نقوس المهدي
كاتب
سئل أحد "الفقهاء": "هل يُسمح للمرأة أن تعرض قدمها للناس؟ خصوصاً في الصيف عندما يكون الجو حاراً جداً؟ فهل يسمح لها بالخروج بدون جوارب؟ أو فقط لبس حذاء صيفي، وفي هذه الحالة تكون الأصابع والجزء الخلفي من القدم واضحاً للناس" (والعياذ بالله)؟
أجاب الفقيه: "يجب على المرأة ستر تمام قدميها عن نظر الأجنبي!".
في الجسد الأنثوي تتكثّف الهُوية الاجتماعية، إذ لا يزال الجسد الأنثوي المختزل إلى مقام الشيء يُعامل كمقدّس وسرّي ومحرّم. الشرف والفضيلة والعفة والحشمة، كلها ألفاظ مكتظة بالدلالات الجنسية، فالحشمة مثلاً بالمعنى التبخيسي المتداول، هي الحد الرمزي الذي يفصل بين الطاهر والنجس، فمن تتمسك بحشمتها أو حجابها، وفقاً لاشتراطات المؤسسة الذكورية كما لاحظنا أعلاه، تعتبر "فاضلة" و"عفيفة" والعكس صحيح.
ويمكن أن ننظر لعلاقة الحجاب بمحيطه بما تسميه الأنثروبولوجيا الاجتماعية بـ" سوسيولوجيا المظهر". وأهم وظائفه الإبعاد والتكثيف في آن معاً. بمعنى أن هذا اللباس التقليدي الذي تسعى المؤسسة الذكورية من خلاله إلى إخفاء المرأة عن الرجل، أدى إلى تكثيف النظرة الذكورية إلى المرأة، تلك النظرة المشتهية التي تضاعف من حدتها الرغبة المتعمدة في الإخفاء التي يمارسها الحجاب، وكلما ازداد الجسد في الاختفاء، ازداد فضول الرجل إليه. والوظيفة الأخرى حسب دراسة مالك شبل "الحريم والجنس" هي وظيفة الفصل المجالي بين الداخل والخارج، إذ يتمكن الحجاب من تجسيد المفارقة التي هي قوامه، فالمرأة المحتجبة تظل دائما في الداخل حتى لو كانت في الخارج.
وعلى الرغم من أن الجسد جسدها، والرغبة رغبتها، إلا أن المرأة تشعر أن أي "انتهاك" لهذا الجسد هو انتهاك للأب، وللشرف الرفيع للعائلة، والمجتمع، لأن هذا "الجسد" يمكن أن يهدد كما يقول نزار، أمن الرجال وأمن السماء!
فالأب بهذا المعنى مسؤول عن ابنته بقدر مسؤوليته عن ممتلكاته، كسيارته أو منزله، أو حيوانه الأليف، وكذلك الأمر هو نفسه بالنسبة لمسؤولية الأخ عن أخته، بل الابن يكاد يكون مسؤولاً عن أمه وعن تصرفاتها وهواياتها وما شابه ذلك. لأن كل هؤلاء( الأب والأخ والابن) بإمكانهم – لا شعورياً- استدعاء مركَّب الامتلاك في أي لحظة. الاختلاف الوحيد بينهم هو في درجة الامتلاك لا نوعه، وكلها بطبيعة الحال مبرَّرة اجتماعياً ودينياً. ولذلك ليس "رجلاً محترماً" من يُحس في قرارة نفسه بأن أخته أو أمه أو ابنته، مسؤولة عن ذاتها بلا اشتراطات ذكورية. وبالتالي لم يعد أمام المرأة في ظل هذه الاستلابات، سوى الانشغال بهذا الجسد، فإما أن تعريه، أو تخفيه، وفي كلتا الحالتين هي ردة فعل على واقع ذكوري نمطّ كيان المرأة باعتبارها جسماً فحسب.
ليس بالمستطاع فهم دوافع الخضوع الأنثوي إلا حين ندرك الآثار الدائمة التي تمارسها البنى التاريخية للنظام الذكوري – باسم الواجب الديني أو الحب الأبوي أو علاقات القرابة - على النساء، وعلى الرجال أيضاً. فأشكال التصنيف التي نبني بها العالم، وممارسات الفكر، هي سليلة البنى الجنسية المتأصلة بثبات في الأشياء والأجساد، وتقسيم الأدوار الاجتماعية بين الجنسين كما نعرفه ليس إلا نتاجاً لها. على هذا النحو تلعب الفوارق البيولوجية الظاهرة بين الرجل والمرأة دوراً مؤسِّساً تُعزى إليه كل التبريرات الدينية والثقافية والتاريخية للوضعية الاجتماعية للمرأة.
