نقوس المهدي
كاتب
تاريخ المرأة العربية في القرن العشرين وتجربتها هما تاريخ الحداثة وتجربتها في الوطن العربي، فقضية تحرير المرأة تدخل في صلب كل القضايا الكبرى التي عرفها القرن.
خرجت غالبية بلدان الوطن العربي من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وهي محتلة تستنهض قواها للخلاص من الاحتلال.
وادعى المحتلون في كل آن أنهم إنما يحملون رسالة الحداثة إلى البلدان المستعمرة (بفتح الميم), ويعلمونها النظم الإدارية الجديدة مع لغاتهم, وينقلون إليها قيم الحرية والإخاء والمساواة وحرية المرأة, كما ادعى (نابليون) حين قام بحملته ضد مصر في نهاية القرن الثامن عشر وتعرض لهزيمة منكرة. لكن الواقع يقول لنا إن الحملة الفرنسية حين خرجت من مصر بعد أن حاربها المصريون رجالاً ونساء بكل قوة حملت معها المطبعة التي جاءت بها. وحين دخل الفرنسيون إلى الجزائر بعد هزيمتهم في مصر باثنين وثلاثين عاماً وأنشأوا فيها المستوطنات حاولوا اقتلاع اللغة القومية للبلاد لتحتل الفرنسية مكانها, وكان الطابع الأساسي لاستعمارهم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ثقافيا وعامل تشوه للثقافات الوطنية لبلدان المستعمرات.
وفي القلب من ثقافة الشعوب تقع قضية المرأة بتناقضاتها والتباساتها, وكثيرا ما ترى الشعوب أن خصوصيتها القومية هي امرأة تجسد شرف الوطن, وطالما عوقبت المرأة باسم هذا الشرف.
وفي الجزائر مثلاً اتخذت مقاومة النساء للاحتلال واشتراكهن في الحرب ضد المحتلين شكل التمسك بالزي القومي للبلاد الذي تغطى به المرأة رأسها ونصف وجهها, وقد استخدمت النساء هذا الزي القومي لإخفاء الأسلحة والمنشورات ونقلها من مكان لمكان.. وهو الزي نفسه الذي حين بدأت المرأة الحديثة تتخلى عنه لأسباب عملية جرى اتهامها بخيانة الدين من قبل قوى سياسية تسعى لبناء دولة دينية في الجزائر.ومع ذلك حين استقلت الجزائر حصلت المرأة على بعض الحقوق دون حقوق أخرى.
وفي بلدان عربية أخرى تمترست فيها قوى سياسية كبيرة خلف الدين الذي بدا أفضل تعبير عن هوية مجروحة ومهزومة في مواجهة العنف الاستعماري قديمه وجديده.
وتداخلت عمليات مقاومة الاحتلال مع نشوء الحداثة في كل البلدان المحتلة, والحداثة تعني على المستوى الفلسفي تحرير الفرد وإطلاق إمكاناته كافة, وعلى المستوى الإنتاجي هي نشر الصناعة وعلى المستوى الإداري اتباع النظم الجديدة في الإدارة, وعلى المستوى السياسي هي الديمقراطية بما تتضمنه من كفالة حق الاقتراع العام والتعددية السياسية وتداول السلطة, والإصلاح الديني بما يؤدي إلى فصل الدين عن السياسة وبقائه شأنا شخصيا بين الإنسان وربه.فإذا فحصنا تاريخ الأقطار العربية في كل بلد على حدة أو في تشابكاته فسوف نجد أن هذه القيم والآليات جميعا لم تنضج أبدا حتى نهايتها أو تستقر في بلد واحد أو في كل البلدان, فبقي الفرد مكبلا بالسلطة الأبوية أو سلطة القبيلة والعشيرة, ولم تنتشر الصناعة على نطاق واسع لتصبح هي المصدر الرئيسي للثروة, إلا عندما انفجرت الثروة النفطية في بلدان الخليج ونشأت حولها صناعات متقدمة كجزر معزولة ومرتبطة أساسا بالأجانب, حتى النهضة الصناعية الكبرى التي قامت في بعض البلدان في منتصف القرن سرعان ما تعرضت للتصفية بطريقة أو أخرى, وباتت النظم الإدارية الجديدة بدورها مرتبطة بالقطاعات المتقدمة في المجتمع وفي الصناعة, أو ظلت البيرقراطية القديمة تعشش في بقية مؤسسات المجتمع حيث نظم الإنتاج ما قبل الرأسمالية التي لم تختف بعد.
المرأة وحالة الطوارئ
وباستثناء تجربة تداول السلطة في المغرب قبل عامين فإن نظما استبدادية معادية للديمقراطية, عشائرية أو قبلية أبوية, تفرض حالات الطوارئ وتقيد الحريات وتحاصر حركة الجماهير ومنظماتها, وهي لاتزال تتحكم في مقدرات ومستقبل الشعوب العربية بل وتبدد طاقاتها لمواجهة المشروع الصهيوني العنصري الاستيطاني في فلسطين.
ونتيجة لكل هذه العوامل تعثرت مسيرة الإصلاح الديني وحوصرت من قبل الفقه المحافظ والتفسير النصي, وجرى عزل أو تهميش دعاة الإصلاح الديني في كل البلدان العربية بلا استثناء حتى يومنا هذا ومنذ نفي ابن رشد وأحرقت كتبه.
ويرتبط الإصلاح الديني ارتباطا وثيقا بقضية تحرير المرأة التي يهيمن على مصيرها التخلف.
