أمن المدن ما يغريك بزيارة تالية، تشعر أنك ولدت فيها، وجرّبت في حواريها بداية عشق الأشياء.
ثم ما هذا الحنين الذي ينتابنا، ونحن نعبر بين الجدران القديمة وقرب الأشجار المعمّرة؟! لا بدّ أن أرواحاً لا تزال في الأمكنة، تخاطبنا؛ أن اقتربوا من الحياة البكر، وعبير النباتات اليابسة، وتلك الأخيرة لها حكاية أقرب إلى الخيال، إذ كيف سيتسنى لهذه الروائح أن تظل فائحةً من أوراق مرّ عليها الزمان.
أن يقصد الإنسان مدينة للمرة الأولى، فذلك محفّز على الاكتشاف، هكذا رأيتني وأنا أمشي على كورنيش الدار البيضاء، ناس يغرفون ما تسنى لهم من العيش الهانئ، حلقات أعراس وزغاريد مزدانة بالصلاة على الرسول.
في أصيلة التي أعود إليها، يسكن الهدوء، والناس يتابعون بشغف موسمها الثقافي السنوي.. لم تتغير الأمكنة ولا أهلها ولا روح المدينة الموغلة في التاريخ. وقاب قوسين أو أدنى منها تتلألأ طنجة بأنوارها، وهي تعانق مياه المتوسط والأطلسي، ومقهى الحافة بشرفاته المنحدرة نحو المحيط منذ مئة عام، والجبل الكبير و«كاب سبارتل» ومنارته عاشقة الغروب.
وبين المدن الكبيرة المنسابة كعقد حول عنق المملكة، قرىً وبلدات كأنها بناتها، تنمو بهدوء وتحبو في السهول، نحو التلال العالية. ومن تطوان، التي تذكرنا بالنشيد المدرسي «بلاد العرب أوطاني»، صعوداً على طرقات الشمال إلى شفشاون، المدينة الزرقاء، الساكنة في حضن الجبل، تأبى مغادرة عبق التاريخ. وفي مراكش «الحمراء»، الكثيفة بعطورها، نشعر أن حياة واحدة لا تكفي؛ ونترك شغفنا هناك.
المدن كأهلها لها أرواحها التي تبقى محلقة رغم تقادم الزمن.. روح أثيرية، لكنها تُلمس وتُشم، ويمكننا من خلالها إدراك التفاصيل كلها؛ ناساً وشجراً ودروباً وذكريات.
البيان