نقوس المهدي
كاتب
صدر مؤخرا عن دار جامعة قادس الاسبانية للطباعة والنشر كتابي الذي يحتوي على الترجمة الاسبانية ل " المقامات اللزومية"[1] لأبي الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي (ت 538 / 1143). وفي هذه المقالة سوف أقدم أهم ملامح هذا المؤلف الاندلسي ومقاماته الشهيرة بالاضافة الى بعض الملاحظات حول عملية الترجمة التي قمت بها.
من المعلوم أن مقامات الحريري وصلت الى أرض الاندلس في وقت مبكر، أي بعيد تأليفها، بفضل عدد من الاندلسيين الذي أتيحت لهم فرصة سماعها وتلقيها من الحريري نفسه أو من تلميذ من تلاميذه أثناء رحلاتهم الى المشرق، ومن هؤلاء، طبقا لما ذكر إحسان عباس في كتابه " تاريخ الادب الاندلسي"[2]، أحمد بن محمد بن خلف الشاطبي والحسن بن علي بن الحسن البطليوسي وأبو الحجاج القضاعي. فأقبل أدباء الاندلس على دراسة هذه المقامات وشرحها بشغف, ولا بد في هذا الصدد من الاشارة الى أبي العباس أحمد الشريشي صاحب الشرح المعروف لمقامات الحريري. وليس هذا فحسب, فقد كثر في الاندلس عدد المؤلفين الذين كتبوا على منوال الحريري أي مقلدين أسلوبه الرفيع تقليدا صريحا. إن قائمة هؤلاء المقلدين طويلة جدا لا مجال هنا لإدراجها[3] مع ملاحظة أن السرقسطي هو المؤلف الوحيد من بينهم الذي حذا حذو الحريري في كل تفاصيل فنه، فقد ألف على غراره خمسين مقامة تنص على قصة الشحاذة والحيلة، بطلاها شخصان خياليان هما الراوي والمكدي. أما الآخرون فلم يميزوا على وجه العموم فن المقامة الاصلي عن فن الرسالة إذ استعملوا قوالب المقامة الشكلية دون مميزاتها القصصية من أبطال وأحداث وذلك لأغراض شتى بعيدة كل البعد عن أغراض المقامة الأصلية.
وقبل أن نتكلم عن السرقسطي وعن مقاماته اللزومية ينبغي أن نحدد سبب هذا الحرص على فن المقامة لدى أهل الأندلس من سماع وشرح ومعارضة. يقال عادة في هذا الصدد: إنه لا غرو في ذلك الحرص المذكور إذ لا يخفى أن ثقافة الأندلس بشتى جوانبها بنيت على غرار ثقافة المشرق التي هي بمثابة المنبع الذي نهل منه كتاب الأندلس عبر تاريخه الممتد ابتداء من عهد الإمارة[4]. فما من فن أدبي جديد ظهر في المشرق إلا وأقبل عليه مثقفو الاندلس دراسة ومعارضة. وبطبيعة الحال ليست المقامة باسنثناء عن هذه القاعدة المطردة.
من هو السرقسطي هذا؟ هو أبو الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي جمال الدين المازني السرقسطي الأندلسي (ابن) الأشتركويي. إنه من مواليد الثغر الاعلى الأندلسي. ولعل مسقط رأسه مدينة سرقسطة بعينها أو قرية تبعد عنها نحو سبعين كيلومترا اسمها اشتركوي نظرا الى تلك النسبة الأخرى له وهي الأشتركويي. أما أوائل حياته فتسكت المراجع عنه والأرجح أنه قضى سنواته الأولى في سرقسطة التي كانت وقتذاك مركزا من مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس. كان السرقسطي ممن يطلبون العلم ويدرسون فنونه المختلفة من فلسفة وحديث وقرآن ولغة ونحو وشعر على أيدي عدة شيوخ[5]. تذكر المصادر التي ترجمت له أنه جاب الأندلس طالبا للعلم وزار عدة مدن أندلسية منها بلنسية وشاطبة ومرسية وغرناطة الى أن استقر في مدينة قرطبة حيث توفي سنة 538/1143 من زمانة طاولته ثلاثة أعوام. والغريب في الأمر أنه على ما يبدو لم يقم برحلة الى المشرق لتكميل دراسته والسماع من كبار العلماء هناك كما اعتاد علماء الأندلس أن يفعلوا، لا سيما من نهل منهم من ينابيع المشرق بشغف كما هو حال السرقسطي نفسه. وخلاصة القول: إن كاتبنا حصل قدرا كبيرا متنوعا من العلوم لكننا لا نكاد نعرف شيئا عن حياته وعن المناصب التي تولاها أو الأفكار ألتي مالت اليها. إنما يمكننا القول بأن قراءة مقاماته وأشعاره تدل على موقف نفساني يغلب عليه التشاؤم حيال الأحداث الكبرى التي شاهدها السرقسطي كسقوط الطوائف وظهور دولة المرابطين وأخيرا تقدم الفتح النصراني الذي استولى على مسقط رأسه سرقسطة سنة 512/1118. ولعل في ذلك سببا من أسباب تنقله في بقاع الأندلس المختلفة.
وقبل أن نتناول موضوع المقامات اللزومية يجدر بنا أن نذكر أن السرقسطي كان شاعرا، فبالإضافة الى الأشعار الكثيرة الموجودة داخل المقامات حافظت المراجع وكتب التراجم على قطع متفرقة من قصائده. هذه الأبيات القليلة جمعها الأستاذ مونرو وترجمها الى اللغة الانجليزية في المقالة المذكورة أعلاه[6]. ويقول مونرو عند تحليله لهذه الأبيات إنها تثبت أن السرقسطي كان شاعرا بارعا متميزا على خلاف ما توحي به قراءة الأبيات الموجودة داخل المقامات من تكرار الأفكار وانعدام الحس الشعري الأصيل. هذا وللسرقسطي كتاب آخر وصلنا في مجال اللغة عنوانه "كتاب المسلسل في غريب لغة العرب"[7].
