نقوس المهدي
كاتب
المقامة في اللغة (بالفتح) المجلس والجماعة من الناس أو الخطبة أو العظة أو الرواية التي تلقى في جماعة من الناس؛ جمعها مقامات، ونقرأ في صبح الأعشى: "وسمّيت الأحدوثة من الكلام مقامة لأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها".(1).
وأصبحت "المقامة" وجمعها "مقامات" اصطلاحاً لنوع من النثر يسرد فيه الخطيب أو الكاتب روايات وقصصاً بعبارات مسجوعة ومقفّاة ذات لحن لجماعة من الناس. وتعدّ موسيقى الكلمات وتنميق العبارات وترادف الكلمات واختلاط النظم بالنثر من خصائص فنّ المقامة، ويعتبر مراعاة أسلوب الكلام وترادف الكلمات واختلاط النظم بالنثر من مقوّمات البراعة، يقول صاحب الفخري: "الفائدةالوحيدة لفنّ المقامة هي التمرين في فنّ الإنشاء، والتعريف بالأساليب المختلفة للنثر".(2). وبذلك يتّضح أنّ كتابات كهذه تهتمّ بالتزيين الشكليّ والظاهريّ قبل الاهتمام بالمضمون.
ويمكن القول إنَّ ثلاثاً من أربع أو أكثر من وظائف كاتب المقامة تصرف في نسيج الكلام، وهكذا تصبح المقامة نموذجاً شاخصاً للأدب المحض، ونجد ضعفاً في الجانب القصصيّ للأثر لدرجة أنّ القارئ لا يبدي رغبة في سماع موضوع القصّة، بل يسعى جاهداً في معرفة الصنائع اللفظيّة والبديعيّة للكلام، وفهم الأشياء الصعبة فيه التي ليست بالقليلة.
عرف الأدب العربيّ فن المقامة كنوع أدبيّ مستقلّ مع بديع الزمان الهمذانيّ (المتوفّى 398هـ): "واعلم أنَّ أوَّل من فتح باب عمل المقامات، علاّمة الدهر وإمام الأدب البديع الهمداني فعمل المشهورة المنسوبة إليه وهي في غاية البلاغة وعلوّ الرتبة في الصنعة".(3). ويقول الحريري: "ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان وعلاّمة همدان".(4)، ويقول: "هذا مع اعترافي بأنَّ البديع رحمه الله سبّاق غايات وصاحب آيات"(5). ويقول د.خطيي إنَّ الهمداني مقوّم ومكمّل للمقامات وليس مبتكراً لها: "من المسلّم به أنَّ الهمداني في إنشاء المقامات وقع تحت تأثير عدد من العناصر:
1 ـ كان من الناحية القصصيّة واقعاً تحت تأثير سبك قصص العرب.
2 ـ كان من حيث اللفظ والسجع والاهتمام بالألفاظ الصعبة وغرائب الكلمات والتركيبات –بلا شكّ-واقعاً تحت تأثير ذاك النوع من القطع الأدبيّة التي تعدّ روايات ابن دريد بعضاً منها.
3 ـ كان من حيث الحديث عن بطل القصّة واقعاً تحت تأثير طريقة المتسوّلين لأنَّه في تلك الفترة راج التسوّل بالعبارات المسجوعة.
4 ـفي هذا المجال راعى أيضاً طريقة القصّاصين الذين كانوا يتكلمّون في المجامع والمساجد من أجل عامة الناس، وكانت بعض الطبقات الدنيا تستجدي الحاضرين بعد انتهاء الكلام.
5 ـ لقد لفّق البديع هذه العناصر الأربعة بعضها مع بعض، ووضع أساس فنّ جديد مبتكر لم تكن له سابقة في نثر العرب حتى ذاك الحين.
بعد حوالي مئة عام من الهمداني يظهر الحريري (464-516هـ)، في فنّ المقامة، ويصل بهذا النوع إلى حدّ الكمال(6). يقول صاحب صبح الأعشى:"ثمَّ تلاه الإمام أبو محمّد القاسم الحريري، فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية في الحسن، فأقبل عليها الخاصّ والعامّ".(7). هذا الخلف الذي كتب أثره باقتراح شرف الدين أنوشيروان وزير "المسترشد" سار على خطا سلفه بمهارة وبراعة، ولابدّ من الإشارة إلى ناحية هامّة هي أنَّ الكلام والبديع وسبك العبارات في أثر الحريري فيه كثير من مظاهر التصنّع والتكلّف تفوق ما جاء في أثر البديع، وخير مثال على ذلك التفنّن الذي أتى به الحريري في مقامته السادسة عشرة، حيث استعمل عبارات لو قرئت من الآخر لأعطى ترتيب الحروف العبارات نفسها بلفظها، ويدعو الحريري هذا النوع من التفنّن "مالا يستحيل بالانعكاس"، ويدعى أيضاً "المقلوب المستوي"(8):
أس أرملا إذا عرا
وارع إذا المرء أسا
أسند أخا نباهة
أبِن إخاءً دنسا(9).
