محمد القاسمي - مصادر التفكير النقدي والبلاغي عند ابن خلدون

مقدمة :

شهدت منطقة الغرب الإسلامي في القرن الثامن الهجري تطورا هائلا ومتميزا في مجال النقد والبلاغة، وذلك بفعل إسهامات بعض العلماء الكبار وفي مقدمتهم : أبو محمد القاسم السجلماسي وابن البناء المراكشي وحازم القرطاجني وعبد الرحمان ابن حمد بن أبي بكر المعروف بابن خلدون صاحب التصانيف العديدة والمتنوعة وأهمها مقدمته المشهورة وكتاب العبر وغيرهما. غير أن ما يلفت الانتباه في أعمال هؤلاء النقاد أن ابن خلدون يتميز عن غيره من معاصريه في أن تآليفه، بصفة عامة وكتاب المقدمة بصفة خاصة، لم تثر الآداب العربية وحدها بل رفدت التراث الثقافي الإنساني بروافد فكرية جمة، فالمقدمة في نظر كثير من الدارسين والمهتمين بالفكر الخلدوني أول دراسة تحليلية يعرفها العالم عن التفاعلات التاريخية؛ ذلك بأن الموضوع الأساسي الذي ركز عليه جهده الفكري المتميز هو أن العناصر التاريخية والنفسية والبيئية والاقتصادية هي التي تقف وراء نشوء الحضارات الإنسانية وسقوطها في ضوء التفاعلات التاريخية المتعاقبة.

وبقدر تميز ابن خلدون في مجالات معرفية متعددة، باعتباره مؤسسا لعلم التاريخ وعلم الاجتماع، ومتعمقا في دراسة العلوم العقلية والنقلية كالجغرافية والفلسفة والفقه والحديث، بقدر ما هو مجدد ومتميز في عالم النقد والبلاغة.

إن ما وقفنا عليه من قضايا نقدية وبلاغية، جوهرية وفرعية في المقدمة وإحالته على بعض المصادر النقدية العربية الهامة وسكوته عن مصادر أخرى يحقق مشروعية اختيار "مصادر التفكير النقدي والبلاغي عند ابن خلدون" موضوعا لهذه المداخلة، خاصة أنه لم يقف من مصادره النقدية والبلاغية موقف التسليم بكل ما فيها، وإنما كان يخضع كل قضية نقدية أو بلاغية إلى ميزانه النقدي، وهنا قد يوافق أو يعدل أو يلغي رأيا لأشهر النقاد في قضية معينة. إضافة إلى كل ذلك فقد كان ابن خلدون يمتلك قدرة فائقة على تناول قضايا نقدية وبلاغية كثيرة في ترابط وانسجام كبيرين ووفق تصور ومنهج واضحين، واستطاع بذلك أن يترك بصماته واضحة على تطور حركية النقد الأدبي خلال القرن الثامن الهجري وبعده، رغم أن الرجل لم يعط النقد الأدبي في مقدمته إلا هامشا صغيرا ولم يمنحه من جهده الشيء الكثير. ورغم ذلك فقد استطاع أن يلخص أهم الأسئلة التي طرحها النقد العربي القديم، من خلال مناقشته لبعض القضايا النقدية والبلاغية.

وتسعى هذه المداخلة إلى الكشف عن تلك القضايا ومناقشتها في ضوء مرجعيات ابن خلدون النقدية والبلاغية.

1 - مفهوم الشعر عند ابن خلدون

من أهم القضايا النقدية التي استأثرت باهتمام ابن خلدون في كتابه المقدمة قضية مفهوم الشعر، وهي قضية نقدية قديمة طرحت في النقد العربي بطرق مختلفة، وذلك باختلاف تعدد زوايا النظر والتباين في درجة التعمق والتناول. ويستفاد من تتبع التعاريف المختلفة التي قدمها النقاد العرب القدماء للشعر، أن الشعرية العربية حاولت تعريف الشعر من خلال مقارنته بالنثر دون التركيز على شرح ماهيته وبيان حقيقته. ولا نريد هنا استعراض التعريفات المختلفة لمفهوم الشعر فقد تصدى لها كثير من النقاد والدارسين المعاصرين، ولكننا سنكتفي باستحضار بعض المواقف والتصورات النقدية الضرورية التي أسهمت بشكل مباشر في بناء مفهوم الشعر وتشكيله عند ابن خلدون. وهنا لابد من الإشارة إلى أن ما يميز الكتابة النقدية عند ابن خلدون هو قدرته الفائقة على تجميع الأفكار والعمل على إعادة بنائها بشكل يضفي على آرائه وتصوراته النقدية كل الجدة والتميز. فقد ورث ابن خلدون عن النقاد العرب القدماء أمثال قدامة ابن جعفر وابن طباطبا وابن رشيق وغيرهم ترسانة من الجهاز المفاهيمي ومن الثقافة الأدبية، وكان طبيعيا أن يتجسد ذلك الموروث النقدي في ثقافته وكتابته النقدية بل ويمارس نوعا من التأثير على النقاد اللاحقين.