أما المقامات التي تدور حولها هذه السطور فهي كما سبق لي أن ذكرت منسوجة على منوال مقامات الحريري سواء في الأسلوب الرفيع المتصنع نوعا ما أم في مضمون الحكاية. لكنها ليست قالبا جميلا بدون أي مضمون كما ادعى بعض الباحثين في الماضي وما يزالون في الوقت الحاضر. وإذا أردنا إبراز الملامح الخاصة التي تميز المقامات اللزومية عن نظيراتها الحريرية فلا بد من الإشارة الى أمور ثلاثة:
1. عدد المقامات: يوجد في تحقيق الدكتور بدر أحمد ضيف خمسون مقامة في حين أن تحقيق الدكتور الوراكلي يربو فيه العدد على الخمسين فيصبح تسعا وخمسين مقامة. إن وجود هذه المقامات التسع الزائدة التي نشرها الوراكلي في ملحق يرجع الى خلافات في المخطوطات. فبالرغم من أن كل مخطوطة فيها خمسون مقامة لا غير، فإن بعضها يحتوي على مقامات غير موجودة في المخطوطات الأخرى، وبالعكس، مما جعل عدد المقامات لا يزيد على كل حال عن الخمسين مقامة. وقد شك الباحثون في صحة هذه المقامات التسع اعتقادا منهم أنها ليست للسرقرطي بعينه بل لأحد من تلاميذه[8].
2. يضاف في بعض المقامات شخص ثالث الى الشخصين المألوفين في المقامات من راو ومكدﱟ. هذه الشخصية الثالثة واسمها المنذر بن حمام تقوم بدور الراوي دون أي مشاركة في أحداث القصة. أما الراوي فاسمه السائب بن تمام ويدعى المكدي أبا حبيب السدوسي.
3. كما هو واضح من اسم الكتاب، التزم السرقسطي بلزوم ما لا يلزم على ما سنّه سابقا أبو العلاء المعري في لزومياته. وهذه طريقة خاصة تبنى فيها القافية على لزوم حرف زائد على الأقل قبل حرف الروي. وبالرغم من هذا التكلف وتلك المقتضيات الشكلية فإن سجع المقامات اللزومية "سهل سائغ لا يحس قارئه فيه تعسفا أو مغالاة "[9]. زيادة على ذلك " قلما عثرنا على أثر التكرار فيهما (أي اللفظين المترادفين)... والألفاظ... لم يأت كثير منها زائدا على الحاجة"[10].
ونظرا الى ما أورده النقاد القدامى وأثبته المعاصرون كانت المقامات اللزومية معروفة منتشرة في دار الإسلام، ولعل ما يدل على شهرتها وسمعتها وجود عدد من المخطوطات لا يقل عن عشر مخطوطات حوفظ عليها في أماكن مختلفة من العالم (إيطاليا وألمانيا وفرنسا وتركيا والمغرب). وقد أشار الى السرقسطي ومقاماته عدد لا بأس به من مؤلفي كتب التراجم من أمثال ابن بسام وابن بشكوال والضبي وابن سعيد وابن الأبار وغيرهم كثير، مع ملاحظة أن هذه الكتب المذكورة لم تزودنا إلا بالنزر اليسير عن السرقسطي وحياته رغم التقدير الكبير والمكانة المرموقة التي احتلها بين العلماء العرب ما يجعل ذلك مثار تساؤل. أما في عصرنا الحالي فمن الجدير بالذكر أن اسم السرقسطي أصبح شائعا في الدراسات الأدبية المتعلقة بالنثر الفني العربي، ولكن بدون أن يعرف عنه الكثير وبدون أي تحقيق للمقامات اللزومية التي بقيت شبه مجهولة بين ثتايا المخطوطات حتى سنة 1982 عندما قام الدكتور بدر أحمد ضيف مشكورا بإصدار تحقيق كامل لها[11]، وقد أشرنا اليه آنفا. وفضلا عن هذا العمل القيم وعمل الدكتور حسن الوراكلي الذي نشر تحقيقا آخر لها سنة 1995[12] بدأ العلماء سواء من العرب أم من غيرهم يدركون قيمة هذه المقامات وأهميتها الأدبية من خلال قراءة أصولها وليس من خلال تداول الأقوال المتكررة من مؤلف الى مؤلف آخر فحسب.
ومن جملة ما كتب في الأوساط العلمية العربية عن المقامات اللزومية كتاب حسن عباس المذكور أعلاه الذي نجد فيه عدة صفحات مخصصة للمقامات اللزومية فيها دراسة دقيقة معتمدة على تحقيق بدر أحمد ضيف. وكذلك صدرت المقالة المهمة السابقة الذكر بقلم محمد الهادي الطرابلسي وفيها نجد بعد التقديم المعهود للمؤلف ولفن المقامة دراسة عميقة لعناصر الإيقاع قي المقامات مع مقارنة إحصائية بمقامات الهمذاني والحريري فيما يخص عدد المقاطع الطويلة في فقراتها. والنتيجة التي يصل اليها صاحب تلك المقالة أن المقامات اللزومية أقوى إيقاعا وأكثر مرونة من مقامات الهمذاني وأنها تساوي مقامات الحريري من هذه الجهة.
