نقوس المهدي
كاتب
تمهيـد
قبل الشروع في الحديث عن البنية الفنية لمقامات ابن رزيق، يجدر بنا أن نُعرفَ به، فابن رزيق هو: حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت، ولد في أواخر القرن الثاني عشر الهجري وتوفي سنة 1291هـ، تمتّع ابن رزيق بمكانة خاصة لاسيما لدى السادة البوسعيديين؛ إذ كانت له ولأفراد أسرته منزلة اجتماعية مميزة لدى البوسعيديين توارثت عبر أجيال الأجداد والآباء (1) . يُعد ابن رزيق من علماء عصره فهو لغوي وعروضي فضلاً عن إلمامه بالتاريخ والأدب (2) ، له مؤلفات عديدة في مجالي التاريخ والأدب منها: الصحيفة اليمنية، والصحيفة القحطانية، وكتاب جوهر الأشعار، وفريد الأفكار، وكذا كتاب سبائك اللجين فضلاً عن كتاب علم الكرامات المنسوب إلى نسق المقامات، وآخر كتبه وأكثرها أهمية وشهرة كتاب الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين. (3)
وتكمن أهمية وشهرة كتاب (الفتح المبين) لابن رزيق، في أن الكتاب في الأصل عبارة عن مخطوط تاريخي ذي قيمة كبرى إذ يُعد مصدراً أساسياً من مصادر تاريخ السادة البوسعيديين، لاسيما في تأريخ الفترة من 1154هـ حتى 1273هـ. والكتاب حقاً يبرز قدرات المؤرخ في شخصية ابن رزيق إذ استطاع أن يؤرخ تاريخ البوسعيديين استناداً إلى ما سمعه وما حفظه من تاريخهم ونسبهم وسيرتهم. (4)
مقامات ابن رزيق
بالاطلاع الدقيق على كتاب الفتح المبين، لاحظنا أن ابن رزيق يقر في أحد المواضع أن له ستين مقامة مجموعـة في كتاب له يُدعى “علم الكرامات المنسـوب إلى نسق المقامات“ (5)، بيد أن محاولتنا للحصول على الكتاب المذكور باتت بالفشل، الأمر الذي يؤكده أيضاً باحث آخر إذ يقر في بحثه أن الكتاب لا أثر له. (6)
ويلزم التنويه أن المقامتين المحتويين في كتاب الفتح المبين ليستا كلتاهما لابن رزيق فالأولى بعنوان المقامة (السونية) هي للشيخ الأديب والشاعر الغشري الخروصي الذي كان ينسج مقاماته – حسب ذكر ابن رزيق – على نسق مقامات الحريري (7)، بينما المقامة الثانية فهي لابن رزيق وهي المقامة (الشاذونية) (8)، ويقر ابن رزيق بأنها أولى مقاماته الستين المجموعة في كتابه المذكور سلفاً.
وقد آثرنا أن تشمل الدراسة المقامتين، لاحتواء كتاب الفتح المبين عليهما ولوجود تشابه كبير بين بنيتهما الفنية – كما سيأتي تفصيلاً – تلك البنية التي تُعد نمطاً متكرراً في كل المقامات سواء أكانت عند ابن رزيق أم عند غيره من كتاب المقامات.
وقبل الشروع في الحديث عن البنية الفنية للمقامتين المذكورتين سلفاً، تجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة للمقامة قد سبقها دراسة أخرى تعد من وجهة نظرنا هامة من حيث كونها مكملة لأفكار كثيرة كان يجب أن نمهد بها الدراسة، بيد أننا آثرنا اختزالها لوجودها تفصيلاً في دراسة أخرى تحت عنوان “قراءة أولى في مقامات البرواني“، إذ حوت الدراسة معظم الأفكار التمهيدية التي تتعلق بالمقامات فمنها تلك التي تتعلق بمعنى كلمة المقامة لفظاً واصطلاحاً، وأهم أسماء مؤلفي المقامات منذ القدم حتى وقتنا الحالي، وأبرز القضايا والإشكاليات التي ارتبطت بفن المقامة، فضلاً عن الأسباب الاجتماعية، والثقافية والدينية التي أدت إلى نشوء هذا الفن، وأيضاً رصد لمحاولات الأقدمين في تصنيف فن المقامة وما ترتب على ذلك من قضايا فضلاً عن الجانـب التطبيقي للدراسة تمثل في نصوص مقامات البرواني. (9)
البنية الفنية
أما البنية الفنية أو الجوانب الفنية لمقامتي الخروصي وابن رزيق. فبالرجوع إلى نسق المقامتين نلاحظ أن هذه البنية تشكلها مجموعة من المفردات تتمثل في الإطلالة التمهيدية التي تتصدر كلتا المقامتان وتتضمن إسناد فعل القول أو حكي المقامات إلى راوٍ بعينه، وعادة ما تبدأ هذه الإطلالة بفعل من الأفعال التي تحوي على معنى الرواية مثل: حكى – قال – حدث – روى.
الأمر الذي نجده في المقامة السونية للخروصي إذ يرد في مطلعها “روى اليافث بن تمام قال: …“ (10)، وأيضاً في المقامة الشاذونية لابن رزيق حيث يأتي “حكى الوارث بن بسام شيخ العتيك عن أبي جواب الضريك، قال: …“. (11)
وبإمعان النظر في طريقة الابتداء أو الحكى في المقامتين نجد أن الخروصي وابن رزيق يلجئان إلى توظيف صيغة الإسناد التي كانت شائعة في الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي بها “يصيـر الملفوظ نصاً أدبيـاً حين يصـدر عن سند معترف به“ (12)، مما ينم عن حرص الخروصي وابن رزيق في إثبات الصدق لأخبار مقامتيهما بردهما إلى راوٍ بعينه هو “اليافث بن تمام“ لدى الخروصي و“الوارث بن بسام“ عند ابن رزيق.
وبالرجوع إلى طبيعة الأفعال الموظفة في النسق الاستهلالي للمقامتين نجدها (روى – حكى – قال)؛ وهي أفعال تنتمي إلى صيغة الماضي وتحمل في طياتها صوت راوٍ ينبعث منها.
والراوي الذي نقصده هنا ليس الراوي المباشر الذي هو “اليافث بن تمام“ أو “الوارث بن بسام“، بل راوٍ آخر، راوٍ ضمني يتوارى خلف الإسناد، بمعنى أن الراويين المذكورين في الإسناد قاما بمخاطبة المؤلف (الخروصي وابن رزيق) وبنقل إليهما أقوال البطل في المقامتين ومغامراته. والدليل على ما نذهب إليه احتواء السند على الفعل (قال)، إذ يرد: “روى اليافث بن تمام قال: …“ و“حكى الوارث بن بسام… عن أبي جواب، قال:…“. ومن الفعل الماضي (قال) يتضح “أن الراوي ينسب إليه حق رواية ما قال به راوٍ آخر“ (13) حيث إن (قال) تخلق مقاماً ثالثاً للخطاب، ذلك لأنها تستلزم وجود مخاطَب (بفتح الطاء)، وهذا المخاطب ليس الخروصي أو ابن رزيق فحسب، بل أيضاً القارئ الضمني للمقامات.
والدليل على نذهب إليه أن طبيعة الفعلين (روى وحكى) الموظفان في السند، فضلاً عما ينطوي عليهما من معاني الرواية، فهما أيضاً يتضمنان قصد المتكلم في نقل الخبر إلى السامع، لأن الفعلين (روى وحكى) إن لم يؤكدا على جارحة السمع بشكل مباشر، فعلى أقل تقدير يشيران إليها؛ لأن الحكى والرواية لابد لهما من باث ومستقبل.
فضلاً عن أن توظيف الخروصي للفعل (روى) وابن رزيق للفعل (حكى) وهما فعلان يوحيان بالسماع، مع إثبات فعلىِّ الرواية والحكى بردهما إلى ناطقيهما المباشرين – اللذين هما: اليافث بن تمام والوارث بن بسام – بواسطة الفعل الماضي (قال)، مما يدل على أن الخروصي وابن رزيق ما هما إلا راويان ضمنيان قد سمعا خبر المقامة من ناطقها المباشر، وأن هذا الراوي الضمني يقف موقفاً وسطاً بين الراوي الأصلي؛ اليافث بن تمام والوارث بن بسام والمستقبل أو السامع، كما أن التدقيق في اختيار الفعل (قال) بما فيه من معاني النطق المباشر، وبتحديد اسم الناطق، يعطى السند نوعاً من الثبوت والتأكيد.
الشخصيات
إن الشخصية في النصوص السردية تنقسم إلى: رئيسية أساسية وأخرى ثانوية. و“الشخصية في الحكى هي مجموع ما يقال عنها باللغة بالإضافة إلى ما تفعله وما تقوله“ (14) وفي نصوص المقامات عادة ما تقوم المقامة على شخصيتين أساسيتين هما: شخصية الراوي؛ الذي يقوم برواية أحداث المقامة ومغامرات بطلها، وشخصية البطل، الذي هو في الأغلب الأعم شخص مسن أو شيخ جرب دروب الحياة، وعلى دراية بمعاكسات الزمان والحظ، ومن ثم يتبلور دوره في إفادة الآخرين من جمهور سامعيه، إذ يلقى عليهم تجارب حياته ومعرفته الواسعة، ويجعلهم يستفيدون من سعة ثقافته اللغوية والأدبية والبلاغية.
وبالإضافة إلى ما تتسم به شخصية البطل من دراية ثقافية متنوعة، فهي شخصية تتسم أيضاً بالذكاء الحاد مما يؤهلها للظهور بمظاهر مختلفة، وهيئات متعددة تحتال بها على الناس، الأمر الذي يجعل من هذه الشخصية “شخصية كادية“ تتقمص وتتنكر في شخصيات متنوعة.
وإذا كان ما سبق يمثل الأبعاد المختلفة والأساسية في الشخصية الرئيسية بالنسبة لبطل المقامة، فإننا بالبحث عن هذه الشخصية في مقامة الخروصي وابن رزيق نجد أن الشخصيات الرئيسية تتمثل في شخصية البطل والراوي اللذين يركز عليهما الخروصي وابن رزيق.
