السري الرفاء - المحب والمحبوب و المشموم و المشروب.. المقدمة

كتاب المحبوب
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي الحمد لله على أفضاله، والصلاة على النبي محمد وآله.
الألفاظ للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأجمعها لأقسام الجودة، وأنظمها لأحكام الإصابة، وأمشاها في طريق البلاغة والبراعة، وآخذها بحسن السياق ولطف الافتنان في الخطابة، ما شفع إلى المخرج السهل محاسن اللفظ الجزل، وقرن بدقة المعنى واقتضاب البديع، غموض المسلك ولطافة المدخل، وكان متناسباً في الرقة والسهولة، متشابهاً في حلاوة النسج والعذوبة، بكسوة رشيقة، ودماثة تامة وخلابة تسحر القلب، ورشاقة تملك الأذن، متصل المبادئ بالخواتم لدن المعاطف، فصل من قائله برونق القريحة، ووشي الغريزة، وديباج الطبيعة، يترقرق على أعطافه ماء السلاسة، وتشرق بأطرافه بهجة الطلاوة، فهتك حجاب السمع؛ وسكن سواد القلب غير مستعان عليه بالفكرة، ولا مستخرج الرؤية، ولا مستنبط باعتساف الخاطر ومجاهدة الطبع، وغوص الهواجس، وغور الأفكار، واقتسار أبيه الممتنع، واقتياد عويصه المتوعر، بعيداً من صنعة التكلف، نزيهاً عن سماجة الاستكراه، سليماً من وحشة التعقيد. أوله دال على آخره، ومختتمه معرب عن مفتتحه، وأوسطه كطرفه؛ لا اللفظ زائد على معناه فيعد فضولاً وهذراً، ولا المراد قاصر عنه فيحسب انغلاقاً وحصراً. بل هما توأمان في وضوح الدلالة، وصواب الإشارة. وردا مورداً واحداً، وخرجا، في حسن النحت وسلامة السبك وكثرة الماء، مخرجاً فذاً كأنهما الشمس والظل في التقارب، والماء والهواء في التناسب، فعمرا الصدر الخراب بالفائدة؛ وألقحا الطبع العقيم بنتاج الأدب وشحذا الأفكار الكليلة؛ وشفيا الأذهان العليلة؛ وعودا اللسان اعتياد البديهة واللسن! وقدحا في القلب بزناد الفطانة واللقن. وتهجا له التأني لوجوه المنطق. وسهلا له جوانب الكلام والتأنق في اختراع لطيفه وابتداع دقيقه، والتقلب في أفانينه، واستمالة القلوب الشاردة، واستصراف الآذان العازبة بموقعه، واستنجاح المطلب البعيد، واستسهال المغزى الشريد بمسموعه.
وبعد، فأعلق الحديث بالألباب والقرائح، وأليقه بالفطن والطبائع، حتى تفتح الأذن لسماعه باباً، ويرفع القلب لدخوله حجاباً، ما كان عبارة عن العشق والنسيب، وترجمة عن الهوى والتشبيب، لميل النفوس بأعناقها إليه، وإلقاء القلوب في أزمتها عليه، على تباين النعم والبلدان، وتفاوت الأمزجة والإنسان؛ من ذي جد متورع، وذي خلاعة متبطل، وعامي متبذل، وخاصي متصون، وثكلان بلده كمود الغم، وغضبان أحرقه لهيب الغيط، وأسوان دلهه فوت المطلوب، وبعد المحبوب.