أما في الغرب فقد شهدت الأوساط العلمية اهتماما متزايدا بالمقامات اللزومية ونشر عدد من البحوث الدائرة حولها. فقد قمت شخصيا بكتابة بعض المقالات عنها ابتداء من سنة 1991. وضمن هذه المقالات ترجمة إسبانية كاملة لكل من المقامت البربرية وهي السادسة والأربعون في تحقيق بدر أحمد ضيف والحادية والأربعون في تحقيق حسن الوراكلي[13] والمقامة الطريفية وهي الثامنة والأربعون في تحقيق بدر أجمد ضيف والثالثة والأربعون في تحقيق حسن الوراكلي[14]. ولي أيضا دراستان حول أشعار له مكتوبة على صيغة المسمط في بعض المقامات[15]. أما الأستاذ الأمريكي المعروف جيمس مونرو، فقد كتب مقالين مهمين قدم في أولهما دراسة وافية دقيقة لحياة السرقسطي ومؤلفاته بالإضافة الى ترجمة إنجليزية للمقامة البربرية[16] في حين أنه ترجم في ثانيهما ثلاث مقامات وهي التاسعة عشرة، والعشرون أي الخمرية، والثامنة والعشرون في تحقيق الوراكلي وهي غير موجودة في تحقيق ضيف[17]. كل هذه البحوث والجهود تأتي تمهيدا لعمل آخر وهو ترجمة كاملة للمقامات اللزومية الى لغة ثانية تيسر قراءتها لغير مجيدي لغة الضاد. وهذا المشروع القيم المفيد انكب عليه منذ سنين كل من الباحثين المذكورين: مونرو وأنا نفسي. وفي أواسط سنة 1999 صدرت أخيرا الترجمة الإسبانية الكاملة التي قمت بها خلال السنوات الأخيرة. أما ترجمة مونرو الى الإنجليزية فيبدو أنها على وشك الصدور إن لم تكن قد صدرت في الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور.
ومما لا شك فيه أن هناك أسئلة تطرح تفسها بإلحاح عند مجرد الحديث عن إمكانية ترجمة المقامات اللزومية الى لغة أخرى: هل الترجمة مفيدة ؟ هل هي صعبة الى حد يجعلها غير وافية بالنص الأصلي ؟ وهل يمكن للمترجم تزويد القارئ بكل مدلولات الأصل العربي بكل تفاصيله وإشاراته وجمالياته ؟ لنذكر أن بعض الدارسين عبروا عن شكوكهم حيال جدوى مشروع ترجمة مثل هذه المؤلفات. سأحاول في السطور التالية الإجابة على جميع هذه الأسئلة قدر المستطاع. أولا فيما يخص إفادة الترجمة، لا يمكن أن يكون الجواب إلا بالإيجاب أو بالأحرى "طبعا، هذه ترجمة مفيدة لأنها تسمح لقرّاء لغة أخرى أن يطلعوا على كتاب رفيع يعتبر من أعظم ما ألف في مجال النثر الفني العربي في الأندلس وفي سائر دار الإسلام. ولولا هذه الجهود المبذولة في مشروع الترجمة لبقيت المقامات اللزومية شبه مجهولة لمعظم دارسي الغرب المهتمين بالأدب الأندلسي. فمما لا يخفى أن النص العربي للمقامات لا يقدر على قراءته وفهمه سوى أقلية نادرة من هؤلاء الباحثين الغربيين، ويرجع ذلك الى ما يحتوي عليه النص من غرائب وتهكم وإشارات مبهمة وعبارات غير مألوفة قديمة أو مجهورة.
أما اختيار اللغة الإسبانية للترجمة فهو اختيار طبيعي ومبرر لكون المترجم إسباني اللغة ولكون إسبانيا مركزا من الدراسات المتعلقة بالتراث الأندلسي في أيامنا هذه وإن كانت اللغة الإسبانية أقل انتشارا في الأوساط العلمية من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار المطاقبة المطلوبة ما بين الأصل العربي والترجمة الإسبانية لا بد من ملاحظة بعض العوائق التي تؤدي الى وجود شيئ من النقصان في الترجمة يمكننا تقسيمه الى قسمين:
1- نقصان في المعاني والإشارات: إن المقامات اللزومية مليئة بالإشارات الى جوانب مختلفة من التراث والأدب العربيين، فهناك الكثير والكثير من أسماء الأماكن والأعلام والتلميحات الى أبيات قديمة أو الى قصص من التراث مما يضطر المترجم الى إدخال ملاحظة في أسفل الصفحة وذلك للحيلولة دون عدم الفهم. ومع ذلك ما زالت تبقى هناك إشارات وتلميحات عديدة بدون شرح أو توضيح كافيين فيترتب عليها فقدان قسط من المضمون الكامل.
2- نقصان في الإيقاع وفنون البلاغة: من طبيعة السجع التزام التوازن الصرفي بين الفقرات أو الوحدات الإيقاعية للنثر المسجوع. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تقليد هذا الإيقاع الخاص بالأصل العربي في الترجمة لأن اللغة الإسبانية خلافا للعربية لا يعتمد نظامها الصرفي على قوالب وصيغ متساوية متجانسة من حيث عدد الحروف وترتيبها في الكلمة. وشأن الترجمة في ذلك شأنها فيما يتعلق بفنون البلاغة من المجاز والاستعارة والكتابة والجناس والى غير ذلك. إن معظم جماليات الأصل العربي وليس البعض منها فقط غير منعكسة في الترجمة الإسبانية. والنتيجة من كل ذلك أن قارئ الترجمة لا يلقى إلا قسطا قليلا من عنصر هام في فن المقامة العربية وهو النمط اللغوي الذي تعتمد عليه المقامة[18].
وبعد تحديد العوائق والعراقيل التي تواجهها ترجمة المقامات الى لغة أخرى لا بد أن ننظر الى النتيجة المتحصل عليها وأن نقرر صلاحياتها وإفادتها. إن عملية الترجمة ليست في واقع الأمر إلا محاولة نقل مجموعة من الألفاظ من لغة الى لغة أخرى، ولا يعني ذلك مجرد محاكاة الأصل. فالغرض الأخير هو أن تثير الترجمة في نفس القارئ انطباعا شبيها بالانطباع المثار عند قارئ النص الأصلي، وهذا ما ترمي اليه كل ترجمة. وللوصول على مثل هذا الغرض هناك وسائل شتى لكل واحدة منها إيجابياتها وسلبياتها. المهم أن الطريق قد قطع أو بالأحرى قطع طريق من الطرق المتوفرة امام المترجمين، والنتيجة أن المقامات اللزومية يمكن من الآن فصاعدا الاطلاع عليها من خلال ترجمة إسبانية قد تقرب قرّاء الإسبانية من جوهر من جواهر الأدب العربي.
إن كوني صاحب الترجمة المذكورة يمنعني من تقدير نقدي لها. القراء والدارسون لهم الكلمة الآن. لكني أريد أن أشير في هذا الصدد الى أن مجلة تهتم بالدراسات العربية في إسبانيا أصدرت في عددها الأخير (سنة 2001)[19] مقالة نقدية طويلة حول ترجمتي للمقامات اللزومية. وصاحب المقالة النقدية كما كان متوقعا هو الأستاذ مونرو المذكور الذي يعتبر ترجمة المقامات اللزومية الى اللغة الإسبانية خطوة ذات أهمية بالغة نحو معرفة الأدب الأندلسي في أواسط الغرب. أما الرأي المعبر عنه في هذه المقالة فيما يخص قيمة الترجمة فهو إيجابي بالرغم من بعض الملاحظات حول ترجمة بعض الفقرات أو بعض الجمل التي يختلف فيها رأي الدكتور مونرو عن رأي صاحب الترجمة. وفي مجلة الأدب العربي[20] المنشورة ما بين هولندا والولايات المتحدة صدرت مقالة نقدية أخرى للباحث الأمريكي د. يونغ في خصوص ترجمة المقامات اللزومية عبر فيها عن أهمية الترجمة ونوعيتها مبررا جودتها العلمية رغم صعوبتها. ويمكن القول على وجه التلخيص إن رد الفعل على ترجمتي للمقامات اللزومية للسرقسطي عند الأوساط المعنية بالأدب الأندلسي والعربي هو إيجابي حتى الآن وإن بقي باب المناقشة مفتوحا على مصراعيها للأخذ والرد.
1 Las sesiones del zaragocí. Relatos picarescos (maqŒmŒt) delsiglo XII. Estudio preliminar, traduccion y notas de Ignacio Ferrando. Zaragoza: Prensas universitarias de Zaragoza, 1999.
[2] بيروت، دار الثقافة, 1981 ، الطبعة السادسة, المجلد الثاني "عصر الطوائف والمرابطين"، ص. 303-304
[3] انظر القائمة الكاملة في الكتاب المذكور لإحسان عباس، ص. 305-307 .
[4] اذكر على سبيل المثال قصة زرياب المغتي والاديب البغدادي الاصل في أيام الامير الحكم وما أتى به الى الاندلس من تبارات ثقافية جديدة نالت إعجاب أهل الاندلس.
[5] انظر قائمة هؤلاء الشيوخ في تحقيق الدكتور بدر أحمد ضيف للمقامات اللزومية، ص. 15- 23 وكذلك معلومات الاستاذ مونرو في:
J. T. Monroe, “Al-Saraqusti, ibn al-Ashtarkuwi: Andalusi Lexicographer, Poet, and Author of al-Maqamat al-Luzumiyya”, Journal of Arabic Literature 28 81997), 1-31.
[6] ص. 31-33.
[7] تحقيق محمد عبد الجواد وإبراهيم الدسوقي الباسطي، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1981.
[8] هكذا يقول حسن عباس في كتابه "فن المقامة في القرن السادس"، الاسكندرية، دار المعارف، 1986 ص. 50-59 ، 250-259 .
[9] هكذا يرى إحسان عباس في كتابه المذكور أعلاه، ص. 318.
[10] هذا ما يقوله محمد الهادي الطرابلسي في مقالة له عنوانها "مدخل الى تحليل المقامات اللزومية للسرقسطي"، في حوليات الجامعة التونسية 28/1988 ص. 133. وهذه المقالة مهمة تبرز فيها أهمية دور الإيقاع والتجانس الصوتي في المقامات اللزومية.
[11] المقامات اللزومية للسرقسطي، الإسكندرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[12] المقامات اللزومية، تأليف أبي الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي (ت 538/1143)، الرباط، منشورات عكاظ. والحق يقال إن الوراكلي كان قد حقق المقامات سنة 1981 وذلك ضمن أطروحة الدكتوراه التي قدمها وناقشها بنجاح في جامعة مدريد الكومبلوتينسي، لكن ذلك العمل بقي غير منشور حتى سنة 1995.
13- I. Ferrando, “La maqama barbariyya de al-Saraqusti”, Anaquel de Estudios Arabes 2 (1991), 119-128.
[14] I. Ferrando, “La maqama de Tarifa de al-Saraqusti”, Al-Qantara 18/1 (1997), 137-151.
[15] I. Ferrando, “Un poema estrafico (musammat) en las Maqamat Luzumiyya de as-Saraqusti”, Estudios de Dialectología Norteafricana y Andalus (EDNA) 1 (1996), 215-229; I. Ferrando, “Dos poemas estraficos (musammat ) en las Maqamat Luzumiyya de as-Saraqusti”, Al-Andalus-Magreb 4 (1998), 135-153.
[16] J.T. Monroe, “Al-Saraqusti, ibn al-Ashtarkuwi: Andalusi Lexicographer, Poet and Author of al-Maqamat al-Luzumiyya”, Journal of Arabic Literature 28 (1997), 1-37.
[17] J.T. Monroe, “Al-Saraqusti ibn al-Ashtarkuwi (part II)”, Journal of Arabic Literature 29 (1998), 31-58.
[18] لا أوافق الرأي المتداول لدى الباحثين الذاهبين الى أن المقامة عرض لقدرات المؤلف اللغوية ومواهبه البلاغية ليس إلا، فلها مضمون مهمّ وتعبير ناقد للمجتمع الذي نشأت فيه.