ينطلق ابن خلدون في تحديده لماهية الشعر من مسلمة أساسية وهي أن إعطاء تعريف قار وثابت للشعر أمر صعب، ولذلك نجده يقوم بإعادة قراءة التعريفات النقدية القديمة المرتبطة بماهية الشعر لإبراز قصورها وعجزها عن شرح ماهيته وبيان حقيقته. وقد ركز في هذا السياق على التعريف المشهور الذي قدمه قدامة بن جعفر للشعر ملحا أن المأزق الكبير الذي وقع فيه هو أنه أقام حد الشعر انطلاقا من النثر دون أن يضبط تعريفا للنثر، إذ لا يكفي أن يقال إن كل كلام توافرت فيه خاصيتي الوزن والقافية فهو شعر وأن النثر هو كل ما ليس مقفى وموزونا. ومن هنا ينص ابن خلدون أن لكل واحد منهما أسلوبه الخاص وأسلوب الشعر غير أسلوب النثر. وهذا التمييز بين الأسلوبين هو مقدمة ضرورية لمعرفة ماهية الشعر وحقيقته. يقول ابن خلدون في هذا السياق متحدثا عن صناعة الشعر : "ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها واستعمالها" ثم عرف معنى الأسلوب بقوله : "إنه عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو وظيفة البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن الذي هو وظيفة العروض، فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة... فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد على أنحاء مختلفة"[1].

إن هذا الموقف الذي عبر عنه ابن خلدون يشكل موقفا متميزا في تاريخ النقد الأدبي عند العرب، فهو يقر بشكل صريح أن النقاد والعروضيين القدماء وخاصة المتأثرين بقدامة كالحاتمي وابن رشيق وغيرهما كانوا ينظرون إلى الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن ولذلك يرفض بشدة تعريف قدامة للشعر بأنه الكلام الموزون والمقفى، أو على الأقل إنه يرفض أن يكون الوزن والقافية العنصرين الوحيدين في بنية القصيدة العربية. فقد ينظم الشعراء الحقائق العلمية والمنظومات المختلفة أو غيرها التي لا تمت إلى الشعر بصلة. ومن هنا يرى أن تعريف قدامة ليس حدا للشعر ولا رسما له، وينبغي من وجهة نظره أن يعرف تعريفا جديدا يأخذ بعين الاعتبار ماهيته وطبيعته الحقيقية. وفي هذا السياق يعرف ابن خلدون الشعر بقوله : "هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به"[2].

إن قراءة أولية في هذا التعريف تبرز أن ابن خلدون قد اعتمد على جهود بعض النقاد الأوائل وخاصة قدامة في تعريفه للشعر والآمدي والقاضي الجرجاني والمرزوقي في حديثهم عن عمود الشعر العربي. فهو يرى أن ما يميز الشعر عن غيره هو أنه كلام بليغ، وهو تعريف عام يحتاج إلى مزيد من التدقيق والتفصيل، لأن الكلام البليغ يتحقق في الشعر والنثر على حد سواء ولذلك حاول أن يضيف عناصر جديدة لمفهوم الشعر ولعل أبرزها بناء القول الشعري على الصورة الشعرية أو ما عبر عنه بالاستعارة والأوصاف. والواقع أن ابن خلدون أعاد صياغة التعريفات القديمة وقدمها في شكل جديد وحاول من خلالها تعريف الشعر تعريفا جامعا مانعا يستدرك به النقص الذي اعترى التعريفات القديمة. ويقوم تعريفه للشعر على ستة عناصر وهي :

- إنه كلام بليغ

- مبني على الاستعارة والأوصاف

- المفصل بأجزاء

- الاتفاق في الوزن والروي

- استقلال كل جزء بنفسه

- اتباع أساليب العرب المرسومة

حاول ابن خلدون من خلال هذه العناصر الستة أن يفرق بين الشعر والنثر من زاوية جديدة، غير أنه لم يستطع تجاوز تعريفات النقاد والعروضيين القدماء في تحديده لسمات الكلام البليغ وعاد مرة أخرى إلى الوزن والقافية "أو ما عبر عنه بالروي" ليميز الشعر عن غيره وهما العنصران الأساسيان في تعريف قدامة. أما العناصر الأخرى، وخاصة الاستعارة والأوصاف واتباع أساليب العرب المرسومة فقد سبق للشعراء والنقاد العرب أن رسموا معالمها وجمعوها فيما أسموه بعمود الشعر العربي، وعدوها قمة النضج الفني والنموذج الأمثل الذي يجب محاكاته. ولاشك أن ابن خلدون قد اطلع على عناصر عمود الشعر العربي كما عدها الآمدي والقاضي الجرجاني[3]، ووضحها المرزوقي[4] وخاصة حديثه عن مناسبة المستعار منه للمستعار له والمقاربة في الوصف، أما قوله الجاري على أساليب العرب المرسومة التي أشار إليها ابن خلدون في نهاية التعريف فإنها تشكل العناصر الأخرى لعمود الشعر العربي التي لم يذكرها ابن خلدون في تعريفه، وهي شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته. وهكذا فإن ابن خلدون متمسك بتصورات النقاد العرب القدماء لمفهوم الشعر رغم محاولته لتقديم مفهوم مغاير لحقيقة الشعر وماهيته. وأما دعوته إلى ضرورة استقلال كل بيت بنفسه استقلالا دلاليا ونحويا وعروضيا، وهو بصدد الحديث عن مفهوم الشعر فإن موقفه لا يحمل في ثناياه أي جديد، فقد سبق إليه كثير من النقاد وفي مقدمتهم ثعلب وابن رشيق وغيرهما. ولا شك أن ابن خلدون قد اطلع على موقف هذين الناقدين لقضية وحدة البيت واستقلاله. ففيما يخص ثعلب، فإن نظرته لهذه القضية ترتكز على دعامتين : إحداهما : استقلال البيت وقد يتضمن أيضا استقلال الشطر، أو استقلال الجزء على حد تعبير ابن خلدون، والأخرى تمام المعنى واكتماله، فالبيت قد يشتمل على معنيين تامين أو أكثر. والمعنى الواحد لا يصح أن يتوزع على أكثر من بيت واحد، ومن هنا فإن أبلغ الشعراء عند كثير من النقاد ودارسي الشعر ما اكتمل فيه البيت بمعناه، أما إذا لم يكتمل للبيت معناه وتجاوزه إلى البيت المجاور فقد عابوه وعدوه ناقصا في درجة البلاغة وخارجا عن الكلام البليغ وقد سمى قدامة هذا النوع من الشعر "المبتور"[5]. أما ابن رشيق فقد أكد على ضرورة قطع البيت عما جاوره من الأبيات ليكون صالحا للاستشهاد في المدح والرثاء والهجاء وغيرها، وفي هذا الصدد يقول : "وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائما بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده وما سوى ذلك فهو عندي تقصير"[6].

وإذا كان ابن خلدون يتفق مع ثعلب وابن رشيق في ضرورة أن يكون البيت مستقلا بذاته نحويا ودلاليا وتركيبيا فإنه يرى أنه لا يجوز تكثيف المعاني في البيت الواحد؛ لأن ذلك من شأنه تعقيد الفهم والنقص من شعرية البيت الشعري. ولهذا نجده يقلل من القيمة الفنية لشعر ابن خفاجة لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد[7].

ورغم اعتماد ابن خلدون على آراء بعض النقاد القدماء في تحديد مفهوم الشعر فقد استطاع أن يستوعب تلك الآراء ويناقشها وينظر إليها نظرة عصره وخاصة تركيزه على الصورة الشعرية التي قفزت إلى المرتبة الأولى في تحديد ماهية الشعر بعد أن كانت موسيقى الشعر تحظى بتلك المرتبة عند كثير من النقاد العرب القدماء. ونظرا إلى أهمية تعريف ابن خلدون للشعر فقد نقله حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية نقلا حرفيا من دون إشارة إليه حتى إن أحد كبار النقاد المحدثين وهو محمد مندور قد أخطأ فنسب تعريف ابن خلدون للمرصفي[8].

2 - صناعة الشعر وشروطها

- الصناعة الشعرية :

تنبغي الإشارة منذ البداية إلى أن ابن خلدون لم يخرج في استعماله لمصطلح "صناعة" عن الإطار العام الذي رسمه النقاد العرب الأوائل لهذا المصطلح. فالصنعة أو الصناعة في معناها العام ثقافة يعرفها أهل العلم كل في مجال اختصاصه "كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه والصيرفي يخبر من الدنانير ما لم يسبكه ولا ضربه"[9]. وانطلاقا من هذا التصور فإن للشعر كما يقول الجمحي صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات... ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها[10].

وفي هذا السياق ينص البقلاني أن كل فن من فنون القول صنعة تميزه عن غيره فالشعر صنعة تميزه عن غيره من الكلام، والنثر صنعة تميزه عن غيره، وفي القرآن صنعة تميزه عن سائر نظم الكلام[11]. ومن هنا فإن الحكم على صنعة من تلك الصناعات يقتضي معرفة تامة بآليات كل صناعة على حدة. ولهذا يصر ابن خلدون-كما سبقت الإشارة سابقا– على ضرورة التمييز بين الشعر والنثر وبينهما وبين القرآن الكريم، لأن لكل فن من فنون القول أسلوبه الخاص ولا يجوز استثمار مقومات صناعة هذا الفن في صناعة الفنون الأخرى ومن هنا يرى ابن خلدون أن النقص الذي اعترى تعريفات النقاد والعروضيين القدماء للشعر يعود في الأصل إلى عدم التفكير في طبيعة الصناعة الشعرية وتحديد ماهيته بعيدا عن الصناعة النثرية ومقوماتها.

ومع ذلك يرى ابن خلدون أن معرفة مقومات الصناعة الشعرية غير كاف لإنتاج نص شعري جيد، كما أن معرفة التقنيات العروضية والصور البلاغية بتقسيماتها وتعريفاتها لا تخلق شاعرا جيدا، كما أن معرفة الأساليب النحوية والتقنيات الأسلوبية واللغوية لا تخلق ناقدا، لأن النقد ملكة وموهبة فنية قبل كل شيء، يقول ابن خلدون في هذا الصدد : "ولا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس وهو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية... وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم"[12].

وهكذا يرى ابن خلدون، شأنه شأن كثير من علماء الشعر ونقده، أن أجود الشعر ما جاء على الموهبة والسجية ولاشك أنه قد اطلع على آراء النقاد السابقين وعلى رأسهم ابن رشيق الذي أكد على أن الشاعر "المطبوع مستغن بطبعه عن معرفة الأوزان وأسمائها، وعللها لنبو ذوقه عن المزاحف منها والمستكره"[13].

- شروط الصناعة الشعرية :

ينطلق ابن خلدون في الحديث عن شروط الصناعة الشعرية من تجربته الخاصة باعتباره شاعرا وناقدا. ويرى أن نظم الشعر عملية معقدة تقتضي توافر مجموعة من الشروط الضرورية لضمان جودة الشعر وإحكام صناعته، ومنها :

- حفظ شعر الفحول : يرى ابن خلدون أن أول شرط لنظم الشعر وإتقان صنعته حفظ شعر الفحول من الشعراء الجاهلين والإسلاميين، يقول : "اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا أولها الحفظ من جنسه، أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب... ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة"[14].

إن الشاعر، وفق هذا التصور، لابد له أن يطلع على أساليب الشعراء الذين سبقوه، وأن يقف على خصائصها وسماتها الفنية والجمالية، لأن الموهبة الإبداعية تتأثر بتلك المبادئ والقوانين وتنطبع بطابعها وبالتالي فإنها تصبح جزءا من قدرات المبدع الفنية. وقد سبق للأصمعي أن أشار إلى أنه "لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلا حتى يروي أشعار العرب ويسمع الأخبار ويعرف المعاني وتدور في سامعه الألفاظ"[15]. ولا يختلف موقف الأصمعي عن موقف ابن رشيق الذي دعا الشعراء إلى أن يمتحوا من ثقافة العصر وأن يتخذوا من الرواية وسيلة لحفظ الأشعار والوقوف على الأخبار، يقول : "فالشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة لاتساع الشعر، واحتماله كلما حمله من نحو ولغة وفقه وخبر وحساب وفريضة... وليأخذ نفسه بحفظ الشعر... وإذا كان مطبوعا لا علم له ولا رواية ظل واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو ماثل بين يديه لضعف آلته كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض، فلا تعينه الآلة"[16].

وبعد أن جعل ابن خلدون من حفظ الشعر والامتلاء منه شرطا أساسيا لقول الشعر وتعويد الملكة والموهبة الفنية عليه، أشار إلى ضرورة "نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة"[17]. لأن من شأن ذلك أن يحقق للمبدع شيئين متلازمين، وهما : أولا ترسيخ فكرة المنوال والمثال الأعلى للشعر الجيد في ذهن المبدع. ثانيا تمكين المبدع من اكتساب أسلوب خاص به ضمن مجموعة من الأساليب الممكنة ووفق المعيار والإطار العام الذي رسمه الشعراء والنقاد الأوائل والذي لا ينبغي تجاوزه والخروج عليه.

ويقرر ابن خلدون بأن الشاعر الذي قل حفظه للأشعار الجيدة لا يكون شاعرا وإنما يكون ناظما فاشلا" وأولى لمن لم يكن له محفوظ من الشعر الجيد أن يستغني عن قرض الشعر، إذ لا ينبغي له أن يكون شاعرا كبيرا وأديبا بارعا إلا بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال"[18].

والواقع أن إشارة ابن خلدون إلى الحفظ والنسيان وإلى رواية الشعر كمقوم أساسي في تكوين الأديب، قد سبق إليه كثير من النقاد القدماء، فقد أشار الجاحظ إلى أن الرواية تقوم بدور منبه لغوي، فالمعاني في الشعر المحفوظ "إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم وفتحت للسان باب البلاغة ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ وأشارت إلى حسان المعاني"[19]. ويذهب ابن طباطبا العلوي إلى أن الثقافة والأخذ بعلوم العصر الأدبية، خاصة تلك التي تتصل باللغة ومذاهب العرب في تأسيس الشعر والتصرف في معانيه ضرورية للشاعر[20].

ورغم استثمار ابن خلدون لآراء النقاد القدماء في كثير من القضايا المرتبطة بالحفظ والنسيان والرواية فقد استطاع أن يؤسس تصورا ناضجا لعملية الإبداع الشعري من خلال تحديد شروط صناعة الشعر المختلفة، إلى درجة أن بعض النقاد المتأخرين لا يترددون في نقل آراء ابن خلدون النقدية. فقد نقل المرصفي نقلا حرفيا كثيرا من آرائه في الإبداع الشعري خاصة ما يتعلق بالنسج على منوال القدماء واختيار لحظات الإبداع وغيرها. وفي هذا الصدد يشير المرصفي إلى أن الشاعر لابد له أن يطلع على أساليب الشعراء الذين سبقوه وأن يقف على خصائص تلك الأساليب وسماتها الفنية حتى يتسنى له استيعاب الأصول الفنية للشعر كما تابع المرصفي ابن خلدون في ذلك فأقر أن الشعر صنعة لها أصولها وأسسها وعلى الشاعر أن يقف عليها لأنها أدواته ووسائله في بناء عمله الشعري ورأى أن الحفظ أول تلك الأدوات وينقل نص ابن خلدون المشار إليه سلفا نقلا حرفيا[21].

العامل الزمني :

أدرك ابن خلدون أن هناك لحظات تتهيأ فيها النفس لقول الشعر، وإذا طلب منها العطاء والإبداع في غير تلك الأوقات فإنها لن تنتج إلا شعرا رديئا. وحدد أوقاتا محددة صالحة لقول الشعر وفي هذا الصدد يقول : "وخير الأوقات لذلك البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر... وإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه"[22].

وقد أحس بعض الشعراء القدامى بقيمة اللحظات الإبداعية في قول الشعر، حيث أورد ابن رشيق أقوال بعض الشعراء تدل على أن الشاعر مهما بلغت قدرته الفنية والإبداعية تعرض له أوقات لا يستطيع أن يقول فيها بيتا واحدا من الشعر وعلى سبيل المثال "كان الفرزدق وهو فحل مضر في زمانه يقول تمر علي ساعة وخلع ضرس من أضراسي أهون علي من عمل بيت من الشعر"[23].

العامل البيئي :

النقطة الثالثة التي أشار إليها ابن خلدون في عملية الإبداع الشعري تتعلق باختيار الأمكنة المناسبة، وفي هذا الصدد يقول : "لابد من استجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار"[24]. ولاشك أن ابن خلدون قد اطلع في هذا الصدد على آراء عبد الكريم النهشلي وتلميذه ابن رشيق. فمن أهم الآراء التي نقلها ابن رشيق عن أستاذه أهمية البيئة في التأثير على المبدع حيث نبه على أن ما ينتجه مبدع في مكان هو غير ما ينتجه نظيره في مكان آخر. يقول النهشلي : "قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره"[25].

3- معيار نقد الشعر

اختلفت نظرة النقاد القدماء والمحدثين إلى الشعر باختلاف أذواقهم الفنية في العملية النقدية، فعمد بعضهم، عن غير قصد، إلى الذوق الفطري وأغرق في الذاتية، وعمد البعض الآخر إلى اعتماد الأصول الموضوعية للجمال الفني عبر المزج في الحكم على الشعر بين القوى الفطرية والخبرات الجمالية التي صقلتها التجارب الفنية عن طريق الدربة والممارسة. وفي هذا الصدد ينص ابن خلدون أن الذوق الفني ليس قيمة فطرية وإنما يكتسب اكتسابا، ومعنى هذا أنه يميل نحو الحكم الموضوعي المعتمد على القواعد الفنية التي استنبطها النقاد عبر العصور. ويربط بين الثقافة والذوق برباط وثيق فلا ينفصل أحدهما عن الآخر. يقول : "وهذه الملكة (الذوق) إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع، والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان، فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها"[26]. كما ينص على أن الذوق يكتسب خبرته وفعاليته عن طريق الثقافة وإن بدا كموهبة فطرية في ظاهر الأمر ويرد على من يجعل الذوق موهبة فطرية بقوله : "وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت، فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع"[27].