كما افتتحنا به الكتاب، وصدرنا بذكر مقطعات الغزل وأبيات الشعر الشوارد التي تكون في المحافل أجول، وعلى المسامع أدخل، في أوصاف المناظر الحسنة، والوجوه النيرة، والمحاسن الرائعة المعجبة، والصور المليحة الأنيقة، وحسن الخلق، ووسامة التصوير، وصباحة سنة الغرة، واعتدال التركيب، واستقامة التدوير، وسبوطة الشعر، وجثالة الفروع، وجعودة الغدائر واسترسالها على المتون كالأشطان، ووحوفتها وانفتالها في الأصداغ كالصولجان، ونجل العيون، وحور الأحداق وبرج المقل، وكثافة نسج الأهداب، وخلوصها من المره وانغماسها في الكحل، وأسالة الخدود، وبهجة الصفحات كأن الماء يقطر منها، وامتزاج أحمرها بأبيضها، وتورد الوجنات بصبغة الخجل، وتصوب مائها بصفرة الوجل، وتقويس الحواجب، وحلوكة نبات الشعر، وسبوغها إلى مؤخرة الآماق، ودقة تخطيطها كأنها قوادم الخطاف، وانعطاف طرفي القسي الموترة والحنايا المأطورة؛ وتردد الأجفان بين الدلال والتفتير، والغنج والتكسير، كأنها حور الظباء بابليات النظر، أو ربائب الوحش من سرب البقر، وسواد نقط الخيلان على وضح بشرة الوجه، كأنها النكتة السوداء في صفحة البدر، أو بدد تفاريق الغسق على بلج الفجر، أو نقطة الزاج في صفيحة العاج؛ وحمرة العوارض ملونة بخضرة التعذير، كأنها طرار البنفسج على ورقات الورد الجني، أو يورد زهر الربيع الباكر على الغصن الروي، أو آثار المسك على خد الكاعب الرود، أو برد الدجى لاح في الخطوط السود؛ ولعس الشفاه، وصغر تقطيع الأفواه، وأشر الثنايا، وشنب اللثات، وبرد الريق، وعذوبة المذاق، وسلامة النكهة من الخلوف، ورخامة الصوت، ودلال الحديث، وإشراف الأرانب، وقنا القصبات، ولين الأعطاف، وتمايل القدود والقامات، كأنما مالت بها سورة الشراب، وسقاها ربعي الشباب، أو انخنثت من السكر، أو عبثت بها نشوة الخمر؛ واندماج الخصور، ورقة الأوساط، حتى تكاد تنقد هيفاً، وتنبت قضفاً، وعبالة الأكفال، وامتلاء المآزر، وخدالة السوق، وشطانة الأبدان، وري العظام، واكتناز القصب، ودماثة الأكعب، وغموض المرافق وغوص حجمها في ري المعاصم، والمأكمة الرابية، والعجيزة الوثيرة، وثقل تكيفها كالكثيب الرجراج، أو كمتلطم الأمواج، مختومة هذه النعوت بالمختار من فوارد الشعر ومنتخبه الذي يعب فيه الذهن ويلتهمه السمع وتعتزيه النفس في أسباب الهوى، وأحوال الحب، ودواعي العشق، وتباريح الوجد، ولاعج الشجو، والوداد الدائم والمحافظة اللازمة، وعلائق الخلة ونوازع المقة التي تلتحم بها الأحشاء، وتلتبس الأعضاء، وتجري مجرى الدم، وتسري مسرى السم، لا تحول مدى الأيام، ولا تزول طوال الليالي، مخبرة عن صحة العهد، ودوام الوفاء، وصدق المودة، وشدة المحبة، وعزوب الصبر، وتمادي الوله، ولجاج القلب، ومطال الشوق، واستسلام الجوانح لسلطانه، وانقياد الشديد الشكيمة، الأباء للهضيمة، ومبتدأ القلق الذي أوله نظرة، وأوسطه خطرة، وآخره فكرة، وتنوع جنس الحب: من لجاج مكب، وعرض متفق، كما تجلب الشيء البعيد جوالبه، ومستفاد بالنشد والإلف، وكيف يجنيه الطرف، ويتشبث به القلب، ويمتزج بعلائقه الكبد؛ إلى ما يتفرع عليه من وصل وصدود، وإقبال وإدبار، وفرقة وألفة، وقلق وسكون، وتواصل الأحباء، ومراصدة الرقباء، متفننة في جميع جهاتها، ومتفرقة في كل طرقاتها، مستصلحة للحفظ والمذاكرة؛ مرتضاة للملاقاة والمحاضرة، ملتقطة من لفظ الأفواه. فالناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، وينشدون أحسن ما يحفظون. فهي عريقة في الاختيار مرات، عائدة من جهات بإيناس المستوحش، وعمارة المجلس، وتلهية القلب، ونفي الوحدة، وتعلة النفس، وتسلية العزب الوحيد، والمستهام العميد.

