل هي ذات مضمون عاطفي) إلا أنّ تداول هذه الرسائل فيه حاجة إلى أن يكون الشاب موصولا بالآخرين فيفلت من أن تكون فردا. ثمة بحث من خلال الحب المتداول عن أمن يغذيه توجّس من الريبية و صعوبة في التكفّل بالذات في الفضاء العام فيفلت الشاب بشكل مفارق إلى العمومية على معنى الوجود سرا لكنّه يشارك الآخرين ما لديهم مما يتداول عن الحب حتّى يطمئن قلبه دون أن يشترك معهم فيه.
نلقى هذا الاستنتاج حاضرا مثلا من خلال ما يقال له لدى الفتيات ببحث عن "الصحيح" أو "الرجّال" الذي يرجى منه أن يكون ليس تجربة حبّ، عابرة أو دائمة فذاك أمر ثانوي، إنّما المهمّ أن يكون الشاب موصولا، لا أن يذر نفسه فردا. أو أن يضمن بشكل ما استقرارا أي زيجة في وقت أضـحى فيـه اللا يقين أي المخاطرة تمتد من الاجتماعي إلى السياسي إلى البيئي و تهدد حتّى الوجود البيولوجي للإنسان عينه. فمن خلال الاستعمال الرمزي التراتبي لأرقام الهواتف تعويضا عن تراتبية المجتمع قصد المعاكسة (
في تونس مثلا الأرقام التي تبدأ بـــــ98 هي أعلى الأرقام تراتبيا في المستوى الرمزي لكون أول من تحصّل على الهاتف الجوال في تونس هم ذوي منصب أو جاه أو مستوى اجتماعي راق في عموميته. لذلك ترى المعاكسات بالهاتف كثيرا ما تستعمل صدفة الأرقام التي تبدأ بذاك الرقم ثمّ بــ 97 وهكذا دواليك) بزعم إمكان العثور مصادفة أو "السقوط" أو مثلما يقال"نطيح" على ما تظفر معه بأمن يخرج مما سمي "قلق" "هكذا" أو اللا معنى اجتماعي الذي يعيشه الشاب وهي كلها أجوبة عن صعوبة تحمّل واقع لم يعد يقدم ما يكفي من قدّرة على الإدماج، و عن غياب مؤلم لمعنى اجتماعي ما.
ذاك ما يجعل الإقدام على المخاطرة بالحبّ كما بقيادة السيارات وبغيرها من الظواهر السلوكية لدى الشباب التي تؤشّر على سرعة التغيّرات التي تصيب مجتمعنا دونما ربط لهذه التغيّرات بما أسماه دور كايم يوما "الضمير الجمعي". قد يكون للوسائط الاتصالية الحديثة أمر في ذلك لما تسمح به من تشتت فضائي ولما تتيحه للفرد من إمكان رتق علاقات دون استقرار كبير حيث السرعة وستر الهوية و لمّا توفره ثورة المشاعر التي نراها متفجّرة في كل شيء. لذلك نلقى رسائل كثيرة جدّا متداولة تكاد تكون منمّطة يعبّر بها عمّا هو مشاعري عاطفي وحميمي. هنا قد تكون العلاقات العاطفيّة أكثر كثافة وتعدّدا ولكنها أيضا أكثر هشاشة ورتابة.
قد يفسّر ذلك برغبة في الإحساس برقابة أكبر على المصير حينما يصنع الفرد علاقاته العاطفيّة فيُبقى ما يبقى و يلفظ ما يريد تكريسا لسلطته على ذاته. وقد يكون أيضا مخاطرة ضاغطة مدروسة ومفكّر فيها خاضعة إلى انعكاسية يسكنها هوس في التحكّم في توقعيّة الممارسات.
ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يبدو مثيرا في تجربة الحب عبر وسائط الاتصال الحديثة تلك هو خوف من الانخراط في علاقات دائمة مستقرّة. فالحب في حديث بعض المستجوبين ينتهي دوما إلى الزواج أو هو بالأحرى يبدأ منه. قد يشرّع ملاحظتنا هذه، القول بأنّ الحبّ استحال ولكونه فقد مباشريته ولكونه أضحى حبّا متنكرا مستترا عن الذات ومشتركا بين العموم ليس شعورا إنّما هو إحساس أنّه ثمّة انزلاق من الفكرة إلى اللذّة. إنه حمّال لرغبة في أن يكون الشاب موصولا دون أن يكون مسؤولا. المسؤولية هي ما يغيب مع غياب الحب باعتباره حضورا للذات وانخراطا لها ليس فقط في المجتمع إنّما مع المجتمع.
