نقوس المهدي
كاتب
عـلى سـبيل التقديم:
المقامات من الفنون الأدبية التي تفننت العرب فيها، وقد عرفت انتشارا واسعا في أوساط التلقي العربي القديم والحديث.
وتبرز أهمية المقامات من الناحية القيمية في الدراسات والأبحاث النقدية التي تناولتها بالمقاربة والتحليل. وعلى الرغم من حجم وطبيعة هذا التناول النقدي الذي قوبلت به المقامات، تبقى هاته الأخيرة في الحاجة إلى المزيد من الاهتمام النقدي قصد اكتشاف أبعادها الإنسانية والجمالية التي تتخفى وراء نصوصها.
"صحيح أن هناك محاولات في هذا الميدان، لكنها تصب اهتمامها على السرد الأدبي انطلاقا من مفهوم ضيق للأدب، يتناول الباحث أصنافا معينة من السرد، ويقصي أصنافا أخرى لا يعتبرها أدبية"(1).
وهكذا " لقد أصاب المقامة عبر التاريخ ما أصاب سائر أجناس الأدب التي تستقرأ ماهيتها في الغالب خارج حدود الدائرة الجمالية التي تخصها"(2).
في تجنيس المقامات:
هل يمكن تعريف المقامات أجناسيا؟
الحديث عن المقامة من الناحية النظرية، يقود ضمنيا إلى طرح جملة من الأسئلة النقدية حول التعريف الأجناسي للمقامات، في الوقت الذي ظلت فيه هاته الأسئلة منشرعة على الكثير من الإجابات والتعريفات.
إن هذا الاختلاف الذي يميز التناول النقدي للمقامات من داخل التعريف الأجناسي بقدر ما يحيل إلى أهمية وحضور هذا الجنس في مجال السرد الأدبي، فهو يحيل من جانب آخر إلى طبيعة الالتباس الذي يميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى. فهي ـ أي المقامات ـ بهذا المعنى "مندرجة في دائرة التعدد والمزيج"(3)، كما يقول عبد الفتاح كيليطو.
وبعيدا عن الفوضى النقدية الجميلة التي عادة ما تطرح نفسها لحظة تعريف المقامة، يمكن القول أنها تدخل في دائرة الجنس الأدبي الذي يأخذ وجوها كثيرة، وهي بهذا المعنى "كون قائم الذات" كما يقول ذلك الناقد المغربي محمد أنقار.
في المضمون:
المقامة المضيرية، من أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني، إذ تنسب لمضيرة، وهي طعام عبارة عن لحم يطبخ باللبن المضير، أي الحامض، وتعتبر من أجود طعام أهل الحضر في بلاد فارس والعراق.
تدورفصول وأحداث المقامة حسب حديث عيسى ابن هشام، أن الإسكندري دعي إلى وليمة، فقدمت إليهما مضيرة، غير أن الإسكندري امتنع عن تناولها، فلما استفسر عن سر امتناعه، روى قصته معها.
وتبدأ القصة الثانية لما دعاه أحد التجار إلى مضيرة، فانزعج بأحاديثه الرتيبة والطويلة، أمام ذلك فضل الإسكندري الانصراف والهروب فتبعه التاجر يناديه، المضيرة المضيرة، إذ اعتقد صبيان الحي أنه يلقب بذلك، فأمطروه صيحا، لكنه أمام ذلك فقد أعصابه، وقرر في النهاية أن يرشقهم بالحجارة، إذ أصاب رجلا، فكان أن أمسكوه، وضربوه، ليتم اقتياده السجن، ومنذ ذلك الوقت أقسم الإسكندري على نفسه أن لا يتناول المضيرة.
في المتن الحكائي:
تتناول المقامة المضيرية جملة من القضايا المتنوعة والمختلفة، وهي على هذا النحو اجتماعية، اقتصادية، تربوية، ثقافية، إنسانية.
