نقوس المهدي
كاتب
مقدمة
هي مولدة مدنية، كانت صبيحة الوجه، مليحة النادرة، لطيفة المحاضرة، خفيفة الروح، غردة الصوت، شجية الغناء، ضاربة بالعود. أخذت أصواتها عن ابن سريج وابن محرز ومالك، وكان يزيد مغرمًا بالنساء، شديد الكلف بهن، فهام بها ولا هيام قيس بليلى، وعلقها ولا علوق أبي نواس بجنان، فتهتك وخلع عذاره، وانقطع إليها ليله ونهاره، تاركًا بين أيديها أزمة دينه ودنياه، فكانت تعزل من تشاء وتولي من تشاء، وتحول بينه وبين الصوم والصلاة، حتى اشتهر أمره وساء ذكره.
ولوقائعه معها فكاهات ونوادر تركناها لكثرة تداولها بين الناس. قيل: إنه نزل معها يومًا ببيت رأس — وهي قرية من قرى الشام — فقال: زعم السلف أن الدهر لا يصفو لأحد يومًا كاملًا، وماذا عليَّ لو غادرت كلامهم نجمًا آفلًا، ثم قال لغلامه: ويحك، لا تمكن أحدًا من الوقوف ببابي، ولا تدع إنسانًا يخرق حجابي، ثم خلا بحبابة وما برح معها في لهو وطرب، وهزل ولعب، حتى استقام قسطاس النهار، فدعا بطبقٍ رمان كأنه شعلة نار، أو ياقوت تحته بلار، أو حب آس غاص بالجلنار، فشرقت حبابة بحبة منه ذهبت بروحها إلى عالم العدم، فصاح يزيد صيحة الألم، وطارت نفسه بأثرها شعاعًا، وطفق يعض أنامله جزعًا والتياعًا، وما فتئ يقبلها وينوح وهو على مثل شوك القتاد، حتى سطع ريحها وأدركها الفساد، فأودعوها الثرى حتف أنفه وهو يدمي بثناياه باطن كفه، وما زال يذري بعدها العبرات، ويردد الأنين والحسرات، حتى نزلت به منيته بعد أسبوعين وهو معانق ضريحها، فدُفن حذاءها ولسان حاله يقول:
بعض الأبيات الشعرية التى ذكرت فيها
أموت على إثر الحبيبة ظاعنًا = ليجتمع الروحان في عالم الخلدِ
وكان ذلك في سنة ١٠٥ للهجرة. ومن شعره فيها:
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر = ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكرهم = أو عرَّسوا فهموم النفس والسهر
ومن شعرها له:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى = فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي = وإن لام فيه ذو الشنان وفنَّدا
وكان سبب شراء حبابة أن يزيد قد حج أيام أخيه سليمان، فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها عالية. وقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد، فردَّها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت له امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: حبابة، فأرسلت فاشترتها، ثم صيغتها وألبستها وأتت بها يزيد، فأجلستها من وراء الستر وقالت: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: قد أعلَمتُك، فرفعت الستر وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها عنده، فحظيت سعدة عنده وأكرمها، وسعدة هذه بنت عبد الله بن عمر بن عثمان. قيل: وغنت حبابة يومًا:
وبين التراقي واللهاة حرارة = وما ظمئت ماء يسوغ فتبردا
فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة، فقال: والله لأطيرنَّ، فقالت: على مَن تخلف الأمة والملك؟ قال: عليك والله، ثم قبَّل يدها. فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك!
هي مولدة مدنية، كانت صبيحة الوجه، مليحة النادرة، لطيفة المحاضرة، خفيفة الروح، غردة الصوت، شجية الغناء، ضاربة بالعود. أخذت أصواتها عن ابن سريج وابن محرز ومالك، وكان يزيد مغرمًا بالنساء، شديد الكلف بهن، فهام بها ولا هيام قيس بليلى، وعلقها ولا علوق أبي نواس بجنان، فتهتك وخلع عذاره، وانقطع إليها ليله ونهاره، تاركًا بين أيديها أزمة دينه ودنياه، فكانت تعزل من تشاء وتولي من تشاء، وتحول بينه وبين الصوم والصلاة، حتى اشتهر أمره وساء ذكره.
ولوقائعه معها فكاهات ونوادر تركناها لكثرة تداولها بين الناس. قيل: إنه نزل معها يومًا ببيت رأس — وهي قرية من قرى الشام — فقال: زعم السلف أن الدهر لا يصفو لأحد يومًا كاملًا، وماذا عليَّ لو غادرت كلامهم نجمًا آفلًا، ثم قال لغلامه: ويحك، لا تمكن أحدًا من الوقوف ببابي، ولا تدع إنسانًا يخرق حجابي، ثم خلا بحبابة وما برح معها في لهو وطرب، وهزل ولعب، حتى استقام قسطاس النهار، فدعا بطبقٍ رمان كأنه شعلة نار، أو ياقوت تحته بلار، أو حب آس غاص بالجلنار، فشرقت حبابة بحبة منه ذهبت بروحها إلى عالم العدم، فصاح يزيد صيحة الألم، وطارت نفسه بأثرها شعاعًا، وطفق يعض أنامله جزعًا والتياعًا، وما فتئ يقبلها وينوح وهو على مثل شوك القتاد، حتى سطع ريحها وأدركها الفساد، فأودعوها الثرى حتف أنفه وهو يدمي بثناياه باطن كفه، وما زال يذري بعدها العبرات، ويردد الأنين والحسرات، حتى نزلت به منيته بعد أسبوعين وهو معانق ضريحها، فدُفن حذاءها ولسان حاله يقول:
بعض الأبيات الشعرية التى ذكرت فيها
أموت على إثر الحبيبة ظاعنًا = ليجتمع الروحان في عالم الخلدِ
وكان ذلك في سنة ١٠٥ للهجرة. ومن شعره فيها:
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر = ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكرهم = أو عرَّسوا فهموم النفس والسهر
ومن شعرها له:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى = فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي = وإن لام فيه ذو الشنان وفنَّدا
وكان سبب شراء حبابة أن يزيد قد حج أيام أخيه سليمان، فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها عالية. وقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد، فردَّها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت له امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: حبابة، فأرسلت فاشترتها، ثم صيغتها وألبستها وأتت بها يزيد، فأجلستها من وراء الستر وقالت: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: قد أعلَمتُك، فرفعت الستر وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها عنده، فحظيت سعدة عنده وأكرمها، وسعدة هذه بنت عبد الله بن عمر بن عثمان. قيل: وغنت حبابة يومًا:
وبين التراقي واللهاة حرارة = وما ظمئت ماء يسوغ فتبردا
فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة، فقال: والله لأطيرنَّ، فقالت: على مَن تخلف الأمة والملك؟ قال: عليك والله، ثم قبَّل يدها. فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك!