نقوس المهدي
كاتب
اقترن توطد البنية في أذهان الشعراء، عدا عامل النقلة الحضارية التي شكّلت الأرضية، بتطور مفهوم الشعر ومحدَّدات "الشعرية" 1- وبداية تبلور ممارسة ووعي نصيين سينقلان الفحولة من الشاعر إلى الشعر 2- وعزوف عن المتصورات التقليدية سليلة البداوة كالمحدد الماورائي عند القدامى إلى مُوفَّى الأموية والذي هو بقية باقية من علاقة الشعر بالسحر جعلت الشعراء يتفاضلون بشياطينهم ومنازلها3- والمحدّد الدموي الذي جعل علو النسب من شروط علو الجاه الشعري 4- والمحدد العرقي ـ الاجتماعي الذي أنطق الفرزدق (وبعض لاحقيه) بتحقير شعر "العبيد" مقابل مدح شعر الأسياد5- والمحددّ الخُلُقي الذي جعل الشعر عند شاعر الإسلام، حسان، صدقاً أو لا يكون6- والمحدّد الذكوري الذي كان في أصل تعيير النابغة الجعدي لمهجوته ليلى الأخيلية وتعيير الفرزدق لبعض خصومه و"خصي" جرير وابن لجإ لمهجويهما وفخر أبي النجم الراجز بشيطانه "الذكر":
شيطانُهُ أنثى وشيطاني ذكر 6-.
إنّي وكلُّ شاعرٍ من البَشَرْ
وهي مُحدّدات لصيقة بالشاعر قائمة خارج الشعر مشتقّة من سلّم القيم القبلية والدينيّة 8- ومنذ بداية العصر العباسي وتطوّر الحرف والصنائع وتنامي الجدل الفكري بين أهل العقل وأهل النقل 9- واتساع المسافة بين "مطبوع الشعر" و" "مصنوعه" أخذ حظّ التفاسير الخرافية والغيبيّة للظواهر في التراجع ووضع اعتقاد القدامى موضع النقد والتفسير النفسي والبيئي على ألسنة المتعقّلين10- ومن خلال شعر الشعراء وشعرهم على الشعر، وتنظيرات النقاد الذين رأوا للشعر "صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم"11-، ورأوه "صناعة وضرباً من النسج وجنساً من التصوير" 12-، و"نظيراً للنسج..... والصياغة والبناء والوشي والتحبير... والتفويف والنقش..." 13- وعلى هذا الأساس حاول بعضهم إثبات أن للجمال أسباباً تجعل الشيء جميلاً وأن من الممكن الوصول إلى معرفتها وإدراكها ولا دخل لأي عامل خارجي بالتالي في تحديد شعريّة الشعر وتصنيف الشعراء وطبقاتهم14-.
ولعلّه ليس أبلغ دلالة من جواب حماد الراوية لما سئل عن الأخطل النصراني، فقال: "ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلي النصرانية"15-.
ومن حكم الأصمعي (ت 213هـ)، في حسان: "هذا حسان فحل من فحول الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره" 16- ومن قول أبي الفرج (ت 356هـ) في الحطيئة يقدم شخصه (خُلُقه وخَلْقَه ونسبه ودينه وهيئته) تقديماً لا يبقي له ولا يذر شيئاً يُحَبّ: "كان الحطيئة جشعاً سؤولاً ملحفاً دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلاً، قبيح المنظر، رث الهيئة، مغمور النسب، فاسدالدين، "ثم كأنما يستدرك على ذلك وينبه قارئه إلى المفارقة حين يقابل شعر هذا الزريّ بشعر غيره"17-. وكذا كان حكم الأصمعي في بشار "خاتمة الشعراء" 18-، إن حسن التأليف صار في وعي الشعراء والنقاد هو الفيصل بين الشاعر وغير الشاعر فـ"أكثر الناس يتكلمون بالشعر وهم لا يعلمون ولو أحسنوا تأليفه لكانوا شعراء كلهم"19-.
ولعلّ التحوّل في النظر إلى مآتي الشعر والشعرية قد لقي تجسيده الأوفى على يدالحسن بن هانئ وبدءاً منه 20- فقد قلب الموازين التقليدية التي بها حددوا شعرية الشعر: ميزان النسب رأس منظومة القيم العربية القبلية حيث فاخر، على سبيل المحاكاة الساخرة، ببنُوّته للخمر: "أنا ابن الخمر" (ص 374)، وميزان الحماسة وقود وجود الإنسان العربي حيث قابل حربهم بحربه وفخرهم بفخره على سبيل التقليد الساخر "الماكر" أيضاً، من قبيل [هزج].
ـ إذا عبّا أبو الهيجاء للهيجاء فرسانَاً.
جعلَنا القوسَ أيدينا وَنَبْلَ القَوس سَوسَانا
(ص 198).
ـ إذا أجرى أمينُ الله في الحلْبة أفراسَا.
أقمنَا حلبةَ اللهوِ فأجرينَا بها الكَاسَا
(ص217)
وعدل عن مفاهيم القدامي للجود والشجاعة والفتوة، والسيادة والحلال والحرام والجميل والقبيح [خفيف]:
لا تُلمني علَى التي فَتَنْتَنِي
وارتني القبيحَ غَيرَ قبيحٍ
(ص24).
لقي جميلَه في "الحرام" و"المدنّس" و"المذنب" و"الشاذِّ" و"المخنَّث" و"اليومي" 21- فهو، مَقيساً بأقيسة "الأوائل" (سلطانهم يمتد حتّى موفى الأمويّة) لمقومات الشعرية يقع خارج حدود الاعتراف، ولعل ذلك هو مدلول استدراكات "علماء الشعر" ونقاده في زمانه، الذين لم يجدوا بدّاً من أن يقرَّظوا شعره (جرّاء الطارئ على مفهوم الشعرية). تقريظاً مشفوعاً بـ"امتناع لامتناع"، حَمَلْتْه" "لولا" (جرّاء الحرج الأخلاقي الذي يسبّبه)، على غرار قول ابن الأعرابي (ت.231 هـ): "لولا أنَّ أبا نواس وضع نفسه بهذه الأدناس والأرفاث لاستشهدت بشعره واحتججت" 22-. وكذا كان موقف أبي عبيدة (ت نحو 210هـ)، وأبي عمرو الشيباني (ت نحو 213 هـ) وابن السّكيت (ت 246 هـ)، وابن خالويه (370 هـ). نقض النواسي وأضرابه من "جيل المحدثين عيار الفحولة" وأعلنوا تمردّهم على مرجعيّة القديم، وأسهم ذلك في ظهور عيار نقدي جديد، اجترأ أصحابه على إحدى المسلّطات الخارجية في تقييم الشعر والشعراء ألا وهي
السبّق الزمني 23- فقد قضي المبرّد ( ت 285 هـ)، أن: "ليس لقدم العهد يفضل القائل" 24- واحتجّ ابن قتيبة (ت 276 هـ)، بأنَّ الله" لم يقصر العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خصّ به قوماً دون قوم"25-.
وقضى القاضي الجرجاني (ت 292 هـ)، أن "الدين بمعزل عن الشعر" 26-، و"إذ كان والشعر إنما هو قول فإذا أجاد فيه القائل لم يطالب بالاعتقاد "فيما قدامة (ت 337 هـ) 27- وانتهى أبو هلال (ت 390 هـ) إلى أنه "يراد من الشاعر حسن الكلام والصدق يراد من الأنبياء"، و"الآمدي (ت 371 هـ)"، "إلى أن "ليس الشعر عند أهل العلم إلاّ حسن التأتّي وقرب المأخذ واختيار الكلام" 29- وهي صفات ألصقت بهيئة المبنى والتشكيل.وبنى بعض الدارسين على هذه الدّلائل" "أنَّ النزعة التي سيطرت على النقد العربي منذ قدامة إنّما هي نزعة "الفن للفن" إذا أردنا أن نعبر بصيغة معاصرة عن تصور عربي قديم للعمل "الشعري" 30-، وأن "هذه النزعة الشكلانية ستبلغ ذروتها مع العسكري الذي اعتبر أن الشأن ليس في إيراد المعاني... وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه" 31-.
وبلغ منحى التخلي عن العوامل الخارجة على الشعر في عيار الشعر أقصاه عند حبيب بن أوس الطائي الذي أرجع السحر إلى الصنع والإبداع إلى"التركيب" وبات الشعر ـ وهو "صوب العقول" ـ صناعة تحكمها أحكام الصنائع كلّها وقوانين إجرائها وإتقانها. ولم نعثر على من وعى وعيه النص في دلالته الحرفية. وإذا كانت الـ "سيارة" صفة من صفات قصيدته ما انفَكّ يفاخر بها فإن فعل "التركيب" 32 - الذي ظل يمارسه من شأنه أن يجعل "تركيب سيارات الشعر كتركيب سيارات" المعدن، العمدة فيه على "الفكر والساعد"، ولا شيء عدا ذلك من نسب أو حسب أو عرق أو دين أو خلق أو خلاق أو سبق زمني أو جنس أو صلة مزعومة بالجن33-.
وما نظن النقاد المحدثين عدلوا عن تحديد القدامي لمآتي الشعرية إلا واقعين تحت تأثير النقلة الحضارية، مسبوقين بإبداع الشعراء أو أعلنوه في شعرهم على الشعر، ومثّل "الحوليون المحكّكون" طلائع هذه النزعة منذ أخرة الجاهلية ، حتّى عدّ الأصمعي زهير والحطيئة من "عبيد الشعر" لذهابهما مذهب التنقيح والتثقيف الذي قال فيه الثاني: "خير الشعر الحوليّ المنقح المحكّك"، فيما كان الأول: يسمّى أكبر قصائده الحوليّات، ومبكّراً سار على غرارهما سويد بن كراع وعديّ بن الرّقاع"34-.
ومع ذلك "كان النقد، في القرن الثالث الهجري دون مستوى الإبداع الشعري" 35- وإن بدا لنا غلّواً قَصْرُ "جهد النقاد على قبول الشعر المحدث" وتعليله بكونهم "لم يعرفوا كيف يكتشفون معنى التحول الذي حقّقه، أو طمح إليه، ولم يعرفوا بالتالي كيف ينظّرون له"36- فتضافر جهودهم، كما دلّت الشواهد، على الإطاحة بجانب هامّ من محدّدات الشعرية العربية، البدوية والعقديّة، أمر لا يستهان به وإن هم أجملوا في الغالب ولم يتوسّعوا، وظلّوا قاصرين عن مضاهاة قدرات المبدعين الاستكشافية واللحاق بتطلعاتهم والقبض على أشواقهم37-.
وعيار الشعر عيار تقبّل، و"التقبّل مناط وجود الأدب وحياته، فهو أوّل موقع لرصد الأدبية التي يكون مناطها آنذاك"، مايحدثه النصّ من وقع في المتقبّل"38-. على أن المبدعين، وهم يصطدمون بالسائد، وينشدون متقبّلا فهماً يفقه إبداعهم ويحقه، وإن تعذّر عليهم وجوده عادوا ولسان حالهم يقول مقال البحتري [بسيط]:
عليّ َنحتُ القوافي من مقاطِعها
وما عليَّ لهمْ إنْ لَمْ يَفْهَمِ البَقَرُ
(II ـ 308).
ظلّ كل من أبي نواس وأبي تمام وابن الرومي وأبي الطيب، إذا اقتصرنا على أقطاب، خلف هذا المتقبّل يطلبونه، قصارى الحسن "ذو العيان"39-، عساه يرى مرآه فيشاكل مشاكلته طارف الحياة والحضارة، وقصارى حبيب "ذو الحجا"، 40-، عساه يغوص مغاصه ويخيل خياله فيغرب إغرابه فيما كان همّ عليّ لـ "علق الصدر من حرّ شعره"، متقبلاً يدري" ماقيمة العلق" (IV ـ 334)، وكان أحمد يروم المرام نفسه بعبارة أخرى: "من لي بفهم أَهَيْل عَصْرٍ...."(III ـ 277).
بيّد أن هؤلاء، وخاصة الثالوث الأخير، أوهموا، أو توهّموا، أو زعموا أنهم ظفروا بمنشودهم في شخص الممدوح الذي عقدوا على وجوده ونقوده وجود الشعر وبقاءه، واستثنوه من "التبقّر" الشامل الذي رأوه أصاب الخلق، وألحقوه، متقبِّلاً، بمصافِّهم، مبدعين، أو وضعوا زمام الأمر كلّه بين يديه. لقد باتت شعريّة الشعر، زمن احتراف المديح رهينة مال الموّالين، وبدا للمدّاحين أن قدر ما يُعْطُونَهُ، على الإنشاد، من قدر ما يُنشدُون، فعدّت الجائزة عياراً وغداً وزن الشعر من وزن السعر، وإذا كان هذا نقداً فمن ومن النقد.
"تداركه!"، (ويترجّى أبو تمام ـ III ـ 183)، و"أحييتَ مَيْتَ الشعر"، (يتنفس الصعداء ابن الرومي II ـ 69)، و"أحييتَ للشعراء الشعر..."( يقع حافر أبي الطيب على حافر أبي الحسن ـ III ـ 117)، بل صارت "غرابة الغريبة"، و"قصارى شعريتها عند الطائي من "المُغْرِب" الذي قيلت فيه "فأحسن مُغْرِبْ في مُغْرِب" (I ـ 112)، على أنه لئن طوّرت السوق تقييماً للشعر مرتبطاً بالمال، وتوّجت رعاة الشعر وشُراته متقبلين أفذاذاً، وأو قل "مبدعين"، وأعادت الاعتبار مجدداً إلى عامل خارجي في تحديد الشعريّة (الحسب والنسب)، فلقد وازى ذلك ربطها بجودة المصنوع ومهارة الصانع وتحكمت تقلبات السوق وطبيعة العلاقة بين طرفيها في سهم كلّ منهما فتارة مناط الشعرية إغراب "الناقد" وتارة إغراب "المنقود"وتارة "شركة بالتساوي"، وظلّ الأمر مراوحة بين "القيمة التبادلية"، و"القيمة الاستعمالية للبضاعة الشعرية"، إذا استعرنا المصطلح الاقتصادي.
ومثلما تقلص حظ العناصر الخارجية في تحديد الشعرية وعيارها، بمرور الزمن، وجدنا أن ثنائية الشعر والنثر كانت تترك مكانها، على عهد أبي الطيب، مشرقاً وعهد ابن درّاج مغرباً لوحدة قيس بديلة هي الكلام بعد أن رُووِحَ بالكلام طويلاً بين مقابل للشعر 41-، حيناً وكونه جذعاً مشتركاً له وللنثر حيناً42-.
وبدا لنا أن شعراء الزمن المتأخر وأدباءه إن عَلَوْا على هذا التناقض إنما كانوا يتحركون ضمن مفهوم البلاغة عند البلاغيين بماهي قوانين كليّة عابرة لأجناس الكلام ومقيمة تقسيمه على أساس المقابلة بين بليغ وغير بليغ، وكأن هؤلاء كانوا يقفون على عتبة وعي إنشائي جعلهم يميزون بين "الشعر نمطاً للكتابة والشعر صفة للكلام... بين الشعر والشعرية.... أي بين الوجه المخصوص للكتابة والقوانين الإنشائية الكلية التي لا يمثل النمط المخصوص إلا إمكانية من إمكانيات تحققها"43- وهو وعي كان كفيلاً
بأن يضع أهله فوق التقسيم القديم (شعر ـ نثر) والنزاع الذي رافقه.
كان ابن حمديس (ت 527 هـ)، صريح الاستخدام للكلام وحدة قيس جامعة ومجال إبداع غير مقصور على "الموزون المقفى"، بل وجدناه داعياً إلى ميزان آخر، شبيه بميزان المعدن النفيس، يوزن به "بديع الكلام" [خفيف]:
زِنْ بديعَ الكلام وزْنَاً مُحرَّرْ
مثلمَا يُوزَن النَّضارُ المشجَّرْ
(ص204).
ولـ"بديع الكلام" عند هذا الصّقلي دلالة اجتماع الشعر والنثر في نموذج المتكلم المبدع أو البليغ الذي بدأت ملامح صورته تلوح منذ القرن الرابع، فجاء تعريف "أحسن الكلام" وتنزيله "بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم"، عند صاحب "الإمتاع والمؤانسة" 44-. لقد كانت الشعرية تبدو صفة للشعر دون سواه قبل أن تشمل الخطاب النثري الذي لم يعد مقصوراً على وظيفة الإبلاغ وحقّق بعدُ من وجوه التجمل في المقامات والرسائل والفِقَرْ الوصفية ما نزّله منزلة الفن، حتى لكأنّه كان يمعن في محاصرة الشعر باستعارة زيّه أو أنّ الذي كان يحصل هو على العكس، ردّ النثر إلى الشعر بإغراقه فيه وتطويقه بوسائله... تعبيراً من تلك الثقافة عن رفضها الخروج عن دور الشعر الذي شبّت على غنائيته" 45- أو أيضاً، لعلّ مسعى التوفيق والمصالحة وتجاوز الضديّة القديمة، في الظروف الجديدة، كان هو الدافع. وما من شك في الدّور العائد إلى الكتابة وبلاغة المكتوب من هذا القران المعقود بين الشعر والنثر والمتجسّد في "بديع الكلام" (بعبارة ابن حمديس، ص 204)، أو "نجوم الكلام" (بعبارة المعتمد، ص 94)، و:كلامُك حُرّ"، (بعبارته أيضاً، ص 113)، أو بعبارة ابن خفاجة الاستعارية: [طويل]:
كلامٌ يَرِفّ النَّوْر في جنَبَاتِهِ
وتندى به تَحْتَ الهَجَيرِ الجوانحُ
(ص79).
ووجدنا أبا تمام، في القرن الثالث، أحفل الجماعة بالمكتوب وجماليته والكتابة وبلاغتها 46-، لما توطّد بينه وبين بعض أدباء وجهاء الكُتَّاب من صلات ودّ وإعجاب لا تشوبها شائبة التدافع التقليدي، أو هكذا كان يبدو الأمر. يستوقفك خاصّة ما ضمّن لاميته في محمد بن عبد الملك الزيّات وبائيته في الحسن بن وهب، من شعر على نثرهم (بأبعاده الخطيّة واللفظيّة والمعنوية). فقد استهلّ مقطع الكتابة من تقريظ الأول قال، يصف قلمه وسلطانه وخطورته شأنه بين أصابعه [طويل]:
لَكَ القَلمُ الأعلى الذي بشَباته
تُصَابُ من الأمر الكَلى والمفاصِلُ
(III ـ 122).
واستهلَّ المقطع ذاته من تقريظ الثاني يصف كتابه ووقعه [وافر]:
لقد جلّى كتابك كلّ بثٍّ
جوٍ وأصابَ شاكلةَ الرّمي
(III ـ 355).
وأدار المعنى على علوّ قيمته الكتابية (خطا ولفظاً ومعنى) فكائن فيه من معنى خطيرٍ وكائن فيه من معنى بهيٍّ كتبتَ به بلا لفظ كريه على أذن ولا خطٍّ قميِّ وانتبه بذلك إلى بُعد المكتوب في بلاغة الكلام، بناء على تغيير شروط إنتاجه وبثه وذلك "لن يمرّ دون تأثير في ملامح الشعريّة" 47-، ولعلّ أحداً لم يبلغ مبلغ البحتري في إحاطته بهذا الجانب وهو يقرّظ محمد بن عبد الملك الزيات ويصف وجوه افتنانه كاتباً وصف افتنان الشاعر [خفيف]:
عَوْدُه على المستعيد (II ـ 329).
مشرق في جوانب السمع ما يُخْلِقه
امرُؤٌ أنَّهُ نظامٌ فريد
في نظام من البلاغة ماشكّ
في رونق الربيع الجديد
وبديع كأنه الزهرُ الضاحكُ
وعلى هذا المنوال نسج شعراء وكتاب من أمثال ابن المعز وابن الزيات وأحمد بن إسماعيل متجاوزين الوظيفة النفعية للكتابة إلى مظهرها الجمالي وتجلياتها الذوقية.
وعاود أبو الطيب في القرن الرابع، بطريقته هذا الاحتفاء، وهو يمدح ابن العميد، ويقرّظ إنشاءه، ولولا المعرفة المسبقة لما شك أحد في كون الممدوح شاعراً والمقرَّظ شعراً اجتمعت له فضائل اليسر والسّير والبقاء [كامل]:
وقطفت أنت القول لمّا نوّرا
قطف الرجال القول قول نباته
وهو المضاعف حسنه إن كُرِّرَا
فهو المشيّع بالمسامع إن مضى
(II ـ 273).
وفاخر كشاجم فخراً ضمّ إلى معنى اللفظ الممّيز، مفرداً ومركّباً، معنى الخط الممّيز [بسيط]:
خطٌّ يروق وألفاظٌ مهذّبة
لا وعْرة النظم بل مختارة سهلة(ص 261).
وزاوج في نظرته بين بلاغتي المكتوب والمنطوق، المرئي والمسموع، وامتدت الصورة الاستعارية والتشبيهية عنده إلى مجال الأول [خفيف]:
ويدي تحمل الأنامل منها
قلماً ليس دمعه بالرّاقي
وسطور خططتها في كتاب
مثل غيم السّحابة الرقراق
(ص233).
وإذا دخلت العين حلبة التلقي فقد دبت الغيرة بينها
غرر تظهر المسامع تيها
حين يسمعنها على الأحداق
(ص 234).
لقدأغنى المكتوب شعريّة الكلام إذ أضاف بُعْد الفرجة، ودفع بالنثر إلى دائرة الضوء الفني، وبات "الخط واللفظ يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها: "والبيان اثنان": بيان لسان وبيان بيان"، على ما أُثَرِ عن القلقشندي.
بيد أنه عدا المؤلفات الدائرة على أدب الكاتب ما وجدنا بين نقاد الشعر من وعي هذا البعد الكتابي ونتائجه المترتبة في مستوى بلاغة المكتوب 48-، وفسّر به مشكل أبي تمام، مثلاً، بل وجدنا الشفوية تحافظ على سلطانها والتقبل على معاييره رغم الشروخ التي أحدثها بعض المحدثين، وجرّها التثاقف جهة التراث اليوناني، ومرة أخرى بدا الشعراء يخطون خطوة يقف دونها النقاد ويرون مالم يروا 49- وكان ذلك من الدوافع التي دفعت بالشاعر إلى ركوب الخطاب الواصف، وتحمل عبء التبشير، وأداء الوظيفتين معاً، وظيفته مبدعاً ووظيفة الناقد ناقد 50-.
----------------------
الهوامش:
1 ـ الشعرية اصطلاح عرفته المدونة النقدية العربية القديمة (ابن سينا، وابن رشد، في تقديم شعرية أرسطو، عبد القاهر الجرجاني يحلل فكرة النظم...)، رغم بعدها على ألسنتهم عن المفهوم العلمي الذي بات لها في النقد الحديث حيث عنيت بـ"القوانين الكلية للأدبيّة" ـ انظر : مفاهيم الشعرية، حسن ناظم، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 1994، ص ص 11-18.
2 ـ انظر: أبو تمام نصاصا، الطاهر الهمامي، الموقف الأدبي ع 312، نيسان 1997، ص 42-43.
3 ـ انظر لمزيد الاطلاع على معطيات هذا المنظور ماورد منها في أخبار الزمان للمسعودي والموشح للمرزباني والجمهرة للقرشي.
وراجع في خصوص تراجعه عند المحدثين: عبد الفتاح كيليتو في:
Les Séances - récits et codes culturels chez Hamadhani et Hariri, ed. Sindbad, Paris. 1983K p.107.