وقد انتقل فن المقامة إلى الأدب الفارسي، وبرز القاضي حميد الدين أبو بكر محمد بن علي البلخي أحد مشاهير زمانه والأدباء المعروفين قاضي مدينة بلخ المتوفى سنة 599هـ، كأشهر مقلّد للمقامة العربية. ويذكر عوفي في "لباب الألباب" أسماء الكتب والرسائل المنسوبة له وهي:
1 ـ المقامات، التي انتهى من كتابتها –كما يشير في المقدمة-في جمادى الآخرة سنة 551هـ.
2 ـ وسيلة العفاة إلى أكفى الكفاة، وهو باحتمال قوي مؤلف باسم نظام الملك الطوسي الذي كان يلقب بأكفى الكفاة سنة 455هـ.
3 ـ حنين المستجير إلى حضرة المجير، باسم كيا أبي الفتح علي بن حسين طغرائي أردستاني والملقب بمجير الملك وكبير الدولة.
4 ـ روضة الرضا في مدح أبي الرضا، والقصيدة التي نقلها عوفي عنه باسم كمال الدولة أبي الرضا فضل الله رئيس ديوان إنشاء طغراء ملكشاه.
5 ـ قدح المغنى في مدح المعنى، وهو كما يرى عباس إقبال مغلوط بهذا الشكل وبلا معنى، والصحيح هو قدح المعين في مدح المعين. والمقصود بـ((معين)) في هذه الرسالة في ذكر مدائحه -بلا شك- ((معين الملك)) سيد الرؤساء محمد بن كمال الدولة أبو الرضا.
6 ـ منية الراجي في جوهر التاجي والذي تولى رئاسة ديوان طغرا بين سنتي (477-480) وقتل سنة (485) هـ.
7 ـ الاستغاثة إلى الإخوان الثلاثة: وكان في ظاهره رسالة توسل من المؤلف لأبناء ثلاثة من أبناء نظام الملك الذي كان لهم مقام في ديوان وأمور الدولة وكانوا أصحاب رأي ونفوذ.
مقامات حميدي:
إن السنة الأساسية لنثر مرحلة السلاجقة والخوارزميين هي الموازنة، السجع، التكلّف، والصناعة اللفظية. وفي هذه المرحلة من تاريخ إيران الأدبي، يترقى النثر المسجوع خطوة بخطوة مع الكلام المنظوم، وغالباً ما تكون الصناعة اللفظية وخاصة السجع متأثرة بالنثر العربي الذي يقبل الصناعة اللفظية، وتعد مقامات حميدي أحد نماذج تقليد النثر العربي. من حيث أسلوب الكتابة وتنظيم الكتاب، ومن حيث المحتوى والمضمون.
سبق القول: إن إحدى خصائص فنّ المقامة تزيين المتن المنثور بالأبيات والأشعار، وهذا ما فعله القاضي حميد الدين، حتى إن الأشعار كانت قدر الإمكان من نظمه. يقول بهار: ((إن الشواهد الشعرية كالاستشهاد بالأمثال السائرة يجب أن تكون متميزة، وإلاَّ فإنَّ كل شخص يستطيع أن ينظم بنفسه في كل باب أو أن يصنع مثلاً. وأرباب الفن والذوق يعرفون أن إحضار الشواهد والأمثال يكون مستحسناً وجميلاً ومؤثراً عندما يكون من الكبار والمشاهير المتقدمين.(10).