أصبح الانتقال إلى الاشتراكية هدفا مطروحا على جدول أعمال القرن منذ بدايته, وتأثرت به إلى حد كبير نظم التحرر الوطني التي طرحت بدورها مسألة العدالة الاجتماعية كقضية محورية, وفي ظل هذا الهدف نفسه دار صراع مرير في الوطن العربي بين النظم المحافظة والنظم التحررية حول مستقبل الأمة, وكانت قضية المرأة إحدى القضايا المحورية الكبرى في هذا الصراع لأنها تقع في صلب كل من التحرر والديمقراطية والإصلاح الديني خاصة بعد أن اندفعت المرأة إلى سوق العمل المنظم وهي التي عملت دائما خارجه.بل إن ثورة التصنيع التي عرفتها بعض بلدان المنطقة في الثلث الأول من القرن وفي منتصفه جعلت الطلب على الأيدي العاملة النسائية يشتد, ولذا طرح موضوع تعليم المرأة وتدريبها على نطاق واسع, وأصبحت النساء جزءا لا يستهان به من قوة العمل الحديثة فضلا عن اشتغالها التقليدي والقديم بالزراعة والحرف المنزلية.
ولم تعد المناداة بتعليم المرأة والدفاع عن حقها فيه مجرد ثورة فكرية كما قادها مفكرون ليبراليون من أجل تربية أجيال جديدة صالحة إذا ما تعلمت كما طرحها كل من "رفاعة الطهطاوي" و"قاسم أمين" بعده في مصر, أو "الطاهر الحداد" بعد ذلك في تونس, بل أصبحت حاجة اجتماعية واقتصادية لنمو الإنتاج وتطور المجتمع وتحديثه.
النضال من أجل التحرر
شاركت النساء العربيات إذن بصور متفاوتة في عمليات التحرير والتحديث معا, في ثورة 1919 في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي لعبت النساء جماعة أدوارا بطولية لم تدرس بعد, وإنما درست البطولات الفردية كما هي الحال في كتابة التاريخ الأساسية التي نسبت إنجازاته الكبرى للأفراد العظماء حتى زمننا هذا. وشاركت النساء السوريات في ثورة 1925 ضد الاحتلال الفرنسي, وشاركت النساء الجزائريات في حرب التحرير لثمانية أعوام متصلة ضد نفس الاستعمار وسقطت الشهيدات وأسرت الأسيرات, وانخرطت النساء الفلسطينيات في ثورة 1936 ضد نذر الاحتلال الصهيوني المتواطئ مع الإنجليز لبلادهن ولعبن بعد ذلك دورا مركزيا في الكفاح المسلح وفي الانتفاضة, ولعبت النساء المصريات دورا مرموقا في الهبة الشعبية الكاسحة سنة 1946 ضد الاحتلال والرجعية والملكية معا, بل وساهمن في بلورة شعارات التقدم الاجتماعي والاشتراكية التي كانت تمهيدا لثورة يوليو 1952. وحين أمم "جمال عبد الناصر" قناة السويس مواصلا مسيرة العالم النامي لاسترداد ثرواته الوطنية من أيدي المستعمرين كما سبق أن أمم "مصدق" بترول إيران, ثم وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كانت النساء في مقدمة المقاتلين ومنظمي المقاومة الشعبية للاحتلال, ويمكن تأليف الكتب عن إسهام النساء العربيات في الثورة والتحرير, لو أننا شئنا أن نسلط الضوء فقط على هذا الإسهام الفعال في حركة التحرر الوطني على مدى القرن, لكنه الإسهام الذي كان جزءاً عضوياً من حركة شاملة.
ومع ذلك حصلت المرأة العربية في ظل التحرر على حقين أساسيين كافحت طويلاً من أجلهما هما حق العمل وحق التعليم, ونجحت في تثبيت هذين الحقين كبديهيات في كل من الواقع والذهنية العربية رغم محاولات بعض قوى الإسلام السياسي التشكيك في هذين الحقين كبديهيات, ورغم نشوء دعوات تعيد طرح حقي التعليم والعمل وتربط بينهما وبين دور المرأة في الأسرة الذي وجدت فيه الدور الأساسي بل ووضعته في تناقض جزئي مع نوعية التعليم الذي يمكن أن تتلقاه المرأة, وفي تناقض كامل مع عملها خارج المنزل, ونشأ ما يمكن أن نسميه باليوتوبيا الإسلامية الرجعية التي ترى مستقبلنا الجميل الممكن قد تحقق فقط في الماضي الذي ينبغي علينا استعادته. وقد نجحت هذه القوى غالباً, ولأسباب موضوعية, في حجب يوتوبيا إسلامية أخرى ذات طابع تقدمي ومستقبلي ترى أن مستقبلنا هو من صنعنا ومن صنع الأجيال القادمة التي عليها ان تقرأ الإسلام قراءة تاريخية وتستلهم تراثه العقلاني, شكلت هذه اليوتوبيا التقدمية غالبا خطا ثانويا وإن قويا في تراث الثقافة العربية الإسلامية.
وعلى كل حال تعلمت المرأة العربية ودخلت إلى قوة العمل على مدى القرن وخاصة منذ منتصفه حتى نهايته, ومع ذلك وفي عصر تعرف فيه الأمم المتحدة الأمي بأنه ذلك الذي لا يعرف لغة الكمبيوتر, فإن ما يزيد قليلا على النصف من النساء العربيات يرزح تحت وطأة الأمية الأبجدية.