*
ففي المقامة السونية للخروصي يتضح من الوصف المظهري للبطل أنه شيخ إذ يرد: “كهل أعرج، متكئ على عصا أعوج” (15) وهذه الشخصية في موضع آخر هي ذاتها حسنة البنية، يوسفية الجمال. (16)
والازدواجية التي تجمع بين الشيء ونقيضه في الوصف المظهري لشخصية البطل تتكرر مع بطل مقامة ابن رزيق فهو شيخ يكنى بأبي جواب الضريك (17) “أعرج المظهر أبرص الثغر، حلته محرقة ولحيته ممزقة، وقد خطت السياط في ظهره أفاءها، ومشقت المسامير المحماة بكفه كافاتها“ (18)، وهو في موضع آخر شيخ زنديق (19)، ذو لحية جميلة وسبقة طويلة (20)، يتعمم بعمامة حمراء وبين يديه كوب من مُدام (21) و“خمسين مزهراً من مزاهر أولاد برهام“ (22) يضرب الطبل ويلهث بالرقص (23)، ليس هذا فحسب، بل يدعـو إلى المجون ويتغزل في جمال المُدام نظماً. (24)
والشيخ يلازمه شخصية بطولية أخرى هي شخصية الغلام التي تماثل الشيخ في التناقض المظهري، فالغلام الورع الذي ينكس “دقنه في صدره“ (25) هو ذاته الذي يتقمص ببـردة صفراء، ويمسك بين يديـه كوب من الخمر وينفخ في الزمر ويرقص. (26)
وبتدقيق النظر في الوصف المظهري الذي يجمع بين الشيء ونقيضه بالنسبة لشخصية البطل في المقامتين، نجد أن هذا التضاد البيّن في وصف الشخصية هو ما يميزها ويجعلها في مركز الاهتمام، ويجذب الأنظار إليها ليس فقط بالنسبة لنا بوصفنا متلقين للمقامتين، بل أيضاً بالنسبة للعناصر الفنية الأخرى في المقامتين، إذ يبدو التركيز على الشخصية البطولية فيهما يطغى على بقية العناصر، كما أن الوصف المظهري لشخصية البطل في المقامتين بكل ما فيه من تناقض واضح، يتسق مع ما تتسم به الشخصية البطولية في المقامتين من حيث المقدرة على التحول والتقمص لشخصيات مختلفة.
أما عن سلوك شخصية البطل في المقامتين فنلاحظ أنه يجمع نفس التناقض الموجود في المظهر الخارجي فبطل المقامة السونية للخروصي. شخص محتال، هو تارة شيخ يتظاهر بالتدين ويدعو الناس بلسانه البليغ وخطبته المؤثرة إلى النبل والقيم والمثل برفض الخيانة والغدر وإعلاء قيمة الوفاء والحق وهو في إقناع الآخرين يستند إلى ما لديه من موهبة الفصاحة ومظهره الرث الذليل وخبرته بالدهر (27)، وهو تارة أخرى زنديق عربيد “معه شادن أقمر، وبيده كأس أنور، وحياله شطرنج ومزهر، وحوله صحائف وصحاف من الأطعمة أصناف، وهو طوراً ينقش العود وطوراً يتناول بنت العنقود ويغرد بتلاحين، ويرقص ولا رقص المجانين“. (28)
والتناقض السلوكي الذي يجمع بين الورع والتدين والانكباب النهم على ملذات الحياة يتكرر مع بطل بن رزيق – أيضاً – في مقامته الشاذونية إذ يرد أبو جواب الضريك طوراً ورع تقي يخطب بالمسجد ويحث الناس بلسانه الفصيح والبليغ إلى الإيمان بالله وبوحدانيته وبقدرته …، ويذكرهم بالحساب في الآخرة وما لهم من دور في الدنيا بالدرهم والمال.. وغير ذلك من المثل العُليا، والابتعاد عن سوء الأعمال والحث على الخير والصلاح. (29) وابن ضريك الذي يقول عن ذاته بأن الله قد أغناه عن أموال الناس وطهره من “الدسائس والأدناس وأعطاه من كنوز الأسرار ما يزهي بها حرم الدراهم والدينار“ (30) هو ذاته اللص في موضع آخر، الذي يحتال على جماعة المسلمين في المسجد ويستولي على عمائمهم قانعاً إياهم بأن كل عمامة ستعود إلى صاحبها فجر اليوم التالي وهي تجود بالخير والبركة “من الذهب ألف مثقال“ (31) وهو أيضاً الشيخ المجون والزنديق في موضوع آخر يشرب الخمر ويرقص ويضرب على الطبل ليس هذا فحسب، بل ويحث الراوي “الوارث بن بسام“ نثراً ونظماً على الإقبال على الملذات الحسية وعلى نسيان مطلبه بعمائم الجماعة. فضلاً عن رفض ابن ضريك لنصح الراوي في الاستقامة، ومطالبته بأن يرد إليه عمائم أهل المسجد ببصري معللاً ذلك بأنه لا يصغي للومة لائم. (32)
والنسق السلوكي المتناقص في البطل يتكرر أيضاً مع شخصية الغلام فهو “حليم“ وصورة مصغرة من الشيخ في التظاهر بالتدين وإقناع الناس بشتى سبل الاحتيال، وهو أيضاً صورة أخرى من الشيخ في العربدة والمجون. (33)
وبالانتقال إلى الجانب الفكري في شخصية البطل لدى مقامة الخروصي وابن رزيق سنجد البطل يتسم بدراية ثقافية متنوعة، فضلاً عن الذكاء الحاد مما يؤهله إلى الظهور بمظاهر مختلفة، وهيئات متعددة يحتال بها على الناس، الأمر الذي يجعل من هذه الشخصية “شخصية كادية“ لها قدرة عجيبة على التمثيل.
وعليه فلا غرو أن يكون بطل الخروصي يكتسى “حلة الزهادة، … عليه سيماء العبادة“، فهو “أعرج مستغيث، قد غادره الدهر دون لقاء، بعد التمكين والارتقاء“ وهو دوماً “يحمدل شكراً ويشيد للجماعة ذكراً“ ومن الطبيعي بهيئته هذه أن يحتوي على “الأحمق واللبيب وأهل العرف والمعرفات“، وأن ترث “الجماعة لذلته بعد عزته“، وأن يحبوه لبلاغته ولسانه “الأسلق“ (34) وهو في كل ذلك له مقدرة فائقة في نظم الكلام نثراً وشعراً (35)، وفي الوقت ذاته هو “إبليس في احتياله على الناس وهو “للمضلين قائد ورئيس” يعشق التقلب في النعمة، ويرى الزمان زمن اللهو اللعب، والهزل والكذب، والخدع والمكر، والنفاق والغدر، زمن يستوي فيه “النبيه والبلية، والجاهل والفقيه، والعاقل والسفيه“ زمن “اللبيب فيه مرحوم، والزنديق فيه مكروم” ومن ثم فلابد من التمكر والتقلب من أجل التبكير بالظفر، (36) بهدف الاحتيال على الآخرين، وعليه فإن البطل أينما كان وبأي هيئة ظهر عليها فهو دوماً موضع جذب للجماعة إذ ينقضون عليه كانقضاض الشهب. (37)
*
وبطل ابن رزيق في المقامة الشاذونية يكاد يطابق في جانبه الفكري بطل الخروصي. فهو الشيخ المسن صحاب الخبرة جرب دروب الزمان والمكان كما يتضح من وصفه لبلدة “سدوم“ إذ يقول: “فما هي إلا دار سياط ورباط، وشخط وأشخاط، ونهب أمـوال، وخيبة آمال” (38)، وهو الشاكي الأليم من ظروف الزمان وتقلباته إذ أتى عليه فأخذ ما كان له من بيت ومال وذهب (39)، ومن الطبيعي أن يستكمل الذكاء الحاد في الإقناع بسبل الفصاحة والبلاغة فكلام أبي جواب الضريك “يلقى السمع له كل كليم“ (40) لأنه ينشر “رايات من العلوم“ ويبلغ “ما لم يبلغه أحد من المنثور والمنظوم“ (41) ومن ثم “كلامه للأناف ينصاغ كالعنبر“ (42)، وكيف لا يكون ذلك وهو التقي دائماً، فحين يقرأ سـورة من سور الكتـاب يقطع “القراءة بدمع متصل، وشهيق وتأوه غير منفصل“ (43)، بيد أنه المقتنع فكرياً بأن الخمر والطبل والزمر والرقص يجمع اللذات ويفرق الهموم. (44)
ومن الجانب الفكري في شخصية البطل إلى جانبها النفسي، نجد البطل في المقامتين شخصية يتسم جانبها النفسي بالإيمان بالله وبالغيب والدين الإسلامي كما يتضح من مواعظها الدينية والتلفظ بآيات القرآن الكريم، ومن ثم يعظ بطل المقامة السونية منبهاً سامعيه قائلاً لهم: “أيها الناس ذهب الوفاء وغاص، وتفجر الغدر وفاض، وضرس الدهر بأنيابه على الكرام فعض… وتوقدت نار الباطل فشبت، وتقاعست فئة الحق فما شبت” (45) وهكذا تستمر بقية الخطبة داعية إلى ضرورة التمسك بالدين والفضيلة.
وعلى نفس المنوال يسير بطل المقامة الشاذونية إذ يفتتح خطبته بالجامع قائلاً: “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله العلام، موطن الأعلام، هـو الأحد الصمت، لا والد له ولا ولد، …، (يا) أهل الورع سدِّدوا الأعمال للمآل، …، أعطوا العلماء الدرر والدرهم، والصاهل الأحمر والأدهم، ما لكم وللمال، آمالكم للإهمال وسوء العمال والأعمال…”. (46)
وبالنظرة الشمولية لشخصية البطل في المقامتين بكل ما فيها من تناقض خلقي (مظهري) وسلوكي وفكري ونفسي، نجد أن البطل يمثل نمطاً أو نموذجاً أصلياً لنمط البطولة الشعبية، لا من حيث المقدرة على الحضور والبروز أو المقدرة على الاحتيال، بل من حيث التنقل بين أوضاع اجتماعية مختلفة فالبطل تارة واعظ ديني وتارة ثانية لص وتارة ثالثة زنديق…إلخ.
كما أن التناقض في شخصية البطل يجسد صورة الإنسان في عمومها من حيث الميل الداخلي إلى المثالية، بيد أن الواقع ومتطلباته قد يقف حائلاً دون تحقيق هذا النموذج المثالي، ومن ثم حين يفشل البطل في اقتناء تلك المثالية يلجأ إلى الادعاء حتى يلبي رغباته الداخلية، ولذلك فهو مكسور ذليل وفي أشد لحظات الضعف الإنساني ينقلب إلى شخصية (ميكيافيلية) مبدؤها الغاية تبرر الوسيلة؛ فلا مانع أن يلجأ البطل إلى سُبل الخداع والتحايل والتنكر من أجل الوصول إلى الهدف.