وانطلاقا من هذا التصور يختلف ابن خلدون مع الآمدي والقاضي الجرجاني وعبد القاهر الذين رأوا أن الذوق الفني استعداد فطري تغذيه وتصقله التجارب والخبرات عن طريق الثقافة، يقول الآمدي وهو يتحدث عن الذوق : "إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤديها الصفة"[28]. ويقول أيضا : "قد يتقارب البيتان الجيدان النادران فيعلم أهل العلم بصناعة الشعر أيهما أجود إن كان معناهما واحدا أو أيهما أجود في معناه إن كان معناهما مختلفان"[29].ويبدو القاضي الجرجاني أكثر ميلا إلى الذوق الفطري والإغراق في الذاتية حيث يقول : "إنك قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكلام، وتقف من التمام لكل طريق ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن... ثم لا تعلم، وإن قايست واعتبرت ونظرت، وفكرت لهذه المزايا سببا، ولما خصت به مقتضيا"[30]. ومع ذلك فإن الذوق الذي يشير إليه الجرجاني ذوق مدرب يجمع بين الممارسة الإبداعية والعملية النقدية. وإذا كان ابن خلدون يرى أن الذوق ملكة إنسانية مكتسبة وليس ملكة فطرية فإنه يتفق مع الآمدي والقاضي الجرجاني بأن الذوق ملكة تحصل "بممارسة الكلام وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكبه" ويذهب أكثر من ذلك إلى أن معرفة القوانين العلمية التي استنبطها علماء الشعر غير كافية للحكم على القيمة الفنية للخطاب الإبداعي لأن الذوق أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب على حد تعبيره[31].

4 - ثنائية اللفظ والمعنى

تعتبر قضية اللفظ والمعنى من أهم القضايا النقدية التي استأثرت باهتمام النقاد والبلاغيين القدماء. فقد عالج النقد العربي القديم هذه الثنائية في سياق مباحث كثيرة ومتنوعة ومتداخلة تتعلق ببنية النص الشعري وجماليته وبالتداخل النصي والسرقات الشعرية وغيرها. ولا نريد هنا استعراض المواقف المختلفة لقضية اللفظ والمعنى فقد تصدى لها كثير من النقاد ودارسي الشعر. ولهذا سنقتصر على مناقشة موقف ابن خلدون ومدى اتفاقه أو اختلافه مع النقاد السابقين خاصة أنه لا يقف على قضية نقدية معينة إلا ليعيد النظر فيها ومناقشتها وفق رؤيته الخاصة. يقول متحدثا عن ثنائية اللفظ والمعنى "اعلم أن صناعة الكلام نظما ونثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل... وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل، والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر، وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا يحتاج إلى صناعة. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة"[32].

يصدر ابن خلدون كلامه بقوله "واعلم" ولاشك أنه يشير إلى عبد القاهر الجرجاني مستعملا كثيرا من ألفاظه وصيغه التركيبية. ومع ذلك فإن موقف ابن خلدون من علاقة اللفظ بالمعنى مخالف تماما لموقف عبد القاهر الجرجاني. فقد سبق لعبد القاهر أن تناول هذه القضية في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وانتهى إلى أن "الألفاظ خدم للمعاني... فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته"[33].

قد يفهم من هذا الكلام، أن عبد القاهر من أنصار المعنى دون اللفظ نظرا لتهجمه على القائلين بأولوية اللفظ، ولكن الجرجاني يشن هذه الانتقادات لا انتصارا للمعنى وإنما هو دفاع عن مفهوم النظم الذي هو عبارة عن العلاقة الجدلية بين الألفاظ والمعاني. أما موقف ابن خلدون فيتأرجح بين الدفاع عن اللفظ متأثرا بشيوخه وخاصة عبد الكريم النهشلي وابن رشيق[34]، وبين دفاعه عن فكرة الصياغة كما أصلها الجاحظ وقدامة ووضحها الجرجاني.

ومع ذلك فإن ابن خلدون يعالج هذه القضية من خلال إسناد الأولوية والأهمية للصياغة الفنية، حيث رأى أن المعاني ليست حكرا على أحد، فهي في متناول كل واحد ولا تحتاج إلى صناعة ولكن صياغتها تحتاج إلى فن ومهارة وصناعة. ولتقريب هذه الصورة من ذهن القارئ يقارن ابن خلدون-على غرار الجرجاني- بين الصياغة الفنية وبين اتقان بعض الصناعات كالذهب والفضة والخزف والزجاج. فكما تختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف حسنها لا باختلاف الماء كذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة فجودتها وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار دلالته على المقاصد والمعاني واحدة في نفسها[35]. فالمعاني في تصور ابن خلدون قبل صياغتها فنيا لا قيمة لها وهذا ينسجم مع موقف قدامة الذي أشار إلى أن المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة كما يوجد في كل صناعة من أنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة"[36].