ولم تتساو المرأة العاملة في الأجر مع الرجل العامل إلا في المؤسسات الإنتاجية التي قادها القطاع العام, ولأن المجتمع العربي لم يعترف بعد بالوظائف الإنجابية للمرأة باعتبارها وظائف اجتماعية تقوم بها المرأة لمصلحة المجتمع كله وهي تجدد الجنس البشري, فإن الشرط النسائي أبقى ملايين النساء بعيدا عن فرص التدريب والترقي في المهن والأعمال, وأدى عمليا إلى فروق واسعة في الأجور بين النساء والرجال.
ومن جهة أخرى, وفي ظل وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للبلدان النامية "والعربية من بينها" ترتبت على عمليات الخصخصة وانسحاب الدولة من الخدمات والتخفيض المتواصل للعملة المحلية وبناء ما يسمى بالمشروعات الصغيرة مقابل تفكيك القطاع العام الصناعي ومنع الدولة عمليا من الدخول في ميدان الاستثمار كما كان الحال في ظل هيمنة نظم التحرر الوطني, كل هذه العوامل أدت إلى بروز أوضاع متناقضة للنساء. فهن ينخرطن على نطاق واسع في صفوف العمل الهامشي وغير المنظم, فضلا عن عملهن في مجموعة من الصناعات الرئيسية مثل صناعة الأغذية والنسيج والسجاد والإلكترونيات والحرف التقليدية والتي تنتظم في مجموعة من المنشآت الصغيرة ولا تخضع للرقابة أو التفتيش على شروط العمل, لأن العاملات والعاملين فيها لا ينتظمون في العمل النقابي بحكم صغر المشروع الذي يعملون فيه, فضلا عن التقييد الشديد لحقوق التنظيم النقابي أو الحزبي حتى يستحيل إنشاء هذا التنظيم في غالبية البلدان ويصبح بالغ الصعوبة في بعضها.
وهكذا تتدفق إلى سوق العمل عمالة نسائية بالملايين في كل بلدان الوطن العربي لكنها عمالة بلا حقوق, وكأننا نعود القهقرى إلى القرن التاسع عشر في أوربا حين وقع استغلال وحشي على النساء والأطفال في المصانع وكانوا أيضا بلا حقوق من أجل الإسراع في التراكم الرأسمالي الذي سرعان ما جرى تصدير فائضه لفتح المستعمرات.
والآن يجري استغلال قوة العمل وبخاصة النساء والأطفال بصورة همجية في بلداننا لمصلحة الشركات متعددة الجنسية, ولكي تحقق الطبقات الغنية في كل من شمال العالم وجنوبه تراكما بسرعة الضوء ترعاه المؤسسات المالية الدولية التي نشأت على اتفاقية للأمم المتحدة في (بريتون وودز) وهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وأذكر هنا الأمم المتحدة عمدا لأنها هي نظريا المنظمة التي تدير شئون العالم على أساس من العدل والمساواة, بينما تلك المؤسسات التابعة لها هي التي ترعى الاستغلال المنظم على نطاق عالمي خاصة استغلال النساء والأطفال بينما هي أي الأمم المتحدة تنظم المؤتمرات العالمية للمرأة والتي كان آخرها المؤتمر الرابع في بكين عام 1995.
كذلك دخلت إلى ميدان المشاركة السياسية بدءا من منتصف القرن في مصر أولا حين تضمن دستور 1956 حق المرأة في الترشيح والانتخاب, وتبعتها الغالبية العظمى من البلدان العربية, باستثناء دول الخليج التي تمنع المرأة من المشاركة في الحياة السياسية, ما عدا (عمان) و(قطر) أخيرا, بينما تخوض المرأة الكويتية جنبا إلى جنب القوى الديمقراطية في المجتمع معركة قاسية من أجل تأمين حقوقها السياسية التي تقف بعض التيارات الدينية ضدها بقوة وثبات. فإذا كانت المشاركة السياسية للمرأة العربية في كل البلدان هي مسألة وقت أي انها قادمة لا محالة على مشارف القرن الجديد, فإن حقوق المرأة كإنسان كامل المواصفات والأهلية في قوانين الأسرة والجنسية والحقوق المدنية في البلدان العربية سوف تبقى موضوعا لصراع طويل في القرن القادم.
وباستثناء قانون الاحوال الشخصية في تونس الذي وضع المرأة على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات داخل الأسرة, ووفر للنساء كل حقوقهن المدنية, فإن قوانين الأحوال الشخصية في بقية البلدان العربية دون استثناء وفي نهاية القرن لاتزال قوانين قائمة على التمييز ضد المرأة واعتبارها كائنا أدنى لابد من فرض الوصاية الأبوية عليه, فهي لا تستطيع تزويج أو تطليق نفسها, ولا تستطيع استخدام جواز سفر دون إذن الزوج أو الأب, وتفقد في وجود الأب حق الوصاية على أبنائها, وتعجز عن السفر دون موافقة رجل من الأسرة, ولا تستطيع أن تمنح لزوجها الأجنبي أو لأبنائها منه جنسيتها بل وفي غالب الأحيان لا تستطيع أن تلتحق بالعمل أو تواصله دون موافقة الزوج الذي يحق له أن يمنعها أصلا من الخروج للمساهمة في الحياة السياسية أو مواصلة التعليم إن شاءت.
أي أن قوانين الأحوال الشخصية يمكن نظريا وعمليا أن تبطل تفعيل كل الحقوق الأخرى في العمل والتعليم والمشاركة السياسية التي حصلت عليها المرأة بعد نضال طويل.