هذا فضلاً عن أن سمة التناقض في شخصية البطل والتنقل في الأدوار اجتماعياً يجعلنا إزاء شخصية مركبة من منطلق جمع الشخصية في تركيبها لأكثر من مؤثر، فضلاً عن أنها شخصية متطورة تعي تماماً ما تفعله ومن ثم تتغير نزعاتها وسلوكها حسب الموقف والمؤثرات المحيطة.
ومن شخصية البطل في المقامتين إلى الشخصية الأخرى التي تشاركه البطولة وهي شخصية الراوي، التي نجدها في المقامتين تقوم بالدور البارز للراوي في أغلب المقامات. وهو دور ينحصر في مشاركته للفعل باعتباره شخصية، ومن ثم الراوي يروي ما يعانيه وما يعايشه (47)؛ فضلاً عن هذا أن الراوي يميل في سلوكه إلى الصحبة الجماعية؛ فهو حين يتحرك، يتحرك دائماً في صحبة جماعة من الناس، وهو عين ما نجده في المقامة السونية حين يصف الراوي اليافث بن تمام لحظة اجتماع الناس على الخطيب إذ يقول في بداية المقامة وبعد وصوله إلى أرض الجماعة بعد رحلة طويلة: “فما لبثتُ إلا لمحة ناظر، أو كخطفة طائر حتى رأيتُ الجماعة ينقضون ولا انقضاض الشهب، ويوفضون ولا الوفوض إلى النصب فبادرت مع الزمر، لأعلم ما الخبر، فإذا بنا رحيب…”. (48)
*
وحركة الراوي المرتبطة بحركة الجماعة تتكرر في المقامة الشاذونية كما يتضح من قول الراوي عن لحظة انتشار خبر وصول أبي جواب الضريك إذ يقول: “فنهضت مع من نهض من العتيك نهضة الودواد الوشيك، فلما وطئت بساط الجامع، وتزاحم الناس على الأمر الجامع…”. (49)
إن العبارات السابقة تؤكد سمتي الحركة والتنقل في الجانب السلوكي لشخصية الراوي بدلالة طبيعة الأفعال التي تنطوي على الديناميكية، والمنسوبة إلى (تاء الفاعل) مثل: (بادرتُ، نهضتُ، وطئتُ)، كما أنها تؤكد على التواجد الجماعي، أو الجماهيرية، تلك الجماهيرية التي يتضح منها أن الراويين في المقامتين لا يقومان براوية المقامتين لنا فحسب، ولكن لجمهور آخر تواجد – قبلنا – في النص المقامي، كما أن هذه الجماهيرية – سواء أكانت داخلية في المقامتين تتمثل في كلمات بعينها أو كانت خارجية تتمثل فينا بوصفنا كمتلقين للمقامتين – تؤكد الغاية التعليمية في المقامتين بتوافر العناصر الثلاثة: باث (الراوي)، رسالة (المقامتان)، مستقبل، (هم الداخلة في المقامتين ونحن الخارجة عنهما).
**
وإذا كان نص المقامتين قد توافر فيهما حركة الراوي الجماعية، فإن للراوي حركة فردية أيضاً تتمثل في المقامة السونية في خروج الراوي وتركه للأرض الجدب وترحاله إلى بلدة (سوني) بمنطقة العوابي حيث “جانبها الرحيب والروض الشهيب” (50) ، وفي تتبع الراوي للبطل بهدف معرفة حقيقته إذ يسرد الراوي “فقفوت إثره متوارياً، حتى أمن الرقيب والساعيا، ثم أجفل… فتماديت في السعي إليه، حتى ولجت سرية عليه”. (51)
إن انفصال حركة الراوي عن حركة الجماعة يتوفر أيضاً في المقامة الشاذونية كما يتضح من بداية المقامة إذ ينفصل الراوي عن جماعته في شاذون حيث يقول: “فرحلت عنهم إلى قصري، ثم توجهت إلى بصري” (52) وتمتد هذه الحركة الفردية في موضع آخر من المقامة متمثلة في لوم الجماعة للراوي لعدم إخبارهم باحتيال البطل فيسرد الراوي قائلاً: “فلما كلموني بالكلام، وسقوني إجاج الملام، لبست النعال، واعتقلت الجراب ومضيت في طلبهما (أي البطل والغلام) ونفسي من الاكتئاب كاد يحرق الثياب”. (53)
وبإمعان النظر في الحركتين الجماعية والفردية للراوي في المقامتين نلاحظ أن انسيابهما يأتي بشكل يتسق مع طبيعة السرد، إذ أن الحركة الجماعية تعلن عن تدفق الحدث وتناميه، والحركة الفردية تعلن عن بداية الحدث والاستهلال لوقوعه، كما تتضمن انتهاء الحدث وذلك بتعرف الراوي على البطل ومواجهته بفعلته النكراء ليس هذا فحسب، بل ومحاولته تقويم سلوكه وتصحيحه بالتراجع عن الخطأ والعيب. (54)
إن توافر عنصر التعرف في المقامة السونية والمقامة الشاذونية، يؤكد لنا ما ذهب إليه بعض الدارسين من أن التعرف في المقامات ما هو إلا إحدى العلامات الأساسية في البنية السردية للمقامة. (55) وقد تختلف في طريقة عرضها بحيث تأتي في بداية المقامة أو ترجأ إلى نهاية المقامة لتشكل عنصر المفاجأة أو الدهشة في المقامات. ذلك العنصر الذي تمثل في مشارف النهاية في المقامة السونية، وورد بعبارات تؤكد الدهشة المتجددة النابعة من تعرف (الراوي)، على (البطل) حيـث العبارات في المقامـة تجسد المشهد العربيدي والمجوني للبطل (56) بعد مشهد الزهد والتدين. بينما عنصر التعرف ورد مرتين في المقامة الشاذونية المرة الأولى في بداية المقامة حيث يتعرف الراوي على البطل أبي جواب الضريك بمجرد تجمع الناس حوله لسماع كلامه البليغ إذ يرد على لسان الراوي حاكياً كلام إمام المسجد حين يقول: “أيها الناس، اجثوا على الركب، والزموا زمام الأدب، وتفسحوا عن الشيخ العلامة والغلام، وإياكم وهذر الكلام، فلما سمع الناس المقال، وفعلوا ما قال، أتعلت جيدي للشيخ النحرير، وللغلام الخبير، فإذا الشيخ هو الذي رأيته ببصرى، وشكا ما نهب عليه من الصفراء والبيضاء” (57) . ويأتي التعرف في المرة الثانية على مشارف النهاية حين يخرج الراوي بحثاً عن الشيخ والغلام آملاً أن يأتي بحق الجماعة في عمائمهم المسروقة إذ يرد: “حتى إذا كنت (أي الراوي) بنجد الحديد وسمعت لهما (أي الشيخ والغلام) غناء من بعيد، فلما أشرفت عليهما ونظرت إليهما رأيت أمامهما جملاً…، وعلى ظهره أوقار العمائم كالغمائم، وقد تعمم الشيخ بعمامة حمراء، وتقمص الغلام ببردة صفراء…”. (58)
إن القليل المذكور في المقامتين عن شخصية الراوي، والذي تلخص في مجموعة من السمات السلوكية تمثل في أن الراوي أميل إلى الحركة منه إلى السكون، سواء أكانت هذه الحركة فردية أم جماعية، وهذه الحركة هي عين ما تكشف لنا الجانب الترحالي في شخصية الراوي بكل ما فيها من دلالات تبادل التأثر والتأثير سواء مع البطل أو مع المحيط الجماعي. وهذا الراوي في النهاية يتعلم الكثير من البطل ويندهش من الشخصية لما فيها من جوانب إيجابية كإلمام البطل بفن الخطابة وبلاغة القول ونظم الشعر.
بيد أن الجانب التعليمي يظل يتضح في المقامتين مع سلوك الراوي. لاسيما حين يعاتب ذاته لتقاعسه عن إبلاغ جماعته بحقيقة البطل واحتياله كما يتضح جلياً من المقامة الشاذونية (59) وكذا حين يستهجن الراوي من السلوك الشيطاني؛ المنحرف للبطل متمثلاً في رفضه طلب الراوي في أن يستقيم ويرغب عن المآب إلى الثواب ويحاول أن يجمع بين حسنة وحسناته كما هو الأمر في المقامة السونية (60) ، ذلك الاستهجان الذي يتكرر مع الراوي في المقامة الشاذونية، متمثلاً في رفض الراوي لقول البطل حين ينصحه في شأن العمائم إذ يقول له: “دع البحث وخذ عمامتك، فقد وهبنا لك سلامتك، وإن شئت أن تحظى لمحض الفرح فأشرب شراب الهيم من القدح، …” (61) فيجيب الراوي مستاءاً: “قبّح الله هذا الشيخ الزنديق، وقبّح من كان له رفيق”. (62)
باستثناء شخصية البطل والغلام والراوي لم نجد شخصيات أخرى رئيسية في المقامتين. وبقية الشخصيات لا تكاد ترتقي إلى مستوى الشخصيات الثانوية إذ ليس لها دور بارز في الحدث، ومن ثم فهي شخصيات أقرب ما تكون إلى شخصيات هامشية. فهي في مواضعها من السياق كانت بمثابة عامل أو محرك فحسب بالنسبة للطرف الآخر: مثل شخصية (الجماعة)، أو مجموعات الناس في المقامة السونية الذين ينحصر دورهم في الانجذاب والإعجـاب بكلام البطل، وفي استيائهـم منه حين يعلمـون من الراوي حقيقة أمره (63) . وفي المقامة الشاذونية نفس الأمر يتكرر بالنسبة لشخصية (جماعة المسجد)، وتأتي شخصية (فتى الشيخ) الذي يخبر الراوي ومن معه من جماعة الناس بوصول شيخ فصيح يخطب بالمسجد ومعه غلام، ومن ثم يتم الانتقال المكاني بدفع الراوي والجماعة من مكان مسامرتهم بفضاء (شاذون) إلى بساط المسجد، وفي المسجد تأتي شخصية (إمام المسجد) الذي ينحصر دوره في إسكات الناس ومن ثم بدء البطل في الخطاب والكلام (64) . وعلى مشارف نهاية المقامة تأتي شخصية (مؤذن الجامع) الذي يبلغ الراوي ومن معه بأن الشيخ والغلام قد استوليا على العمائم هربا، مما يترتـب عليه خـروج الراوي وجماعـة المسجد للبحث عنهما. (65)
الحدث والحبكة ولغة السرد
بإمعان النظر في المقامتين نلاحظ أن الحدث لم يكن له أهمية كبرى، إذ يطغى عليه وتنامي الحبكة كثرة توظيف الأساليب البلاغية، التي تأتي على نحو سردي يكشف عن “الغرابة المتعمدة في انتقاء المفردة المستعملة في السرد، وعلى معمارية أسلوبية شديدة التنمق، عالية الأناقة، بديعة النسيج إلى حد يمكن معه تشبيهها بالأصباغ التي يصطنعها الرسام في إنجاز لوحة من لوحاته“. (66)
ومن ثم ورد الحدث غاية في البساطة إذ تلخص في المقامة السونية في ترحال الراوي وانفصاله عن الجماعة، إلى بلده (سوني) ومقابلته لجماعة من الناس انجذبوا إلى ناد رحيب، الذي هو البطل الذي يخطب بينهم ويستميل مشاعرهم نثراً ونظراً، ثم تتبع الراوي للبطل، ومن ثم مفاجأة اكتشافه لحقيقة مجونه. ومحاولة الراوي تقويم سلوك البطل بيد أنه يمتنع عن ذلك فيخبر الراوي جماعته بحقيقة البطل واحتياله لهم بتظاهره بالتدين والورع.
في المقامة الشاذونية وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة، للحدث. نجد لا اختلاف في الخطوط العريضة لحدث المقامة عن الحدث السابق؛ إذ تبدأ المقامة بحدث خروج الراوي وانفصاله عن جماعة بلدة (شاذون) إلى (قصرى وبصري) ومن ثم مقابلته للبطل، الذي يحتال عليه بالتظاهر بالضعف والحاجة، إذ أتى عليه الزمان وأهل بلده (سدوم)، مما يترتب على تحذير البطل للراوي، رجوعه إلى بلدة (عتيك بشاذون) وتحركه مع الجماعة لسماع الشيخ البليغ الذي سيخطب بالجامع، وتذكر البطل لملامح الشيخ حيث إنه الذي قابله (ببصري)، ثم يعقب ذلك خطبة الغلام واحتيالهما (أي الأخير والبطل) على عمائم أهل الجامع وهروبهما. الأمر الذي يترتب عليه خروج الراوي للبحث عنهما ومن ثم اكتشافه لحقيقتهما في الزندقة والمجون، وعجزه عن الظفر بالعمائم المسروقة، وختاماً رجوعه إلى أهل بلدته ومن ثم لعنتهم للشيخ والغلام.
وبإمعان النظر في طبيعة الحدث في المقامتين نلاحظ أن الحدث يسير على نحو تسلسلي إذ يؤدي كل جزء منه إلى الجزء الذي يليه بطريقة مستقيمة (بداية، ووسط، ونهاية) الأمر الذي يجعلنا نقول: أن لغة السرد في المقامتين باعتمادها على الزخرفة والتلاعب اللفظي والأساليب البلاغية والألفاظ الغربية نثراً ونظماً، كانت حائلاً دون تنامي الحدث والحبكة نمواً حقيقياً أو فنياً. ليس هذا فحسب بل أن طبيعة هذه اللغة قد أثرت أيضاً في رسم الشخصيات في المقامتين، إذ بدت الشخصيات ضعيفة الملامح ضئيلة الدور، الأمر الذي أثر أيضاً على عنصر الحوار في المقامة، فظهر بسيطاً بين الراوي والبطل خالياً من أية أبعاد مركبة أو نفسية.
الزمان والمكان
إن الزمان والمكان قاما في نصي المقامة بدور تجريبي، فدورهما ينتهي بانتهاء الحدث. مع ملاحظة أن الزمان في المقامتين كان سكونياً لا يساعد على نشوء الشيء أو تناميه، وكان المكان خلفية صامتة تقع عليها أحداث المقامتين اللتين انطبقا عليهما الغالب في المقامات وهو تسمية المقامة بأسماء البلدان كإشارة للمواضع الجغرافية التي وقعت عليها أحداث المقامة، وعليه ورد اسم المقامة السونية نسبة إلى (سوني) بلدة بالعوابي، والمقامة الشاذونية نسبة إلى (شاذون) بلدة بنخل والعوابي ونخل مناطق معروفة بسلطنة عُمان.
وداخل هذا الفضاء الجغرافي في المقامتين تقع مجموعة من الأماكن المختلفة التي احتوت حركة الراوي وانتقاله مثل: “الدمث والوعور، والصحاري والصخور“ في المقامة السونية، و“سوني“ التي حوت حدث مقابلة الراوي وجماعة الناس للبطل ومن ثم إعجابهم بهم. فحين نقول إن للمكان دور صامت نعني بذلك الترابط التلازمي بين المكان والحدث إذ إذا انتهى الأخير ينتهي دور الأول، وغنى عن البيان أن النصوص السردية الأكثر فناً هي تلك التي يوظف المكان فيها بدور أكثر فعالية وتعقيداً كأن يكون للمكان دور رمزي أو أسطوري أو أن يقوم المكان بدور الشخصية في النص السردي بحيث نستطيع أن نقول: إن المكان يمثل عبقرية داخل النص السردي القصصي.
والأمر ذاته يتكرر مع المقامة الشاذونية سواء فيما يتعلق باسم المقامة “الشاذونية“ شاذون كفضاء جغرافي، أو فيما يتعلق بالحيز؛ المكان داخل هذا الفضاء الجغرافي الشامل.
الخلاصة
وبالنظرة الشاملة إلى مقامة الخروصي ومقامة ابن رزيق نجد أن موضوعيهما ينصبان على النطاق الاجتماعي بهدف رسالة التقويم الخلقي وهو ما يسمى بالمقامة الاجتماعية؛ المتضمنة مجموعة من الأساليب البلاغية والتكلف اللفظي على المستويين: النثري والنظمي. ويتبين لنا أن الخروصي وابن رزيق لم يحيدا عن بنية المقامة الأصلية، من حيث الاستهلال بالسند الذي تضمن راوياً مشاهداً وناقلاً لأحداث البطل وأفعاله، فضلاً عما لهذا النسق السندي من دلالات التوثيق على أدبية النص وفنيته، كما لم يخرج السرد القصصي لنص المقامتين عن البنية الفنية للقصة من حيث احتوائها لعناصر بعينها. تمثلت في عنصر الشخصية الذي انقسم إلى شخصيات رئيسية تمثلت في الراوي والبطل والغلام، وشخصيات هامشية لم يكن لها دور فعال في تطوير الحدث ونموه باستثناء دفعه أو تسليمه إلى الحدث الذي يليه. كما لم يكن للحدث والحبكة نمواً فنياً إذ وردت الأحداث الجزئية بشكل تتابعي أو تسلسلي ينم مسارها عن تطور أفقي؛ (بداية ووسط ونهاية) فوقف التكلف اللفظي في الصياغة حائلاً دون تطور الحدث والحبكة تطوراً فنياً، وكذا عنصري الزمان والمكان لم يقوما سوى بدور تجريبي إذ انتهى دورهما بانتهاء الحدث، ومن ثم بدا الزمان سكونياً لم يساعد على نمو الحبكة وتطورها، كما بدا المكان خلفية صامتة تستقبل الحدث فحسب.
الـهـوامـش
(1) راجع: حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت. الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، تحقيق: عبدالمنعم ومحمد مرسي عبدالله، ط2، وزارة التراث والثقافة، 1404هـ-1984م، ص(ز)، مقدمة المحققان.
(2) راجع: السابق. ص (ل).
(3) عن مؤلفات ابن رزيق راجع: السابق. ص ص (ل-م).
(4) حول ظروف تأليف الكتاب وموضوعاته، ونُسخ مخطوطاته، وأماكن وجودها راجع: السابق. ص ص (ز، م، و).
(5) راجع: السابق. ص186.
(6) راجع: محمد بن عبدالله الحارثي. المقامة في الأدب العُماني، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة السلطان قابوس، مسقط، سلطنة عُمان، ديسمبر 2003م، ص31.
(7) راجع: ابن رزيق الفتح المبين…، مصدر سابق، ص ص 180 – 181.
(8) راجع: السابق. ص186.
(9) حول تفاصيل تلك الأفكار راجع:
آسية البوعلي. قراءة أولى في مقامات البرواني، مجلة نزوى، مجلة فصلية ثقافية، مؤسسة عُمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان، مسقط، سلطنة عُمان، عدد (24) عدد خاص، أكتوبر 2000م، ص ص 49 – 62.
(10) حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت، مصدر سابق، ص182.
(11) السابق. ص186.
(12) عبدالفتّاح كيليطو. المقامات: السرد والأنساق الثقافية؛ ترجمة عبدالكبير الشرقاوي، ط1، المغرب، دار توبقال للنشر، 1993م، ص60.
(13) عبدالله إبراهيم. السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، يوليو 1992م، ص196.
(14) حميد لحميداني. أسلوبية الرواية: مدخل نظري، ط1، الدار البيضاء، شوسبريس، 1989م، ص58.
(15) حميد بن رزيق بن بخيت. مصدر سابق، ص183.
نسبة إلى سيدنا يوسف عليه السلام.
(16) راجع: السابق. ص185.
(17) راجع: السابق. ص186.
(18) السابق. الصفحة نفسها.
(19) راجع: السابق. ص195.
(20) راجع: السابق. ص ص188.
(21) راجع: السابق. ص193.
(22) السابق. ص193.
(23) راجع: السابق. ص ص 193، 194.
(24) راجع: السابق. ص194.
(25) السابق. ص193.
(26) راجع: السابق. الصفحة نفسها.
(27) راجع: السابق. ص183.
(28) السابق. ص184.
(29) راجع: السابق. ص ص 189 – 190.
(30) السابق. ص192.
(31) راجع: السابق. ص192.
(32) راجع: السابق. ص ص 192 – 195.
(33) راجع: السابق. ص ص 190 – 191 ، 193 – 194 – 195.
(34) راجع: السابق. ص183.
(35) راجع: السابق. ص184.
(36) السابق. ص185.
(37) راجع: السابق. ص182.
(38) السابق. ص187.
(39) راجع: السابق. الصفحة نفسها.
(40) السابق. الصفحة نفسها.
(41) راجع: السابق. ص188.
(42) السابق. ص190.
(43) السابق. الصفحة نفسها.
(44) راجع: السابق. ص ص 194 – 195.
لاحظ أن الغلام في جانبه الفكري يطابق أبا ضريك ومن ثمّ لم نرده في المتن منعاً للتكرار.
(45) السابق. ص183.
(46) السابق. ص ص 189 – 190.
(47) راجع: عبدالفتّاح كيليطو. مرجع سابق، ص17.
(48) حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت. مصدر سابق، ص182.
(49) السابق. ص188.