وعقيبها الفصل الثالث في أوصاف الربيع، وإيماض برقه، ونشر سحائبه، وجلجلة رعده، وسقوط قطره، وفترة نسيمه، وسجسج هوائه، وانعطاف قوسه وسط الغمام أخضر بجنب أحمر إلى أصفر، كما تظاهرت العروس بين جلابيبها وبعض الذيل أصر من بعض، أو كما عقدت الكاعب الرود أسورتها على معصمها من مصوغ ذهب إلى منظوم زبرجد بينهما معقود ياقوت؛ وهبوب الرياح على وجوه الغدران ومسحها أقذاءها كأنها ماوية مصقولة، أو مرآة مجلوة، وعصفة الشمال بالسواقي ممتدة على استواء كأنها حية تسعى أو صفيحة الحسام المسلول؛ وتدريجها متونها حزوزاً كمتون المبارد، أو حلقاً كمراقد الأساود؛ وأنواع الأزاهير وصنوف الرياحين، وكيف يتضمخ الجو من عرفها، وتتضوع المسارب بأرجها؛ وانفتاق الأنوار من أكمامها، وخروجها من أغطيتها إلى مسرى هيجها على ظواهر الأرض، وأوان جفوفها بضواحي الجلد، وحين يبسها بأشراف الجبال ومتون الأقبال؛ وذبول نضارتها، وتصوح بهجتها، وعودها هشيماً تذروه الرياح، وتنسفه الأرجل مختوماً بمشموم الطيب من المسوك والعنابر والكوافير والأعواد والغوالي، وذكر حقائق اشتقاقها وشواهدها من العربية، وحصر أسمائها وإيراد ما صرفته الشعراء من معانيها.
وبعده الفصل الرابع في نعت الخمور وعد أساميها وتحقيق اشتقاقها وموضوعاتها وأبنيتها ولغاتها، والأمثال المضروبة بها، وصفات أحوالها من مبتكر الأمثال، وتوريق كرومها وتعريشها على الدعائم وشدها بالقوائم، ثم اخضرار أوراقها، وتهدل أفنانها، وتفنن شعبها، وانعقاد حباتها، وإيناع ثمراتها، وتدلي أعنابها، وتساقط قضبانها، موقرة دوالح بأحمالها مكتنزة عناقيدها، هوادل بأثقالها كما احتبى الزنج في الأزر الخضر، أو تعرض الثريا في أزرق الفجر؛ إلى أن تنبذ في الخوابي، وتسلم إلى الظروف، وتودع الأوعية، نصب عين الشمس، فيطبخها حمي الهواجر، ويصفيها لفح السمائم بالظهائر، فتستوعب قوتها، وتستوفي حولها وشدتها، حتى يجتليها السقاة في معارض الأقداح، وتحثها ركباً على مطايا الراح، قهوة حمراء في زجاجة بيضاء عذراء من حلب الأعناب بمزاج حلب السحاب، فينتظم بها شمل السرور ويتجنب حماها طوارق المحذور.





 
كتاب المشروب

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

سقى الله سِرب المها وغزلانها، وأحداج سلمى وأظعانها، حيث يُسمع نداء الحاديين، وتُقَوِّضُ خيامُ الوادِيَيْن، فالنواعج تنص هواديها للسُّرى، والهوادج تسبل سجوفها للنوى.
ملء العيون جمالاً والقلوب هوىً
والسفر أُنساً وملءُ الشمسِ تبديدا

