نقوس المهدي
كاتب
لاشك في أن المقامات التي اقترنت باسم الهمذاني والحريري، كانت جنساً جديداً في الأدب العربي، غير أنها انطوت في الآن ذاته على بذور فن أدبي عرفته أوروبا بعد قرون عديدة هو القصة القصيرة، وثمة مقامات لدى بديع الزمان الهمذاني،
تصلح أن تكون بمقاييس، هذا الزمان قصصاً قصيرة بمعنى الكلمة، أذكر منها على سبيل المثال «المقامة المضيرية» وكنت قد كتبت دراسة في الستينيات قدمتها فيها كنموذج لقصة قصيرة مكتملة..
لاشك في أن المقامات التي اقترنت باسم الهمذاني والحريري، كانت جنساً جديداً في الأدب العربي، غير أنها انطوت في الآن ذاته على بذور فن أدبي عرفته أوروبا بعد قرون عديدة هو القصة القصيرة، وثمة مقامات لدى بديع الزمان الهمذاني، تصلح أن تكون بمقاييس، هذا الزمان قصصاً قصيرة بمعنى الكلمة، أذكر منها على سبيل المثال «المقامة المضيرية» وكنت قد كتبت دراسة في الستينيات قدمتها فيها كنموذج لقصة قصيرة مكتملة..
على أن المقامات، كانت من جانب آخر مستودعاً زاخراً للظرف والفكاهة والنكتة، فبعض مقامات الهمذاني الثلاث والخمسين التي بلغتنا بنيت بناءً كوميدياً راقياً، يذكّرنا بالبناء النموذجي للنكتة التصاعدية، حيث تتوالى الأحداث، وفي الوقت نفسه، يحبك الراوي أمرها حتى تصل إلى ذروتها في التصاعد فتنفجر الضحكة، وكان الهمذاني يحرك أحداث هذه المقامات، بواسطة بطليه الشهيرين اللذين بات يُضَرب بهما المثل: عيسى بن هشام، الراوي وأبو الفتح الاسكندري بطل المغامرات والفصاحة والشعر والكدية، وهي ضرب من التكسب عن طريق الاحتيال، في الأغلب.
صورة عن الوطن العربي
ولا جدل في أن هذه المقامات تعطي صورة مقربة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في الوطن العربي في القرن الهجري الرابع، وحتى السجع الذي تجلجل قوافيه، من أول كل مقامة إلى آخرها، كانت له دلالته الأدبية، بين هذا وذاك تتجلى روح الطرافة والنكتة والسخرية لدى هذا الأديب الذي كان يصوغ مقاماته مثل صائغ صناع.
أبطال المقامة الموصلية
في المقامة الموصلية يدخل عيسى وأبو الفتح داراً مات صاحبها وقامت نوادبُها.. ومع ذلك فلم يكن من بد لهما من أن يصنعا شيئاً يتكسبان به، وهنا تفتقت الحيلة في ذهن أبي الفتح فتقدم من الميت، وبعد أن تلمسه قال: يا قوم اتقوا الله، لا تدفنوه فهو حي، وإنما عرته بهتة وعَلَته سكتة، وأنا أسلمه مفتوح العينين بعد يومين، ولما كان هذا مما يثلج صدور أهل الميت.. فإنهم أطلقوا يده في معالجته.. ولكن ماذا يعالج!
ابن هشام والاسكندري.. يحاولان الهرب
ومادامت الحيلة قد انطلت، فقد أخذت الهدايا تنثال على عيسى وأبي الفتح من أهل المتوفى والجيران، حتى ورم كيسهما فضة وذهباً، وبحثا عن فرصة للهرب فلم يجداها، وبعد يومين، وهو الموعد المضروب لإعادته إلى الحياة، جابه أهله هذين المحتالين، فرفع الاسكندري عنه التمائم والتعاويذ والأربطة وقال: أنيموه على وجهه. فأُنيم ثم قال: أقيموه على رجليه، فأقيم، ثم قال: خلوا عن يديه فسقط رأسياً، وطن الاسكندري بغية وقال: هو ميت كيف أحييه! فأخذه الخُفّ، أي ضرب الحذاء، ولكمته الأكف، وصار إذا رفعت عنه يد وقعت عليه أخرى.