4 ـ فاخر كعب بن زهير بالانتساب إلى معدن أبيه، وغضّ من شاعرية جرير عند المصلتان العبدي، المحتكم إليه، ضعه قومه "كليب"، وارتفع بالفرزدق (الأمجد)، نسبه وهو "معيار عجيب في النقد لا يمت إلى الفن والجمال بسبب" -عبد الجبار المطلبي: الشعراء نقاداً، بغداد، 1986، ص 46-47.
5 ـ قوله [وافر]: فخير الشعر أكرمه رجالاً.
وشرّ الشعر ماقال العبيدُ.
6 ـ قوله في ما نسب إلى غيره أيضاً [بسيط].
بيتٌ يقال إذا أنشدتَه:صدقا
وإنَّ أحسن بيت أنت قائله
7 ـ الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دار الثقافة، بيروت 1964، ص 502.
8 ـ انظر: مفهوم الادبية في التراث النقدي، توفيق الزيدي، سراس للنشر، تونس 1985.
9 ـ تابع حسين مروّة أطوار هذا الجدل بالدراسة والتحليل، انظر: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفرابي، بيروت، 1988.
10 ـ انظر ما أورده عبدالفتاح كيليتو في موضوع "شياطين الشعراء"، والتخلي عن هذا الاعتقاد بين المولدين والمحدثين: المرجع السابق، ص 107.
11 ـ طبقات الشعراء ابن سلاّم الجمحي، دار النهضة العربية، بيروت، 1968، ص3.
12 ـ البيان والتبيين، الجاحظ، القاهرة، 1948، II -13.
13 ـ دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، مطبعة المنار، مصر، 1331 هـ، ص ص 40-43.
14 ـ عبد القاهر الجرجاني، أحمد أحمد بدوي، القاهرة 1962، ص ص 89-93.
15 ـ الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992 -1994، VIII - 285.
16 ـ الشعر والشعراء : I - 224.
17 ـ الأغاني III ـ 163.
18 ـ الأغاني III ـ 143.
19 ـ الأغاني III ـ 39.
20 ـ لا يغرّن قول يغازل ويعابث [طويل]:
أليّنها، والشعر من عُقَدِ السحْرِ(ص 264).
فما زلت بالأشعار في كل مشهد
21 ـ الديوان: 250، 303، 374، 693... الخ.
22 ـ أخبار أبو نواس، ابن منظور، القاهرة 1924، ص 2.
23 ـ وقف الأصمعي الفحولة على الجاهليين والمخضرمين دون سواهم، انظر كتابه: "فحول الشعراء".
24 ـ الكامل، المبرّد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987، I -29.
25 ـ الشعر والشعراء، ص 90.
26 ـ الوساطة، القاضي الجرجاني، القاهرة 1951، ص 63 - 64.
27 ـ نقد الشعر، قدامة بن جعفر، ليدن، هولندا، 1956، ص 69.
28 ـ الصناعتين، العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، د.م، 1952، ص 137.
29 ـ الموازنة، الآمدي، تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العلمية، بيروت، 1944، I -423.
30 ـ نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة، أمجد الطرابلسي، ترجمة: إدريس بلمليح، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1993، ص 122.
31 ـ نفسه، ص 126.
32 ـ يقول [مج. المديد]:
شغلت بالي عن السُّنَنِ
لي في تركيبه بدعٌ
33 ـ ومع ذلك ظل الطائي يبدي حرصاً على إثبات نسبة العربي. إن التطور الحاصل نحو أدبية الداخل لم يَلُغْ سلطان المحدّدات الخارجيّة عند بعض النقاد والكتاب. ويفيد الجدل الذي أثارته المفاضلة بين المنظوم والمنثور بالكثير من معطيات هذا التواصل.
انظر: حمادي صمود: في نظرية الأدب عند العرب، فصل المفاضلة بين الشعر والنثر في التراث العربي ودلالتها، جدّة 1990، ص ص 89-124.
34 ـ الشعر والشعراء، ص ص 22-23.
35 ـ أدونيس: الثابت والمتحول ـ الكتاب II: تأصيل الأصول، القسم III الفصل IV، الحركة النقدية الشعرية، دار العودة، بيروت، 1979، ص 176.
36 ـ نفسه.
37 ـ مثال أبي نواس وأبي تمام في ما حققناه من "عدول (écart) وما جسدّه أوّلهما من "مشاكلة للدهر" والثاني من وعي احترافي.
38 ـ مفهوم الأدبية في التراث النقدي ص 10.
39 ـ جاء في ميميته "البيانية" احتجاجه لشعر الحاضر والحاضرة بقوله [كامل]
أفذو العيان كأنت في العلم (ص58).
تصف الطلول على السماع بها
40 ـ انتهى في عينيته الفخرية إلى المباهاة [طويل]:
فيدنو إليها ذو الحجا وهو شاسُع (IV ـ 591).
بغرّ يراها من يراها بسمعه
41 ـ مثال ابن وهب الكاتب، في القرن الرابع، حين عدّ "المنظوم هو الشعر والمنثور هو الكلام" ـ البرهان في وجوه البيان، بغداد، 1967، ص 160. وشأن اسحاق لا يختلف عن شأن سابقيه في مسعى القبض على تسمية لغير الشعر تبدو عصيّة.
42 ـ وذلك مايدل عليه حديث ابن وهب عن "البلاغة والعيّ"، ووقوعهما في الشعر والنثر جميعاً (نفسه ص 161)، وحديث العسكري عن "الكلام" وهو يحدّ البلاغة ويحدد مجال عملها "فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه وجودة مقطعه وحسن رصفه وتأليفه وكمال صوغه وتركيبه. (الصناعتين، ص 55).
43 ـ في نظرية الأدب عند العرب، ص 126.
44 ـ الإمتاع والمؤانسة: أبو حيان التوحيدي، نشرة أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، 1953، II ـ 145.
45 ـ في نظرية الأدب عند العرب، ص 124.
46 ـ انظر ما أورده القلقشندي من شعر الشعراء "في مدح فضائل الكتاب وذم حمقاهم" ـ صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، القاهرة، 1983، I 46-50.
47 ـ Daniel Delas et Jaques Filliolet. Linguistique et poétique, Paris, 1973. P. 164.
48 ـ تحدث شربل داغر عن الناقد الذي مازال يتعامل مع القصيدة كأعمى أي دون أن ينظر أبداً إلى هيئتها الخارجية.... " ـ الشعرية العربية الحديثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص 15
والحق أن وعي بلاغة المكتوب بين دارسي الأدب لم يتحقق إلاّ حديثاً في مجالات الشعرية، وعلم الدلالة (Sémiotique) حيث اتسعت الاهتمامات الفضائية بصورة موازية لتيار الشعر الفضائي (Poésie spatiale) والقصيدة البصرية (Poéme visuel) وغداة تجاوز نزعة التمركز حول الصوت في الثقافة الغربية، وفي لسانيات أبي اللسانيات، فردينان دو سوسير نفسه. انظر، تخصيصاً ـ Jacques derrida , De , Le grammatologie . Minuit, Paris . 1967, . PP . 63-65-406 - Hénri Meschonic, critique du rythme , Verdier, Paris. 1982..
49 ـ استشهد القلقشندي على فضيلة أمية الرسول بحجة العتبي القائل: "إن الله تعالى لم يعلّمه الكتابة لتمكن الإنسان بها من الحيلة في تزييف الكلام واستنباط المعاني"... ولعمري إن هذه لحُجّة على فضيلة الكتابةوقيمتها الدلالية المضافة ـ صبح الأعشى I ـ 43:.
50 ـ الدواوين المحال إليها:
ـ ديوان أبي نواس، تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، القاهرة، 1953.
ـ ديوان البحتري: دار صادر، بيروت، د.ت.
ـ ديوان ابن الرومي: شرح وتحقيق عبد الأمير علي مهنّا، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1991.