**
منقول
د. آسية بنت ناصر بن سيف البوعلي
آسيا البوعلي
قبل الشروع في الحديث عن البنية الفنية لمقامات ابن رزيق، يجدر بنا أن نُعرفَ به، فابن رزيق هو: حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت، ولد في أواخر القرن الثاني عشر الهجري وتوفي سنة 1291هـ، تمتّع ابن رزيق بمكانة خاصة لاسيما لدى السادة البوسعيديين؛ إذ كانت له ولأفراد أسرته منزلة اجتماعية مميزة لدى البوسعيديين توارثت عبر أجيال الأجداد والآباء (1) . يُعد ابن رزيق من علماء عصره فهو لغوي وعروضي فضلاً عن إلمامه بالتاريخ والأدب (2) ، له مؤلفات عديدة في مجالي التاريخ والأدب منها: الصحيفة اليمنية، والصحيفة القحطانية، وكتاب جوهر الأشعار، وفريد الأفكار، وكذا كتاب سبائك اللجين فضلاً عن كتاب علم الكرامات المنسوب إلى نسق المقامات، وآخر كتبه وأكثرها أهمية وشهرة كتاب الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين. (3)
وتكمن أهمية وشهرة كتاب (الفتح المبين) لابن رزيق، في أن الكتاب في الأصل عبارة عن مخطوط تاريخي ذي قيمة كبرى إذ يُعد مصدراً أساسياً من مصادر تاريخ السادة البوسعيديين، لاسيما في تأريخ الفترة من 1154هـ حتى 1273هـ. والكتاب حقاً يبرز قدرات المؤرخ في شخصية ابن رزيق إذ استطاع أن يؤرخ تاريخ البوسعيديين استناداً إلى ما سمعه وما حفظه من تاريخهم ونسبهم وسيرتهم. (4)
مقامات ابن رزيق
بالاطلاع الدقيق على كتاب الفتح المبين، لاحظنا أن ابن رزيق يقر في أحد المواضع أن له ستين مقامة مجموعـة في كتاب له يُدعى “علم الكرامات المنسـوب إلى نسق المقامات“ (5)، بيد أن محاولتنا للحصول على الكتاب المذكور باتت بالفشل، الأمر الذي يؤكده أيضاً باحث آخر إذ يقر في بحثه أن الكتاب لا أثر له. (6)
ويلزم التنويه أن المقامتين المحتويين في كتاب الفتح المبين ليستا كلتاهما لابن رزيق فالأولى بعنوان المقامة (السونية) هي للشيخ الأديب والشاعر الغشري الخروصي الذي كان ينسج مقاماته – حسب ذكر ابن رزيق – على نسق مقامات الحريري (7)، بينما المقامة الثانية فهي لابن رزيق وهي المقامة (الشاذونية) (8)، ويقر ابن رزيق بأنها أولى مقاماته الستين المجموعة في كتابه المذكور سلفاً.
وقد آثرنا أن تشمل الدراسة المقامتين، لاحتواء كتاب الفتح المبين عليهما ولوجود تشابه كبير بين بنيتهما الفنية – كما سيأتي تفصيلاً – تلك البنية التي تُعد نمطاً متكرراً في كل المقامات سواء أكانت عند ابن رزيق أم عند غيره من كتاب المقامات.
وقبل الشروع في الحديث عن البنية الفنية للمقامتين المذكورتين سلفاً، تجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة للمقامة قد سبقها دراسة أخرى تعد من وجهة نظرنا هامة من حيث كونها مكملة لأفكار كثيرة كان يجب أن نمهد بها الدراسة، بيد أننا آثرنا اختزالها لوجودها تفصيلاً في دراسة أخرى تحت عنوان “قراءة أولى في مقامات البرواني“، إذ حوت الدراسة معظم الأفكار التمهيدية التي تتعلق بالمقامات فمنها تلك التي تتعلق بمعنى كلمة المقامة لفظاً واصطلاحاً، وأهم أسماء مؤلفي المقامات منذ القدم حتى وقتنا الحالي، وأبرز القضايا والإشكاليات التي ارتبطت بفن المقامة، فضلاً عن الأسباب الاجتماعية، والثقافية والدينية التي أدت إلى نشوء هذا الفن، وأيضاً رصد لمحاولات الأقدمين في تصنيف فن المقامة وما ترتب على ذلك من قضايا فضلاً عن الجانـب التطبيقي للدراسة تمثل في نصوص مقامات البرواني. (9)
البنية الفنية
أما البنية الفنية أو الجوانب الفنية لمقامتي الخروصي وابن رزيق. فبالرجوع إلى نسق المقامتين نلاحظ أن هذه البنية تشكلها مجموعة من المفردات تتمثل في الإطلالة التمهيدية التي تتصدر كلتا المقامتان وتتضمن إسناد فعل القول أو حكي المقامات إلى راوٍ بعينه، وعادة ما تبدأ هذه الإطلالة بفعل من الأفعال التي تحوي على معنى الرواية مثل: حكى – قال – حدث – روى.
الأمر الذي نجده في المقامة السونية للخروصي إذ يرد في مطلعها “روى اليافث بن تمام قال: …“ (10)، وأيضاً في المقامة الشاذونية لابن رزيق حيث يأتي “حكى الوارث بن بسام شيخ العتيك عن أبي جواب الضريك، قال: …“. (11)
وبإمعان النظر في طريقة الابتداء أو الحكى في المقامتين نجد أن الخروصي وابن رزيق يلجئان إلى توظيف صيغة الإسناد التي كانت شائعة في الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي بها “يصيـر الملفوظ نصاً أدبيـاً حين يصـدر عن سند معترف به“ (12)، مما ينم عن حرص الخروصي وابن رزيق في إثبات الصدق لأخبار مقامتيهما بردهما إلى راوٍ بعينه هو “اليافث بن تمام“ لدى الخروصي و“الوارث بن بسام“ عند ابن رزيق.
وبالرجوع إلى طبيعة الأفعال الموظفة في النسق الاستهلالي للمقامتين نجدها (روى – حكى – قال)؛ وهي أفعال تنتمي إلى صيغة الماضي وتحمل في طياتها صوت راوٍ ينبعث منها.
والراوي الذي نقصده هنا ليس الراوي المباشر الذي هو “اليافث بن تمام“ أو “الوارث بن بسام“، بل راوٍ آخر، راوٍ ضمني يتوارى خلف الإسناد، بمعنى أن الراويين المذكورين في الإسناد قاما بمخاطبة المؤلف (الخروصي وابن رزيق) وبنقل إليهما أقوال البطل في المقامتين ومغامراته. والدليل على ما نذهب إليه احتواء السند على الفعل (قال)، إذ يرد: “روى اليافث بن تمام قال: …“ و“حكى الوارث بن بسام… عن أبي جواب، قال:…“. ومن الفعل الماضي (قال) يتضح “أن الراوي ينسب إليه حق رواية ما قال به راوٍ آخر“ (13) حيث إن (قال) تخلق مقاماً ثالثاً للخطاب، ذلك لأنها تستلزم وجود مخاطَب (بفتح الطاء)، وهذا المخاطب ليس الخروصي أو ابن رزيق فحسب، بل أيضاً القارئ الضمني للمقامات.
والدليل على نذهب إليه أن طبيعة الفعلين (روى وحكى) الموظفان في السند، فضلاً عما ينطوي عليهما من معاني الرواية، فهما أيضاً يتضمنان قصد المتكلم في نقل الخبر إلى السامع، لأن الفعلين (روى وحكى) إن لم يؤكدا على جارحة السمع بشكل مباشر، فعلى أقل تقدير يشيران إليها؛ لأن الحكى والرواية لابد لهما من باث ومستقبل.
فضلاً عن أن توظيف الخروصي للفعل (روى) وابن رزيق للفعل (حكى) وهما فعلان يوحيان بالسماع، مع إثبات فعلىِّ الرواية والحكى بردهما إلى ناطقيهما المباشرين – اللذين هما: اليافث بن تمام والوارث بن بسام – بواسطة الفعل الماضي (قال)، مما يدل على أن الخروصي وابن رزيق ما هما إلا راويان ضمنيان قد سمعا خبر المقامة من ناطقها المباشر، وأن هذا الراوي الضمني يقف موقفاً وسطاً بين الراوي الأصلي؛ اليافث بن تمام والوارث بن بسام والمستقبل أو السامع، كما أن التدقيق في اختيار الفعل (قال) بما فيه من معاني النطق المباشر، وبتحديد اسم الناطق، يعطى السند نوعاً من الثبوت والتأكيد.
الشخصيات
إن الشخصية في النصوص السردية تنقسم إلى: رئيسية أساسية وأخرى ثانوية. و“الشخصية في الحكى هي مجموع ما يقال عنها باللغة بالإضافة إلى ما تفعله وما تقوله“ (14) وفي نصوص المقامات عادة ما تقوم المقامة على شخصيتين أساسيتين هما: شخصية الراوي؛ الذي يقوم برواية أحداث المقامة ومغامرات بطلها، وشخصية البطل، الذي هو في الأغلب الأعم شخص مسن أو شيخ جرب دروب الحياة، وعلى دراية بمعاكسات الزمان والحظ، ومن ثم يتبلور دوره في إفادة الآخرين من جمهور سامعيه، إذ يلقى عليهم تجارب حياته ومعرفته الواسعة، ويجعلهم يستفيدون من سعة ثقافته اللغوية والأدبية والبلاغية.
وبالإضافة إلى ما تتسم به شخصية البطل من دراية ثقافية متنوعة، فهي شخصية تتسم أيضاً بالذكاء الحاد مما يؤهلها للظهور بمظاهر مختلفة، وهيئات متعددة تحتال بها على الناس، الأمر الذي يجعل من هذه الشخصية “شخصية كادية“ تتقمص وتتنكر في شخصيات متنوعة.
وإذا كان ما سبق يمثل الأبعاد المختلفة والأساسية في الشخصية الرئيسية بالنسبة لبطل المقامة، فإننا بالبحث عن هذه الشخصية في مقامة الخروصي وابن رزيق نجد أن الشخصيات الرئيسية تتمثل في شخصية البطل والراوي اللذين يركز عليهما الخروصي وابن رزيق.