ولعل أبرز هاته القضايا محنة الإسكندري مع الوليمة التي جلبت له مشاكل عدة.
ـ كيف صورت المقامة المضيرية صورة الإسكندري؟
يرمز اسم الإسكندري في كتاب المقامات لبديع الزمان الهمذاني إلى "المكدي" وهو كما معلوم شخص غريب الطبائع، شديد الحيل، مغامر، عالم، مثقف، دائم الانتصار للمكر والخداع بوسائل إبداعية ملفتة ، الشيء الذي ضمن له النجاح في كل أدواره التي يلعبها.
إن الإسكندري ـ في المقامة المضيرية ـ يجسد صورة "الضحية" الذي يتعرض إلى عنف الآخرين، إما نتيجة لأخطاء في الحسابات وسوء تقديريه الذي قاده إلى السجن. فهو بهذا الأمريجسد صورة الإنسان الذي يتحمل الآلام والجراحات مقابل قيم السلام والأخلاق
هاته الصورة كما تطرحها المقامة المضيرية تدفعنا إلى طرح الأسئلة الإنسانية الـتـالـيـة:
ـ هل من الضروري أن ينتهي المطاف بالإسكندري إلى السجن؟
ـ ما هي الجريمة التي اقترفها؟
ويبقى السؤال الأهم هو:
هل ستغير لغة العنف مثل ـ التي تعرض لها الإسكندري ـ من المشاكل الإنسانية ؟
في شخوص المقامة المضيرية:
في المقامة المضيرية تتسارع الأحداث متسارعة على نحو ملحوظ، كما يأتي الحكي خاضعا إلى الكثافة والقوة، وهي سمة جمالية بقدر ما تعني انفتاح النص على قضايا وأسئلة نقدية عديدة، فهي تعني أيضا أن المساحة النصية وما يرافقها من تنوع في الأزمنة والأمكنة، قد سمحت باحتضان شخوص كثيرة ومتنوعة، الشيء الذي أضفى طابعا رحبا على البناء النصي للمقامة . وهكذا ومن داخل هذا الاكتمال النصي يمكننا الإشارة إلى:
إلى جانب عيسى ابن هشام (الراوي الأول)، والإسكندري الذي يجسد الراوي الثاني والوسيط السردي، نشير إلى التاجر الأول والثاني وهم جميعا يشكلون نواة شخصيات محورية تعكس أدوارا بارزة في المبنى الحكائي، من حيث الحوارية والتفاعلية التي تتوسل بشخصيات ثانوية أخرى عابرة من قبيل:
: معاوية، إسحاق ابن محمد، عمران الفرائضي، الغلام، العباس، النخاس، الخباز، التلميذ.
على الرغم من دورها الثانوي داخل النص فهي تمثل حضورا رمزيا يميزها عن باقي الشخصيات الأخرى المكونة للنص ، فهي ـ داخل النص ـ لم تكن وليدة الاعتباطية، بقدر ما تحيل إلى دلالات ثقافية واجتماعية متنوعة.
غير أن هذه الشخصيات تبدو مختلفة فيما بينها من حيث المركز الاجتماعي والثقافي، ونذكر هنا بشكل خاص الحرفي، البورجوازي، الفقير، الطالب، وكل شخصية من هذه الشخصيات تحيل إلى مستوى ونمط من الوعي الاجتماعي والأخلاقي الذي يعيشه مجتمع الإسكندري.
صورة المرأة في المقامة:
بالرغم من طبيعة حضور المرأة الذي يغلب عليه طابعا محتشما على لسان التاجر الثاني، تظل صورة المرأة مهمة داخل المشهد النصي للمقامة ، فهي بهذا تعكس نموذج المرأة الحاذقة، الطباخة الماهرة، ذات المنظر والحسن الجميل، والمعشوقة.