ـ ديوان أبي تمام، شرح الخطيب التبريزي، دار المعارف بمصر، III-II- I 1951، IV ـ 1976.
ـ ديوان أبي الطيب، شرح البرقوقي، مطبعة السعادة، مصر 1938.
ـ ديوان ابن حمديس، تصحيح وتقديم إحسان عباس، دار صادر، ودار بيروت، 1960.
ـ ديوان ابن خفاجة، تحقيق سيد غازي، منشأة المعارف بالاسكندرية، مصر 1960.
ـ ديوان كشاجم، تقديم وشرح مجيد طراد، دار صادر، بيروت، 1997.
د. الطاهر الهمّامي.
شيطانُهُ أنثى وشيطاني ذكر 6-.
إنّي وكلُّ شاعرٍ من البَشَرْ
وهي مُحدّدات لصيقة بالشاعر قائمة خارج الشعر مشتقّة من سلّم القيم القبلية والدينيّة 8- ومنذ بداية العصر العباسي وتطوّر الحرف والصنائع وتنامي الجدل الفكري بين أهل العقل وأهل النقل 9- واتساع المسافة بين "مطبوع الشعر" و" "مصنوعه" أخذ حظّ التفاسير الخرافية والغيبيّة للظواهر في التراجع ووضع اعتقاد القدامى موضع النقد والتفسير النفسي والبيئي على ألسنة المتعقّلين10- ومن خلال شعر الشعراء وشعرهم على الشعر، وتنظيرات النقاد الذين رأوا للشعر "صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم"11-، ورأوه "صناعة وضرباً من النسج وجنساً من التصوير" 12-، و"نظيراً للنسج..... والصياغة والبناء والوشي والتحبير... والتفويف والنقش..." 13- وعلى هذا الأساس حاول بعضهم إثبات أن للجمال أسباباً تجعل الشيء جميلاً وأن من الممكن الوصول إلى معرفتها وإدراكها ولا دخل لأي عامل خارجي بالتالي في تحديد شعريّة الشعر وتصنيف الشعراء وطبقاتهم14-.
ولعلّه ليس أبلغ دلالة من جواب حماد الراوية لما سئل عن الأخطل النصراني، فقال: "ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلي النصرانية"15-.
ومن حكم الأصمعي (ت 213هـ)، في حسان: "هذا حسان فحل من فحول الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره" 16- ومن قول أبي الفرج (ت 356هـ) في الحطيئة يقدم شخصه (خُلُقه وخَلْقَه ونسبه ودينه وهيئته) تقديماً لا يبقي له ولا يذر شيئاً يُحَبّ: "كان الحطيئة جشعاً سؤولاً ملحفاً دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلاً، قبيح المنظر، رث الهيئة، مغمور النسب، فاسدالدين، "ثم كأنما يستدرك على ذلك وينبه قارئه إلى المفارقة حين يقابل شعر هذا الزريّ بشعر غيره"17-. وكذا كان حكم الأصمعي في بشار "خاتمة الشعراء" 18-، إن حسن التأليف صار في وعي الشعراء والنقاد هو الفيصل بين الشاعر وغير الشاعر فـ"أكثر الناس يتكلمون بالشعر وهم لا يعلمون ولو أحسنوا تأليفه لكانوا شعراء كلهم"19-.
ولعلّ التحوّل في النظر إلى مآتي الشعر والشعرية قد لقي تجسيده الأوفى على يدالحسن بن هانئ وبدءاً منه 20- فقد قلب الموازين التقليدية التي بها حددوا شعرية الشعر: ميزان النسب رأس منظومة القيم العربية القبلية حيث فاخر، على سبيل المحاكاة الساخرة، ببنُوّته للخمر: "أنا ابن الخمر" (ص 374)، وميزان الحماسة وقود وجود الإنسان العربي حيث قابل حربهم بحربه وفخرهم بفخره على سبيل التقليد الساخر "الماكر" أيضاً، من قبيل [هزج].
ـ إذا عبّا أبو الهيجاء للهيجاء فرسانَاً.
جعلَنا القوسَ أيدينا وَنَبْلَ القَوس سَوسَانا
(ص 198).
ـ إذا أجرى أمينُ الله في الحلْبة أفراسَا.
أقمنَا حلبةَ اللهوِ فأجرينَا بها الكَاسَا
(ص217)
وعدل عن مفاهيم القدامي للجود والشجاعة والفتوة، والسيادة والحلال والحرام والجميل والقبيح [خفيف]:
لا تُلمني علَى التي فَتَنْتَنِي
وارتني القبيحَ غَيرَ قبيحٍ
(ص24).
لقي جميلَه في "الحرام" و"المدنّس" و"المذنب" و"الشاذِّ" و"المخنَّث" و"اليومي" 21- فهو، مَقيساً بأقيسة "الأوائل" (سلطانهم يمتد حتّى موفى الأمويّة) لمقومات الشعرية يقع خارج حدود الاعتراف، ولعل ذلك هو مدلول استدراكات "علماء الشعر" ونقاده في زمانه، الذين لم يجدوا بدّاً من أن يقرَّظوا شعره (جرّاء الطارئ على مفهوم الشعرية). تقريظاً مشفوعاً بـ"امتناع لامتناع"، حَمَلْتْه" "لولا" (جرّاء الحرج الأخلاقي الذي يسبّبه)، على غرار قول ابن الأعرابي (ت.231 هـ): "لولا أنَّ أبا نواس وضع نفسه بهذه الأدناس والأرفاث لاستشهدت بشعره واحتججت" 22-. وكذا كان موقف أبي عبيدة (ت نحو 210هـ)، وأبي عمرو الشيباني (ت نحو 213 هـ) وابن السّكيت (ت 246 هـ)، وابن خالويه (370 هـ). نقض النواسي وأضرابه من "جيل المحدثين عيار الفحولة" وأعلنوا تمردّهم على مرجعيّة القديم، وأسهم ذلك في ظهور عيار نقدي جديد، اجترأ أصحابه على إحدى المسلّطات الخارجية في تقييم الشعر والشعراء ألا وهي
السبّق الزمني 23- فقد قضي المبرّد ( ت 285 هـ)، أن: "ليس لقدم العهد يفضل القائل" 24- واحتجّ ابن قتيبة (ت 276 هـ)، بأنَّ الله" لم يقصر العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خصّ به قوماً دون قوم"25-.
وقضى القاضي الجرجاني (ت 292 هـ)، أن "الدين بمعزل عن الشعر" 26-، و"إذ كان والشعر إنما هو قول فإذا أجاد فيه القائل لم يطالب بالاعتقاد "فيما قدامة (ت 337 هـ) 27- وانتهى أبو هلال (ت 390 هـ) إلى أنه "يراد من الشاعر حسن الكلام والصدق يراد من الأنبياء"، و"الآمدي (ت 371 هـ)"، "إلى أن "ليس الشعر عند أهل العلم إلاّ حسن التأتّي وقرب المأخذ واختيار الكلام" 29- وهي صفات ألصقت بهيئة المبنى والتشكيل.وبنى بعض الدارسين على هذه الدّلائل" "أنَّ النزعة التي سيطرت على النقد العربي منذ قدامة إنّما هي نزعة "الفن للفن" إذا أردنا أن نعبر بصيغة معاصرة عن تصور عربي قديم للعمل "الشعري" 30-، وأن "هذه النزعة الشكلانية ستبلغ ذروتها مع العسكري الذي اعتبر أن الشأن ليس في إيراد المعاني... وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه" 31-.
وبلغ منحى التخلي عن العوامل الخارجة على الشعر في عيار الشعر أقصاه عند حبيب بن أوس الطائي الذي أرجع السحر إلى الصنع والإبداع إلى"التركيب" وبات الشعر ـ وهو "صوب العقول" ـ صناعة تحكمها أحكام الصنائع كلّها وقوانين إجرائها وإتقانها. ولم نعثر على من وعى وعيه النص في دلالته الحرفية. وإذا كانت الـ "سيارة" صفة من صفات قصيدته ما انفَكّ يفاخر بها فإن فعل "التركيب" 32 - الذي ظل يمارسه من شأنه أن يجعل "تركيب سيارات الشعر كتركيب سيارات" المعدن، العمدة فيه على "الفكر والساعد"، ولا شيء عدا ذلك من نسب أو حسب أو عرق أو دين أو خلق أو خلاق أو سبق زمني أو جنس أو صلة مزعومة بالجن33-.