يقال إن القاضي حميد الدين في مقاماته كان تابعاً ومقلداً لبديع الزمان والحريري، لكن في كثير من المواضع نشعر أن المسألة ذهبت أبعد من حد التقليد إلى المعارضة وخاصة بالنسبة للحريري. يقول في مقدمة الكتاب: ((إلى أن وصلت بحسن الاتّفاق في نشر وطيّ تلك الأوراق إلى مقامات بديع الزمان الهمذاني وأبي القاسم الحريري، ورأيت هذين البرجين غرراً ودرج درر، فقلت لنفسي مئة ألف رحمة على نفائس كهذه.))(11). وفي نهاية الكتاب نجد أن حميدي أراد أن يوصل المقامات إلى نصاب الحريري، أي خمسين مقامة. وحين حرّرت هذه المقامة الثالثة والعشرين تغير الحال عن النسق الأول. فساقي النوائب في عطاء، وعروس المصائب في ولادة، فلا للقلب رأي التدبر ولا للطبع مكان التفكر. إلى أن أصبح كل النسيم سموماً، وكل الشهد مسموماً.... فالقلم يريد الاستعفاء من تحرير هذا الكلام، واللسان يريد الاستغفار من تقرير هذا الحال... فظهرت المصلحة في أن أكتفي من تذوق هذا الدنّ بهذا القدر. وأن تقتصر هذه الأسطورة على هذا المكان... فلو عاد في وقت ما غرماء الحوادث إلى المسامحة والمصالحة نعود إلى هذه الأسطورة غير المستساغة والألفاظ المشوشة...)).(12).
ويوجد تماثل كهذا بين مقامات حميدي وأسلافه، ونجد أن هذه المماثلة تقترب أحياناً من الترجمة الدقيقة(13). فهناك ثنائية مهمة بين مقامات الحميدي والحريري وهي أن الموضوع الأصلي والعام لمقامات الحريري هو الاستجداء في حال أن حميدي تناول موضوعات متنوعة، كذلك نجد أن بعض المقامات من نوع المناظرات كمناظرة الشيخ والشاب، والسني المؤمن والشيعي الرافضي، الطبيب والمنجم.... وهناك قسم يتعلق بموضوعات كالربيع، العشق والجنون، وقسم يحتوي على ألغاز ومنوعات وأحاج ومسائل تفقهية وأفكار صوفية، وأحياناً يخطر لقارئ هذه المقامات أن يتناول هذا الكتاب المتنوع فينظر من وجهة نظر علم الاجتماع، ويستفيد من ناحية علم الشعوب التاريخي لكن للأسف لا يخرج بنتيجة. ويجد القارئ أن كثيراً من المقامات قد دون باسم مدينة فيتأمل أن يستفيد من الناحية التاريخية والجغرافية، ويحصل على اطلاع في مجال علم الاجتماع وخصائص الشعوب ومن نماذج من حياة فكر أهالي البلدان المختلفة، فيجد حديثاً عن شخصيات، عظماء، علماء، مساجد، أبنية. لكن لا شيء عن السياحة والتجوال، ففي هذه الأسفار لف قيد السجع والتكلف على قدم المؤلف السائح فنسي كلياً فواصل المدن والمواقع الجغرافية، فمثلاً حين ينوي السفر من خطة العراق لمدينة أصفهان نجده يقول واصفاً حلول الليل إن الشمس غاصت في بحر بلون، فينتقل ذهنه إلى بحر قيروان، وحيناً نرى أن المؤلف البلخي يبدأ بسفره من بلخ أو سمرقند وعلى أية حال مدينة من مدن خراسان التاريخية الكبرى عازماً نيشابور: ((صبّرت القلب على نشدان السفر ورأيت الحركة إلى مدينة نيشابور.)).(14)، وفجأة يطل برأسه من مدينة أرمينية.
ونجد أنَّ الصورة في المقامة تتقدّم دائماً على المحتوى فكلمة "دوش" جرّت المؤلّف إلى مدينة "اوش"(15)، وكلمة "آزاد كان" جرّته إلى "أذربيجان".(16)، فالمؤلف لم ير قطّ أيّاً من المدن والنواحي التي يذكرها، ولو رآها فإنَّه يسخّر فنه للسجع فلا يستطيع الإفادة من معلوماته؛ فقراءة أربعة أو خمسة أسطر من آثار ناصر خسرو عن أسفاره تفيد عشرات أضعاف مقامة من مقامات الحريري تفوق العشرين صفحة، ذلك أنَّ ناصر خسرو سافر ورأى في حين أنَّ الحريري تخيّل. فـ"جول فيرن" –مثلاً- سافر في عالم الخيال ثمانين يوماً فرأى بلاداً ووصفها وصفاً يكاد يكون واقعيّاً، وكذلك "سيرفانتس" سافر على حصان "دون كيشوت" النحيل، وصوّر سيره بشكل مليء بالمعلومات وكان ما كتبه مليئاً بالنقد في حين كان السفر الخياليّ لكاتب القرن السادس بعيداً عن هذا كلّه. وكي لا يكون نقدنا لحميدي بعيداً عن الإنصاف يجب القول إنَّ هناك عاملين قلّلا من قيمة أثره:
أ ـ سلوكه طريق التقليد،فكلّ خطوة إلى الأمام في طريق التقليد تقلِّل من قيمة الأثر.