*
ففي المقامة السونية للخروصي يتضح من الوصف المظهري للبطل أنه شيخ إذ يرد: “كهل أعرج، متكئ على عصا أعوج” (15) وهذه الشخصية في موضع آخر هي ذاتها حسنة البنية، يوسفية الجمال. (16)
والازدواجية التي تجمع بين الشيء ونقيضه في الوصف المظهري لشخصية البطل تتكرر مع بطل مقامة ابن رزيق فهو شيخ يكنى بأبي جواب الضريك (17) “أعرج المظهر أبرص الثغر، حلته محرقة ولحيته ممزقة، وقد خطت السياط في ظهره أفاءها، ومشقت المسامير المحماة بكفه كافاتها“ (18)، وهو في موضع آخر شيخ زنديق (19)، ذو لحية جميلة وسبقة طويلة (20)، يتعمم بعمامة حمراء وبين يديه كوب من مُدام (21) و“خمسين مزهراً من مزاهر أولاد برهام“ (22) يضرب الطبل ويلهث بالرقص (23)، ليس هذا فحسب، بل يدعـو إلى المجون ويتغزل في جمال المُدام نظماً. (24)
والشيخ يلازمه شخصية بطولية أخرى هي شخصية الغلام التي تماثل الشيخ في التناقض المظهري، فالغلام الورع الذي ينكس “دقنه في صدره“ (25) هو ذاته الذي يتقمص ببـردة صفراء، ويمسك بين يديـه كوب من الخمر وينفخ في الزمر ويرقص. (26)
وبتدقيق النظر في الوصف المظهري الذي يجمع بين الشيء ونقيضه بالنسبة لشخصية البطل في المقامتين، نجد أن هذا التضاد البيّن في وصف الشخصية هو ما يميزها ويجعلها في مركز الاهتمام، ويجذب الأنظار إليها ليس فقط بالنسبة لنا بوصفنا متلقين للمقامتين، بل أيضاً بالنسبة للعناصر الفنية الأخرى في المقامتين، إذ يبدو التركيز على الشخصية البطولية فيهما يطغى على بقية العناصر، كما أن الوصف المظهري لشخصية البطل في المقامتين بكل ما فيه من تناقض واضح، يتسق مع ما تتسم به الشخصية البطولية في المقامتين من حيث المقدرة على التحول والتقمص لشخصيات مختلفة.
أما عن سلوك شخصية البطل في المقامتين فنلاحظ أنه يجمع نفس التناقض الموجود في المظهر الخارجي فبطل المقامة السونية للخروصي. شخص محتال، هو تارة شيخ يتظاهر بالتدين ويدعو الناس بلسانه البليغ وخطبته المؤثرة إلى النبل والقيم والمثل برفض الخيانة والغدر وإعلاء قيمة الوفاء والحق وهو في إقناع الآخرين يستند إلى ما لديه من موهبة الفصاحة ومظهره الرث الذليل وخبرته بالدهر (27)، وهو تارة أخرى زنديق عربيد “معه شادن أقمر، وبيده كأس أنور، وحياله شطرنج ومزهر، وحوله صحائف وصحاف من الأطعمة أصناف، وهو طوراً ينقش العود وطوراً يتناول بنت العنقود ويغرد بتلاحين، ويرقص ولا رقص المجانين“. (28)
والتناقض السلوكي الذي يجمع بين الورع والتدين والانكباب النهم على ملذات الحياة يتكرر مع بطل بن رزيق – أيضاً – في مقامته الشاذونية إذ يرد أبو جواب الضريك طوراً ورع تقي يخطب بالمسجد ويحث الناس بلسانه الفصيح والبليغ إلى الإيمان بالله وبوحدانيته وبقدرته …، ويذكرهم بالحساب في الآخرة وما لهم من دور في الدنيا بالدرهم والمال.. وغير ذلك من المثل العُليا، والابتعاد عن سوء الأعمال والحث على الخير والصلاح. (29) وابن ضريك الذي يقول عن ذاته بأن الله قد أغناه عن أموال الناس وطهره من “الدسائس والأدناس وأعطاه من كنوز الأسرار ما يزهي بها حرم الدراهم والدينار“ (30) هو ذاته اللص في موضع آخر، الذي يحتال على جماعة المسلمين في المسجد ويستولي على عمائمهم قانعاً إياهم بأن كل عمامة ستعود إلى صاحبها فجر اليوم التالي وهي تجود بالخير والبركة “من الذهب ألف مثقال“ (31) وهو أيضاً الشيخ المجون والزنديق في موضوع آخر يشرب الخمر ويرقص ويضرب على الطبل ليس هذا فحسب، بل ويحث الراوي “الوارث بن بسام“ نثراً ونظماً على الإقبال على الملذات الحسية وعلى نسيان مطلبه بعمائم الجماعة. فضلاً عن رفض ابن ضريك لنصح الراوي في الاستقامة، ومطالبته بأن يرد إليه عمائم أهل المسجد ببصري معللاً ذلك بأنه لا يصغي للومة لائم. (32)
والنسق السلوكي المتناقص في البطل يتكرر أيضاً مع شخصية الغلام فهو “حليم“ وصورة مصغرة من الشيخ في التظاهر بالتدين وإقناع الناس بشتى سبل الاحتيال، وهو أيضاً صورة أخرى من الشيخ في العربدة والمجون. (33)
وبالانتقال إلى الجانب الفكري في شخصية البطل لدى مقامة الخروصي وابن رزيق سنجد البطل يتسم بدراية ثقافية متنوعة، فضلاً عن الذكاء الحاد مما يؤهله إلى الظهور بمظاهر مختلفة، وهيئات متعددة يحتال بها على الناس، الأمر الذي يجعل من هذه الشخصية “شخصية كادية“ لها قدرة عجيبة على التمثيل.
وعليه فلا غرو أن يكون بطل الخروصي يكتسى “حلة الزهادة، … عليه سيماء العبادة“، فهو “أعرج مستغيث، قد غادره الدهر دون لقاء، بعد التمكين والارتقاء“ وهو دوماً “يحمدل شكراً ويشيد للجماعة ذكراً“ ومن الطبيعي بهيئته هذه أن يحتوي على “الأحمق واللبيب وأهل العرف والمعرفات“، وأن ترث “الجماعة لذلته بعد عزته“، وأن يحبوه لبلاغته ولسانه “الأسلق“ (34) وهو في كل ذلك له مقدرة فائقة في نظم الكلام نثراً وشعراً (35)، وفي الوقت ذاته هو “إبليس في احتياله على الناس وهو “للمضلين قائد ورئيس” يعشق التقلب في النعمة، ويرى الزمان زمن اللهو اللعب، والهزل والكذب، والخدع والمكر، والنفاق والغدر، زمن يستوي فيه “النبيه والبلية، والجاهل والفقيه، والعاقل والسفيه“ زمن “اللبيب فيه مرحوم، والزنديق فيه مكروم” ومن ثم فلابد من التمكر والتقلب من أجل التبكير بالظفر، (36) بهدف الاحتيال على الآخرين، وعليه فإن البطل أينما كان وبأي هيئة ظهر عليها فهو دوماً موضع جذب للجماعة إذ ينقضون عليه كانقضاض الشهب. (37)
*
وبطل ابن رزيق في المقامة الشاذونية يكاد يطابق في جانبه الفكري بطل الخروصي. فهو الشيخ المسن صحاب الخبرة جرب دروب الزمان والمكان كما يتضح من وصفه لبلدة “سدوم“ إذ يقول: “فما هي إلا دار سياط ورباط، وشخط وأشخاط، ونهب أمـوال، وخيبة آمال” (38)، وهو الشاكي الأليم من ظروف الزمان وتقلباته إذ أتى عليه فأخذ ما كان له من بيت ومال وذهب (39)، ومن الطبيعي أن يستكمل الذكاء الحاد في الإقناع بسبل الفصاحة والبلاغة فكلام أبي جواب الضريك “يلقى السمع له كل كليم“ (40) لأنه ينشر “رايات من العلوم“ ويبلغ “ما لم يبلغه أحد من المنثور والمنظوم“ (41) ومن ثم “كلامه للأناف ينصاغ كالعنبر“ (42)، وكيف لا يكون ذلك وهو التقي دائماً، فحين يقرأ سـورة من سور الكتـاب يقطع “القراءة بدمع متصل، وشهيق وتأوه غير منفصل“ (43)، بيد أنه المقتنع فكرياً بأن الخمر والطبل والزمر والرقص يجمع اللذات ويفرق الهموم. (44)
ومن الجانب الفكري في شخصية البطل إلى جانبها النفسي، نجد البطل في المقامتين شخصية يتسم جانبها النفسي بالإيمان بالله وبالغيب والدين الإسلامي كما يتضح من مواعظها الدينية والتلفظ بآيات القرآن الكريم، ومن ثم يعظ بطل المقامة السونية منبهاً سامعيه قائلاً لهم: “أيها الناس ذهب الوفاء وغاص، وتفجر الغدر وفاض، وضرس الدهر بأنيابه على الكرام فعض… وتوقدت نار الباطل فشبت، وتقاعست فئة الحق فما شبت” (45) وهكذا تستمر بقية الخطبة داعية إلى ضرورة التمسك بالدين والفضيلة.
وعلى نفس المنوال يسير بطل المقامة الشاذونية إذ يفتتح خطبته بالجامع قائلاً: “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله العلام، موطن الأعلام، هـو الأحد الصمت، لا والد له ولا ولد، …، (يا) أهل الورع سدِّدوا الأعمال للمآل، …، أعطوا العلماء الدرر والدرهم، والصاهل الأحمر والأدهم، ما لكم وللمال، آمالكم للإهمال وسوء العمال والأعمال…”. (46)
وبالنظرة الشمولية لشخصية البطل في المقامتين بكل ما فيها من تناقض خلقي (مظهري) وسلوكي وفكري ونفسي، نجد أن البطل يمثل نمطاً أو نموذجاً أصلياً لنمط البطولة الشعبية، لا من حيث المقدرة على الحضور والبروز أو المقدرة على الاحتيال، بل من حيث التنقل بين أوضاع اجتماعية مختلفة فالبطل تارة واعظ ديني وتارة ثانية لص وتارة ثالثة زنديق…إلخ.
كما أن التناقض في شخصية البطل يجسد صورة الإنسان في عمومها من حيث الميل الداخلي إلى المثالية، بيد أن الواقع ومتطلباته قد يقف حائلاً دون تحقيق هذا النموذج المثالي، ومن ثم حين يفشل البطل في اقتناء تلك المثالية يلجأ إلى الادعاء حتى يلبي رغباته الداخلية، ولذلك فهو مكسور ذليل وفي أشد لحظات الضعف الإنساني ينقلب إلى شخصية (ميكيافيلية) مبدؤها الغاية تبرر الوسيلة؛ فلا مانع أن يلجأ البطل إلى سُبل الخداع والتحايل والتنكر من أجل الوصول إلى الهدف.