الإصلاح الديني
ان ما حدث عبر قرن من الزمان كان عملية التهميش المتواصل لكل فكر ديني مستنير فيما يخص قضية المرأة أو حرية الفكر والاعتقاد بدءا من قول الإمام "محمد عبده" في مصر بأن تعدد الزوجات يمكن إبطاله فقهيا, مرورا بسعي "الطاهر الحداد" في تونس لإعادة تفسير كل ما يعطل المساواة التامة بين الرجل والمرأة,وصولا إلى المفكر السوداني "محمود محمد طه" الذي دعا النساء لرفض أي وصاية عليهن باسم الدين وكان أن حوكم ونفذ فيه حكم الإعدام, وأخيرا المفكر المصري "نصر حامد أبوزيد" الذي قال بالمساواة التامة بين الرجال والنساء على أسس دينية, وكان نصيبه هو تطليق زوجته "ابتهال يونس" منه بحكم محكمة بدعوى أنه مرتد, وهو حكم صدقت عليه محكمة النقض.
تحرير النساء
وباختصار لا يحرر النساء إلا النساء أنفسهن, ولما كانت مساهمات النساء المتنوعة في قضايا تحرير الأوطان والمشار إليها سابقا قد اختارت دائما أن تؤجل المطالب النسائية الخاصة حتى يتحرر الوطن كله أو حتى يجري بناء الاشتراكية التي كانت مطروحة على جدول الأعمال, فقد كان على النساء أن يدفعن ثمن هذا التأجيل مضاعفاً. وقد بينت خبرتنا الطويلة والمريرة أن ما يسمى بترتيب الأولويات أو المقايضة على حق بحق آخر كأن نرضى ببرنامج واسع للإصلاح الاجتماعي مثلاً مقابل التضييق على الحريات السياسية, أو نرضى بحقوق المرأة السياسية دون حقوقها المدنية قد أدى غالباً إلى نتائج سلبية بل وكارثية في بعض الأحيان.
وتعلمت الحركات النسائية الجديدة في أواخر القرن العشرين دروس الماضي وحفظتها عن ظهر قلب, ورفضت كلية ما يسمى بترتيب الأولويات, ولم تجد أي تناقض بين كفاحها ضد الصهيونية والهيمنة الأمريكية من جهة, وكفاحها من أجل حقوق المرأة كاملة غير منقوصة من جهة أخرى, ورفضت فكرة الاختيار بين الحقوق الديمقراطية أو المساومة عليها, فالنضال من أجل قانون جديد لمباشرة الحقوق السياسية أو ضد التطبيع مع العدو الصهيوني, أو ضد استغلال الكادحين أصبحت موضوعة الآن على قدم المساواة مع النضال من أجل قوانين أحوال شخصية جديدة عادلة تنهض على مبدأ المساواة وتقيم الأسرة على أسس صحية وحرة.
يحدث ذلك في أوساط التنظيمات النسائية الجديدة, رغم أن الغالبية العظمى من منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي انتشرت على امتداد الوطن العربي لم تعين قوانين الأحوال الشخصية باعتبارها قوانين مقيدة للحريات حتى الأحزاب التقدمية التي تناضل من أجل مجتمعات جديدة, ومن أجل التغيير الشامل أخذت هي الأخرى تساوم على حقوق المرأة, وكأنها تتواطأ ضمنياً مع الجماعات الإسلامية السياسية المحافظة, والتي أخذت تحتل مساحات متزايدة في المشهد.
وهي الجماعات التى ترى في المرأة عورة وتسعى لإخفائها وراء الحجاب والنقاب وإعادتها إلى البيت, أو كأن هذه الأحزاب تخاف من قوة تأثير العادات والتقاليد في المجتمع فتسكت عنها.
ضد التمييز
ولم تكن مصادفة أن الغالبية العظمى من المنظمات النسائية الجديدة في الوطن العربي قد اختارت أن تؤسس مرجعيتها الفكرية على المواثيق الدولية وخاصة اتفاقية إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة, وهي تسعى لتأكيد حضورها في أوساط النساء الكادحات والشعبيات, لأنها لا ترى في تحرير المرأة قضية نجاح بعض النساء في الوصول إلى المراكز المرموقة أو احتلال مقاعد الوزارة,أو إجادة العزف المنفرد في مجال أو آخر, بل ترى أن تحرير المرأة هو تحرير الجميع وبخاصة النساء من صنوف القهر المزدوج والاستغلال والتمييز كافة.
وتحرير النساء لن يكون منفصلاً أو يتم بمعزل عن تحرير الشعب كله وبناء مجتمع جديد قائم على المساواة وتوزيع ثروات البلاد بالعدل بين منتجيها من رجال ونساء, واستكمال تحديث المجتمع العربي وتحريره بدحر مشروعات الهيمنة الصهيونية والإمبريالية والطبقية على مقدراته. ومثلها مثل قضايا تحرير الوطن وتحرير الإنسان وبناء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومكافحة التسلط والاستبداد القبلي والعشائري والجمهوري.
وحين نلتفت نحن النساء العربيات إلى الخلف ونطل على مائة عام انقضت من تاريخ أمتنا وتاريخنا الخاص كنساء فإننا نستطيع ونحن مرتاحات الضمير أن ننظر إليه بامتنان رغم كل ما يفور بداخلنا من الغضب, ذلك الغضب الذي نحبه, لأنه الطاقة التي سنندفع بها لإنجاز ما فاتنا, فمن دون إنجاز ما فاتنا ستخرج أمتنا من التاريخ, ولكننا سوف نسعى بكل جد لأن نكون في قلب التاريخ نساء ورجالا عرباً وبشراً قبل كل شيء نشارك الجميع في الإنسانية.