[19] J.T. Monroe (notas bibliograficas), Al-Qantara 22/1 (2001), 211-225.
[20] D. Young (review article), Journal of Arabic Literature 32/1 (2001), 74-83.
د. إكناثيو فيراندو
(جامعة قادس، إسبانيا)
من المعلوم أن مقامات الحريري وصلت الى أرض الاندلس في وقت مبكر، أي بعيد تأليفها، بفضل عدد من الاندلسيين الذي أتيحت لهم فرصة سماعها وتلقيها من الحريري نفسه أو من تلميذ من تلاميذه أثناء رحلاتهم الى المشرق، ومن هؤلاء، طبقا لما ذكر إحسان عباس في كتابه " تاريخ الادب الاندلسي"[2]، أحمد بن محمد بن خلف الشاطبي والحسن بن علي بن الحسن البطليوسي وأبو الحجاج القضاعي. فأقبل أدباء الاندلس على دراسة هذه المقامات وشرحها بشغف, ولا بد في هذا الصدد من الاشارة الى أبي العباس أحمد الشريشي صاحب الشرح المعروف لمقامات الحريري. وليس هذا فحسب, فقد كثر في الاندلس عدد المؤلفين الذين كتبوا على منوال الحريري أي مقلدين أسلوبه الرفيع تقليدا صريحا. إن قائمة هؤلاء المقلدين طويلة جدا لا مجال هنا لإدراجها[3] مع ملاحظة أن السرقسطي هو المؤلف الوحيد من بينهم الذي حذا حذو الحريري في كل تفاصيل فنه، فقد ألف على غراره خمسين مقامة تنص على قصة الشحاذة والحيلة، بطلاها شخصان خياليان هما الراوي والمكدي. أما الآخرون فلم يميزوا على وجه العموم فن المقامة الاصلي عن فن الرسالة إذ استعملوا قوالب المقامة الشكلية دون مميزاتها القصصية من أبطال وأحداث وذلك لأغراض شتى بعيدة كل البعد عن أغراض المقامة الأصلية.
وقبل أن نتكلم عن السرقسطي وعن مقاماته اللزومية ينبغي أن نحدد سبب هذا الحرص على فن المقامة لدى أهل الأندلس من سماع وشرح ومعارضة. يقال عادة في هذا الصدد: إنه لا غرو في ذلك الحرص المذكور إذ لا يخفى أن ثقافة الأندلس بشتى جوانبها بنيت على غرار ثقافة المشرق التي هي بمثابة المنبع الذي نهل منه كتاب الأندلس عبر تاريخه الممتد ابتداء من عهد الإمارة[4]. فما من فن أدبي جديد ظهر في المشرق إلا وأقبل عليه مثقفو الاندلس دراسة ومعارضة. وبطبيعة الحال ليست المقامة باسنثناء عن هذه القاعدة المطردة.
من هو السرقسطي هذا؟ هو أبو الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي جمال الدين المازني السرقسطي الأندلسي (ابن) الأشتركويي. إنه من مواليد الثغر الاعلى الأندلسي. ولعل مسقط رأسه مدينة سرقسطة بعينها أو قرية تبعد عنها نحو سبعين كيلومترا اسمها اشتركوي نظرا الى تلك النسبة الأخرى له وهي الأشتركويي. أما أوائل حياته فتسكت المراجع عنه والأرجح أنه قضى سنواته الأولى في سرقسطة التي كانت وقتذاك مركزا من مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس. كان السرقسطي ممن يطلبون العلم ويدرسون فنونه المختلفة من فلسفة وحديث وقرآن ولغة ونحو وشعر على أيدي عدة شيوخ[5]. تذكر المصادر التي ترجمت له أنه جاب الأندلس طالبا للعلم وزار عدة مدن أندلسية منها بلنسية وشاطبة ومرسية وغرناطة الى أن استقر في مدينة قرطبة حيث توفي سنة 538/1143 من زمانة طاولته ثلاثة أعوام. والغريب في الأمر أنه على ما يبدو لم يقم برحلة الى المشرق لتكميل دراسته والسماع من كبار العلماء هناك كما اعتاد علماء الأندلس أن يفعلوا، لا سيما من نهل منهم من ينابيع المشرق بشغف كما هو حال السرقسطي نفسه. وخلاصة القول: إن كاتبنا حصل قدرا كبيرا متنوعا من العلوم لكننا لا نكاد نعرف شيئا عن حياته وعن المناصب التي تولاها أو الأفكار ألتي مالت اليها. إنما يمكننا القول بأن قراءة مقاماته وأشعاره تدل على موقف نفساني يغلب عليه التشاؤم حيال الأحداث الكبرى التي شاهدها السرقسطي كسقوط الطوائف وظهور دولة المرابطين وأخيرا تقدم الفتح النصراني الذي استولى على مسقط رأسه سرقسطة سنة 512/1118. ولعل في ذلك سببا من أسباب تنقله في بقاع الأندلس المختلفة.
وقبل أن نتناول موضوع المقامات اللزومية يجدر بنا أن نذكر أن السرقسطي كان شاعرا، فبالإضافة الى الأشعار الكثيرة الموجودة داخل المقامات حافظت المراجع وكتب التراجم على قطع متفرقة من قصائده. هذه الأبيات القليلة جمعها الأستاذ مونرو وترجمها الى اللغة الانجليزية في المقالة المذكورة أعلاه[6]. ويقول مونرو عند تحليله لهذه الأبيات إنها تثبت أن السرقسطي كان شاعرا بارعا متميزا على خلاف ما توحي به قراءة الأبيات الموجودة داخل المقامات من تكرار الأفكار وانعدام الحس الشعري الأصيل. هذا وللسرقسطي كتاب آخر وصلنا في مجال اللغة عنوانه "كتاب المسلسل في غريب لغة العرب"[7].