بل سقى الله شرخ الشباب، ومألف الأحباب سقاءً يتولى مقاليد أمرها الصبا، فشقّت البروق لها جيوباً، ولطمت الرعود عليها خدوداً أزمان وجه الصبا طلق، وعيشة الشبيبة رغدٌ، والأحبة جيرةٌ، والشمل جميعٌ، والحياة غضةٌ، والزمان ربيعٌ، أحُلُّ جنات الشباب ألفافاً، وأركض في ميدان البطالة سادراً وأضرب في عمرة اللهو لاهياً تمرُّ الليالي والسنون ولا أدري، وتُجاريني الأيام في سَننِ الغيّ، فأجري من سُكرٍ إلى سكر، وأغدو من خُمارٍ إلى خمر، أجتليها حوليّة الميلاد، حمراء صافيةً، بمزاج غادية، من كفِّ غانية، حوراء هيفاء، غيداء لفّاء، ذات فرعِ واردٍ، وفمٍ بارد، وثدي ناهدٍ، وقدٍّ مائدٍ، لاثت حمرتها على قنوان النخيل، أو هدل العناقيد، وجلت عجرتها عن محاجر أغَنَّ، ولدته الظباء رِبْعيّةً وأرضعته الآرام وحشيّةً. فالقمر البدر يطلع من أسرَّتها، وقرن الشمس يشرق في سُنة وجهها، لها وجنتان تنافس فيها تفاحتان، وجيدٌ كأنه إبريق فضة، أو عنُق ظبية أُفلتت من شبكة القانص، وكأن أنفها قصبة دُرّ، أو حسام مهند، وقامتها جدل عنانٍ، أو خوط خيزران، قد ضُمّت إلى مِرطها لفّاوين يُقْعدانها إذا قامتْ ويجذبانها من ورائها إن تقدمت. سهلٌ خدّاها، بردٌ ثناياها، ناهدٌ ثدياها، فَعْمٌ ساعداها، منى النفس وهواها. أتناولها من كفها مخضّبة الأطراف كأنها أقلام لُجينٍ قُمِّعت ذهباً، تسحب أذيال شعاعها، وتجر رداء تلألئها فشاربها يكرع في ضياء الشمس أو يغِبُّ في نور القمر، حتى إذا سارت في البدن حُمَيّاها، وفغمت الخياشيمَ ريّاها كستِ الوجه نضرة النعيم، وألبست الخد حمرة التوريد، ومنحته صدق الحس، وذكاء الحدس، ورقّة البشَرة، وبِلّة الجلد القاحل، والجوف القفر الماحل، واحمرت الوجنتان، وماجت من الرطوبة الحدقتان، وقدحت زند الهوى في القلب الصلد، صبت لصوت الحمام، ولمعان البرق، وبكاء الغمام، ومعاهد الأحبة، وغادرت الجسم الخصيب الجناب رخيّ البال، ناعم الخواطر، حسن الظن، والعروق فاتحةٌ أفواهها لرضاع كاساتها كما تفتح الفراخ مناقيرها لزقِّ أمهاتها، وهي تسير في تجاويفها مسير القَطر في البلد القفر، وتتغوّر في أغوارها وأورادها تغوُّر الماء في خَلَلِ الكثيب، لا سيّما إذا استحثها السقاة بصوت الناي والعود، حيث السماء جلواء، والأرض خضراء، والماء صقيل الجِلباب، دمث التراب، والهواء فضفاض القميص، سلسال الندى، رَضراض الحصى، قد تضرجت خدود ورده، وتأوّدت قدود سروِه، وانتبهت جفون نُوّاره، وتبسمت ثغور أقاحيه، ومالت قامات الشقائق منثورة مطاردها، منظومة قلائدها، فكأنا في جنة الخلد، نُسقى خمرها من أكف حورٍ عينٍ، وإن شئت تعاطيتها معتّقة نضت جِدّة الدهر، وأَبلت شِرّة العمر، ومشى عليها الدهر وهو مقيد، فأذابت حوباءها، وأفنت أجزاءها، فلم تبق منها إلا أرواح بلا أشباح، حتى إذا بزلوها وثبتْ تِبريّة اللون، عطرية النشر وثوب الحية من الرمضاء، أو توقُّد المريخ في الظلماء، يناولنيها أحور أجيد، أغنٌّ أغيد، مُسبل العِذاريْن، مورّد الخدّين، أرقُّ من الهواء، وأصفى من زلال الماء، وأبهى من بدر السماء، مُتخنّثُ الأعطافِ دلالاً، مُنثني القدِّ اختيالاً، ذو حاجبٍ مُزجّجٍ، وطَرْفٍ أدعج، وثغر مفلّجٍ، وكفلٍ يترجرجُ
يغدو عليَّ بريقِه وبكأسهِ
فيعلُّني بالكاسِ بعدَ الكاسِ