إن المؤسسات الذكورية التي تشغل فيها المرأة دور التابع والمُقاد، حوّلت حتى "الجماع" إلى حقلٍ لممارسة التفوّق - كما يرى ذلك فوكو في إطار نقده للجنسيات الذكورية، التفوّق الذي يضمنه الجماع من حيث هو فعل سيطرة وولوج، إذ ترى الثقافة الذكورية - حسب بحوث ستراوس- في الرجل آكلاً والمرأة مأكولة، ولذا هي تربط بوضوح بين الجماع والأكل. ومن هنا جاءت النظرة الذكورية للجنس باعتباره تمَلّكاً شخصياً وليس تفاعلاً، والذي يقضي قانونه أن تعامل النساء كأشياء تتداول من أسفل إلى أعلى، علاقة هيمنة بين الأعلى والأدنى. ولهذا يفكر معظم الرجال في العلاقة الجنسية بمنطق "الفَتْح"، أي الفتوحات التي تضمر كل نزعات التملك والاستيلاء، فهو يُخضع إرادة الأنثى باعتبارها مغنماً أو فريسة.
" ليست امرأة التي أريدها، بل جميع النساء" هكذا يفكر الرجل في المجتمعات الذكورية سواء أكان واعياً أو غير واعٍ، فالنساء في جوهرهن متشابهات، وهو صياد يمارس لعبته المفضلة، كذئب يرصد قطيعاً من الأغنام، فشهيته للجنس خام ورغبة "موضوعية" لا تحمل أي حب أو عطف، كل ما يريده هو أن يشبع رغباته النهمة ليس إلا. ولهذا من الاستحالة على ذكر بصرف النظر عن موقعه الاجتماعي أن يتواصل مع امرأة، أي امرأة، تواصلاً إنسانياً لا تشوبه نزعات جنسية دفينة، ولعل الخطاب الديني ساهم في تعزيز هذه النظرة الذكورية من خلال تشديده في التحريم لأي علاقة تواصل بين الجنسين، "خوفا" من الانجرار إلى الوقوع في "الحرام". وحيثما تحوّلت العلاقة بين الجنسين خارج "الأطر الشرعية" إلى "تابو" فإنها تحرض على الانتهاك حد الهوس، لأن حظر العلاقة على هذا النحو القسري لا يلغي الدافع الجنسي ولا يشذبه أصلاً، بل ينفيه إلى اللاشعور، ولكنه سيبعثه سقيماً متهيجاً عند أول مقاربة مع الأنثى. إنه يشتهي الأنثى ويشمئز منها في الوقت نفسه؛ لأن التحريم بكل حمولاته حاضر في وعيه، وأما الاشتهاء فهو مستمر في لا وعيه، وهذا سر الازدواجية في علاقته بالأنثى، لأن كل أنثى باتت تذكره بلعنة التحريم، واحتراقات الاشتهاء، ففي لا وعيه لا شيء أحب إليه من الأنثى، إلا أنه يتخوف من انتهاك هذا المحظور، والخوف لا يمكنه إلا أن ينمي اللذة في انتهاكه. إن الدافع الجنسي ينزاح بشكل متواصل، كي يفلت من حصار المحرمات، و لهذا يسعى إلى إيجاد بدائل جديدة للعاطفة المتنكرة عن الشيء المحرم، وكلما تفاقمت قوى الردع والتحريم، ازدادت الحاجة إلى التفريغ وتخفيف التوتر.
وإذا كانت المرأة ترغب بوجه عام أن تُحب لذاتها، وأن تُعبد إن أمكن، وأن تحقق من خلال "الحب" ذلك الامتلاء الذي يحيط بها ويرعاها، وذلك الاعتراف بكيانها قبل وما بعد الاتصال الجسدي، فإن رغبة الذكر في جوهرها جنسية خالصة، وليست معنية على الإطلاق بهذا "الهراء"!