خرجت غالبية بلدان الوطن العربي من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وهي محتلة تستنهض قواها للخلاص من الاحتلال.
وادعى المحتلون في كل آن أنهم إنما يحملون رسالة الحداثة إلى البلدان المستعمرة (بفتح الميم), ويعلمونها النظم الإدارية الجديدة مع لغاتهم, وينقلون إليها قيم الحرية والإخاء والمساواة وحرية المرأة, كما ادعى (نابليون) حين قام بحملته ضد مصر في نهاية القرن الثامن عشر وتعرض لهزيمة منكرة. لكن الواقع يقول لنا إن الحملة الفرنسية حين خرجت من مصر بعد أن حاربها المصريون رجالاً ونساء بكل قوة حملت معها المطبعة التي جاءت بها. وحين دخل الفرنسيون إلى الجزائر بعد هزيمتهم في مصر باثنين وثلاثين عاماً وأنشأوا فيها المستوطنات حاولوا اقتلاع اللغة القومية للبلاد لتحتل الفرنسية مكانها, وكان الطابع الأساسي لاستعمارهم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ثقافيا وعامل تشوه للثقافات الوطنية لبلدان المستعمرات.
وفي القلب من ثقافة الشعوب تقع قضية المرأة بتناقضاتها والتباساتها, وكثيرا ما ترى الشعوب أن خصوصيتها القومية هي امرأة تجسد شرف الوطن, وطالما عوقبت المرأة باسم هذا الشرف.
وفي الجزائر مثلاً اتخذت مقاومة النساء للاحتلال واشتراكهن في الحرب ضد المحتلين شكل التمسك بالزي القومي للبلاد الذي تغطى به المرأة رأسها ونصف وجهها, وقد استخدمت النساء هذا الزي القومي لإخفاء الأسلحة والمنشورات ونقلها من مكان لمكان.. وهو الزي نفسه الذي حين بدأت المرأة الحديثة تتخلى عنه لأسباب عملية جرى اتهامها بخيانة الدين من قبل قوى سياسية تسعى لبناء دولة دينية في الجزائر.ومع ذلك حين استقلت الجزائر حصلت المرأة على بعض الحقوق دون حقوق أخرى.
وفي بلدان عربية أخرى تمترست فيها قوى سياسية كبيرة خلف الدين الذي بدا أفضل تعبير عن هوية مجروحة ومهزومة في مواجهة العنف الاستعماري قديمه وجديده.
وتداخلت عمليات مقاومة الاحتلال مع نشوء الحداثة في كل البلدان المحتلة, والحداثة تعني على المستوى الفلسفي تحرير الفرد وإطلاق إمكاناته كافة, وعلى المستوى الإنتاجي هي نشر الصناعة وعلى المستوى الإداري اتباع النظم الجديدة في الإدارة, وعلى المستوى السياسي هي الديمقراطية بما تتضمنه من كفالة حق الاقتراع العام والتعددية السياسية وتداول السلطة, والإصلاح الديني بما يؤدي إلى فصل الدين عن السياسة وبقائه شأنا شخصيا بين الإنسان وربه.فإذا فحصنا تاريخ الأقطار العربية في كل بلد على حدة أو في تشابكاته فسوف نجد أن هذه القيم والآليات جميعا لم تنضج أبدا حتى نهايتها أو تستقر في بلد واحد أو في كل البلدان, فبقي الفرد مكبلا بالسلطة الأبوية أو سلطة القبيلة والعشيرة, ولم تنتشر الصناعة على نطاق واسع لتصبح هي المصدر الرئيسي للثروة, إلا عندما انفجرت الثروة النفطية في بلدان الخليج ونشأت حولها صناعات متقدمة كجزر معزولة ومرتبطة أساسا بالأجانب, حتى النهضة الصناعية الكبرى التي قامت في بعض البلدان في منتصف القرن سرعان ما تعرضت للتصفية بطريقة أو أخرى, وباتت النظم الإدارية الجديدة بدورها مرتبطة بالقطاعات المتقدمة في المجتمع وفي الصناعة, أو ظلت البيرقراطية القديمة تعشش في بقية مؤسسات المجتمع حيث نظم الإنتاج ما قبل الرأسمالية التي لم تختف بعد.
المرأة وحالة الطوارئ
وباستثناء تجربة تداول السلطة في المغرب قبل عامين فإن نظما استبدادية معادية للديمقراطية, عشائرية أو قبلية أبوية, تفرض حالات الطوارئ وتقيد الحريات وتحاصر حركة الجماهير ومنظماتها, وهي لاتزال تتحكم في مقدرات ومستقبل الشعوب العربية بل وتبدد طاقاتها لمواجهة المشروع الصهيوني العنصري الاستيطاني في فلسطين.
ونتيجة لكل هذه العوامل تعثرت مسيرة الإصلاح الديني وحوصرت من قبل الفقه المحافظ والتفسير النصي, وجرى عزل أو تهميش دعاة الإصلاح الديني في كل البلدان العربية بلا استثناء حتى يومنا هذا ومنذ نفي ابن رشد وأحرقت كتبه.
ويرتبط الإصلاح الديني ارتباطا وثيقا بقضية تحرير المرأة التي يهيمن على مصيرها التخلف.
