نقد أحمد راشد ثاني - كتب الحريق...

في الطريق إلى المدن، إلى التحلل، إلى الانمحاء، في الطريق إلى النكبات والمنافي والحرائق والنوم والتعب والغثيان والانسحاق والنهاية، جمعنا نحن مدّعى القراءة عشرات الكتب.

تملأ الكتب طاولات ونوافذ وخزائن وأسرَّة وأرضيات وسلالم بيوتنا، ملأت الكتب حياتنا ولحظاتنا وضجرنا وهدوئنا وفاقتنا وأحلامنا.

الكتب التي راودتنا في الطفولة، وسعت إلينا من مناكب الأرض، وتعثرنا بها في مفاصل اللحظة، وورثناها كما يرث البحر السماء. الكتب التي وضعناها خفية تحت المخدّات، وحملناها علانية بين الدروب وأهديناها للفتيات المحبوسات في خجلنا، وتقطعت صفحاتها بين أصابعنا من السهر أو من التوتر أو من الغضب أو من الرضا أو من الاستعمال أو الاستعجال أو الإهمال. الكتب التي أكلتها عن قوارض الخشب، أو أخفاها عنّا الغبار، أو الجهل أو الحرام، أو القرب أو البعد، الكتب التي ذابت من الدموع أو البلل أو الغرق في الأحلام، أو إغداق الظل على اليابسة، أو الاختلاء بقطعة سماء خلف صحن البيت.

الكتب الوحيدة بينما نحن مهاجرون خلف الأمواج وخلف الأشجار وخلف الظلال. على الجدران والدراجات وأجساد المتعة. الكتب المهجورة تحقيقاً لرغبات الأوصياء أو السجّانين أو رفاق الحُفر، أو أصدقاء الطيور. الكتب المهجورة لأنها تصيد العيون، والكتب المهجورة لأنها تحيِّر الأقدام والكتب المهجورة لأنها تقلل من أهمية الحياة، والكتب المهجورة لأنها صادقت الموت وغادرت معه الطفولة دون جدوى. الكتب المهجورة لأنها قاسية، بشعة، خفيفة جداً، تافهة بلا مذاق. الكتب المهجورة لأنها مرّة، تخلو من الأحلام، تخلو من الأوهام، قليلة الفائدة، تطير بين اليدين. الكتب المهجورة لأنها من نتائج الغباء، لأنها من مزارع التبن، لأن الكهرباء لم تصل إليها، لأنه لا يوجد فيها ماء، ولا امرأة تبتسم، الحقيقة فيها عجوز لطالما نامت معها العيون ولم تنجب إلا التجاعيد.

2

أول كتاب.. الكتاب الأول، الذي قيل لنا بأن هذا الشيء اسمه كتاب، اسمه الكتاب.

آخر الكتاب بأناشيده القصيرة التي تشبه هذيان الصيادين، الحكايات التي أتت بالكتاب، الحكايات التي جاء بها الكتاب، الحكايات المطمورة في الكتاب، المخبأة كالينابيع أو كالبراكين، أو كأحجار الماء السوداء، النائمة كالعيون العمياء.

الحكايات التي لم يوقظها دوي، لم يلمسها سؤال. لم يخرجها من أعماق اللاوعي غائص، ولم تدخل دروبها الأحلام.

الحكايات التي ظلَّت كهوفها مغلقة بصخور التأويل. الحكايات التي مرَّ عليها المفسرون وكالحمير وهي تحمل أسفاراً من الحكايات. الحكايات التي رددت دائماً حتى تحولت إلى أختام، والتي مشت طويلاً على الألسنة حتى تحولت قواقع فارغة.

العبارة التي ولدت تحت سدرة الحكاية، العبارة التي لجأت إلى سدرة الحكاية كي تشرب الظل.

العبارة القاصمة، علَّقت على الأعناق، وشربت مياه الألباب، وحوّلت البحر إلى فص من غياب والحكاية إلى جسور مكسور على هاوية اللحظة الشقراء.

الكتاب الوحيد تعلم اللغات وصار كتب كثيرة. الكتب الكثيرة فرقت بين اللفظ والمعنى، بين الدال والمدلول، بين التصور والواقع، بين الطبيعة والحقيقة. الدروب التي انتشرت في الغابة مزَّقت قميص الماء. الغيوم التي ضاعت في السماء نسيت أين تركت بئر الرأس.

الكتاب الأخير، فلقد أُقفل باب الحكمة، وضيق ابن الموجة الواسع، والذي ذاب لم يعد واقفاً، والذي وقف لم يذب.

الكتاب الأخير: آخر الكتاب، إما في الطمأنينة أو في اللعنة، إما في الماء أو في الحجر، إما في النجاح أو الفشل، إما في الجنة أو في النار.

3

لا أدري متى سيحدث الكتاب الأخير، ليس في ذهني كتاب أخير. الكتاب الأخير هو الكتاب الأول. بعدها جاءتني الكتب على ظهر السفن، وظهرت في القمامات كشجيرات الطماطم، وصرت أشتري منها كحلوى العيد، وحلَّت محل الهدايا حتى في أضيق الأحوال.