الجنس في الذهنية الذكورية ليس اتصالاً حراً وليس تفاعلاً بين شخصين متساويين يحقق لهما الإشباع على المستويين المادي والنفسي، بل بين شخص وشيء، بين الأعلى والأدنى، بين الفاعل والمفعول به، والغريزة بطبيعتها لا تقيم وزناً للشيء، بقدر ما تتخذه وسيلة للإشباع، فريسة تؤخذ وتؤكل. وهذا هو جوهر النزعة العصرية الاستهلاكية للجنس، إذ ترى في الآخر شيئاً يُستمتع به ويُستهلك ومن ثم يُنبذ نبذ النواة. ولذا لا يشعر المرء بعد استهلاك الآخر جنسياً، إلا بخيبات تخلف اكتئاباً عميقاً. وهذا طبيعي ما دام أهم شرط من شروط العلاقة السوية غير متوافر في علاقات من هذا النوع، ألا وهو التكافؤ، بمعنى أن يكون الطرفان متكافئين على كافة المستويات. ولقد تفطن طاغور لهذا الأمر وعبر عنه في إحدى قصائده بقوله:
أمسك بيديها واضمهما إلى قلبي.
أحاول أن أملأ ذراعيّ من سحرها،
وأن أنهب بقبلاتي عذوبة ابتسامتها،
وأن أشرب بعينيّ لحظاتها القاتمة.
ولكن أواه أين ذلك كله؟
أحاول أن أمسك الجمال. ولكنه يفلت مني،
تاركاً جسداً فقط بين يدي
فأتراجع خائباً، تعباً:
كيف يمكن للجسد أن يلمس الزهرة
التي تطالها الروح وحدها؟
ولعل رواية "أنشودة الكون" لجان جيونو تُفصح عن المعنى الذي نريد بشكل أفضل، وذلك حين تخاطب المرأة عشيقها:
لم يكن لك يوماً نظرة تكفيك حدتها لتدخل فيّ، إلى ما هو أبعد من جلدي.... ماذا يمكنك أن تبصر بتلك العينين؟ لا شيء.
لحماً دافئاً ترغب بوضع يدك عليه. هذا كل شيء. ما الذي يدخل فيك عندما تلمسني؟ هذا الدفء، جلدي الناعم، هذا كل شيء. هل تعتقد أنك سوف تتمكن يوماً من أن تسمع قليلاً صوت دمي؟ هذا لن يحدث قط. أنك أصمّ، أصم، أصم. بقيت لحظة دون كلام. ثم قالت:
وأنانّي أيضاً
أناني، أنا؟
قالت: نعم. أذناك وعيناك ويداك أنانية. أنك ترى لنفسك، تسمع لنفسك، تلمس وتأخذ لنفسك. أنك تنظر. ماذا ترى. أنك لا ترى شيئا. أنك ترى لنفسك. ترى كل ما يمكن أن يجلب لك ذلك من لذة. لا أكثر من ذلك.
أجاب الفقيه: "يجب على المرأة ستر تمام قدميها عن نظر الأجنبي!".
في الجسد الأنثوي تتكثّف الهُوية الاجتماعية، إذ لا يزال الجسد الأنثوي المختزل إلى مقام الشيء يُعامل كمقدّس وسرّي ومحرّم. الشرف والفضيلة والعفة والحشمة، كلها ألفاظ مكتظة بالدلالات الجنسية، فالحشمة مثلاً بالمعنى التبخيسي المتداول، هي الحد الرمزي الذي يفصل بين الطاهر والنجس، فمن تتمسك بحشمتها أو حجابها، وفقاً لاشتراطات المؤسسة الذكورية كما لاحظنا أعلاه، تعتبر "فاضلة" و"عفيفة" والعكس صحيح.
ويمكن أن ننظر لعلاقة الحجاب بمحيطه بما تسميه الأنثروبولوجيا الاجتماعية بـ" سوسيولوجيا المظهر". وأهم وظائفه الإبعاد والتكثيف في آن معاً. بمعنى أن هذا اللباس التقليدي الذي تسعى المؤسسة الذكورية من خلاله إلى إخفاء المرأة عن الرجل، أدى إلى تكثيف النظرة الذكورية إلى المرأة، تلك النظرة المشتهية التي تضاعف من حدتها الرغبة المتعمدة في الإخفاء التي يمارسها الحجاب، وكلما ازداد الجسد في الاختفاء، ازداد فضول الرجل إليه. والوظيفة الأخرى حسب دراسة مالك شبل "الحريم والجنس" هي وظيفة الفصل المجالي بين الداخل والخارج، إذ يتمكن الحجاب من تجسيد المفارقة التي هي قوامه، فالمرأة المحتجبة تظل دائما في الداخل حتى لو كانت في الخارج.
وعلى الرغم من أن الجسد جسدها، والرغبة رغبتها، إلا أن المرأة تشعر أن أي "انتهاك" لهذا الجسد هو انتهاك للأب، وللشرف الرفيع للعائلة، والمجتمع، لأن هذا "الجسد" يمكن أن يهدد كما يقول نزار، أمن الرجال وأمن السماء!