أما المقامات التي تدور حولها هذه السطور فهي كما سبق لي أن ذكرت منسوجة على منوال مقامات الحريري سواء في الأسلوب الرفيع المتصنع نوعا ما أم في مضمون الحكاية. لكنها ليست قالبا جميلا بدون أي مضمون كما ادعى بعض الباحثين في الماضي وما يزالون في الوقت الحاضر. وإذا أردنا إبراز الملامح الخاصة التي تميز المقامات اللزومية عن نظيراتها الحريرية فلا بد من الإشارة الى أمور ثلاثة:
1. عدد المقامات: يوجد في تحقيق الدكتور بدر أحمد ضيف خمسون مقامة في حين أن تحقيق الدكتور الوراكلي يربو فيه العدد على الخمسين فيصبح تسعا وخمسين مقامة. إن وجود هذه المقامات التسع الزائدة التي نشرها الوراكلي في ملحق يرجع الى خلافات في المخطوطات. فبالرغم من أن كل مخطوطة فيها خمسون مقامة لا غير، فإن بعضها يحتوي على مقامات غير موجودة في المخطوطات الأخرى، وبالعكس، مما جعل عدد المقامات لا يزيد على كل حال عن الخمسين مقامة. وقد شك الباحثون في صحة هذه المقامات التسع اعتقادا منهم أنها ليست للسرقرطي بعينه بل لأحد من تلاميذه[8].
2. يضاف في بعض المقامات شخص ثالث الى الشخصين المألوفين في المقامات من راو ومكدﱟ. هذه الشخصية الثالثة واسمها المنذر بن حمام تقوم بدور الراوي دون أي مشاركة في أحداث القصة. أما الراوي فاسمه السائب بن تمام ويدعى المكدي أبا حبيب السدوسي.
3. كما هو واضح من اسم الكتاب، التزم السرقسطي بلزوم ما لا يلزم على ما سنّه سابقا أبو العلاء المعري في لزومياته. وهذه طريقة خاصة تبنى فيها القافية على لزوم حرف زائد على الأقل قبل حرف الروي. وبالرغم من هذا التكلف وتلك المقتضيات الشكلية فإن سجع المقامات اللزومية "سهل سائغ لا يحس قارئه فيه تعسفا أو مغالاة "[9]. زيادة على ذلك " قلما عثرنا على أثر التكرار فيهما (أي اللفظين المترادفين)... والألفاظ... لم يأت كثير منها زائدا على الحاجة"[10].
ونظرا الى ما أورده النقاد القدامى وأثبته المعاصرون كانت المقامات اللزومية معروفة منتشرة في دار الإسلام، ولعل ما يدل على شهرتها وسمعتها وجود عدد من المخطوطات لا يقل عن عشر مخطوطات حوفظ عليها في أماكن مختلفة من العالم (إيطاليا وألمانيا وفرنسا وتركيا والمغرب). وقد أشار الى السرقسطي ومقاماته عدد لا بأس به من مؤلفي كتب التراجم من أمثال ابن بسام وابن بشكوال والضبي وابن سعيد وابن الأبار وغيرهم كثير، مع ملاحظة أن هذه الكتب المذكورة لم تزودنا إلا بالنزر اليسير عن السرقسطي وحياته رغم التقدير الكبير والمكانة المرموقة التي احتلها بين العلماء العرب ما يجعل ذلك مثار تساؤل. أما في عصرنا الحالي فمن الجدير بالذكر أن اسم السرقسطي أصبح شائعا في الدراسات الأدبية المتعلقة بالنثر الفني العربي، ولكن بدون أن يعرف عنه الكثير وبدون أي تحقيق للمقامات اللزومية التي بقيت شبه مجهولة بين ثتايا المخطوطات حتى سنة 1982 عندما قام الدكتور بدر أحمد ضيف مشكورا بإصدار تحقيق كامل لها[11]، وقد أشرنا اليه آنفا. وفضلا عن هذا العمل القيم وعمل الدكتور حسن الوراكلي الذي نشر تحقيقا آخر لها سنة 1995[12] بدأ العلماء سواء من العرب أم من غيرهم يدركون قيمة هذه المقامات وأهميتها الأدبية من خلال قراءة أصولها وليس من خلال تداول الأقوال المتكررة من مؤلف الى مؤلف آخر فحسب.
ومن جملة ما كتب في الأوساط العلمية العربية عن المقامات اللزومية كتاب حسن عباس المذكور أعلاه الذي نجد فيه عدة صفحات مخصصة للمقامات اللزومية فيها دراسة دقيقة معتمدة على تحقيق بدر أحمد ضيف. وكذلك صدرت المقالة المهمة السابقة الذكر بقلم محمد الهادي الطرابلسي وفيها نجد بعد التقديم المعهود للمؤلف ولفن المقامة دراسة عميقة لعناصر الإيقاع قي المقامات مع مقارنة إحصائية بمقامات الهمذاني والحريري فيما يخص عدد المقاطع الطويلة في فقراتها. والنتيجة التي يصل اليها صاحب تلك المقالة أن المقامات اللزومية أقوى إيقاعا وأكثر مرونة من مقامات الهمذاني وأنها تساوي مقامات الحريري من هذه الجهة.