5 - مفهوم البيان عند ابن خلدون

تنبغي الإشارة منذ البداية إلى أن ابن خلدون ينظر إلى "البيان" نظرة ترادفية وتكاملية لا تختلف كثيرا عن نظرة النقاد القدماء الموحدة في بنية النص الأدبي. فالبيان عنده يرادف البلاغة في شمولها، ويرجع إلى نظرة الجاحظ الكلية للبلاغة، كما أنه يتكامل في الأسلوب مع كل المصطلحات البلاغة والفصاحة. وقبل مناقشة مفهوم البيان وعلاقته ببعض المفاهيم المجاورة نورد تقسيم لهذا المفهوم حيث يقول : "فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي للهيئات والأحوال والمقامات. وجعل على ثلاثة أصناف الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى علم البلاغة، والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان، وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق... ويسمى عندهم علم البديع وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصنف الثاني"[37].

ويمكن تلخيص كلام ابن خلدون حسب الخطاطة التالية :

البيــــان



علم البلاغة علم البيان علم البديع

مطابقة اللفظ لمقتضى الحال محسنات الكلام لدلالة على اللازم اللفظي وملزومه

يشير ابن خلدون بشكل صريح إلى أنه أخذ هذا التقسيم من السكاكي مع الاستفادة من آراء البلاغيين القدماء وخاصة جعفر بن يحي والجاحظ وقدامة وغيرهم. ولإبراز أوجه الاتفاق والاختلاف بين ابن خلدون والسكاكي فيما يتعلق بنظرتيهما إلى البلاغة وأقسامها نورد تصور السكاكي للبلاغة من خلال الترسيمة التالية :

البــــلاغة






علم المعاني علم البيان محسنات الكلام

ملزوم إلى اللازم لازم إلى ملزوم



المجـاز



المشابهة المجاورة

وبالعودة إلى نص ابن خلدون السابق، يلاحظ أن هناك اختلافا منهجيا ومفهوميا بين السكاكي وابن خلدون ويمكن حصره في النقاط التالية :

1) إذا كان البيان عند ابن خلدون علما عاما يشتمل على ثلاثة أصناف أساسية هي : علم البلاغة وعلم البيان وعلم البديع، فإن السكاكي جعل من البلاغة عوض البيان مفهوما عاما يضم صنفين أساسيين هما علم المعاني وعلم البيان.

2) لم يذكر السكاكي باللفظ "علم البلاغة" الذي أورده ابن خلدون للدلالة على مطابقة الكلام لمقضى الحال واستعمل في مقابل ذلك مفهوم "علم المعاني"، ويقصد به "تتبع خواص تركيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضيه الحال ذكره"[38]. ولا يختلف تعريف ابن خلدون لعلم البلاغة عن التعريف الذي قدمه السكاكي لعلم المعاني.

3) لم يرد مفهوم البديع في تقسيم السكاكي للبلاغة، ولم يسم هذا المفهوم إلا باسم المحسنات. ويبدو أن ابن خلدون أخذ مفهوم البديع من شراح المفتاح الذين حاولوا حصر مصطلحات كل علم من العلوم، وبذلك جمع ابن خلدون بين آراء السكاكي وشراحه في تنظيره لمفهوم البيان.

4) يستفاد من تتبع المفاهيم المختلفة عند السكاكي وابن خلدون أن هناك صعوبة في حصر كل علم من العلوم السابقة، وظلت كثير من تلك المصطلحات مختلطة. فقد كان السكاكي يستعمل علم البيان باعتباره صنفا من أصناف علم المعاني حيث يقول : "لما كان علم البيان شعبة من علم المعاني لا تنفصل عنه إلا بزيادة اعتبار ما جرى منه مجرى المركب من المفرد"[39].

ومع ميلاد المدرسة الفلسفية في القرن السابع الهجري وفي أواخره في الغرب الإسلامي عرفت البلاغة تحولا آخر في علم البلاغة، حيث غيب "علم المعاني وأعطي لعلم البيان مفهوم علمي "كلي" و"مقولي" آخر عوض به "علم البلاغة" التي أضحت صنعة تمارس أساليبها وطرقها تحت رقابة "علم البيان" واستمر "البيان" و"البلاغة" ظاهرة جمالية في شبكة مفهوم الأسلوب أو الأسلوبية أو علم الأساليب الجديدة.

خاتمة :

لا نريد في نهاية هذه الدراسة المركزة استعراض نتائج كل قضية من القضايا النقدية المدروسة، ولكننا نود أن نشير إلى بعض الاستتاجات العامة التي تتعلق بالفكر النقدي والبلاغي عند ابن خلدون وتعامله مع مختلف مرجعياته النقدية والبلاغية.

ويمكن تقسيم تلك الاستنتاجات إلى صورتين :

1) الصورة الأولى تتميز بالإحالة المباشرة إلى مرجعياته النقدية والبلاغية بالإحالة على المصدر والمؤلف أو المصدر فقط أو المؤلف فقط. وتمتاز هذه الصورة بالخصائص التالية :

أ-الاتفاق مع رأي المصدر أو المؤلف بعد إيراد النص أو النصوص من النقد والبلاغة ومناقشتها وفق رؤية نقدية خاصة.