وما نظن النقاد المحدثين عدلوا عن تحديد القدامي لمآتي الشعرية إلا واقعين تحت تأثير النقلة الحضارية، مسبوقين بإبداع الشعراء أو أعلنوه في شعرهم على الشعر، ومثّل "الحوليون المحكّكون" طلائع هذه النزعة منذ أخرة الجاهلية ، حتّى عدّ الأصمعي زهير والحطيئة من "عبيد الشعر" لذهابهما مذهب التنقيح والتثقيف الذي قال فيه الثاني: "خير الشعر الحوليّ المنقح المحكّك"، فيما كان الأول: يسمّى أكبر قصائده الحوليّات، ومبكّراً سار على غرارهما سويد بن كراع وعديّ بن الرّقاع"34-.
ومع ذلك "كان النقد، في القرن الثالث الهجري دون مستوى الإبداع الشعري" 35- وإن بدا لنا غلّواً قَصْرُ "جهد النقاد على قبول الشعر المحدث" وتعليله بكونهم "لم يعرفوا كيف يكتشفون معنى التحول الذي حقّقه، أو طمح إليه، ولم يعرفوا بالتالي كيف ينظّرون له"36- فتضافر جهودهم، كما دلّت الشواهد، على الإطاحة بجانب هامّ من محدّدات الشعرية العربية، البدوية والعقديّة، أمر لا يستهان به وإن هم أجملوا في الغالب ولم يتوسّعوا، وظلّوا قاصرين عن مضاهاة قدرات المبدعين الاستكشافية واللحاق بتطلعاتهم والقبض على أشواقهم37-.
وعيار الشعر عيار تقبّل، و"التقبّل مناط وجود الأدب وحياته، فهو أوّل موقع لرصد الأدبية التي يكون مناطها آنذاك"، مايحدثه النصّ من وقع في المتقبّل"38-. على أن المبدعين، وهم يصطدمون بالسائد، وينشدون متقبّلا فهماً يفقه إبداعهم ويحقه، وإن تعذّر عليهم وجوده عادوا ولسان حالهم يقول مقال البحتري [بسيط]:
عليّ َنحتُ القوافي من مقاطِعها
وما عليَّ لهمْ إنْ لَمْ يَفْهَمِ البَقَرُ
(II ـ 308).
ظلّ كل من أبي نواس وأبي تمام وابن الرومي وأبي الطيب، إذا اقتصرنا على أقطاب، خلف هذا المتقبّل يطلبونه، قصارى الحسن "ذو العيان"39-، عساه يرى مرآه فيشاكل مشاكلته طارف الحياة والحضارة، وقصارى حبيب "ذو الحجا"، 40-، عساه يغوص مغاصه ويخيل خياله فيغرب إغرابه فيما كان همّ عليّ لـ "علق الصدر من حرّ شعره"، متقبلاً يدري" ماقيمة العلق" (IV ـ 334)، وكان أحمد يروم المرام نفسه بعبارة أخرى: "من لي بفهم أَهَيْل عَصْرٍ...."(III ـ 277).
بيّد أن هؤلاء، وخاصة الثالوث الأخير، أوهموا، أو توهّموا، أو زعموا أنهم ظفروا بمنشودهم في شخص الممدوح الذي عقدوا على وجوده ونقوده وجود الشعر وبقاءه، واستثنوه من "التبقّر" الشامل الذي رأوه أصاب الخلق، وألحقوه، متقبِّلاً، بمصافِّهم، مبدعين، أو وضعوا زمام الأمر كلّه بين يديه. لقد باتت شعريّة الشعر، زمن احتراف المديح رهينة مال الموّالين، وبدا للمدّاحين أن قدر ما يُعْطُونَهُ، على الإنشاد، من قدر ما يُنشدُون، فعدّت الجائزة عياراً وغداً وزن الشعر من وزن السعر، وإذا كان هذا نقداً فمن ومن النقد.
"تداركه!"، (ويترجّى أبو تمام ـ III ـ 183)، و"أحييتَ مَيْتَ الشعر"، (يتنفس الصعداء ابن الرومي II ـ 69)، و"أحييتَ للشعراء الشعر..."( يقع حافر أبي الطيب على حافر أبي الحسن ـ III ـ 117)، بل صارت "غرابة الغريبة"، و"قصارى شعريتها عند الطائي من "المُغْرِب" الذي قيلت فيه "فأحسن مُغْرِبْ في مُغْرِب" (I ـ 112)، على أنه لئن طوّرت السوق تقييماً للشعر مرتبطاً بالمال، وتوّجت رعاة الشعر وشُراته متقبلين أفذاذاً، وأو قل "مبدعين"، وأعادت الاعتبار مجدداً إلى عامل خارجي في تحديد الشعريّة (الحسب والنسب)، فلقد وازى ذلك ربطها بجودة المصنوع ومهارة الصانع وتحكمت تقلبات السوق وطبيعة العلاقة بين طرفيها في سهم كلّ منهما فتارة مناط الشعرية إغراب "الناقد" وتارة إغراب "المنقود"وتارة "شركة بالتساوي"، وظلّ الأمر مراوحة بين "القيمة التبادلية"، و"القيمة الاستعمالية للبضاعة الشعرية"، إذا استعرنا المصطلح الاقتصادي.
ومثلما تقلص حظ العناصر الخارجية في تحديد الشعرية وعيارها، بمرور الزمن، وجدنا أن ثنائية الشعر والنثر كانت تترك مكانها، على عهد أبي الطيب، مشرقاً وعهد ابن درّاج مغرباً لوحدة قيس بديلة هي الكلام بعد أن رُووِحَ بالكلام طويلاً بين مقابل للشعر 41-، حيناً وكونه جذعاً مشتركاً له وللنثر حيناً42-.
وبدا لنا أن شعراء الزمن المتأخر وأدباءه إن عَلَوْا على هذا التناقض إنما كانوا يتحركون ضمن مفهوم البلاغة عند البلاغيين بماهي قوانين كليّة عابرة لأجناس الكلام ومقيمة تقسيمه على أساس المقابلة بين بليغ وغير بليغ، وكأن هؤلاء كانوا يقفون على عتبة وعي إنشائي جعلهم يميزون بين "الشعر نمطاً للكتابة والشعر صفة للكلام... بين الشعر والشعرية.... أي بين الوجه المخصوص للكتابة والقوانين الإنشائية الكلية التي لا يمثل النمط المخصوص إلا إمكانية من إمكانيات تحققها"43- وهو وعي كان كفيلاً
بأن يضع أهله فوق التقسيم القديم (شعر ـ نثر) والنزاع الذي رافقه.
كان ابن حمديس (ت 527 هـ)، صريح الاستخدام للكلام وحدة قيس جامعة ومجال إبداع غير مقصور على "الموزون المقفى"، بل وجدناه داعياً إلى ميزان آخر، شبيه بميزان المعدن النفيس، يوزن به "بديع الكلام" [خفيف]:
زِنْ بديعَ الكلام وزْنَاً مُحرَّرْ
مثلمَا يُوزَن النَّضارُ المشجَّرْ
(ص204).