أما في الغرب فقد شهدت الأوساط العلمية اهتماما متزايدا بالمقامات اللزومية ونشر عدد من البحوث الدائرة حولها. فقد قمت شخصيا بكتابة بعض المقالات عنها ابتداء من سنة 1991. وضمن هذه المقالات ترجمة إسبانية كاملة لكل من المقامت البربرية وهي السادسة والأربعون في تحقيق بدر أحمد ضيف والحادية والأربعون في تحقيق حسن الوراكلي[13] والمقامة الطريفية وهي الثامنة والأربعون في تحقيق بدر أجمد ضيف والثالثة والأربعون في تحقيق حسن الوراكلي[14]. ولي أيضا دراستان حول أشعار له مكتوبة على صيغة المسمط في بعض المقامات[15]. أما الأستاذ الأمريكي المعروف جيمس مونرو، فقد كتب مقالين مهمين قدم في أولهما دراسة وافية دقيقة لحياة السرقسطي ومؤلفاته بالإضافة الى ترجمة إنجليزية للمقامة البربرية[16] في حين أنه ترجم في ثانيهما ثلاث مقامات وهي التاسعة عشرة، والعشرون أي الخمرية، والثامنة والعشرون في تحقيق الوراكلي وهي غير موجودة في تحقيق ضيف[17]. كل هذه البحوث والجهود تأتي تمهيدا لعمل آخر وهو ترجمة كاملة للمقامات اللزومية الى لغة ثانية تيسر قراءتها لغير مجيدي لغة الضاد. وهذا المشروع القيم المفيد انكب عليه منذ سنين كل من الباحثين المذكورين: مونرو وأنا نفسي. وفي أواسط سنة 1999 صدرت أخيرا الترجمة الإسبانية الكاملة التي قمت بها خلال السنوات الأخيرة. أما ترجمة مونرو الى الإنجليزية فيبدو أنها على وشك الصدور إن لم تكن قد صدرت في الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور.
ومما لا شك فيه أن هناك أسئلة تطرح تفسها بإلحاح عند مجرد الحديث عن إمكانية ترجمة المقامات اللزومية الى لغة أخرى: هل الترجمة مفيدة ؟ هل هي صعبة الى حد يجعلها غير وافية بالنص الأصلي ؟ وهل يمكن للمترجم تزويد القارئ بكل مدلولات الأصل العربي بكل تفاصيله وإشاراته وجمالياته ؟ لنذكر أن بعض الدارسين عبروا عن شكوكهم حيال جدوى مشروع ترجمة مثل هذه المؤلفات. سأحاول في السطور التالية الإجابة على جميع هذه الأسئلة قدر المستطاع. أولا فيما يخص إفادة الترجمة، لا يمكن أن يكون الجواب إلا بالإيجاب أو بالأحرى "طبعا، هذه ترجمة مفيدة لأنها تسمح لقرّاء لغة أخرى أن يطلعوا على كتاب رفيع يعتبر من أعظم ما ألف في مجال النثر الفني العربي في الأندلس وفي سائر دار الإسلام. ولولا هذه الجهود المبذولة في مشروع الترجمة لبقيت المقامات اللزومية شبه مجهولة لمعظم دارسي الغرب المهتمين بالأدب الأندلسي. فمما لا يخفى أن النص العربي للمقامات لا يقدر على قراءته وفهمه سوى أقلية نادرة من هؤلاء الباحثين الغربيين، ويرجع ذلك الى ما يحتوي عليه النص من غرائب وتهكم وإشارات مبهمة وعبارات غير مألوفة قديمة أو مجهورة.
أما اختيار اللغة الإسبانية للترجمة فهو اختيار طبيعي ومبرر لكون المترجم إسباني اللغة ولكون إسبانيا مركزا من الدراسات المتعلقة بالتراث الأندلسي في أيامنا هذه وإن كانت اللغة الإسبانية أقل انتشارا في الأوساط العلمية من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار المطاقبة المطلوبة ما بين الأصل العربي والترجمة الإسبانية لا بد من ملاحظة بعض العوائق التي تؤدي الى وجود شيئ من النقصان في الترجمة يمكننا تقسيمه الى قسمين:
1- نقصان في المعاني والإشارات: إن المقامات اللزومية مليئة بالإشارات الى جوانب مختلفة من التراث والأدب العربيين، فهناك الكثير والكثير من أسماء الأماكن والأعلام والتلميحات الى أبيات قديمة أو الى قصص من التراث مما يضطر المترجم الى إدخال ملاحظة في أسفل الصفحة وذلك للحيلولة دون عدم الفهم. ومع ذلك ما زالت تبقى هناك إشارات وتلميحات عديدة بدون شرح أو توضيح كافيين فيترتب عليها فقدان قسط من المضمون الكامل.
2- نقصان في الإيقاع وفنون البلاغة: من طبيعة السجع التزام التوازن الصرفي بين الفقرات أو الوحدات الإيقاعية للنثر المسجوع. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تقليد هذا الإيقاع الخاص بالأصل العربي في الترجمة لأن اللغة الإسبانية خلافا للعربية لا يعتمد نظامها الصرفي على قوالب وصيغ متساوية متجانسة من حيث عدد الحروف وترتيبها في الكلمة. وشأن الترجمة في ذلك شأنها فيما يتعلق بفنون البلاغة من المجاز والاستعارة والكتابة والجناس والى غير ذلك. إن معظم جماليات الأصل العربي وليس البعض منها فقط غير منعكسة في الترجمة الإسبانية. والنتيجة من كل ذلك أن قارئ الترجمة لا يلقى إلا قسطا قليلا من عنصر هام في فن المقامة العربية وهو النمط اللغوي الذي تعتمد عليه المقامة[18].
وبعد تحديد العوائق والعراقيل التي تواجهها ترجمة المقامات الى لغة أخرى لا بد أن ننظر الى النتيجة المتحصل عليها وأن نقرر صلاحياتها وإفادتها. إن عملية الترجمة ليست في واقع الأمر إلا محاولة نقل مجموعة من الألفاظ من لغة الى لغة أخرى، ولا يعني ذلك مجرد محاكاة الأصل. فالغرض الأخير هو أن تثير الترجمة في نفس القارئ انطباعا شبيها بالانطباع المثار عند قارئ النص الأصلي، وهذا ما ترمي اليه كل ترجمة. وللوصول على مثل هذا الغرض هناك وسائل شتى لكل واحدة منها إيجابياتها وسلبياتها. المهم أن الطريق قد قطع أو بالأحرى قطع طريق من الطرق المتوفرة امام المترجمين، والنتيجة أن المقامات اللزومية يمكن من الآن فصاعدا الاطلاع عليها من خلال ترجمة إسبانية قد تقرب قرّاء الإسبانية من جوهر من جواهر الأدب العربي.