هذا فضلاً عن أن سمة التناقض في شخصية البطل والتنقل في الأدوار اجتماعياً يجعلنا إزاء شخصية مركبة من منطلق جمع الشخصية في تركيبها لأكثر من مؤثر، فضلاً عن أنها شخصية متطورة تعي تماماً ما تفعله ومن ثم تتغير نزعاتها وسلوكها حسب الموقف والمؤثرات المحيطة.
ومن شخصية البطل في المقامتين إلى الشخصية الأخرى التي تشاركه البطولة وهي شخصية الراوي، التي نجدها في المقامتين تقوم بالدور البارز للراوي في أغلب المقامات. وهو دور ينحصر في مشاركته للفعل باعتباره شخصية، ومن ثم الراوي يروي ما يعانيه وما يعايشه (47)؛ فضلاً عن هذا أن الراوي يميل في سلوكه إلى الصحبة الجماعية؛ فهو حين يتحرك، يتحرك دائماً في صحبة جماعة من الناس، وهو عين ما نجده في المقامة السونية حين يصف الراوي اليافث بن تمام لحظة اجتماع الناس على الخطيب إذ يقول في بداية المقامة وبعد وصوله إلى أرض الجماعة بعد رحلة طويلة: “فما لبثتُ إلا لمحة ناظر، أو كخطفة طائر حتى رأيتُ الجماعة ينقضون ولا انقضاض الشهب، ويوفضون ولا الوفوض إلى النصب فبادرت مع الزمر، لأعلم ما الخبر، فإذا بنا رحيب…”. (48)
*
وحركة الراوي المرتبطة بحركة الجماعة تتكرر في المقامة الشاذونية كما يتضح من قول الراوي عن لحظة انتشار خبر وصول أبي جواب الضريك إذ يقول: “فنهضت مع من نهض من العتيك نهضة الودواد الوشيك، فلما وطئت بساط الجامع، وتزاحم الناس على الأمر الجامع…”. (49)
إن العبارات السابقة تؤكد سمتي الحركة والتنقل في الجانب السلوكي لشخصية الراوي بدلالة طبيعة الأفعال التي تنطوي على الديناميكية، والمنسوبة إلى (تاء الفاعل) مثل: (بادرتُ، نهضتُ، وطئتُ)، كما أنها تؤكد على التواجد الجماعي، أو الجماهيرية، تلك الجماهيرية التي يتضح منها أن الراويين في المقامتين لا يقومان براوية المقامتين لنا فحسب، ولكن لجمهور آخر تواجد – قبلنا – في النص المقامي، كما أن هذه الجماهيرية – سواء أكانت داخلية في المقامتين تتمثل في كلمات بعينها أو كانت خارجية تتمثل فينا بوصفنا كمتلقين للمقامتين – تؤكد الغاية التعليمية في المقامتين بتوافر العناصر الثلاثة: باث (الراوي)، رسالة (المقامتان)، مستقبل، (هم الداخلة في المقامتين ونحن الخارجة عنهما).
**
وإذا كان نص المقامتين قد توافر فيهما حركة الراوي الجماعية، فإن للراوي حركة فردية أيضاً تتمثل في المقامة السونية في خروج الراوي وتركه للأرض الجدب وترحاله إلى بلدة (سوني) بمنطقة العوابي حيث “جانبها الرحيب والروض الشهيب” (50) ، وفي تتبع الراوي للبطل بهدف معرفة حقيقته إذ يسرد الراوي “فقفوت إثره متوارياً، حتى أمن الرقيب والساعيا، ثم أجفل… فتماديت في السعي إليه، حتى ولجت سرية عليه”. (51)
إن انفصال حركة الراوي عن حركة الجماعة يتوفر أيضاً في المقامة الشاذونية كما يتضح من بداية المقامة إذ ينفصل الراوي عن جماعته في شاذون حيث يقول: “فرحلت عنهم إلى قصري، ثم توجهت إلى بصري” (52) وتمتد هذه الحركة الفردية في موضع آخر من المقامة متمثلة في لوم الجماعة للراوي لعدم إخبارهم باحتيال البطل فيسرد الراوي قائلاً: “فلما كلموني بالكلام، وسقوني إجاج الملام، لبست النعال، واعتقلت الجراب ومضيت في طلبهما (أي البطل والغلام) ونفسي من الاكتئاب كاد يحرق الثياب”. (53)
وبإمعان النظر في الحركتين الجماعية والفردية للراوي في المقامتين نلاحظ أن انسيابهما يأتي بشكل يتسق مع طبيعة السرد، إذ أن الحركة الجماعية تعلن عن تدفق الحدث وتناميه، والحركة الفردية تعلن عن بداية الحدث والاستهلال لوقوعه، كما تتضمن انتهاء الحدث وذلك بتعرف الراوي على البطل ومواجهته بفعلته النكراء ليس هذا فحسب، بل ومحاولته تقويم سلوكه وتصحيحه بالتراجع عن الخطأ والعيب. (54)
إن توافر عنصر التعرف في المقامة السونية والمقامة الشاذونية، يؤكد لنا ما ذهب إليه بعض الدارسين من أن التعرف في المقامات ما هو إلا إحدى العلامات الأساسية في البنية السردية للمقامة. (55) وقد تختلف في طريقة عرضها بحيث تأتي في بداية المقامة أو ترجأ إلى نهاية المقامة لتشكل عنصر المفاجأة أو الدهشة في المقامات. ذلك العنصر الذي تمثل في مشارف النهاية في المقامة السونية، وورد بعبارات تؤكد الدهشة المتجددة النابعة من تعرف (الراوي)، على (البطل) حيـث العبارات في المقامـة تجسد المشهد العربيدي والمجوني للبطل (56) بعد مشهد الزهد والتدين. بينما عنصر التعرف ورد مرتين في المقامة الشاذونية المرة الأولى في بداية المقامة حيث يتعرف الراوي على البطل أبي جواب الضريك بمجرد تجمع الناس حوله لسماع كلامه البليغ إذ يرد على لسان الراوي حاكياً كلام إمام المسجد حين يقول: “أيها الناس، اجثوا على الركب، والزموا زمام الأدب، وتفسحوا عن الشيخ العلامة والغلام، وإياكم وهذر الكلام، فلما سمع الناس المقال، وفعلوا ما قال، أتعلت جيدي للشيخ النحرير، وللغلام الخبير، فإذا الشيخ هو الذي رأيته ببصرى، وشكا ما نهب عليه من الصفراء والبيضاء” (57) . ويأتي التعرف في المرة الثانية على مشارف النهاية حين يخرج الراوي بحثاً عن الشيخ والغلام آملاً أن يأتي بحق الجماعة في عمائمهم المسروقة إذ يرد: “حتى إذا كنت (أي الراوي) بنجد الحديد وسمعت لهما (أي الشيخ والغلام) غناء من بعيد، فلما أشرفت عليهما ونظرت إليهما رأيت أمامهما جملاً…، وعلى ظهره أوقار العمائم كالغمائم، وقد تعمم الشيخ بعمامة حمراء، وتقمص الغلام ببردة صفراء…”. (58)
إن القليل المذكور في المقامتين عن شخصية الراوي، والذي تلخص في مجموعة من السمات السلوكية تمثل في أن الراوي أميل إلى الحركة منه إلى السكون، سواء أكانت هذه الحركة فردية أم جماعية، وهذه الحركة هي عين ما تكشف لنا الجانب الترحالي في شخصية الراوي بكل ما فيها من دلالات تبادل التأثر والتأثير سواء مع البطل أو مع المحيط الجماعي. وهذا الراوي في النهاية يتعلم الكثير من البطل ويندهش من الشخصية لما فيها من جوانب إيجابية كإلمام البطل بفن الخطابة وبلاغة القول ونظم الشعر.
بيد أن الجانب التعليمي يظل يتضح في المقامتين مع سلوك الراوي. لاسيما حين يعاتب ذاته لتقاعسه عن إبلاغ جماعته بحقيقة البطل واحتياله كما يتضح جلياً من المقامة الشاذونية (59) وكذا حين يستهجن الراوي من السلوك الشيطاني؛ المنحرف للبطل متمثلاً في رفضه طلب الراوي في أن يستقيم ويرغب عن المآب إلى الثواب ويحاول أن يجمع بين حسنة وحسناته كما هو الأمر في المقامة السونية (60) ، ذلك الاستهجان الذي يتكرر مع الراوي في المقامة الشاذونية، متمثلاً في رفض الراوي لقول البطل حين ينصحه في شأن العمائم إذ يقول له: “دع البحث وخذ عمامتك، فقد وهبنا لك سلامتك، وإن شئت أن تحظى لمحض الفرح فأشرب شراب الهيم من القدح، …” (61) فيجيب الراوي مستاءاً: “قبّح الله هذا الشيخ الزنديق، وقبّح من كان له رفيق”. (62)
باستثناء شخصية البطل والغلام والراوي لم نجد شخصيات أخرى رئيسية في المقامتين. وبقية الشخصيات لا تكاد ترتقي إلى مستوى الشخصيات الثانوية إذ ليس لها دور بارز في الحدث، ومن ثم فهي شخصيات أقرب ما تكون إلى شخصيات هامشية. فهي في مواضعها من السياق كانت بمثابة عامل أو محرك فحسب بالنسبة للطرف الآخر: مثل شخصية (الجماعة)، أو مجموعات الناس في المقامة السونية الذين ينحصر دورهم في الانجذاب والإعجـاب بكلام البطل، وفي استيائهـم منه حين يعلمـون من الراوي حقيقة أمره (63) . وفي المقامة الشاذونية نفس الأمر يتكرر بالنسبة لشخصية (جماعة المسجد)، وتأتي شخصية (فتى الشيخ) الذي يخبر الراوي ومن معه من جماعة الناس بوصول شيخ فصيح يخطب بالمسجد ومعه غلام، ومن ثم يتم الانتقال المكاني بدفع الراوي والجماعة من مكان مسامرتهم بفضاء (شاذون) إلى بساط المسجد، وفي المسجد تأتي شخصية (إمام المسجد) الذي ينحصر دوره في إسكات الناس ومن ثم بدء البطل في الخطاب والكلام (64) . وعلى مشارف نهاية المقامة تأتي شخصية (مؤذن الجامع) الذي يبلغ الراوي ومن معه بأن الشيخ والغلام قد استوليا على العمائم هربا، مما يترتـب عليه خـروج الراوي وجماعـة المسجد للبحث عنهما. (65)
الحدث والحبكة ولغة السرد
بإمعان النظر في المقامتين نلاحظ أن الحدث لم يكن له أهمية كبرى، إذ يطغى عليه وتنامي الحبكة كثرة توظيف الأساليب البلاغية، التي تأتي على نحو سردي يكشف عن “الغرابة المتعمدة في انتقاء المفردة المستعملة في السرد، وعلى معمارية أسلوبية شديدة التنمق، عالية الأناقة، بديعة النسيج إلى حد يمكن معه تشبيهها بالأصباغ التي يصطنعها الرسام في إنجاز لوحة من لوحاته“. (66)
ومن ثم ورد الحدث غاية في البساطة إذ تلخص في المقامة السونية في ترحال الراوي وانفصاله عن الجماعة، إلى بلده (سوني) ومقابلته لجماعة من الناس انجذبوا إلى ناد رحيب، الذي هو البطل الذي يخطب بينهم ويستميل مشاعرهم نثراً ونظراً، ثم تتبع الراوي للبطل، ومن ثم مفاجأة اكتشافه لحقيقة مجونه. ومحاولة الراوي تقويم سلوك البطل بيد أنه يمتنع عن ذلك فيخبر الراوي جماعته بحقيقة البطل واحتياله لهم بتظاهره بالتدين والورع.