فحين دبت في باطن الأعضاء، والتبست بمحاني الأحشاء سخّنت النار الطبيعية، وألهبت الحرارة الغريزية، وتحدّرت في أعماق الجسد تحدُّر العذب البارد على الكبد الحرّى، وسرت في أقطاره، وتمشت في مفاصله، فغلّت عادية البرد، وكسرت غائلة الرطوبة، وطردت الرياح، وشدت العصب، وأمّنت من وهْيِ توتيره، واسترخاء تركيبه، وأحمت بواطن الجوانح، وكوامن الأوردة، وبَذْرَقَتْ بالطعام إلى غور البدن، وقسمته بالسوية من بيت الغذاء، وهي غسول الجسم من عفونات الأخلاط، ونضوح المعدة من غوامض الأدواء، ثم أسلمت إلى وثارة المهاد، ولذة الرقاد الذي هو قوت النفس، وجِمام الأعضاء، وغذاء الروح، وراحة الجوانح، وبه تتم أفعال الطبيعة، ويجود الهضم، وتجوَّد أسباب الشهوة، لا سيما حين الجو دكْنٌ، ووجه الأرض أسمط، والقطر مرجَحِنٌّ سحائبه، معنقٌ لألواذ الجبال وسفوح الأطواد هيادبه؛ ترفَضُّ دموعه كأنها أعراف الخيل منشورةً، أو سلوك الجمان منثورةً، والجو في ممسّك طرازه قوس قزح يبكي بلا حزن، كما يضحك من غير فرح، فلهفي على شرخ الشباب، وريعان الحداثة، لقد سلبتنيه الأيام سلباً، وأخذته من يدي غصباً أغضّ ما كان عوداً، وأنضر ما كان غصناً، حين الأيام ليّنة الأجياد مواتية، والحظوظ من الملاهي متوافية، فيا بؤس الدهر الخؤون، والزمن الظلوم، كيف يمزج صفوه بالكدر، ونعيمه بالغِيَر حتى لا تقع مسرته إلا بالمساءة ممتزجةً، ولا تحدث طماعيته إلا إلى الكراهية مزدوجةً، بينا أجول في أفياء الشبيبة، وأميسُ في أردية الغرارة، بمرتع من العيش رغيد، وسعي على صدر الزمان حميد، إذ نزع إلى لئيم عادته، ودنيء سجيّته، فأبدلني من السكون قلقاً، ومن الرخاء ضيقةً، ومن السعة غمةً، ومن الأنس وحشةً
فأصبحتُ من ليلى الغداةَ كناظر
مع الصبح في أعقابِ نجمٍ مغرِّبِ

لا جرم أن حال الأنس مستحيلة، وسطوة الحوادث مستطيلة، ومشاهد السرور عافية، ومعاهد البهجة بالية، ومشارع الدنيا متكدرة، ومحاسنها متنكِّرة. والطرف مخفوض بعد انبساطه، ومحزونٌ عقيب اغتباطه، قد جفت ألبان العاني والأقداح، وجفَتْ عن أحبتها الكؤوس والراح، والقلب يتقلب على أحر مساً من الجمر، وأشد لذعاً من الخمر، ترى العيش حماماً، والشمس ظلاماً، والحياة غراماً.
ما كنتُ أوفي شبابي كنهَ غرّتِهِ
حتى مضى فإذا الدُّنيا له تَبَعُ

وعلى تذكار أيام الشبيبة، وزمان الشرب والبطالة قصَرنا هذا الجزء على نعت الخمر، واختلاف أنواعها وأحوالها، وعدد أساميها، وتحقيق اشتقاقاتها من اللغة، وسرقات الشعراء في معانيها، والله الموفق، وبيديْه المعونة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأول ذلك أن الخمر مؤنثة، وجميع أسمائها، إما علامةً أو سماعاً، وربما ذكّروا الخمر في الشعر. قال الأعشى وذكَّرها، ثم رجع إلى التأنيث :
وكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإسفَن
طِ ممزوجةٌ بماء زُلال