إن هذا الترميز الذي يعكس وضعية وأفق المرأة الإنسانة الخدومة والمتشبعة بروح القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تمتح منها في سياق الحياة، إنما يعكس نوعا من الرؤية الدونية لدور المرأة الذي حصرته المقامة في دور تقليدي لا يخرج عن دائرة (الطبخ، العناية بالبيت)، ودور آخر يختزل كينونتها في البعد الجمالي.
في الانفتاح النصي
القارىء للمقامات يدرك أن هذا الجنس الأدبي لا يتسع فقط لما هو نثري، بقدر ما أنه ينفتح على أجناس أدبية أخرى متنوعة ومختلفة، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن تجاور وتعالق الكثير من النصوص بالمقامة، شعر، قصة، حكم، أمثال، رسائل، مناظرات.. إلى غيرها من باقي النصوص الأخرى.
إن هذا التجاور والتعالق يشير إلى ما يميز هذا الجنس الأدبي من قوة واتساع يشمل كل هموم الإنسانية، من داخل جدوى الكتابة الإبداعية وسؤال علاقتها الإبداع بالإنساني.
وغني عن البيان أن المقامة" تنفتح على أدب الطعام والموائد في الثقافة العربية الإسلامية، ويحضر الطعام في مقامات البديع والحريري مرتبطا ببطل الكدية-أبي الفتح الإسكندري وأبي زيد السروجي-. وقد يتحول الراوي- السارد- إلى فاعل سردي يحتال في سبيل الحصول على مأدبة عامرة بالطيبات واللذائذ" (4).
كما يلاحظ أن" حضور الطعام والبطل المتطفل أو الطفيلي يبدو بارزا في- المقامة المضيرية- للبديع، إلا أن ما يميز هذه المقامة عن سواها من مقامات الكدية أنها تقوم بقلب أفق توقعات المتلقي. فالطفيلي في المقامة المضيرية لن يحظى أبدا بالمائدة العامرة، وسيتحول إلى ما يصفه بيرجسون" henri bergson" باللص المسروق أي الشخصية التي تقع ضحية للنوع المحدد من الفعل الذي ترتكبه عادة. وإذا كان عيسى بن هشام في المقامة البغدادية هو المتحكم في مجريات السرد شأنه في ذلك شأن بخلاء الجاحظ، فإن هناك قلبا لأدوار التلقي في المقامة المضيرية يترتب عليه أن يصاب الضيف بحبسة لغوية، فالمضيف قد حرمه من الكلام. كما أن أبا الفتح الإسكندري يتماهى مع المضيرة ويصبحان شيئا واحدا"5).
في البعد التداولي الوظيفي
إن المقامة في مبناها ومعناها تطمح إلى أن تلعب دورا وظيفيا وإنسانيا في سياقها التداولي، بالإضافة إلى أنها تتحدث بلسان شرائح مجتمعية متعددة، فهي تعكس تعددا متنوعا في الأصوات والمرجعيات، خطاب التاجر، خطاب عيسى ابن هشام…، كما أنها أيضا تستضمر بعدا تربويا يكمن في نزوعها نحو صياغة بعض القواعد الحكمية، وهكذا في المقامة المضيرية يمكن الحديث عن حكم وأمثال عديدة نقتطف منها ما يلي:
ـ السعادة تنبط الماء من الحجارة.
ـ المؤمن ناصح لإخوانه.
ـ لكل آلة قوم.
ـ يزل عن حائطه الذر فلا يعلق.
ـ يمشي على أرضه الذباب فيزلق.
خلاصة واستنتاج
تبقى المقامة من الفنون الأدبية الممتعة، إضافة إلى كونها سجلا تاريخيا يكشف عن مهارة وقدرة الكاتب العربي الإبداعية. وعلى الرغم من كونها- أي المقامة- تبدو عصية من حيث المبنى والمعنى، فإنها لا زالت تستأثر باهتمام المتلقي والناقد معا، ولعل ذلك يكمن في طبيعة النجاحات التي حققتها في مجال الإبداع العربي.