أصبح الانتقال إلى الاشتراكية هدفا مطروحا على جدول أعمال القرن منذ بدايته, وتأثرت به إلى حد كبير نظم التحرر الوطني التي طرحت بدورها مسألة العدالة الاجتماعية كقضية محورية, وفي ظل هذا الهدف نفسه دار صراع مرير في الوطن العربي بين النظم المحافظة والنظم التحررية حول مستقبل الأمة, وكانت قضية المرأة إحدى القضايا المحورية الكبرى في هذا الصراع لأنها تقع في صلب كل من التحرر والديمقراطية والإصلاح الديني خاصة بعد أن اندفعت المرأة إلى سوق العمل المنظم وهي التي عملت دائما خارجه.بل إن ثورة التصنيع التي عرفتها بعض بلدان المنطقة في الثلث الأول من القرن وفي منتصفه جعلت الطلب على الأيدي العاملة النسائية يشتد, ولذا طرح موضوع تعليم المرأة وتدريبها على نطاق واسع, وأصبحت النساء جزءا لا يستهان به من قوة العمل الحديثة فضلا عن اشتغالها التقليدي والقديم بالزراعة والحرف المنزلية.
ولم تعد المناداة بتعليم المرأة والدفاع عن حقها فيه مجرد ثورة فكرية كما قادها مفكرون ليبراليون من أجل تربية أجيال جديدة صالحة إذا ما تعلمت كما طرحها كل من "رفاعة الطهطاوي" و"قاسم أمين" بعده في مصر, أو "الطاهر الحداد" بعد ذلك في تونس, بل أصبحت حاجة اجتماعية واقتصادية لنمو الإنتاج وتطور المجتمع وتحديثه.
النضال من أجل التحرر
شاركت النساء العربيات إذن بصور متفاوتة في عمليات التحرير والتحديث معا, في ثورة 1919 في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي لعبت النساء جماعة أدوارا بطولية لم تدرس بعد, وإنما درست البطولات الفردية كما هي الحال في كتابة التاريخ الأساسية التي نسبت إنجازاته الكبرى للأفراد العظماء حتى زمننا هذا. وشاركت النساء السوريات في ثورة 1925 ضد الاحتلال الفرنسي, وشاركت النساء الجزائريات في حرب التحرير لثمانية أعوام متصلة ضد نفس الاستعمار وسقطت الشهيدات وأسرت الأسيرات, وانخرطت النساء الفلسطينيات في ثورة 1936 ضد نذر الاحتلال الصهيوني المتواطئ مع الإنجليز لبلادهن ولعبن بعد ذلك دورا مركزيا في الكفاح المسلح وفي الانتفاضة, ولعبت النساء المصريات دورا مرموقا في الهبة الشعبية الكاسحة سنة 1946 ضد الاحتلال والرجعية والملكية معا, بل وساهمن في بلورة شعارات التقدم الاجتماعي والاشتراكية التي كانت تمهيدا لثورة يوليو 1952. وحين أمم "جمال عبد الناصر" قناة السويس مواصلا مسيرة العالم النامي لاسترداد ثرواته الوطنية من أيدي المستعمرين كما سبق أن أمم "مصدق" بترول إيران, ثم وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كانت النساء في مقدمة المقاتلين ومنظمي المقاومة الشعبية للاحتلال, ويمكن تأليف الكتب عن إسهام النساء العربيات في الثورة والتحرير, لو أننا شئنا أن نسلط الضوء فقط على هذا الإسهام الفعال في حركة التحرر الوطني على مدى القرن, لكنه الإسهام الذي كان جزءاً عضوياً من حركة شاملة.
ومع ذلك حصلت المرأة العربية في ظل التحرر على حقين أساسيين كافحت طويلاً من أجلهما هما حق العمل وحق التعليم, ونجحت في تثبيت هذين الحقين كبديهيات في كل من الواقع والذهنية العربية رغم محاولات بعض قوى الإسلام السياسي التشكيك في هذين الحقين كبديهيات, ورغم نشوء دعوات تعيد طرح حقي التعليم والعمل وتربط بينهما وبين دور المرأة في الأسرة الذي وجدت فيه الدور الأساسي بل ووضعته في تناقض جزئي مع نوعية التعليم الذي يمكن أن تتلقاه المرأة, وفي تناقض كامل مع عملها خارج المنزل, ونشأ ما يمكن أن نسميه باليوتوبيا الإسلامية الرجعية التي ترى مستقبلنا الجميل الممكن قد تحقق فقط في الماضي الذي ينبغي علينا استعادته. وقد نجحت هذه القوى غالباً, ولأسباب موضوعية, في حجب يوتوبيا إسلامية أخرى ذات طابع تقدمي ومستقبلي ترى أن مستقبلنا هو من صنعنا ومن صنع الأجيال القادمة التي عليها ان تقرأ الإسلام قراءة تاريخية وتستلهم تراثه العقلاني, شكلت هذه اليوتوبيا التقدمية غالبا خطا ثانويا وإن قويا في تراث الثقافة العربية الإسلامية.
وعلى كل حال تعلمت المرأة العربية ودخلت إلى قوة العمل على مدى القرن وخاصة منذ منتصفه حتى نهايته, ومع ذلك وفي عصر تعرف فيه الأمم المتحدة الأمي بأنه ذلك الذي لا يعرف لغة الكمبيوتر, فإن ما يزيد قليلا على النصف من النساء العربيات يرزح تحت وطأة الأمية الأبجدية.