ب ـ ما يقتضيه الزمن، فتزيين الأثر الأدبيّ راج في فترة من الفترات وخاصّة في القرن السادس حيث كان الأثر يجد إقبالاً أكثر كلّما ازداد تزيينه الظاهريّ دون الاهتمام بمحتواه، لدرجة أنَّ الكتّاب أصبحوا دلاّلين يبيعون الكلام ويخضعون لموسيقى الكلمات وللصناعة اللفظيّة، وأضحى القلم-الذي كان يمكن أن يصبح خنجراً لتمزيق المساوئ والنقائص وإظهار المحاسن – مختفياً في غمد مرصّع مذهّب، فماكان للسيف أو الخنجر إلاَّ أن يبلى أو يصدأ في غمده، ويعتبر حميدي من الأشخاص الذين اهتمّوا بقبضة السيف أكثر من حدّه،ومن المعلوم أنَّ المقامات اتخذت قيمتها وشهرتها من هذا الجانب.
كان لحميدي كثير من المؤيّدين، يقول: "سعد الله وراويني": لقد طالعت كلام أهل العصر وقريبي العهد من الماضين، فوجدت استعمال الألفاظ العربيّة في الفارسيّة بتركيب حسن وترصيف مثله، وتجلّى جمال ذاك التصنيف في أبهى ملبس وأشهر منظر لأهل البصائر والأبصار... ومقامات حميدي هي حمامة الطبع، كلّها سجع".(17).
ومع وجود شهرة كهذه لم تستمرّ المقامة في الأدب الفارسيّ طويلاً، ويبدو أنَّ الكتاب الوحيد في فنّ المقامة بعد مقامات حميدي كان "مقامات أميري" الذي تحفظ مخطوطته الوحيدة في أوروبا ضمن الآثار المخطوطة الخاصّة بـ"براون"(18).
وقد عُرِفَ سعدي أيضاً ككاتب مقامة –كما يقول بهار- حيث اكتمل فنّ المقامة به وتهذّب إلاَّ أنَّ طريقته كانت مختلفة؛ فقد أطلّ من كلّ نافذة من نوافذ المجتمع وأعطى تصويراً لكل زاوية من زواياه، ولكلّ طريقة في الحياة والتربية والسلوك، لذا بقي ما كتبه حيّاً، وقدوة للأسلاف ونموذجاً للأدباء من بعده. أمَّا قولهم إنَّ مقامات حميدي لم تقلّد ولم يوجد لها مثيل، فالجواب على ذلك نجده في قول د.أمين عبد المجيد: "..... بقي لنا أن نتساءل لِمَ لم يلق هذا اللون من التأليف المترف نجاحاً بين الفرس وهم أهل ذوق أنيق وحضارة قديمة مترفة؟.. يرجع هذا –كما يبدو لي- إلى سببين رئيسيّين: أولهما أنَّ هذا الفنّ في صياغته يقوم قبل كلّ شيء على السجع والجناس، وذلك يتطلّب وفرة في المترادفات والكلمات المتشابهة الأواخر في اللفظ وهي غير ميسّرة في الفارسيّة الإسلاميّة، وثانيهما أنَّ الذوق القصصيّ الفارسي يهدف بالحكاية إلى أغراض تهذيبيّة وصور تمثيليّة للأفكار والمعاني لا تحقّقها المقامة على هذه الصورة".(19).
الهوامش:
(1) القلقشندي، صبح الأعشى، طبعة القاهرة، 1340هـ، 11/ ص110.
(2) فارس حريري، مقامة نويسي دار أدبيات فارسي، نقلاً عن الفخري في الآداب السلطانية لابن الطقطقي، ص 13.
(3) صبح الأعشى، 14/110.
(4) شرح مقامات الحريري، دار التراث، بيروت، 1388، ص5.
(5) نفسه، ص7.
(6) فارس حريري، نفسه، ص 31
(7) 14/ 110.
(8) طيار، رهير كلستان، (استانبول 1308)، ص 27.
(9) شرح مقامات حريري، ص 54.
(10) 2/ 334.
(11) المقدمة، ص 5.
(12) خاتمة الكتاب.
(13) المقامة السبكياجيّة ترجمة كاملة للمقامة المضريّة لبديع الزمان الهمداني.
(14) المقامة 23، ص 434.
(15) المقامة 21، ص 398.
(16) المقامة 4، ص 46.
(17) مرزبان نامه، المقدمة ص5.
(18) فارس حريري، المرجع نفسه، ص د.