وفيما أهل الميت منشغلون بتجهيزه لدفته انسلّ الاثنان هاربين، ولكن ليتابعا احتيالاتهما.
سابقة مدهشة في «البغدادية»
وفي المقامة البغدادية الشهيرة يسجل الهمذاني سابقة مدهشة، في ذلك السجال التاريخي الطريف، وهو ابن الحضارة، بين ابن الريف السوادي، وبين ابن المدينة، وهو هذه المرة عيسى بن هشام نفسه، الذي كان في هذه المقامة راوياً وبطلاً، وقد احتال على السوادي وأوهمه أنه يعرفه ويعرف أباه، حتى دعاه إلى شواء، مصراً على أن يناديه أبازيد، والسوادي يؤكد أنه أبو عبيد، وأمر عيسى الشواء:
أفرز لأبي زيد من هذا الشواء، ثم زن له من تلك الحلواء، واختر له من تلك الأطباق، وانضد عليها أوراق الرقاق، ورشّ عليها شيئاً من ماء السماق، ليأكله أبو زيد هنياً.
ثم ذكر عيسى أنهما أصبحا في حاجة إلى ماء بارد «يقع هذه الصارة» - أي الحر الشديد - «ويفثأ هذه اللقم الحارة» - أي يكسرها ويخففها ثم قال له: أجلس حتى نأتيك بسقاء»..
الشواء يعتلق بإزار السوادي
يقول عيسى: «ثم خرجت وجلست بحيث أراه ولايراني، أنظر ماذا يصنع، فلما أبطأت عليه قام السوادي إلى حماره، فاعتلق الشواء بإزاره، وقال: أين ثمن ماأكلت؟ فقال أبو زيد: أكلته ضيفاً، فلكمه لكمة، وثنّى عليه بطلمة، ثم قال الشواء: هاك ومتى دعوناك؟ زن يا أخا القحةعشرين، فجعل السوادي يبكي ويحل عقده بأسنانه - أي صرة النقود- ويقول: كم قلت لذلك القريد أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنت أبو زيد!...
«المجاعية» .. وأحلام اليقظة
أما المقامة المجاعية - نسبة إلى المجاعة - فهي من أطرف المقامات وأقصرها ذلك أن عيسى دخل على جماعة فيهم فتى ذو لثغة بلسانه وفلج بأسنانه، فقال: ما خطبك؟ فذكر عيسى أنه جائع وغريب، فسأله الفتى أن المشكلتين يود أن تحل أولاً؟ فقال: الجوع، وهنا قال الفتى: فما تقول في رغيف، على خوان نظيف، ويقل قطيف، إلى خل ثقيف، ولون لطيف، إلى خردل حريف، وشواء صفيف.. إلخ... ثم يضيف إلى ذلك شراباً بأقداح ذهبية من راح عنبية، ثم أخذ يعدد له أصنافاً أخرى من الطعام و «فرش منضدة وأنوار مسحورة ومطرب مجيد، له من الغزال عين وجيد»، ثم يذكر مرة ثالثة ألواناً أشهى وأطيب من الطعام والشراب، على «مضجع وطي - أي فراش مريح - على مكان عليّ، حذاء نهر جار، وحوض ثرثار، وجنة ذات أنهار «يريد الفتى ذو اللثغة أن يخيره بين الأنواع الثلاثة، فقال عيسى: أنا عبد الثلاثة، هنا قال الفتى: وأنا خادمها... لو كانت! فقال عيسى: لا حياك الله، أحييت شهوات كان اليأس قد أماتها، فمن أي خرابة أنت؟! بلى لقد صحا الاثنان من حلم اليقظة .. الجميل..
بديع الزمان الهمذاني
هو أحمد بن الحسين أبو الفضل (969 - 1008 م) أخذ الحريري عنه أسلوبه في المقامات يذكر الزركلي في «الأعلام» أنه كان شاعراً، ولكن طبقته في الشعر دون طبقته في النثر.