ولـ"بديع الكلام" عند هذا الصّقلي دلالة اجتماع الشعر والنثر في نموذج المتكلم المبدع أو البليغ الذي بدأت ملامح صورته تلوح منذ القرن الرابع، فجاء تعريف "أحسن الكلام" وتنزيله "بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم"، عند صاحب "الإمتاع والمؤانسة" 44-. لقد كانت الشعرية تبدو صفة للشعر دون سواه قبل أن تشمل الخطاب النثري الذي لم يعد مقصوراً على وظيفة الإبلاغ وحقّق بعدُ من وجوه التجمل في المقامات والرسائل والفِقَرْ الوصفية ما نزّله منزلة الفن، حتى لكأنّه كان يمعن في محاصرة الشعر باستعارة زيّه أو أنّ الذي كان يحصل هو على العكس، ردّ النثر إلى الشعر بإغراقه فيه وتطويقه بوسائله... تعبيراً من تلك الثقافة عن رفضها الخروج عن دور الشعر الذي شبّت على غنائيته" 45- أو أيضاً، لعلّ مسعى التوفيق والمصالحة وتجاوز الضديّة القديمة، في الظروف الجديدة، كان هو الدافع. وما من شك في الدّور العائد إلى الكتابة وبلاغة المكتوب من هذا القران المعقود بين الشعر والنثر والمتجسّد في "بديع الكلام" (بعبارة ابن حمديس، ص 204)، أو "نجوم الكلام" (بعبارة المعتمد، ص 94)، و:كلامُك حُرّ"، (بعبارته أيضاً، ص 113)، أو بعبارة ابن خفاجة الاستعارية: [طويل]:
كلامٌ يَرِفّ النَّوْر في جنَبَاتِهِ
وتندى به تَحْتَ الهَجَيرِ الجوانحُ
(ص79).
ووجدنا أبا تمام، في القرن الثالث، أحفل الجماعة بالمكتوب وجماليته والكتابة وبلاغتها 46-، لما توطّد بينه وبين بعض أدباء وجهاء الكُتَّاب من صلات ودّ وإعجاب لا تشوبها شائبة التدافع التقليدي، أو هكذا كان يبدو الأمر. يستوقفك خاصّة ما ضمّن لاميته في محمد بن عبد الملك الزيّات وبائيته في الحسن بن وهب، من شعر على نثرهم (بأبعاده الخطيّة واللفظيّة والمعنوية). فقد استهلّ مقطع الكتابة من تقريظ الأول قال، يصف قلمه وسلطانه وخطورته شأنه بين أصابعه [طويل]:
لَكَ القَلمُ الأعلى الذي بشَباته
تُصَابُ من الأمر الكَلى والمفاصِلُ
(III ـ 122).
واستهلَّ المقطع ذاته من تقريظ الثاني يصف كتابه ووقعه [وافر]:
لقد جلّى كتابك كلّ بثٍّ
جوٍ وأصابَ شاكلةَ الرّمي
(III ـ 355).
وأدار المعنى على علوّ قيمته الكتابية (خطا ولفظاً ومعنى) فكائن فيه من معنى خطيرٍ وكائن فيه من معنى بهيٍّ كتبتَ به بلا لفظ كريه على أذن ولا خطٍّ قميِّ وانتبه بذلك إلى بُعد المكتوب في بلاغة الكلام، بناء على تغيير شروط إنتاجه وبثه وذلك "لن يمرّ دون تأثير في ملامح الشعريّة" 47-، ولعلّ أحداً لم يبلغ مبلغ البحتري في إحاطته بهذا الجانب وهو يقرّظ محمد بن عبد الملك الزيات ويصف وجوه افتنانه كاتباً وصف افتنان الشاعر [خفيف]:
عَوْدُه على المستعيد (II ـ 329).
مشرق في جوانب السمع ما يُخْلِقه
امرُؤٌ أنَّهُ نظامٌ فريد
في نظام من البلاغة ماشكّ
في رونق الربيع الجديد
وبديع كأنه الزهرُ الضاحكُ
وعلى هذا المنوال نسج شعراء وكتاب من أمثال ابن المعز وابن الزيات وأحمد بن إسماعيل متجاوزين الوظيفة النفعية للكتابة إلى مظهرها الجمالي وتجلياتها الذوقية.
وعاود أبو الطيب في القرن الرابع، بطريقته هذا الاحتفاء، وهو يمدح ابن العميد، ويقرّظ إنشاءه، ولولا المعرفة المسبقة لما شك أحد في كون الممدوح شاعراً والمقرَّظ شعراً اجتمعت له فضائل اليسر والسّير والبقاء [كامل]:
وقطفت أنت القول لمّا نوّرا
قطف الرجال القول قول نباته
وهو المضاعف حسنه إن كُرِّرَا
فهو المشيّع بالمسامع إن مضى
(II ـ 273).
وفاخر كشاجم فخراً ضمّ إلى معنى اللفظ الممّيز، مفرداً ومركّباً، معنى الخط الممّيز [بسيط]:
خطٌّ يروق وألفاظٌ مهذّبة
لا وعْرة النظم بل مختارة سهلة(ص 261).
وزاوج في نظرته بين بلاغتي المكتوب والمنطوق، المرئي والمسموع، وامتدت الصورة الاستعارية والتشبيهية عنده إلى مجال الأول [خفيف]:
ويدي تحمل الأنامل منها
قلماً ليس دمعه بالرّاقي
وسطور خططتها في كتاب
مثل غيم السّحابة الرقراق
(ص233).
وإذا دخلت العين حلبة التلقي فقد دبت الغيرة بينها
غرر تظهر المسامع تيها
حين يسمعنها على الأحداق
(ص 234).
لقدأغنى المكتوب شعريّة الكلام إذ أضاف بُعْد الفرجة، ودفع بالنثر إلى دائرة الضوء الفني، وبات "الخط واللفظ يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها: "والبيان اثنان": بيان لسان وبيان بيان"، على ما أُثَرِ عن القلقشندي.
بيد أنه عدا المؤلفات الدائرة على أدب الكاتب ما وجدنا بين نقاد الشعر من وعي هذا البعد الكتابي ونتائجه المترتبة في مستوى بلاغة المكتوب 48-، وفسّر به مشكل أبي تمام، مثلاً، بل وجدنا الشفوية تحافظ على سلطانها والتقبل على معاييره رغم الشروخ التي أحدثها بعض المحدثين، وجرّها التثاقف جهة التراث اليوناني، ومرة أخرى بدا الشعراء يخطون خطوة يقف دونها النقاد ويرون مالم يروا 49- وكان ذلك من الدوافع التي دفعت بالشاعر إلى ركوب الخطاب الواصف، وتحمل عبء التبشير، وأداء الوظيفتين معاً، وظيفته مبدعاً ووظيفة الناقد ناقد 50-.
----------------------
الهوامش:
1 ـ الشعرية اصطلاح عرفته المدونة النقدية العربية القديمة (ابن سينا، وابن رشد، في تقديم شعرية أرسطو، عبد القاهر الجرجاني يحلل فكرة النظم...)، رغم بعدها على ألسنتهم عن المفهوم العلمي الذي بات لها في النقد الحديث حيث عنيت بـ"القوانين الكلية للأدبيّة" ـ انظر : مفاهيم الشعرية، حسن ناظم، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 1994، ص ص 11-18.
2 ـ انظر: أبو تمام نصاصا، الطاهر الهمامي، الموقف الأدبي ع 312، نيسان 1997، ص 42-43.
3 ـ انظر لمزيد الاطلاع على معطيات هذا المنظور ماورد منها في أخبار الزمان للمسعودي والموشح للمرزباني والجمهرة للقرشي.
وراجع في خصوص تراجعه عند المحدثين: عبد الفتاح كيليتو في:
Les Séances - récits et codes culturels chez Hamadhani et Hariri, ed. Sindbad, Paris. 1983K p.107.
4 ـ فاخر كعب بن زهير بالانتساب إلى معدن أبيه، وغضّ من شاعرية جرير عند المصلتان العبدي، المحتكم إليه، ضعه قومه "كليب"، وارتفع بالفرزدق (الأمجد)، نسبه وهو "معيار عجيب في النقد لا يمت إلى الفن والجمال بسبب" -عبد الجبار المطلبي: الشعراء نقاداً، بغداد، 1986، ص 46-47.
5 ـ قوله [وافر]: فخير الشعر أكرمه رجالاً.
وشرّ الشعر ماقال العبيدُ.