فالأب بهذا المعنى مسؤول عن ابنته بقدر مسؤوليته عن ممتلكاته، كسيارته أو منزله، أو حيوانه الأليف، وكذلك الأمر هو نفسه بالنسبة لمسؤولية الأخ عن أخته، بل الابن يكاد يكون مسؤولاً عن أمه وعن تصرفاتها وهواياتها وما شابه ذلك. لأن كل هؤلاء( الأب والأخ والابن) بإمكانهم – لا شعورياً- استدعاء مركَّب الامتلاك في أي لحظة. الاختلاف الوحيد بينهم هو في درجة الامتلاك لا نوعه، وكلها بطبيعة الحال مبرَّرة اجتماعياً ودينياً. ولذلك ليس "رجلاً محترماً" من يُحس في قرارة نفسه بأن أخته أو أمه أو ابنته، مسؤولة عن ذاتها بلا اشتراطات ذكورية. وبالتالي لم يعد أمام المرأة في ظل هذه الاستلابات، سوى الانشغال بهذا الجسد، فإما أن تعريه، أو تخفيه، وفي كلتا الحالتين هي ردة فعل على واقع ذكوري نمطّ كيان المرأة باعتبارها جسماً فحسب.
ليس بالمستطاع فهم دوافع الخضوع الأنثوي إلا حين ندرك الآثار الدائمة التي تمارسها البنى التاريخية للنظام الذكوري – باسم الواجب الديني أو الحب الأبوي أو علاقات القرابة - على النساء، وعلى الرجال أيضاً. فأشكال التصنيف التي نبني بها العالم، وممارسات الفكر، هي سليلة البنى الجنسية المتأصلة بثبات في الأشياء والأجساد، وتقسيم الأدوار الاجتماعية بين الجنسين كما نعرفه ليس إلا نتاجاً لها. على هذا النحو تلعب الفوارق البيولوجية الظاهرة بين الرجل والمرأة دوراً مؤسِّساً تُعزى إليه كل التبريرات الدينية والثقافية والتاريخية للوضعية الاجتماعية للمرأة.
إن المؤسسات الذكورية التي تشغل فيها المرأة دور التابع والمُقاد، حوّلت حتى "الجماع" إلى حقلٍ لممارسة التفوّق - كما يرى ذلك فوكو في إطار نقده للجنسيات الذكورية، التفوّق الذي يضمنه الجماع من حيث هو فعل سيطرة وولوج، إذ ترى الثقافة الذكورية - حسب بحوث ستراوس- في الرجل آكلاً والمرأة مأكولة، ولذا هي تربط بوضوح بين الجماع والأكل. ومن هنا جاءت النظرة الذكورية للجنس باعتباره تمَلّكاً شخصياً وليس تفاعلاً، والذي يقضي قانونه أن تعامل النساء كأشياء تتداول من أسفل إلى أعلى، علاقة هيمنة بين الأعلى والأدنى. ولهذا يفكر معظم الرجال في العلاقة الجنسية بمنطق "الفَتْح"، أي الفتوحات التي تضمر كل نزعات التملك والاستيلاء، فهو يُخضع إرادة الأنثى باعتبارها مغنماً أو فريسة.
" ليست امرأة التي أريدها، بل جميع النساء" هكذا يفكر الرجل في المجتمعات الذكورية سواء أكان واعياً أو غير واعٍ، فالنساء في جوهرهن متشابهات، وهو صياد يمارس لعبته المفضلة، كذئب يرصد قطيعاً من الأغنام، فشهيته للجنس خام ورغبة "موضوعية" لا تحمل أي حب أو عطف، كل ما يريده هو أن يشبع رغباته النهمة ليس إلا. ولهذا من الاستحالة على ذكر بصرف النظر عن موقعه الاجتماعي أن يتواصل مع امرأة، أي امرأة، تواصلاً إنسانياً لا تشوبه نزعات جنسية دفينة، ولعل الخطاب الديني ساهم في تعزيز هذه النظرة الذكورية من خلال تشديده في التحريم لأي علاقة تواصل بين الجنسين، "خوفا" من الانجرار إلى الوقوع في "الحرام". وحيثما تحوّلت العلاقة بين الجنسين خارج "الأطر الشرعية" إلى "تابو" فإنها تحرض على الانتهاك حد الهوس، لأن حظر العلاقة على هذا النحو القسري لا يلغي الدافع الجنسي ولا يشذبه أصلاً، بل ينفيه إلى اللاشعور، ولكنه سيبعثه سقيماً متهيجاً عند أول مقاربة مع الأنثى. إنه يشتهي الأنثى ويشمئز منها في الوقت نفسه؛ لأن التحريم بكل حمولاته حاضر في وعيه، وأما الاشتهاء فهو مستمر في لا وعيه، وهذا سر الازدواجية في علاقته بالأنثى، لأن كل أنثى باتت تذكره بلعنة التحريم، واحتراقات الاشتهاء، ففي لا وعيه لا شيء أحب إليه من الأنثى، إلا أنه يتخوف من انتهاك هذا المحظور، والخوف لا يمكنه إلا أن ينمي اللذة في انتهاكه. إن الدافع الجنسي ينزاح بشكل متواصل، كي يفلت من حصار المحرمات، و لهذا يسعى إلى إيجاد بدائل جديدة للعاطفة المتنكرة عن الشيء المحرم، وكلما تفاقمت قوى الردع والتحريم، ازدادت الحاجة إلى التفريغ وتخفيف التوتر.