المقامات من الفنون الأدبية التي تفننت العرب فيها، وقد عرفت انتشارا واسعا في أوساط التلقي العربي القديم والحديث.
وتبرز أهمية المقامات من الناحية القيمية في الدراسات والأبحاث النقدية التي تناولتها بالمقاربة والتحليل. وعلى الرغم من حجم وطبيعة هذا التناول النقدي الذي قوبلت به المقامات، تبقى هاته الأخيرة في الحاجة إلى المزيد من الاهتمام النقدي قصد اكتشاف أبعادها الإنسانية والجمالية التي تتخفى وراء نصوصها.
"صحيح أن هناك محاولات في هذا الميدان، لكنها تصب اهتمامها على السرد الأدبي انطلاقا من مفهوم ضيق للأدب، يتناول الباحث أصنافا معينة من السرد، ويقصي أصنافا أخرى لا يعتبرها أدبية"(1).
وهكذا " لقد أصاب المقامة عبر التاريخ ما أصاب سائر أجناس الأدب التي تستقرأ ماهيتها في الغالب خارج حدود الدائرة الجمالية التي تخصها"(2).
في تجنيس المقامات:
هل يمكن تعريف المقامات أجناسيا؟
الحديث عن المقامة من الناحية النظرية، يقود ضمنيا إلى طرح جملة من الأسئلة النقدية حول التعريف الأجناسي للمقامات، في الوقت الذي ظلت فيه هاته الأسئلة منشرعة على الكثير من الإجابات والتعريفات.
إن هذا الاختلاف الذي يميز التناول النقدي للمقامات من داخل التعريف الأجناسي بقدر ما يحيل إلى أهمية وحضور هذا الجنس في مجال السرد الأدبي، فهو يحيل من جانب آخر إلى طبيعة الالتباس الذي يميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى. فهي ـ أي المقامات ـ بهذا المعنى "مندرجة في دائرة التعدد والمزيج"(3)، كما يقول عبد الفتاح كيليطو.
وبعيدا عن الفوضى النقدية الجميلة التي عادة ما تطرح نفسها لحظة تعريف المقامة، يمكن القول أنها تدخل في دائرة الجنس الأدبي الذي يأخذ وجوها كثيرة، وهي بهذا المعنى "كون قائم الذات" كما يقول ذلك الناقد المغربي محمد أنقار.
في المضمون:
المقامة المضيرية، من أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني، إذ تنسب لمضيرة، وهي طعام عبارة عن لحم يطبخ باللبن المضير، أي الحامض، وتعتبر من أجود طعام أهل الحضر في بلاد فارس والعراق.
تدورفصول وأحداث المقامة حسب حديث عيسى ابن هشام، أن الإسكندري دعي إلى وليمة، فقدمت إليهما مضيرة، غير أن الإسكندري امتنع عن تناولها، فلما استفسر عن سر امتناعه، روى قصته معها.
وتبدأ القصة الثانية لما دعاه أحد التجار إلى مضيرة، فانزعج بأحاديثه الرتيبة والطويلة، أمام ذلك فضل الإسكندري الانصراف والهروب فتبعه التاجر يناديه، المضيرة المضيرة، إذ اعتقد صبيان الحي أنه يلقب بذلك، فأمطروه صيحا، لكنه أمام ذلك فقد أعصابه، وقرر في النهاية أن يرشقهم بالحجارة، إذ أصاب رجلا، فكان أن أمسكوه، وضربوه، ليتم اقتياده السجن، ومنذ ذلك الوقت أقسم الإسكندري على نفسه أن لا يتناول المضيرة.
في المتن الحكائي:
تتناول المقامة المضيرية جملة من القضايا المتنوعة والمختلفة، وهي على هذا النحو اجتماعية، اقتصادية، تربوية، ثقافية، إنسانية.