ب-الاختلاف مع الرأي أو الآراء في القضية أو في التعليل، وهذا الاختلاف قد يكون كليا أو جزئيا

ج-قد يكتفي في مرجعيته بالنقل فقط دون إشارة صريحة أو خفية لصاحب النص لضرورة تدعوه إلى ذلك، إما لشهرة النص المنقول وإما لوروده عرضا في ثنايا استعراض الآراء والمواقف.

2)الصورة الثانية : لا يشير فيها ابن خلدون إلى مرجعياته بشكل من الأشكال ويتحرك في هذا السياق بطريقين :

أ-إما بالإحالة العامة فيكتفي بالقول : "وقال قوم، واعلم، المتأخرون، المتقدمون، علماء البيان..."

ب-وإما أن يلجأ إلى ما يمكنه تسميته بالتداخل النصي أي أن يضمن نصوصه بنصوص غيره وفي هذه الحالة يصعب معها التمييز بين كلامه وكلام غيره بدقة أسلوبه وتميزه.

وخلاصة القول، إن ابن خلدون المبدع والناقد تنفس في ظل ثقافة عربية أصيلة انتهت بكل مصادرها ومناهجها وروافدها إلى المغرب العربي في عصر ابن خلدون والعصور السابقة عليه، فتعامل معها تعامل الواعي بها المتمكن من أدواته والمتمثل لأعمق وأدق ما فيها من قضايا نقدية وبلاغية وأسلوبية. ولم يقف ابن خلدون عند مستوى الاستيعاب والتمثل، بل نجح في تطوير آراء النقاد القدماء سواء في تصوراتهم أو في مصطلحاتهم أو في معالجة القضايا النقدية الكبرى، واختلف معهم ولكنه اختلاف تكامل لا اختلاف قطيعة.


الهوامش والإحالات :

[1] - مقدمة ابن خلدون، دار القلم بيروت لبنان الطبعة الخامسة 1984م/ ص 573

[2] - نفسه، ص 573

[3] - انظر نص عمود الشعر العربي في : الوساطة بين المتنبي وخصومه عبد العزيز الجرجاني، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل وعلي محمد البجاوي مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، ص 33.

[4] - شرح حماسة أبي تمام، المرزوقي تحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون دار الجيل بيروت،ط1/ 1991 ص 1/9.

[5] - نقد الشعر قدامة بن جعفر، تحقيق وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ص 209.

[6] - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق دار الجيل بيروت لبنان.

[7] - المقدمة، 574

[8] - النقد والنقاد المعاصرون محمد مندور مطبعة نهضة مصر، ص24.

[9] - العمدة، ج1 ص117.

[10] - نفسه.

[11] - إعجاز القرآن، ص76.

[12] - المقدمة، ص 573.

[13] - العمدة، ج1 ص134.

[14] - المقدمة، 574.

[15] - العمدة، 1/197.

[16] - العمدة، 1/131.

[17] - المقدمة، 574.

[18] - المقدمة، ص 574.

[19] - البيان والتبيين الجاحظ المكتبة التجارية الكبرى 1926م، ج4/24.

[20] - عيار الشعر ابن طباطبا، تحقيق طه الحاجري ومحمد زغلول سلام المكتبة التجارية الكبرى، ص4.

[21] - الوسيلة الأدبية، حسين المرصفي، مطبعة المدارس الملكية، 1292هـ، ج2 ص468.

[22] - المقدمة، 574.

[23] - العمدة، ج1/140.

[24] - المقدمة، 574.

[25] - نفسه، 1/93.

[26] - المقدمة، 562.

[27] - المقدمة، 562.

[28] - الموازنة الآمدي ط، مطبعة السعادة 1973م تحقيق محي الدين عبد الحميد ص 176.

[29] - الموازنة، ص384.

[30] - الوساطة بين المتنبي وخصومه ص 310.

[31] - المقدمة 563.

[32] - المقدمة 577.

[33] - أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق عبد المنعم خفاجي وعبد العزيز شرف، دار الجيل بيروت، ط1/1991، ص26.

[34] - يقول ابن رشيق "وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، سمعت بعض الحذاق يقول : قال العلماء : اللفظ أغلى من المعنى ثمنا، وأعظم قيمة، وأعز مطلبا، فإن المعاني موجودة في طباع الناس، يستوي فيها الجاهل والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ وحسن السبك، وصحة التأليف".

[35] - المقدمة، 577.

[36] - نقد الشعر، ص 65.

[37] - المقدمة، 551-552.

[38] - مفتاح العلوم أبو يعقوب السكاكي، منشورات المكتبة العلمية الجديدة بيروت لبنان ص77.

[39] - نفسه.



* عن مجلة فكر ونقد
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...