ولد في همذان - في إيران - وتنقل في البلاد بين أفغانستان وبعض أقطار آسيا الوسطى كان قوي الحافظة يضرب المثل بحفظه، ويذكر أن أكثر «مقاماته» ارتجال، له ديوان شعر صغير ورسائل عددها 233 وقد توفي في «هراة» بأفغانستان.
تصلح أن تكون بمقاييس، هذا الزمان قصصاً قصيرة بمعنى الكلمة، أذكر منها على سبيل المثال «المقامة المضيرية» وكنت قد كتبت دراسة في الستينيات قدمتها فيها كنموذج لقصة قصيرة مكتملة..
لاشك في أن المقامات التي اقترنت باسم الهمذاني والحريري، كانت جنساً جديداً في الأدب العربي، غير أنها انطوت في الآن ذاته على بذور فن أدبي عرفته أوروبا بعد قرون عديدة هو القصة القصيرة، وثمة مقامات لدى بديع الزمان الهمذاني، تصلح أن تكون بمقاييس، هذا الزمان قصصاً قصيرة بمعنى الكلمة، أذكر منها على سبيل المثال «المقامة المضيرية» وكنت قد كتبت دراسة في الستينيات قدمتها فيها كنموذج لقصة قصيرة مكتملة..
على أن المقامات، كانت من جانب آخر مستودعاً زاخراً للظرف والفكاهة والنكتة، فبعض مقامات الهمذاني الثلاث والخمسين التي بلغتنا بنيت بناءً كوميدياً راقياً، يذكّرنا بالبناء النموذجي للنكتة التصاعدية، حيث تتوالى الأحداث، وفي الوقت نفسه، يحبك الراوي أمرها حتى تصل إلى ذروتها في التصاعد فتنفجر الضحكة، وكان الهمذاني يحرك أحداث هذه المقامات، بواسطة بطليه الشهيرين اللذين بات يُضَرب بهما المثل: عيسى بن هشام، الراوي وأبو الفتح الاسكندري بطل المغامرات والفصاحة والشعر والكدية، وهي ضرب من التكسب عن طريق الاحتيال، في الأغلب.
صورة عن الوطن العربي
ولا جدل في أن هذه المقامات تعطي صورة مقربة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في الوطن العربي في القرن الهجري الرابع، وحتى السجع الذي تجلجل قوافيه، من أول كل مقامة إلى آخرها، كانت له دلالته الأدبية، بين هذا وذاك تتجلى روح الطرافة والنكتة والسخرية لدى هذا الأديب الذي كان يصوغ مقاماته مثل صائغ صناع.
أبطال المقامة الموصلية
في المقامة الموصلية يدخل عيسى وأبو الفتح داراً مات صاحبها وقامت نوادبُها.. ومع ذلك فلم يكن من بد لهما من أن يصنعا شيئاً يتكسبان به، وهنا تفتقت الحيلة في ذهن أبي الفتح فتقدم من الميت، وبعد أن تلمسه قال: يا قوم اتقوا الله، لا تدفنوه فهو حي، وإنما عرته بهتة وعَلَته سكتة، وأنا أسلمه مفتوح العينين بعد يومين، ولما كان هذا مما يثلج صدور أهل الميت.. فإنهم أطلقوا يده في معالجته.. ولكن ماذا يعالج!
ابن هشام والاسكندري.. يحاولان الهرب
ومادامت الحيلة قد انطلت، فقد أخذت الهدايا تنثال على عيسى وأبي الفتح من أهل المتوفى والجيران، حتى ورم كيسهما فضة وذهباً، وبحثا عن فرصة للهرب فلم يجداها، وبعد يومين، وهو الموعد المضروب لإعادته إلى الحياة، جابه أهله هذين المحتالين، فرفع الاسكندري عنه التمائم والتعاويذ والأربطة وقال: أنيموه على وجهه. فأُنيم ثم قال: أقيموه على رجليه، فأقيم، ثم قال: خلوا عن يديه فسقط رأسياً، وطن الاسكندري بغية وقال: هو ميت كيف أحييه! فأخذه الخُفّ، أي ضرب الحذاء، ولكمته الأكف، وصار إذا رفعت عنه يد وقعت عليه أخرى.
وفيما أهل الميت منشغلون بتجهيزه لدفته انسلّ الاثنان هاربين، ولكن ليتابعا احتيالاتهما.