وقد يكون أن تلقى الهاء تشبيهاً بكحيل لأنها معتّقة، فهي مفعول بها في الأصل، كما يقال معقَّد وعَقيدٌ، والتأنيث في كلام العرب على ضربين: تأنيث حقيقي، وهو ما تحته فَرْجٌ، وتأنيث مجازي، وهو ضربين: منه ما له علم من الأعلام الثلاثة: الهمزة والتاء والألف المقصورة. ومنه ما لا علم في ظاهره، وإنما يؤخذ سماعاً كالنعل والعصا والشمس والأرض، إذا صغّرته زدت في مصغره الهاء كشميسة، ونُعيلة، وأريضة، إلا ثمانية أسماء كالحرب والدِّرع والقوس، تقول: حُريبٌ، ودُريعٌ، وقُويسٌ، ومن أمثالهم: تركته خبرَ قُويسٍ سهماً. وإنما صغروها بغير هاء لاشتهارها عندهم بالتأنيث. واحتيج إلى إفراد المؤنث لأنه فرع على المذكر، تقول: هو قائمٌ وقائمةٌ، كما أن الصفة فرع على الموصوف، والفعل فرع على الاسم، والعجمة فرع على العربية، والتعريف فرع على التنكير؛ وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلِّبَ المذكر على المؤنث لأنه أخف، كما قالوا: القمرين للشمس والقمر، والأبويْن للأب والأم .
والعرب تجترئ على تذكير مؤنث لا علم للتأنيث في لفظه، قال الأعشى :
أرى رجلاً منكم أَسيفاً كأنَّما
يضمُّ إلى كشحيْهِ كفّاً مُخضّبا

وقال طفيل الغنوي :
فيهنَّ أحوى من الرِّبعيّ حاذلةٌ
والعينُ بالإثمدِ الحاريِّ مكحولُ

وقال امرؤ القيس:
بَرهْرهةٌ رَخصةٌ رُؤدةٌ
كخُرعوبةٍ البانةِ المنفطرْ
وهم يوردون الاسم المذكر
مخبراً عنه بالتأنيث. قال:
وأنتَ لمّا ظهرتَ أشرقَتِ ال
أرضُ، وضاءتْ لنورِك الأفقُ

أنّث الأفق لأنه يريد به الناحية. كما يذكرون المؤنث مخبراً عنه بالتذكير، قال الله تعالى: " السماء منفطرٌ به " قالوا: المعنى السقف، والله أعلم. قال امرؤ القيس:
........... ... كخرعوبة البانةِ المنفطرْ

أي الغصن، أما قول الشاعر:
أكثرُ ما أسمعُ منها بالسّحرْ
تذكيرُها الأنثى وتأنيثُ الذكرْ
والسَّوءةُ السواءُ في ذِكرِ القمرْ

فليس من هذا القبيل، وإنما يصف امرأةً لثغاء تُدخل بعض الكلام في بعض.
وقال أبو نواس:
أهيفُ، إن قلتُ: يا فديتُك، قُلْ
موسى، يَقلْ من رُطونة: موثى
محتلقٌ فاترُ الشمائلِ قد
خالط منه المجونُ تخنيثا

وأنشد الباهلي في الأبيات:
وما ذكرٌ فإن يكبرْ فأنثى
شديدُ الأزمِ ليس له ضُروسُ

يريد القراد، وهو ذكر، ثم يسمى إذا كبر حَلَمةً وحَمْنانةً.

وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني بالموصل أنهم لم يقولوا في صفات الله عز وجل علامةً لأن الهاء مشهورة عندهم بعلم التأنيث، وهي إخبار عن قلة الدوام والثبات. قال النمر :
وكلُّ خليلٍ عليهِ الرّعاث
والحُبُلات كذوبٌ مَلِق

وقال آخر
وإن حلفتُ لا النأيُ ينقضُ عهدها
فليس لمخضوب البنانِ يمينُ

وقال المتنبي :
أبداً تستردُّ ما تَهب الدنيا
فيا ليتَ جودَها كان بُخلا
فكفتْ فرحة تورثُ الغمَّ
وخلٌّ يغادرُ الوجدَ خلاّ
شِيمُ الغانيات فيها فلا أد
ري لذا أنَّثَ اسمها الناسُ أمْ لا

أبو العباس يقول: إنهم أرادوا به الداهية، وقد تكون الهاء داخلة للمبالغة والتوكيد كنسّابة ومِطْرابة ولُجَجة.
 