كذلك هو أمر الحب حيث الحميمية عمومية والمشاعر الخصوصية معمّمة في رسائل منمّطة مفتوحة على الكلّ لمن له رغبة في أن يصل نفسه به وهي رسائل في أغلبها درامية تعلن استحالة الحب أكثر من إمكانه فينزع عن الحب واقعيته ومعايشته علاقةً مباشرةً و يضحى تجربة يخترقها الزمن وتحدّدها ما تقدّه التقانة من إنكار الذات وتوريتها وإمكان انتقال من زمرة إلى زمرة ومن رابطة إلى أخرى بيسر يسير دونما مراجعة أو وقفة ايتيقية. على هذا النحو يختزل الواقع إلى المرئي ويختزل المفكّر فيه إلى المعيش
و يختزل المعيش إلى الوسائطي.
قد يكون لوسائل الاتصال الحديثة تلك، وهي فعلا كذلك، امتدادا للذات أن فيها وبها تحاك روابط اجتماعية كثيفة ولكنها أيضا اختزالا للذات وقدّا لها من روابطها الإنسانية كما لو أن الفرد مالك لمصيره صانع له ّ" الحب كوسيلة اتصال ليس شعورا في حدّ ذاته ولكنه رمز اتصالي يمكنّنا من التعبير " هكذا قال عنه لوهمان Luhmann (لوهمان، 1999).
كذلك هو الحبّ لدى الشباب، تعبير عن هوية للمستعمل محدّدة في العلاقة بالشاشة التي يتوسّط بها العالم عبر مشروع قيد التشكل أكثر مما هو تطابق مع تراث أو تقليد أو ما نشأ عليه. ولئن كان كلّ مشروع يستند على الإستراتيجية، فإنّ الحب في حالنا هذه يخضع لاستراتيجيات، بقدر ما تطلبه، دونما وعي تقصيه حين تخضعه لوساطة تقنية وليس لوساطة مؤسّساتية وهو ما يجعل المجتمع قبالة التقنية وليس مستوعبا لها و مدمجا لها أنْ تضحي جزءً من مكوّناته وثقافته.إلاّ يكون ذلك تبقى التقانة دوما خارج المعرفة العامة
و غريبة عنها حتّى ولو استعملتها و تملّكتها.
ثمّة حاجة إلى إعادة رسم مفاصل العلاقة بين الخاص والعام، الفرد والمجتمع، بمعنى أنّه إن كان ثمّة غياب لتوريث ما بين الأجيال لنماذج معيارية أو لنقل توريث ما لهذه النماذج من بداهة الوجود والتأثير و التي لم تعد لها قوّة تلك البداهة، على معنى إعطاء معنى اجتماعيا للسلوك بين الجنسين. وإن فقدت التقاليد بعضا أو كثيرا من بريق إدماجها وضبطها للممارسات، وأصبحت مدعوة للدفاع عن نفسها أكثر مما تدافع عن مجتمعاتها، فإنّ ذلك لا يجيز أن نستعيض بالتقنية لكونها يستحيل عليها أن تتحول إلى مؤسّسة اجتماعية. إذ لا يجوز أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
خاتمة
لعلّ هذا ما نحتاجه اليوم أكثر مما نحتاج التقانة. نسوق ذلك ليس للقصد بالرجوع القهقرى فذاك أمر ليس بالتاريخي و يتناقض مع بنية فكرة المجتمع. القصد هنا أنّ الشاب في حاجة أكثر من أيّ وقت مضى للأطر التنشيئية أو لمضامين ثقافية تنشيئية جديدة داخل الأطر التقليدية –العائلة و المدرسة - تسدي له معنى اجتماعيا و دلالة لوجوده.
*******************************
الهوامـــــــــــــــــش
الطاهر لبيب، سوسيولوجيا الغزل العذري. ترجمة حافظ ذياب، مصر، الدار العربية للنشر، 1986.
Beck. U,La société du risque, sur la voie d'une autre modernité, trad. Bernardi. L, Paris, Aubier, 2001.
Bourdieu. P, Science de la science et réfléxivité, Paris, Minuit, 1974. Dubet. F, Sociologie de l'expérience, Paris, Minuit, 1994.
Giddens. A, Les conséquences de la modernité, Paris, L'harmattan, 1994.
Habermas. Y, La science et l'idéologie comme idéologie,Paris, L'harmattan, 1964.
***er. M, Economie et société, PUF, 1953.
د. ماهر تريمش