6 ـ قوله في ما نسب إلى غيره أيضاً [بسيط].
بيتٌ يقال إذا أنشدتَه:صدقا
وإنَّ أحسن بيت أنت قائله
7 ـ الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دار الثقافة، بيروت 1964، ص 502.
8 ـ انظر: مفهوم الادبية في التراث النقدي، توفيق الزيدي، سراس للنشر، تونس 1985.
9 ـ تابع حسين مروّة أطوار هذا الجدل بالدراسة والتحليل، انظر: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفرابي، بيروت، 1988.
10 ـ انظر ما أورده عبدالفتاح كيليتو في موضوع "شياطين الشعراء"، والتخلي عن هذا الاعتقاد بين المولدين والمحدثين: المرجع السابق، ص 107.
11 ـ طبقات الشعراء ابن سلاّم الجمحي، دار النهضة العربية، بيروت، 1968، ص3.
12 ـ البيان والتبيين، الجاحظ، القاهرة، 1948، II -13.
13 ـ دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، مطبعة المنار، مصر، 1331 هـ، ص ص 40-43.
14 ـ عبد القاهر الجرجاني، أحمد أحمد بدوي، القاهرة 1962، ص ص 89-93.
15 ـ الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992 -1994، VIII - 285.
16 ـ الشعر والشعراء : I - 224.
17 ـ الأغاني III ـ 163.
18 ـ الأغاني III ـ 143.
19 ـ الأغاني III ـ 39.
20 ـ لا يغرّن قول يغازل ويعابث [طويل]:
أليّنها، والشعر من عُقَدِ السحْرِ(ص 264).
فما زلت بالأشعار في كل مشهد
21 ـ الديوان: 250، 303، 374، 693... الخ.
22 ـ أخبار أبو نواس، ابن منظور، القاهرة 1924، ص 2.
23 ـ وقف الأصمعي الفحولة على الجاهليين والمخضرمين دون سواهم، انظر كتابه: "فحول الشعراء".
24 ـ الكامل، المبرّد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987، I -29.
25 ـ الشعر والشعراء، ص 90.
26 ـ الوساطة، القاضي الجرجاني، القاهرة 1951، ص 63 - 64.
27 ـ نقد الشعر، قدامة بن جعفر، ليدن، هولندا، 1956، ص 69.
28 ـ الصناعتين، العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، د.م، 1952، ص 137.
29 ـ الموازنة، الآمدي، تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العلمية، بيروت، 1944، I -423.
30 ـ نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة، أمجد الطرابلسي، ترجمة: إدريس بلمليح، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1993، ص 122.
31 ـ نفسه، ص 126.
32 ـ يقول [مج. المديد]:
شغلت بالي عن السُّنَنِ
لي في تركيبه بدعٌ
33 ـ ومع ذلك ظل الطائي يبدي حرصاً على إثبات نسبة العربي. إن التطور الحاصل نحو أدبية الداخل لم يَلُغْ سلطان المحدّدات الخارجيّة عند بعض النقاد والكتاب. ويفيد الجدل الذي أثارته المفاضلة بين المنظوم والمنثور بالكثير من معطيات هذا التواصل.
انظر: حمادي صمود: في نظرية الأدب عند العرب، فصل المفاضلة بين الشعر والنثر في التراث العربي ودلالتها، جدّة 1990، ص ص 89-124.
34 ـ الشعر والشعراء، ص ص 22-23.
35 ـ أدونيس: الثابت والمتحول ـ الكتاب II: تأصيل الأصول، القسم III الفصل IV، الحركة النقدية الشعرية، دار العودة، بيروت، 1979، ص 176.
36 ـ نفسه.
37 ـ مثال أبي نواس وأبي تمام في ما حققناه من "عدول (écart) وما جسدّه أوّلهما من "مشاكلة للدهر" والثاني من وعي احترافي.
38 ـ مفهوم الأدبية في التراث النقدي ص 10.
39 ـ جاء في ميميته "البيانية" احتجاجه لشعر الحاضر والحاضرة بقوله [كامل]
أفذو العيان كأنت في العلم (ص58).
تصف الطلول على السماع بها
40 ـ انتهى في عينيته الفخرية إلى المباهاة [طويل]:
فيدنو إليها ذو الحجا وهو شاسُع (IV ـ 591).
بغرّ يراها من يراها بسمعه
41 ـ مثال ابن وهب الكاتب، في القرن الرابع، حين عدّ "المنظوم هو الشعر والمنثور هو الكلام" ـ البرهان في وجوه البيان، بغداد، 1967، ص 160. وشأن اسحاق لا يختلف عن شأن سابقيه في مسعى القبض على تسمية لغير الشعر تبدو عصيّة.
42 ـ وذلك مايدل عليه حديث ابن وهب عن "البلاغة والعيّ"، ووقوعهما في الشعر والنثر جميعاً (نفسه ص 161)، وحديث العسكري عن "الكلام" وهو يحدّ البلاغة ويحدد مجال عملها "فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه وجودة مقطعه وحسن رصفه وتأليفه وكمال صوغه وتركيبه. (الصناعتين، ص 55).
43 ـ في نظرية الأدب عند العرب، ص 126.
44 ـ الإمتاع والمؤانسة: أبو حيان التوحيدي، نشرة أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، 1953، II ـ 145.
45 ـ في نظرية الأدب عند العرب، ص 124.
46 ـ انظر ما أورده القلقشندي من شعر الشعراء "في مدح فضائل الكتاب وذم حمقاهم" ـ صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، القاهرة، 1983، I 46-50.
47 ـ Daniel Delas et Jaques Filliolet. Linguistique et poétique, Paris, 1973. P. 164.
48 ـ تحدث شربل داغر عن الناقد الذي مازال يتعامل مع القصيدة كأعمى أي دون أن ينظر أبداً إلى هيئتها الخارجية.... " ـ الشعرية العربية الحديثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص 15
والحق أن وعي بلاغة المكتوب بين دارسي الأدب لم يتحقق إلاّ حديثاً في مجالات الشعرية، وعلم الدلالة (Sémiotique) حيث اتسعت الاهتمامات الفضائية بصورة موازية لتيار الشعر الفضائي (Poésie spatiale) والقصيدة البصرية (Poéme visuel) وغداة تجاوز نزعة التمركز حول الصوت في الثقافة الغربية، وفي لسانيات أبي اللسانيات، فردينان دو سوسير نفسه. انظر، تخصيصاً ـ Jacques derrida , De , Le grammatologie . Minuit, Paris . 1967, . PP . 63-65-406 - Hénri Meschonic, critique du rythme , Verdier, Paris. 1982..
49 ـ استشهد القلقشندي على فضيلة أمية الرسول بحجة العتبي القائل: "إن الله تعالى لم يعلّمه الكتابة لتمكن الإنسان بها من الحيلة في تزييف الكلام واستنباط المعاني"... ولعمري إن هذه لحُجّة على فضيلة الكتابةوقيمتها الدلالية المضافة ـ صبح الأعشى I ـ 43:.
50 ـ الدواوين المحال إليها:
ـ ديوان أبي نواس، تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، القاهرة، 1953.
ـ ديوان البحتري: دار صادر، بيروت، د.ت.
ـ ديوان ابن الرومي: شرح وتحقيق عبد الأمير علي مهنّا، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1991.
ـ ديوان أبي تمام، شرح الخطيب التبريزي، دار المعارف بمصر، III-II- I 1951، IV ـ 1976.
ـ ديوان أبي الطيب، شرح البرقوقي، مطبعة السعادة، مصر 1938.
ـ ديوان ابن حمديس، تصحيح وتقديم إحسان عباس، دار صادر، ودار بيروت، 1960.
ـ ديوان ابن خفاجة، تحقيق سيد غازي، منشأة المعارف بالاسكندرية، مصر 1960.
ـ ديوان كشاجم، تقديم وشرح مجيد طراد، دار صادر، بيروت، 1997.
د. الطاهر الهمّامي.