(19) أمين عبد المجيد بدوي، القصّة في الأدب الفارسيّ، دار المعارف، القاهرة، ص 367.
د. ندى حسّون
وأصبحت "المقامة" وجمعها "مقامات" اصطلاحاً لنوع من النثر يسرد فيه الخطيب أو الكاتب روايات وقصصاً بعبارات مسجوعة ومقفّاة ذات لحن لجماعة من الناس. وتعدّ موسيقى الكلمات وتنميق العبارات وترادف الكلمات واختلاط النظم بالنثر من خصائص فنّ المقامة، ويعتبر مراعاة أسلوب الكلام وترادف الكلمات واختلاط النظم بالنثر من مقوّمات البراعة، يقول صاحب الفخري: "الفائدةالوحيدة لفنّ المقامة هي التمرين في فنّ الإنشاء، والتعريف بالأساليب المختلفة للنثر".(2). وبذلك يتّضح أنّ كتابات كهذه تهتمّ بالتزيين الشكليّ والظاهريّ قبل الاهتمام بالمضمون.
ويمكن القول إنَّ ثلاثاً من أربع أو أكثر من وظائف كاتب المقامة تصرف في نسيج الكلام، وهكذا تصبح المقامة نموذجاً شاخصاً للأدب المحض، ونجد ضعفاً في الجانب القصصيّ للأثر لدرجة أنّ القارئ لا يبدي رغبة في سماع موضوع القصّة، بل يسعى جاهداً في معرفة الصنائع اللفظيّة والبديعيّة للكلام، وفهم الأشياء الصعبة فيه التي ليست بالقليلة.
عرف الأدب العربيّ فن المقامة كنوع أدبيّ مستقلّ مع بديع الزمان الهمذانيّ (المتوفّى 398هـ): "واعلم أنَّ أوَّل من فتح باب عمل المقامات، علاّمة الدهر وإمام الأدب البديع الهمداني فعمل المشهورة المنسوبة إليه وهي في غاية البلاغة وعلوّ الرتبة في الصنعة".(3). ويقول الحريري: "ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان وعلاّمة همدان".(4)، ويقول: "هذا مع اعترافي بأنَّ البديع رحمه الله سبّاق غايات وصاحب آيات"(5). ويقول د.خطيي إنَّ الهمداني مقوّم ومكمّل للمقامات وليس مبتكراً لها: "من المسلّم به أنَّ الهمداني في إنشاء المقامات وقع تحت تأثير عدد من العناصر:
1 ـ كان من الناحية القصصيّة واقعاً تحت تأثير سبك قصص العرب.
2 ـ كان من حيث اللفظ والسجع والاهتمام بالألفاظ الصعبة وغرائب الكلمات والتركيبات –بلا شكّ-واقعاً تحت تأثير ذاك النوع من القطع الأدبيّة التي تعدّ روايات ابن دريد بعضاً منها.
3 ـ كان من حيث الحديث عن بطل القصّة واقعاً تحت تأثير طريقة المتسوّلين لأنَّه في تلك الفترة راج التسوّل بالعبارات المسجوعة.
4 ـفي هذا المجال راعى أيضاً طريقة القصّاصين الذين كانوا يتكلمّون في المجامع والمساجد من أجل عامة الناس، وكانت بعض الطبقات الدنيا تستجدي الحاضرين بعد انتهاء الكلام.
5 ـ لقد لفّق البديع هذه العناصر الأربعة بعضها مع بعض، ووضع أساس فنّ جديد مبتكر لم تكن له سابقة في نثر العرب حتى ذاك الحين.
بعد حوالي مئة عام من الهمداني يظهر الحريري (464-516هـ)، في فنّ المقامة، ويصل بهذا النوع إلى حدّ الكمال(6). يقول صاحب صبح الأعشى:"ثمَّ تلاه الإمام أبو محمّد القاسم الحريري، فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية في الحسن، فأقبل عليها الخاصّ والعامّ".(7). هذا الخلف الذي كتب أثره باقتراح شرف الدين أنوشيروان وزير "المسترشد" سار على خطا سلفه بمهارة وبراعة، ولابدّ من الإشارة إلى ناحية هامّة هي أنَّ الكلام والبديع وسبك العبارات في أثر الحريري فيه كثير من مظاهر التصنّع والتكلّف تفوق ما جاء في أثر البديع، وخير مثال على ذلك التفنّن الذي أتى به الحريري في مقامته السادسة عشرة، حيث استعمل عبارات لو قرئت من الآخر لأعطى ترتيب الحروف العبارات نفسها بلفظها، ويدعو الحريري هذا النوع من التفنّن "مالا يستحيل بالانعكاس"، ويدعى أيضاً "المقلوب المستوي"(8):
أس أرملا إذا عرا
وارع إذا المرء أسا
أسند أخا نباهة
أبِن إخاءً دنسا(9).