ولعل أبرز هاته القضايا محنة الإسكندري مع الوليمة التي جلبت له مشاكل عدة.
ـ كيف صورت المقامة المضيرية صورة الإسكندري؟
يرمز اسم الإسكندري في كتاب المقامات لبديع الزمان الهمذاني إلى "المكدي" وهو كما معلوم شخص غريب الطبائع، شديد الحيل، مغامر، عالم، مثقف، دائم الانتصار للمكر والخداع بوسائل إبداعية ملفتة ، الشيء الذي ضمن له النجاح في كل أدواره التي يلعبها.
إن الإسكندري ـ في المقامة المضيرية ـ يجسد صورة "الضحية" الذي يتعرض إلى عنف الآخرين، إما نتيجة لأخطاء في الحسابات وسوء تقديريه الذي قاده إلى السجن. فهو بهذا الأمريجسد صورة الإنسان الذي يتحمل الآلام والجراحات مقابل قيم السلام والأخلاق
هاته الصورة كما تطرحها المقامة المضيرية تدفعنا إلى طرح الأسئلة الإنسانية الـتـالـيـة:
ـ هل من الضروري أن ينتهي المطاف بالإسكندري إلى السجن؟
ـ ما هي الجريمة التي اقترفها؟
ويبقى السؤال الأهم هو:
هل ستغير لغة العنف مثل ـ التي تعرض لها الإسكندري ـ من المشاكل الإنسانية ؟
في شخوص المقامة المضيرية:
في المقامة المضيرية تتسارع الأحداث متسارعة على نحو ملحوظ، كما يأتي الحكي خاضعا إلى الكثافة والقوة، وهي سمة جمالية بقدر ما تعني انفتاح النص على قضايا وأسئلة نقدية عديدة، فهي تعني أيضا أن المساحة النصية وما يرافقها من تنوع في الأزمنة والأمكنة، قد سمحت باحتضان شخوص كثيرة ومتنوعة، الشيء الذي أضفى طابعا رحبا على البناء النصي للمقامة . وهكذا ومن داخل هذا الاكتمال النصي يمكننا الإشارة إلى:
إلى جانب عيسى ابن هشام (الراوي الأول)، والإسكندري الذي يجسد الراوي الثاني والوسيط السردي، نشير إلى التاجر الأول والثاني وهم جميعا يشكلون نواة شخصيات محورية تعكس أدوارا بارزة في المبنى الحكائي، من حيث الحوارية والتفاعلية التي تتوسل بشخصيات ثانوية أخرى عابرة من قبيل:
: معاوية، إسحاق ابن محمد، عمران الفرائضي، الغلام، العباس، النخاس، الخباز، التلميذ.
على الرغم من دورها الثانوي داخل النص فهي تمثل حضورا رمزيا يميزها عن باقي الشخصيات الأخرى المكونة للنص ، فهي ـ داخل النص ـ لم تكن وليدة الاعتباطية، بقدر ما تحيل إلى دلالات ثقافية واجتماعية متنوعة.
غير أن هذه الشخصيات تبدو مختلفة فيما بينها من حيث المركز الاجتماعي والثقافي، ونذكر هنا بشكل خاص الحرفي، البورجوازي، الفقير، الطالب، وكل شخصية من هذه الشخصيات تحيل إلى مستوى ونمط من الوعي الاجتماعي والأخلاقي الذي يعيشه مجتمع الإسكندري.
صورة المرأة في المقامة:
بالرغم من طبيعة حضور المرأة الذي يغلب عليه طابعا محتشما على لسان التاجر الثاني، تظل صورة المرأة مهمة داخل المشهد النصي للمقامة ، فهي بهذا تعكس نموذج المرأة الحاذقة، الطباخة الماهرة، ذات المنظر والحسن الجميل، والمعشوقة.