إن كوني صاحب الترجمة المذكورة يمنعني من تقدير نقدي لها. القراء والدارسون لهم الكلمة الآن. لكني أريد أن أشير في هذا الصدد الى أن مجلة تهتم بالدراسات العربية في إسبانيا أصدرت في عددها الأخير (سنة 2001)[19] مقالة نقدية طويلة حول ترجمتي للمقامات اللزومية. وصاحب المقالة النقدية كما كان متوقعا هو الأستاذ مونرو المذكور الذي يعتبر ترجمة المقامات اللزومية الى اللغة الإسبانية خطوة ذات أهمية بالغة نحو معرفة الأدب الأندلسي في أواسط الغرب. أما الرأي المعبر عنه في هذه المقالة فيما يخص قيمة الترجمة فهو إيجابي بالرغم من بعض الملاحظات حول ترجمة بعض الفقرات أو بعض الجمل التي يختلف فيها رأي الدكتور مونرو عن رأي صاحب الترجمة. وفي مجلة الأدب العربي[20] المنشورة ما بين هولندا والولايات المتحدة صدرت مقالة نقدية أخرى للباحث الأمريكي د. يونغ في خصوص ترجمة المقامات اللزومية عبر فيها عن أهمية الترجمة ونوعيتها مبررا جودتها العلمية رغم صعوبتها. ويمكن القول على وجه التلخيص إن رد الفعل على ترجمتي للمقامات اللزومية للسرقسطي عند الأوساط المعنية بالأدب الأندلسي والعربي هو إيجابي حتى الآن وإن بقي باب المناقشة مفتوحا على مصراعيها للأخذ والرد.
1 Las sesiones del zaragocí. Relatos picarescos (maqŒmŒt) delsiglo XII. Estudio preliminar, traduccion y notas de Ignacio Ferrando. Zaragoza: Prensas universitarias de Zaragoza, 1999.
[2] بيروت، دار الثقافة, 1981 ، الطبعة السادسة, المجلد الثاني "عصر الطوائف والمرابطين"، ص. 303-304
[3] انظر القائمة الكاملة في الكتاب المذكور لإحسان عباس، ص. 305-307 .
[4] اذكر على سبيل المثال قصة زرياب المغتي والاديب البغدادي الاصل في أيام الامير الحكم وما أتى به الى الاندلس من تبارات ثقافية جديدة نالت إعجاب أهل الاندلس.
[5] انظر قائمة هؤلاء الشيوخ في تحقيق الدكتور بدر أحمد ضيف للمقامات اللزومية، ص. 15- 23 وكذلك معلومات الاستاذ مونرو في:
J. T. Monroe, “Al-Saraqusti, ibn al-Ashtarkuwi: Andalusi Lexicographer, Poet, and Author of al-Maqamat al-Luzumiyya”, Journal of Arabic Literature 28 81997), 1-31.
[6] ص. 31-33.
[7] تحقيق محمد عبد الجواد وإبراهيم الدسوقي الباسطي، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1981.
[8] هكذا يقول حسن عباس في كتابه "فن المقامة في القرن السادس"، الاسكندرية، دار المعارف، 1986 ص. 50-59 ، 250-259 .
[9] هكذا يرى إحسان عباس في كتابه المذكور أعلاه، ص. 318.
[10] هذا ما يقوله محمد الهادي الطرابلسي في مقالة له عنوانها "مدخل الى تحليل المقامات اللزومية للسرقسطي"، في حوليات الجامعة التونسية 28/1988 ص. 133. وهذه المقالة مهمة تبرز فيها أهمية دور الإيقاع والتجانس الصوتي في المقامات اللزومية.
[11] المقامات اللزومية للسرقسطي، الإسكندرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[12] المقامات اللزومية، تأليف أبي الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي (ت 538/1143)، الرباط، منشورات عكاظ. والحق يقال إن الوراكلي كان قد حقق المقامات سنة 1981 وذلك ضمن أطروحة الدكتوراه التي قدمها وناقشها بنجاح في جامعة مدريد الكومبلوتينسي، لكن ذلك العمل بقي غير منشور حتى سنة 1995.
13- I. Ferrando, “La maqama barbariyya de al-Saraqusti”, Anaquel de Estudios Arabes 2 (1991), 119-128.
[14] I. Ferrando, “La maqama de Tarifa de al-Saraqusti”, Al-Qantara 18/1 (1997), 137-151.
[15] I. Ferrando, “Un poema estrafico (musammat) en las Maqamat Luzumiyya de as-Saraqusti”, Estudios de Dialectología Norteafricana y Andalus (EDNA) 1 (1996), 215-229; I. Ferrando, “Dos poemas estraficos (musammat ) en las Maqamat Luzumiyya de as-Saraqusti”, Al-Andalus-Magreb 4 (1998), 135-153.
[16] J.T. Monroe, “Al-Saraqusti, ibn al-Ashtarkuwi: Andalusi Lexicographer, Poet and Author of al-Maqamat al-Luzumiyya”, Journal of Arabic Literature 28 (1997), 1-37.
[17] J.T. Monroe, “Al-Saraqusti ibn al-Ashtarkuwi (part II)”, Journal of Arabic Literature 29 (1998), 31-58.
[18] لا أوافق الرأي المتداول لدى الباحثين الذاهبين الى أن المقامة عرض لقدرات المؤلف اللغوية ومواهبه البلاغية ليس إلا، فلها مضمون مهمّ وتعبير ناقد للمجتمع الذي نشأت فيه.
[19] J.T. Monroe (notas bibliograficas), Al-Qantara 22/1 (2001), 211-225.
[20] D. Young (review article), Journal of Arabic Literature 32/1 (2001), 74-83.
د. إكناثيو فيراندو
(جامعة قادس، إسبانيا)