سابقة مدهشة في «البغدادية»
وفي المقامة البغدادية الشهيرة يسجل الهمذاني سابقة مدهشة، في ذلك السجال التاريخي الطريف، وهو ابن الحضارة، بين ابن الريف السوادي، وبين ابن المدينة، وهو هذه المرة عيسى بن هشام نفسه، الذي كان في هذه المقامة راوياً وبطلاً، وقد احتال على السوادي وأوهمه أنه يعرفه ويعرف أباه، حتى دعاه إلى شواء، مصراً على أن يناديه أبازيد، والسوادي يؤكد أنه أبو عبيد، وأمر عيسى الشواء:
أفرز لأبي زيد من هذا الشواء، ثم زن له من تلك الحلواء، واختر له من تلك الأطباق، وانضد عليها أوراق الرقاق، ورشّ عليها شيئاً من ماء السماق، ليأكله أبو زيد هنياً.
ثم ذكر عيسى أنهما أصبحا في حاجة إلى ماء بارد «يقع هذه الصارة» - أي الحر الشديد - «ويفثأ هذه اللقم الحارة» - أي يكسرها ويخففها ثم قال له: أجلس حتى نأتيك بسقاء»..
الشواء يعتلق بإزار السوادي
يقول عيسى: «ثم خرجت وجلست بحيث أراه ولايراني، أنظر ماذا يصنع، فلما أبطأت عليه قام السوادي إلى حماره، فاعتلق الشواء بإزاره، وقال: أين ثمن ماأكلت؟ فقال أبو زيد: أكلته ضيفاً، فلكمه لكمة، وثنّى عليه بطلمة، ثم قال الشواء: هاك ومتى دعوناك؟ زن يا أخا القحةعشرين، فجعل السوادي يبكي ويحل عقده بأسنانه - أي صرة النقود- ويقول: كم قلت لذلك القريد أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنت أبو زيد!...
«المجاعية» .. وأحلام اليقظة
أما المقامة المجاعية - نسبة إلى المجاعة - فهي من أطرف المقامات وأقصرها ذلك أن عيسى دخل على جماعة فيهم فتى ذو لثغة بلسانه وفلج بأسنانه، فقال: ما خطبك؟ فذكر عيسى أنه جائع وغريب، فسأله الفتى أن المشكلتين يود أن تحل أولاً؟ فقال: الجوع، وهنا قال الفتى: فما تقول في رغيف، على خوان نظيف، ويقل قطيف، إلى خل ثقيف، ولون لطيف، إلى خردل حريف، وشواء صفيف.. إلخ... ثم يضيف إلى ذلك شراباً بأقداح ذهبية من راح عنبية، ثم أخذ يعدد له أصنافاً أخرى من الطعام و «فرش منضدة وأنوار مسحورة ومطرب مجيد، له من الغزال عين وجيد»، ثم يذكر مرة ثالثة ألواناً أشهى وأطيب من الطعام والشراب، على «مضجع وطي - أي فراش مريح - على مكان عليّ، حذاء نهر جار، وحوض ثرثار، وجنة ذات أنهار «يريد الفتى ذو اللثغة أن يخيره بين الأنواع الثلاثة، فقال عيسى: أنا عبد الثلاثة، هنا قال الفتى: وأنا خادمها... لو كانت! فقال عيسى: لا حياك الله، أحييت شهوات كان اليأس قد أماتها، فمن أي خرابة أنت؟! بلى لقد صحا الاثنان من حلم اليقظة .. الجميل..
بديع الزمان الهمذاني
هو أحمد بن الحسين أبو الفضل (969 - 1008 م) أخذ الحريري عنه أسلوبه في المقامات يذكر الزركلي في «الأعلام» أنه كان شاعراً، ولكن طبقته في الشعر دون طبقته في النثر.
ولد في همذان - في إيران - وتنقل في البلاد بين أفغانستان وبعض أقطار آسيا الوسطى كان قوي الحافظة يضرب المثل بحفظه، ويذكر أن أكثر «مقاماته» ارتجال، له ديوان شعر صغير ورسائل عددها 233 وقد توفي في «هراة» بأفغانستان.