إن هذا الترميز الذي يعكس وضعية وأفق المرأة الإنسانة الخدومة والمتشبعة بروح القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تمتح منها في سياق الحياة، إنما يعكس نوعا من الرؤية الدونية لدور المرأة الذي حصرته المقامة في دور تقليدي لا يخرج عن دائرة (الطبخ، العناية بالبيت)، ودور آخر يختزل كينونتها في البعد الجمالي.
في الانفتاح النصي
القارىء للمقامات يدرك أن هذا الجنس الأدبي لا يتسع فقط لما هو نثري، بقدر ما أنه ينفتح على أجناس أدبية أخرى متنوعة ومختلفة، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن تجاور وتعالق الكثير من النصوص بالمقامة، شعر، قصة، حكم، أمثال، رسائل، مناظرات.. إلى غيرها من باقي النصوص الأخرى.
إن هذا التجاور والتعالق يشير إلى ما يميز هذا الجنس الأدبي من قوة واتساع يشمل كل هموم الإنسانية، من داخل جدوى الكتابة الإبداعية وسؤال علاقتها الإبداع بالإنساني.
وغني عن البيان أن المقامة" تنفتح على أدب الطعام والموائد في الثقافة العربية الإسلامية، ويحضر الطعام في مقامات البديع والحريري مرتبطا ببطل الكدية-أبي الفتح الإسكندري وأبي زيد السروجي-. وقد يتحول الراوي- السارد- إلى فاعل سردي يحتال في سبيل الحصول على مأدبة عامرة بالطيبات واللذائذ" (4).
كما يلاحظ أن" حضور الطعام والبطل المتطفل أو الطفيلي يبدو بارزا في- المقامة المضيرية- للبديع، إلا أن ما يميز هذه المقامة عن سواها من مقامات الكدية أنها تقوم بقلب أفق توقعات المتلقي. فالطفيلي في المقامة المضيرية لن يحظى أبدا بالمائدة العامرة، وسيتحول إلى ما يصفه بيرجسون" henri bergson" باللص المسروق أي الشخصية التي تقع ضحية للنوع المحدد من الفعل الذي ترتكبه عادة. وإذا كان عيسى بن هشام في المقامة البغدادية هو المتحكم في مجريات السرد شأنه في ذلك شأن بخلاء الجاحظ، فإن هناك قلبا لأدوار التلقي في المقامة المضيرية يترتب عليه أن يصاب الضيف بحبسة لغوية، فالمضيف قد حرمه من الكلام. كما أن أبا الفتح الإسكندري يتماهى مع المضيرة ويصبحان شيئا واحدا"5).
في البعد التداولي الوظيفي
إن المقامة في مبناها ومعناها تطمح إلى أن تلعب دورا وظيفيا وإنسانيا في سياقها التداولي، بالإضافة إلى أنها تتحدث بلسان شرائح مجتمعية متعددة، فهي تعكس تعددا متنوعا في الأصوات والمرجعيات، خطاب التاجر، خطاب عيسى ابن هشام…، كما أنها أيضا تستضمر بعدا تربويا يكمن في نزوعها نحو صياغة بعض القواعد الحكمية، وهكذا في المقامة المضيرية يمكن الحديث عن حكم وأمثال عديدة نقتطف منها ما يلي:
ـ السعادة تنبط الماء من الحجارة.
ـ المؤمن ناصح لإخوانه.
ـ لكل آلة قوم.
ـ يزل عن حائطه الذر فلا يعلق.
ـ يمشي على أرضه الذباب فيزلق.
خلاصة واستنتاج
تبقى المقامة من الفنون الأدبية الممتعة، إضافة إلى كونها سجلا تاريخيا يكشف عن مهارة وقدرة الكاتب العربي الإبداعية. وعلى الرغم من كونها- أي المقامة- تبدو عصية من حيث المبنى والمعنى، فإنها لا زالت تستأثر باهتمام المتلقي والناقد معا، ولعل ذلك يكمن في طبيعة النجاحات التي حققتها في مجال الإبداع العربي.