وإذا كانت المرأة ترغب بوجه عام أن تُحب لذاتها، وأن تُعبد إن أمكن، وأن تحقق من خلال "الحب" ذلك الامتلاء الذي يحيط بها ويرعاها، وذلك الاعتراف بكيانها قبل وما بعد الاتصال الجسدي، فإن رغبة الذكر في جوهرها جنسية خالصة، وليست معنية على الإطلاق بهذا "الهراء"!
الجنس في الذهنية الذكورية ليس اتصالاً حراً وليس تفاعلاً بين شخصين متساويين يحقق لهما الإشباع على المستويين المادي والنفسي، بل بين شخص وشيء، بين الأعلى والأدنى، بين الفاعل والمفعول به، والغريزة بطبيعتها لا تقيم وزناً للشيء، بقدر ما تتخذه وسيلة للإشباع، فريسة تؤخذ وتؤكل. وهذا هو جوهر النزعة العصرية الاستهلاكية للجنس، إذ ترى في الآخر شيئاً يُستمتع به ويُستهلك ومن ثم يُنبذ نبذ النواة. ولذا لا يشعر المرء بعد استهلاك الآخر جنسياً، إلا بخيبات تخلف اكتئاباً عميقاً. وهذا طبيعي ما دام أهم شرط من شروط العلاقة السوية غير متوافر في علاقات من هذا النوع، ألا وهو التكافؤ، بمعنى أن يكون الطرفان متكافئين على كافة المستويات. ولقد تفطن طاغور لهذا الأمر وعبر عنه في إحدى قصائده بقوله:
أمسك بيديها واضمهما إلى قلبي.
أحاول أن أملأ ذراعيّ من سحرها،
وأن أنهب بقبلاتي عذوبة ابتسامتها،
وأن أشرب بعينيّ لحظاتها القاتمة.
ولكن أواه أين ذلك كله؟
أحاول أن أمسك الجمال. ولكنه يفلت مني،
تاركاً جسداً فقط بين يدي
فأتراجع خائباً، تعباً:
كيف يمكن للجسد أن يلمس الزهرة
التي تطالها الروح وحدها؟
ولعل رواية "أنشودة الكون" لجان جيونو تُفصح عن المعنى الذي نريد بشكل أفضل، وذلك حين تخاطب المرأة عشيقها:
لم يكن لك يوماً نظرة تكفيك حدتها لتدخل فيّ، إلى ما هو أبعد من جلدي.... ماذا يمكنك أن تبصر بتلك العينين؟ لا شيء.
لحماً دافئاً ترغب بوضع يدك عليه. هذا كل شيء. ما الذي يدخل فيك عندما تلمسني؟ هذا الدفء، جلدي الناعم، هذا كل شيء. هل تعتقد أنك سوف تتمكن يوماً من أن تسمع قليلاً صوت دمي؟ هذا لن يحدث قط. أنك أصمّ، أصم، أصم. بقيت لحظة دون كلام. ثم قالت:
وأنانّي أيضاً
أناني، أنا؟
قالت: نعم. أذناك وعيناك ويداك أنانية. أنك ترى لنفسك، تسمع لنفسك، تلمس وتأخذ لنفسك. أنك تنظر. ماذا ترى. أنك لا ترى شيئا. أنك ترى لنفسك. ترى كل ما يمكن أن يجلب لك ذلك من لذة. لا أكثر من ذلك.