ولم تتساو المرأة العاملة في الأجر مع الرجل العامل إلا في المؤسسات الإنتاجية التي قادها القطاع العام, ولأن المجتمع العربي لم يعترف بعد بالوظائف الإنجابية للمرأة باعتبارها وظائف اجتماعية تقوم بها المرأة لمصلحة المجتمع كله وهي تجدد الجنس البشري, فإن الشرط النسائي أبقى ملايين النساء بعيدا عن فرص التدريب والترقي في المهن والأعمال, وأدى عمليا إلى فروق واسعة في الأجور بين النساء والرجال.
ومن جهة أخرى, وفي ظل وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للبلدان النامية "والعربية من بينها" ترتبت على عمليات الخصخصة وانسحاب الدولة من الخدمات والتخفيض المتواصل للعملة المحلية وبناء ما يسمى بالمشروعات الصغيرة مقابل تفكيك القطاع العام الصناعي ومنع الدولة عمليا من الدخول في ميدان الاستثمار كما كان الحال في ظل هيمنة نظم التحرر الوطني, كل هذه العوامل أدت إلى بروز أوضاع متناقضة للنساء. فهن ينخرطن على نطاق واسع في صفوف العمل الهامشي وغير المنظم, فضلا عن عملهن في مجموعة من الصناعات الرئيسية مثل صناعة الأغذية والنسيج والسجاد والإلكترونيات والحرف التقليدية والتي تنتظم في مجموعة من المنشآت الصغيرة ولا تخضع للرقابة أو التفتيش على شروط العمل, لأن العاملات والعاملين فيها لا ينتظمون في العمل النقابي بحكم صغر المشروع الذي يعملون فيه, فضلا عن التقييد الشديد لحقوق التنظيم النقابي أو الحزبي حتى يستحيل إنشاء هذا التنظيم في غالبية البلدان ويصبح بالغ الصعوبة في بعضها.
وهكذا تتدفق إلى سوق العمل عمالة نسائية بالملايين في كل بلدان الوطن العربي لكنها عمالة بلا حقوق, وكأننا نعود القهقرى إلى القرن التاسع عشر في أوربا حين وقع استغلال وحشي على النساء والأطفال في المصانع وكانوا أيضا بلا حقوق من أجل الإسراع في التراكم الرأسمالي الذي سرعان ما جرى تصدير فائضه لفتح المستعمرات.
والآن يجري استغلال قوة العمل وبخاصة النساء والأطفال بصورة همجية في بلداننا لمصلحة الشركات متعددة الجنسية, ولكي تحقق الطبقات الغنية في كل من شمال العالم وجنوبه تراكما بسرعة الضوء ترعاه المؤسسات المالية الدولية التي نشأت على اتفاقية للأمم المتحدة في (بريتون وودز) وهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وأذكر هنا الأمم المتحدة عمدا لأنها هي نظريا المنظمة التي تدير شئون العالم على أساس من العدل والمساواة, بينما تلك المؤسسات التابعة لها هي التي ترعى الاستغلال المنظم على نطاق عالمي خاصة استغلال النساء والأطفال بينما هي أي الأمم المتحدة تنظم المؤتمرات العالمية للمرأة والتي كان آخرها المؤتمر الرابع في بكين عام 1995.
كذلك دخلت إلى ميدان المشاركة السياسية بدءا من منتصف القرن في مصر أولا حين تضمن دستور 1956 حق المرأة في الترشيح والانتخاب, وتبعتها الغالبية العظمى من البلدان العربية, باستثناء دول الخليج التي تمنع المرأة من المشاركة في الحياة السياسية, ما عدا (عمان) و(قطر) أخيرا, بينما تخوض المرأة الكويتية جنبا إلى جنب القوى الديمقراطية في المجتمع معركة قاسية من أجل تأمين حقوقها السياسية التي تقف بعض التيارات الدينية ضدها بقوة وثبات. فإذا كانت المشاركة السياسية للمرأة العربية في كل البلدان هي مسألة وقت أي انها قادمة لا محالة على مشارف القرن الجديد, فإن حقوق المرأة كإنسان كامل المواصفات والأهلية في قوانين الأسرة والجنسية والحقوق المدنية في البلدان العربية سوف تبقى موضوعا لصراع طويل في القرن القادم.
وباستثناء قانون الاحوال الشخصية في تونس الذي وضع المرأة على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات داخل الأسرة, ووفر للنساء كل حقوقهن المدنية, فإن قوانين الأحوال الشخصية في بقية البلدان العربية دون استثناء وفي نهاية القرن لاتزال قوانين قائمة على التمييز ضد المرأة واعتبارها كائنا أدنى لابد من فرض الوصاية الأبوية عليه, فهي لا تستطيع تزويج أو تطليق نفسها, ولا تستطيع استخدام جواز سفر دون إذن الزوج أو الأب, وتفقد في وجود الأب حق الوصاية على أبنائها, وتعجز عن السفر دون موافقة رجل من الأسرة, ولا تستطيع أن تمنح لزوجها الأجنبي أو لأبنائها منه جنسيتها بل وفي غالب الأحيان لا تستطيع أن تلتحق بالعمل أو تواصله دون موافقة الزوج الذي يحق له أن يمنعها أصلا من الخروج للمساهمة في الحياة السياسية أو مواصلة التعليم إن شاءت.
أي أن قوانين الأحوال الشخصية يمكن نظريا وعمليا أن تبطل تفعيل كل الحقوق الأخرى في العمل والتعليم والمشاركة السياسية التي حصلت عليها المرأة بعد نضال طويل.