الخمر

اسم ثلاثي، وهو أعدل الكلام، حرف يبتدأ به، وحرف تُحشى به الكلمة، وحرف يوقف عليه؛ وفتحوا أوله، لأن أول الحروف يحرّك حركةً ضروريةً، والفتح أخف الحركات، فهي حظه إلى أن يحدث مانع؛ وسكّنوا الحرف الأوسط تخفيفاً لكثرة استعمالها، لأن الحركات أبعاض الحروف، بل تُجريها العرب مجرى الحروف في مواضع. ألا ترى أنهم أجازوا صرف هند اسم امرأة معرفة، فإذا تحرك الأوسط منه مُنع الصرف البتة، كقولك فدْمٌ، إذا جعلتها اسماً فصارت الحركة في منع الصرف بمنزلة الياء من زينب، والألف من عناق، كما يجرون الحروف مجاري الحركات، قالوا لم يسعَ ولم يرمِ ولم يغزُ، فحذفوا أواخر هذه الحروف للجزم كما تحذف الحركات من لم يخرجْ ولم يجلسْ؛ وأما لم يكُ ولم يُبَلْ ولا يَدْرِ فحذفوا أواخرها تخفيفاً، لأن الشيء إذا كثر استعماله يتأول بالحذف أكثر. وقال الفرّاء في المُشكل: الأصل في ايْش أيُّ شيءٍ فحذفوا ياء وهمزة شيء وبنوهما كلمة واحدة. لما كان الشيء عبارة عن كل معنى، لأن أعم الأسماء شيء، ثم الجوهر أخص منه، إذ كان كل جوهر شيئاً، وليس كل شيء جوهراً، ثم الجسم أخص منه، إذ كان كل جسم جوهراً، وليس كل جوهر جسماً، ثم الحيوان أخص منه، إذ كل حيوان جسم، وليس كل جسم حيواناً، ثم على ذلك: الناس أخص من الحيوان، إذ كل ناس حيوان، وليس كل حيوان ناساً، ثم الرجل أخص منه، إذ كل رجل إنسان، وليس كل إنسان رجلاً، ثم زيدٌ أخص من رجل، ولذلك صار علماً، والأسماء على ثمانية أضرب: أسماء الأجسام كالحجر والمدَر، وأسماء الصفات وهو ما كان حلياً أو نسباً أو إشارةً كالأحمر والطويل والقرشيّ، والصناعات تجري مجراها نحو البقال والهبْرقيّ، وأسماء الإشارة نحو هذا وأولئك، وأسماء الأحداث كالقيام والقعود، ومن هذا القسم اشتُقت أسماء الأفعال، فما تصرّف منها وصدر عنها الأفعال، فهي المصادر، والأسماء الأعلام كزيد وعمرو، وأسماء الأمكنة وأصلها الجهات الست خلف وقدّام، وفوق وتحت، ويسرة ويمنة، وما ضارعها، وأسماء الأزمنة كالشهور والدهر، وأسماء الفاعلين كقائم وقاعد، وأسماء المفعولين كمضروب ومقتول. ودخول الألف واللام على الخمر لتعريف الجنس، كقولهم: أهلك الناسَ الدينارُ والدرهمُ، أي هذا الجنس هو الذي أهلكهم، ودخلت اللام وحدها للتعريف، والهمزة دخلت لسكون اللام، يدلك على ذلك إيصالهم حرف الجر إلى ما بعد حرف التعريف، نحو: عجبتُ من الرجل، فتعود الحركة فيه إلى ما بعد حرف التعريف، ولو كان الألف واللام بأجمعهما للتعريف لما كان يجاوز حرف الجر إلى ما بعده، ثم إن التنكير ضدٌّ للتعريف، وهو بحرف واحد كالتنوين في آخر الاسم، وكذلك التعريف بحرف واحد، وجعلوا حرف التعريف واحداً لأنهم أرادوا خلطه بما بعده، ومزجه به كما أُحدث فيه من انتقال المعنى حيث يضعف عن انفصاله عما بعده فيُعلم بذلك أنهم قد اعتزموا على خلطه به، وسكّنوه لأن تسكينه أبلغ وأشد في إضعافهم إياه، وإعلامهم الحاجة إلى ما اتصل به لأن الساكن أضعف من المتحرك، وأشد افتقاراً إلى ما يتصل به، واختاروا اللام لأنهم أرادوا إدغام حرف التعريف فيما بعده، لأن الحرف المدغم أضعف من الحرف الساكن غير المدغم، وجعلوها في أول الكلام. والزيادات تقع آخر الكلام لأنهم صانوه وشحّوا عليه حتى جعلوه للحاجة إليه في موضع لا يحذف منه حرف صحيح البتة، واللام حرف صحيح، فاحتاطوا عليه بأن جعلوه في الأول ليبعد عن الحذف والاعتلال.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...