وقد انتقل فن المقامة إلى الأدب الفارسي، وبرز القاضي حميد الدين أبو بكر محمد بن علي البلخي أحد مشاهير زمانه والأدباء المعروفين قاضي مدينة بلخ المتوفى سنة 599هـ، كأشهر مقلّد للمقامة العربية. ويذكر عوفي في "لباب الألباب" أسماء الكتب والرسائل المنسوبة له وهي:
1 ـ المقامات، التي انتهى من كتابتها –كما يشير في المقدمة-في جمادى الآخرة سنة 551هـ.
2 ـ وسيلة العفاة إلى أكفى الكفاة، وهو باحتمال قوي مؤلف باسم نظام الملك الطوسي الذي كان يلقب بأكفى الكفاة سنة 455هـ.
3 ـ حنين المستجير إلى حضرة المجير، باسم كيا أبي الفتح علي بن حسين طغرائي أردستاني والملقب بمجير الملك وكبير الدولة.
4 ـ روضة الرضا في مدح أبي الرضا، والقصيدة التي نقلها عوفي عنه باسم كمال الدولة أبي الرضا فضل الله رئيس ديوان إنشاء طغراء ملكشاه.
5 ـ قدح المغنى في مدح المعنى، وهو كما يرى عباس إقبال مغلوط بهذا الشكل وبلا معنى، والصحيح هو قدح المعين في مدح المعين. والمقصود بـ((معين)) في هذه الرسالة في ذكر مدائحه -بلا شك- ((معين الملك)) سيد الرؤساء محمد بن كمال الدولة أبو الرضا.
6 ـ منية الراجي في جوهر التاجي والذي تولى رئاسة ديوان طغرا بين سنتي (477-480) وقتل سنة (485) هـ.
7 ـ الاستغاثة إلى الإخوان الثلاثة: وكان في ظاهره رسالة توسل من المؤلف لأبناء ثلاثة من أبناء نظام الملك الذي كان لهم مقام في ديوان وأمور الدولة وكانوا أصحاب رأي ونفوذ.
مقامات حميدي:
إن السنة الأساسية لنثر مرحلة السلاجقة والخوارزميين هي الموازنة، السجع، التكلّف، والصناعة اللفظية. وفي هذه المرحلة من تاريخ إيران الأدبي، يترقى النثر المسجوع خطوة بخطوة مع الكلام المنظوم، وغالباً ما تكون الصناعة اللفظية وخاصة السجع متأثرة بالنثر العربي الذي يقبل الصناعة اللفظية، وتعد مقامات حميدي أحد نماذج تقليد النثر العربي. من حيث أسلوب الكتابة وتنظيم الكتاب، ومن حيث المحتوى والمضمون.
سبق القول: إن إحدى خصائص فنّ المقامة تزيين المتن المنثور بالأبيات والأشعار، وهذا ما فعله القاضي حميد الدين، حتى إن الأشعار كانت قدر الإمكان من نظمه. يقول بهار: ((إن الشواهد الشعرية كالاستشهاد بالأمثال السائرة يجب أن تكون متميزة، وإلاَّ فإنَّ كل شخص يستطيع أن ينظم بنفسه في كل باب أو أن يصنع مثلاً. وأرباب الفن والذوق يعرفون أن إحضار الشواهد والأمثال يكون مستحسناً وجميلاً ومؤثراً عندما يكون من الكبار والمشاهير المتقدمين.(10).
يقال إن القاضي حميد الدين في مقاماته كان تابعاً ومقلداً لبديع الزمان والحريري، لكن في كثير من المواضع نشعر أن المسألة ذهبت أبعد من حد التقليد إلى المعارضة وخاصة بالنسبة للحريري. يقول في مقدمة الكتاب: ((إلى أن وصلت بحسن الاتّفاق في نشر وطيّ تلك الأوراق إلى مقامات بديع الزمان الهمذاني وأبي القاسم الحريري، ورأيت هذين البرجين غرراً ودرج درر، فقلت لنفسي مئة ألف رحمة على نفائس كهذه.))(11). وفي نهاية الكتاب نجد أن حميدي أراد أن يوصل المقامات إلى نصاب الحريري، أي خمسين مقامة. وحين حرّرت هذه المقامة الثالثة والعشرين تغير الحال عن النسق الأول. فساقي النوائب في عطاء، وعروس المصائب في ولادة، فلا للقلب رأي التدبر ولا للطبع مكان التفكر. إلى أن أصبح كل النسيم سموماً، وكل الشهد مسموماً.... فالقلم يريد الاستعفاء من تحرير هذا الكلام، واللسان يريد الاستغفار من تقرير هذا الحال... فظهرت المصلحة في أن أكتفي من تذوق هذا الدنّ بهذا القدر. وأن تقتصر هذه الأسطورة على هذا المكان... فلو عاد في وقت ما غرماء الحوادث إلى المسامحة والمصالحة نعود إلى هذه الأسطورة غير المستساغة والألفاظ المشوشة...)).(12).