الإصلاح الديني
ان ما حدث عبر قرن من الزمان كان عملية التهميش المتواصل لكل فكر ديني مستنير فيما يخص قضية المرأة أو حرية الفكر والاعتقاد بدءا من قول الإمام "محمد عبده" في مصر بأن تعدد الزوجات يمكن إبطاله فقهيا, مرورا بسعي "الطاهر الحداد" في تونس لإعادة تفسير كل ما يعطل المساواة التامة بين الرجل والمرأة,وصولا إلى المفكر السوداني "محمود محمد طه" الذي دعا النساء لرفض أي وصاية عليهن باسم الدين وكان أن حوكم ونفذ فيه حكم الإعدام, وأخيرا المفكر المصري "نصر حامد أبوزيد" الذي قال بالمساواة التامة بين الرجال والنساء على أسس دينية, وكان نصيبه هو تطليق زوجته "ابتهال يونس" منه بحكم محكمة بدعوى أنه مرتد, وهو حكم صدقت عليه محكمة النقض.
تحرير النساء
وباختصار لا يحرر النساء إلا النساء أنفسهن, ولما كانت مساهمات النساء المتنوعة في قضايا تحرير الأوطان والمشار إليها سابقا قد اختارت دائما أن تؤجل المطالب النسائية الخاصة حتى يتحرر الوطن كله أو حتى يجري بناء الاشتراكية التي كانت مطروحة على جدول الأعمال, فقد كان على النساء أن يدفعن ثمن هذا التأجيل مضاعفاً. وقد بينت خبرتنا الطويلة والمريرة أن ما يسمى بترتيب الأولويات أو المقايضة على حق بحق آخر كأن نرضى ببرنامج واسع للإصلاح الاجتماعي مثلاً مقابل التضييق على الحريات السياسية, أو نرضى بحقوق المرأة السياسية دون حقوقها المدنية قد أدى غالباً إلى نتائج سلبية بل وكارثية في بعض الأحيان.
وتعلمت الحركات النسائية الجديدة في أواخر القرن العشرين دروس الماضي وحفظتها عن ظهر قلب, ورفضت كلية ما يسمى بترتيب الأولويات, ولم تجد أي تناقض بين كفاحها ضد الصهيونية والهيمنة الأمريكية من جهة, وكفاحها من أجل حقوق المرأة كاملة غير منقوصة من جهة أخرى, ورفضت فكرة الاختيار بين الحقوق الديمقراطية أو المساومة عليها, فالنضال من أجل قانون جديد لمباشرة الحقوق السياسية أو ضد التطبيع مع العدو الصهيوني, أو ضد استغلال الكادحين أصبحت موضوعة الآن على قدم المساواة مع النضال من أجل قوانين أحوال شخصية جديدة عادلة تنهض على مبدأ المساواة وتقيم الأسرة على أسس صحية وحرة.
يحدث ذلك في أوساط التنظيمات النسائية الجديدة, رغم أن الغالبية العظمى من منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي انتشرت على امتداد الوطن العربي لم تعين قوانين الأحوال الشخصية باعتبارها قوانين مقيدة للحريات حتى الأحزاب التقدمية التي تناضل من أجل مجتمعات جديدة, ومن أجل التغيير الشامل أخذت هي الأخرى تساوم على حقوق المرأة, وكأنها تتواطأ ضمنياً مع الجماعات الإسلامية السياسية المحافظة, والتي أخذت تحتل مساحات متزايدة في المشهد.
وهي الجماعات التى ترى في المرأة عورة وتسعى لإخفائها وراء الحجاب والنقاب وإعادتها إلى البيت, أو كأن هذه الأحزاب تخاف من قوة تأثير العادات والتقاليد في المجتمع فتسكت عنها.
ضد التمييز
ولم تكن مصادفة أن الغالبية العظمى من المنظمات النسائية الجديدة في الوطن العربي قد اختارت أن تؤسس مرجعيتها الفكرية على المواثيق الدولية وخاصة اتفاقية إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة, وهي تسعى لتأكيد حضورها في أوساط النساء الكادحات والشعبيات, لأنها لا ترى في تحرير المرأة قضية نجاح بعض النساء في الوصول إلى المراكز المرموقة أو احتلال مقاعد الوزارة,أو إجادة العزف المنفرد في مجال أو آخر, بل ترى أن تحرير المرأة هو تحرير الجميع وبخاصة النساء من صنوف القهر المزدوج والاستغلال والتمييز كافة.
وتحرير النساء لن يكون منفصلاً أو يتم بمعزل عن تحرير الشعب كله وبناء مجتمع جديد قائم على المساواة وتوزيع ثروات البلاد بالعدل بين منتجيها من رجال ونساء, واستكمال تحديث المجتمع العربي وتحريره بدحر مشروعات الهيمنة الصهيونية والإمبريالية والطبقية على مقدراته. ومثلها مثل قضايا تحرير الوطن وتحرير الإنسان وبناء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومكافحة التسلط والاستبداد القبلي والعشائري والجمهوري.
وحين نلتفت نحن النساء العربيات إلى الخلف ونطل على مائة عام انقضت من تاريخ أمتنا وتاريخنا الخاص كنساء فإننا نستطيع ونحن مرتاحات الضمير أن ننظر إليه بامتنان رغم كل ما يفور بداخلنا من الغضب, ذلك الغضب الذي نحبه, لأنه الطاقة التي سنندفع بها لإنجاز ما فاتنا, فمن دون إنجاز ما فاتنا ستخرج أمتنا من التاريخ, ولكننا سوف نسعى بكل جد لأن نكون في قلب التاريخ نساء ورجالا عرباً وبشراً قبل كل شيء نشارك الجميع في الإنسانية.