في المقامة الشاذونية وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة، للحدث. نجد لا اختلاف في الخطوط العريضة لحدث المقامة عن الحدث السابق؛ إذ تبدأ المقامة بحدث خروج الراوي وانفصاله عن جماعة بلدة (شاذون) إلى (قصرى وبصري) ومن ثم مقابلته للبطل، الذي يحتال عليه بالتظاهر بالضعف والحاجة، إذ أتى عليه الزمان وأهل بلده (سدوم)، مما يترتب على تحذير البطل للراوي، رجوعه إلى بلدة (عتيك بشاذون) وتحركه مع الجماعة لسماع الشيخ البليغ الذي سيخطب بالجامع، وتذكر البطل لملامح الشيخ حيث إنه الذي قابله (ببصري)، ثم يعقب ذلك خطبة الغلام واحتيالهما (أي الأخير والبطل) على عمائم أهل الجامع وهروبهما. الأمر الذي يترتب عليه خروج الراوي للبحث عنهما ومن ثم اكتشافه لحقيقتهما في الزندقة والمجون، وعجزه عن الظفر بالعمائم المسروقة، وختاماً رجوعه إلى أهل بلدته ومن ثم لعنتهم للشيخ والغلام.
وبإمعان النظر في طبيعة الحدث في المقامتين نلاحظ أن الحدث يسير على نحو تسلسلي إذ يؤدي كل جزء منه إلى الجزء الذي يليه بطريقة مستقيمة (بداية، ووسط، ونهاية) الأمر الذي يجعلنا نقول: أن لغة السرد في المقامتين باعتمادها على الزخرفة والتلاعب اللفظي والأساليب البلاغية والألفاظ الغربية نثراً ونظماً، كانت حائلاً دون تنامي الحدث والحبكة نمواً حقيقياً أو فنياً. ليس هذا فحسب بل أن طبيعة هذه اللغة قد أثرت أيضاً في رسم الشخصيات في المقامتين، إذ بدت الشخصيات ضعيفة الملامح ضئيلة الدور، الأمر الذي أثر أيضاً على عنصر الحوار في المقامة، فظهر بسيطاً بين الراوي والبطل خالياً من أية أبعاد مركبة أو نفسية.
الزمان والمكان
إن الزمان والمكان قاما في نصي المقامة بدور تجريبي، فدورهما ينتهي بانتهاء الحدث. مع ملاحظة أن الزمان في المقامتين كان سكونياً لا يساعد على نشوء الشيء أو تناميه، وكان المكان خلفية صامتة تقع عليها أحداث المقامتين اللتين انطبقا عليهما الغالب في المقامات وهو تسمية المقامة بأسماء البلدان كإشارة للمواضع الجغرافية التي وقعت عليها أحداث المقامة، وعليه ورد اسم المقامة السونية نسبة إلى (سوني) بلدة بالعوابي، والمقامة الشاذونية نسبة إلى (شاذون) بلدة بنخل والعوابي ونخل مناطق معروفة بسلطنة عُمان.
وداخل هذا الفضاء الجغرافي في المقامتين تقع مجموعة من الأماكن المختلفة التي احتوت حركة الراوي وانتقاله مثل: “الدمث والوعور، والصحاري والصخور“ في المقامة السونية، و“سوني“ التي حوت حدث مقابلة الراوي وجماعة الناس للبطل ومن ثم إعجابهم بهم. فحين نقول إن للمكان دور صامت نعني بذلك الترابط التلازمي بين المكان والحدث إذ إذا انتهى الأخير ينتهي دور الأول، وغنى عن البيان أن النصوص السردية الأكثر فناً هي تلك التي يوظف المكان فيها بدور أكثر فعالية وتعقيداً كأن يكون للمكان دور رمزي أو أسطوري أو أن يقوم المكان بدور الشخصية في النص السردي بحيث نستطيع أن نقول: إن المكان يمثل عبقرية داخل النص السردي القصصي.
والأمر ذاته يتكرر مع المقامة الشاذونية سواء فيما يتعلق باسم المقامة “الشاذونية“ شاذون كفضاء جغرافي، أو فيما يتعلق بالحيز؛ المكان داخل هذا الفضاء الجغرافي الشامل.
الخلاصة
وبالنظرة الشاملة إلى مقامة الخروصي ومقامة ابن رزيق نجد أن موضوعيهما ينصبان على النطاق الاجتماعي بهدف رسالة التقويم الخلقي وهو ما يسمى بالمقامة الاجتماعية؛ المتضمنة مجموعة من الأساليب البلاغية والتكلف اللفظي على المستويين: النثري والنظمي. ويتبين لنا أن الخروصي وابن رزيق لم يحيدا عن بنية المقامة الأصلية، من حيث الاستهلال بالسند الذي تضمن راوياً مشاهداً وناقلاً لأحداث البطل وأفعاله، فضلاً عما لهذا النسق السندي من دلالات التوثيق على أدبية النص وفنيته، كما لم يخرج السرد القصصي لنص المقامتين عن البنية الفنية للقصة من حيث احتوائها لعناصر بعينها. تمثلت في عنصر الشخصية الذي انقسم إلى شخصيات رئيسية تمثلت في الراوي والبطل والغلام، وشخصيات هامشية لم يكن لها دور فعال في تطوير الحدث ونموه باستثناء دفعه أو تسليمه إلى الحدث الذي يليه. كما لم يكن للحدث والحبكة نمواً فنياً إذ وردت الأحداث الجزئية بشكل تتابعي أو تسلسلي ينم مسارها عن تطور أفقي؛ (بداية ووسط ونهاية) فوقف التكلف اللفظي في الصياغة حائلاً دون تطور الحدث والحبكة تطوراً فنياً، وكذا عنصري الزمان والمكان لم يقوما سوى بدور تجريبي إذ انتهى دورهما بانتهاء الحدث، ومن ثم بدا الزمان سكونياً لم يساعد على نمو الحبكة وتطورها، كما بدا المكان خلفية صامتة تستقبل الحدث فحسب.
الـهـوامـش
(1) راجع: حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت. الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، تحقيق: عبدالمنعم ومحمد مرسي عبدالله، ط2، وزارة التراث والثقافة، 1404هـ-1984م، ص(ز)، مقدمة المحققان.
(2) راجع: السابق. ص (ل).
(3) عن مؤلفات ابن رزيق راجع: السابق. ص ص (ل-م).
(4) حول ظروف تأليف الكتاب وموضوعاته، ونُسخ مخطوطاته، وأماكن وجودها راجع: السابق. ص ص (ز، م، و).
(5) راجع: السابق. ص186.
(6) راجع: محمد بن عبدالله الحارثي. المقامة في الأدب العُماني، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة السلطان قابوس، مسقط، سلطنة عُمان، ديسمبر 2003م، ص31.
(7) راجع: ابن رزيق الفتح المبين…، مصدر سابق، ص ص 180 – 181.
(8) راجع: السابق. ص186.
(9) حول تفاصيل تلك الأفكار راجع:
آسية البوعلي. قراءة أولى في مقامات البرواني، مجلة نزوى، مجلة فصلية ثقافية، مؤسسة عُمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان، مسقط، سلطنة عُمان، عدد (24) عدد خاص، أكتوبر 2000م، ص ص 49 – 62.
(10) حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت، مصدر سابق، ص182.
(11) السابق. ص186.
(12) عبدالفتّاح كيليطو. المقامات: السرد والأنساق الثقافية؛ ترجمة عبدالكبير الشرقاوي، ط1، المغرب، دار توبقال للنشر، 1993م، ص60.
(13) عبدالله إبراهيم. السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، يوليو 1992م، ص196.
(14) حميد لحميداني. أسلوبية الرواية: مدخل نظري، ط1، الدار البيضاء، شوسبريس، 1989م، ص58.
(15) حميد بن رزيق بن بخيت. مصدر سابق، ص183.
نسبة إلى سيدنا يوسف عليه السلام.
(16) راجع: السابق. ص185.
(17) راجع: السابق. ص186.
(18) السابق. الصفحة نفسها.
(19) راجع: السابق. ص195.
(20) راجع: السابق. ص ص188.
(21) راجع: السابق. ص193.
(22) السابق. ص193.
(23) راجع: السابق. ص ص 193، 194.
(24) راجع: السابق. ص194.
(25) السابق. ص193.
(26) راجع: السابق. الصفحة نفسها.
(27) راجع: السابق. ص183.
(28) السابق. ص184.
(29) راجع: السابق. ص ص 189 – 190.
(30) السابق. ص192.
(31) راجع: السابق. ص192.
(32) راجع: السابق. ص ص 192 – 195.
(33) راجع: السابق. ص ص 190 – 191 ، 193 – 194 – 195.
(34) راجع: السابق. ص183.
(35) راجع: السابق. ص184.
(36) السابق. ص185.
(37) راجع: السابق. ص182.
(38) السابق. ص187.
(39) راجع: السابق. الصفحة نفسها.
(40) السابق. الصفحة نفسها.
(41) راجع: السابق. ص188.
(42) السابق. ص190.
(43) السابق. الصفحة نفسها.
(44) راجع: السابق. ص ص 194 – 195.
لاحظ أن الغلام في جانبه الفكري يطابق أبا ضريك ومن ثمّ لم نرده في المتن منعاً للتكرار.
(45) السابق. ص183.
(46) السابق. ص ص 189 – 190.
(47) راجع: عبدالفتّاح كيليطو. مرجع سابق، ص17.
(48) حميد بن محمد بن رزيق بن بخيت. مصدر سابق، ص182.
(49) السابق. ص188.
**
منقول
د. آسية بنت ناصر بن سيف البوعلي
آسيا البوعلي