ويوجد تماثل كهذا بين مقامات حميدي وأسلافه، ونجد أن هذه المماثلة تقترب أحياناً من الترجمة الدقيقة(13). فهناك ثنائية مهمة بين مقامات الحميدي والحريري وهي أن الموضوع الأصلي والعام لمقامات الحريري هو الاستجداء في حال أن حميدي تناول موضوعات متنوعة، كذلك نجد أن بعض المقامات من نوع المناظرات كمناظرة الشيخ والشاب، والسني المؤمن والشيعي الرافضي، الطبيب والمنجم.... وهناك قسم يتعلق بموضوعات كالربيع، العشق والجنون، وقسم يحتوي على ألغاز ومنوعات وأحاج ومسائل تفقهية وأفكار صوفية، وأحياناً يخطر لقارئ هذه المقامات أن يتناول هذا الكتاب المتنوع فينظر من وجهة نظر علم الاجتماع، ويستفيد من ناحية علم الشعوب التاريخي لكن للأسف لا يخرج بنتيجة. ويجد القارئ أن كثيراً من المقامات قد دون باسم مدينة فيتأمل أن يستفيد من الناحية التاريخية والجغرافية، ويحصل على اطلاع في مجال علم الاجتماع وخصائص الشعوب ومن نماذج من حياة فكر أهالي البلدان المختلفة، فيجد حديثاً عن شخصيات، عظماء، علماء، مساجد، أبنية. لكن لا شيء عن السياحة والتجوال، ففي هذه الأسفار لف قيد السجع والتكلف على قدم المؤلف السائح فنسي كلياً فواصل المدن والمواقع الجغرافية، فمثلاً حين ينوي السفر من خطة العراق لمدينة أصفهان نجده يقول واصفاً حلول الليل إن الشمس غاصت في بحر بلون، فينتقل ذهنه إلى بحر قيروان، وحيناً نرى أن المؤلف البلخي يبدأ بسفره من بلخ أو سمرقند وعلى أية حال مدينة من مدن خراسان التاريخية الكبرى عازماً نيشابور: ((صبّرت القلب على نشدان السفر ورأيت الحركة إلى مدينة نيشابور.)).(14)، وفجأة يطل برأسه من مدينة أرمينية.
ونجد أنَّ الصورة في المقامة تتقدّم دائماً على المحتوى فكلمة "دوش" جرّت المؤلّف إلى مدينة "اوش"(15)، وكلمة "آزاد كان" جرّته إلى "أذربيجان".(16)، فالمؤلف لم ير قطّ أيّاً من المدن والنواحي التي يذكرها، ولو رآها فإنَّه يسخّر فنه للسجع فلا يستطيع الإفادة من معلوماته؛ فقراءة أربعة أو خمسة أسطر من آثار ناصر خسرو عن أسفاره تفيد عشرات أضعاف مقامة من مقامات الحريري تفوق العشرين صفحة، ذلك أنَّ ناصر خسرو سافر ورأى في حين أنَّ الحريري تخيّل. فـ"جول فيرن" –مثلاً- سافر في عالم الخيال ثمانين يوماً فرأى بلاداً ووصفها وصفاً يكاد يكون واقعيّاً، وكذلك "سيرفانتس" سافر على حصان "دون كيشوت" النحيل، وصوّر سيره بشكل مليء بالمعلومات وكان ما كتبه مليئاً بالنقد في حين كان السفر الخياليّ لكاتب القرن السادس بعيداً عن هذا كلّه. وكي لا يكون نقدنا لحميدي بعيداً عن الإنصاف يجب القول إنَّ هناك عاملين قلّلا من قيمة أثره:
أ ـ سلوكه طريق التقليد،فكلّ خطوة إلى الأمام في طريق التقليد تقلِّل من قيمة الأثر.
ب ـ ما يقتضيه الزمن، فتزيين الأثر الأدبيّ راج في فترة من الفترات وخاصّة في القرن السادس حيث كان الأثر يجد إقبالاً أكثر كلّما ازداد تزيينه الظاهريّ دون الاهتمام بمحتواه، لدرجة أنَّ الكتّاب أصبحوا دلاّلين يبيعون الكلام ويخضعون لموسيقى الكلمات وللصناعة اللفظيّة، وأضحى القلم-الذي كان يمكن أن يصبح خنجراً لتمزيق المساوئ والنقائص وإظهار المحاسن – مختفياً في غمد مرصّع مذهّب، فماكان للسيف أو الخنجر إلاَّ أن يبلى أو يصدأ في غمده، ويعتبر حميدي من الأشخاص الذين اهتمّوا بقبضة السيف أكثر من حدّه،ومن المعلوم أنَّ المقامات اتخذت قيمتها وشهرتها من هذا الجانب.
كان لحميدي كثير من المؤيّدين، يقول: "سعد الله وراويني": لقد طالعت كلام أهل العصر وقريبي العهد من الماضين، فوجدت استعمال الألفاظ العربيّة في الفارسيّة بتركيب حسن وترصيف مثله، وتجلّى جمال ذاك التصنيف في أبهى ملبس وأشهر منظر لأهل البصائر والأبصار... ومقامات حميدي هي حمامة الطبع، كلّها سجع".(17).
ومع وجود شهرة كهذه لم تستمرّ المقامة في الأدب الفارسيّ طويلاً، ويبدو أنَّ الكتاب الوحيد في فنّ المقامة بعد مقامات حميدي كان "مقامات أميري" الذي تحفظ مخطوطته الوحيدة في أوروبا ضمن الآثار المخطوطة الخاصّة بـ"براون"(18).
وقد عُرِفَ سعدي أيضاً ككاتب مقامة –كما يقول بهار- حيث اكتمل فنّ المقامة به وتهذّب إلاَّ أنَّ طريقته كانت مختلفة؛ فقد أطلّ من كلّ نافذة من نوافذ المجتمع وأعطى تصويراً لكل زاوية من زواياه، ولكلّ طريقة في الحياة والتربية والسلوك، لذا بقي ما كتبه حيّاً، وقدوة للأسلاف ونموذجاً للأدباء من بعده. أمَّا قولهم إنَّ مقامات حميدي لم تقلّد ولم يوجد لها مثيل، فالجواب على ذلك نجده في قول د.أمين عبد المجيد: "..... بقي لنا أن نتساءل لِمَ لم يلق هذا اللون من التأليف المترف نجاحاً بين الفرس وهم أهل ذوق أنيق وحضارة قديمة مترفة؟.. يرجع هذا –كما يبدو لي- إلى سببين رئيسيّين: أولهما أنَّ هذا الفنّ في صياغته يقوم قبل كلّ شيء على السجع والجناس، وذلك يتطلّب وفرة في المترادفات والكلمات المتشابهة الأواخر في اللفظ وهي غير ميسّرة في الفارسيّة الإسلاميّة، وثانيهما أنَّ الذوق القصصيّ الفارسي يهدف بالحكاية إلى أغراض تهذيبيّة وصور تمثيليّة للأفكار والمعاني لا تحقّقها المقامة على هذه الصورة".(19).
الهوامش:
(1) القلقشندي، صبح الأعشى، طبعة القاهرة، 1340هـ، 11/ ص110.
(2) فارس حريري، مقامة نويسي دار أدبيات فارسي، نقلاً عن الفخري في الآداب السلطانية لابن الطقطقي، ص 13.
(3) صبح الأعشى، 14/110.
(4) شرح مقامات الحريري، دار التراث، بيروت، 1388، ص5.
(5) نفسه، ص7.
(6) فارس حريري، نفسه، ص 31
(7) 14/ 110.
(8) طيار، رهير كلستان، (استانبول 1308)، ص 27.
(9) شرح مقامات حريري، ص 54.
(10) 2/ 334.
(11) المقدمة، ص 5.
(12) خاتمة الكتاب.
(13) المقامة السبكياجيّة ترجمة كاملة للمقامة المضريّة لبديع الزمان الهمداني.
(14) المقامة 23، ص 434.
(15) المقامة 21، ص 398.
(16) المقامة 4، ص 46.
(17) مرزبان نامه، المقدمة ص5.
(18) فارس حريري، المرجع نفسه، ص د.
(19) أمين عبد المجيد بدوي، القصّة في الأدب الفارسيّ، دار المعارف، القاهرة، ص 367.
د. ندى حسّون