امتلأت بها حقيبة المدرسة، حقيبة المدرسة التي لم تُتح طوال اليوم. التي لم تفتح بعد ذلك أبداً. وضعت الرواية البوليسية تحت كتاب الكيمياء، وتحول دفتر الواجب إلى سبورة الإلهام. الحائط إلى إعلان عن إذاعة الجيش والقوات المسلحة، الحصى المتناثر في حوش الرغبة إلى كلمة حُب، البعد الذي امتلأت به صبيحة الزريبة أكد أهمية الهضم.

قرأ الفارغ آية العبور، قلَّدت الأنا المكسورة شجاعة البرق، وتهجَّد السمع وهو يسمع صوت الدعاء، تعددت الروح حين تمزقت مع أغنية الفراق.

عجين الرمل هو الذي أظهر أسرار الجسد، مكر الماء كشف عورة الموت، وما قالته الأشجار اعتبر من أوجاع السنين.

الكائنات التي خرجت من الكتاب، التي وجدت في الكتاب. التي تشبهها كائنات وردت في الكتاب. والكائنات التي كشفت الكتاب عنها لأول مرة.

القديمة، الكائنات القديمة، كالأمهات وقد جعل الكتاب تحت أقدامهن أحواض الرغبة، والكائنات الحديثة جداً. كتلك التي تمشي الآن على قارعة الشارع جريمة في حق العيون.

الكتاب الذي تحوَّل إلى منزل أشباح، والكتاب الذي أغلق الباب على بطلاته الجواري كي ينام معهن القارئ، والكتاب الذي أخذ القارئ في رحلة لم تنته إلا عند الفجر.

كانت الشمس تخرجُ بعد تلك الرحلة، على الأرض مغسولة وطريَّة. كفها مملوء بالوعود. وعينها الواسعة رحبة، تحنو على شيخوخة الجبال وترقِّص البحر.

4

أنواع الكتب، الكتب المفيدة، والكتب غير المفيدة، الكتب التي تحقق الأحلام، والكتب التي لا تحقق الأحلام، الكتب التي ترفعك إلى الأعلى، والكتب التي تنزلك حتى الصعاليك والمطاردين.

الكتب التي وصلت، التي رُدَّ عليها، التي أبوها الإيمان وزوجها العقل، والكتب التي لم تصل، الغامضة، كتب السحرة المطليين بلحى بيضاء حتى أخمص أقدامهم، الذين يفرقون بين المرء وزوجه، آكلة لحوم الوديان، الطائرون بالموتى، الراقصون مع الليل في الكهوف.

كتب الرقص المفقودة، الكتب المحرمة، الباه وغيره، ومنطوق الكفرة وفلسفة العبد، كُتب الغزاة، الكتب التي يتركها الغزاة وراءهم كما يتركون السم في الآبار، الكتب التي يدسها المنافقون كما يُدس السم في العسل.

الكتب التي يأتي بها الغرباء، وحين يدخلونها إلى الموانئ وكأنهم يدخلون السل والجدري والطاعون، الكتب التي لم تهبط من السماء، التي ظهرت على سطح الأرض كما تظهر الفقاعات، الكتب التي حيكت من عروق الخنازير وألصقت بكثافة النبيذ، وفتحت في الساعات المخصصة للصلاة، الكتب التي لم تقد أحداً إلى الصلاة، قادتهم إلى العمل عند الملوك.

قادت أفكارهم إلى البخل والإمساك، تصوراتهم إلى البعيد، هنالك هجرتهم ضائعون بلا دليل، هنالك تركتهم يجمعون اللعنة كالحطب ويحملونها إلى قرى آبائهم.

فلتهزمهم مدرسة الجميع، وليحميهم الكتاب الواحد، وفيما عدا ذلك فلقد عُلقت من أقدامي على أغصان الشجرة التي تتوسط البيت، عُلّقت من أوهامي، وجاء أبي بعلبة الكيروسين وكتبي.

أحرقها تحت رأسي، كانت الكتب، صفحات الكتب تتوجع ورأسي يُفتح كعلبة سردين، كانت عيناي المفتوحتين تركضان بعيداً عن قدماي المربوطتين.

الغبار ملأ شعري وحوّله منذ ذلك اليوم إلى أعشاب جافة. دخل الغبار تحت ثيابي، وفصل بين جسدي وبين ما أبدو عليه، ازداد دماغي سخونة وعروقي ليونة، واللحظة القاتلة التي كان من المفروض أن تُطلق فيها الرصاصة توقفت في فضاء حياتي.

5

هربتُ، ازداد هروبي في الكتب ونحو الكتب، الكتب التي خبَّأتني عن العواصف، هي كذلك التي دبَّت عواطفي في أقنان التردد والخجل، كان الذنب الأبدي ينمو مع السطور، والغفران لا يطرقُ باب الحياة أبداً.

الكمائن والأفخاخ بانتظار القراء، التوجس بانتظار المدّعين كما المستشرفين، كل فئة أخذت كتاباً وسكنت بين صفحاته، كل ناحية أخذت صفحة وألصقتها على خدها الأيمن، كل من جلس أخرج من الكتاب دلواً وصبّه على الطاولة، حتى جفَّ الوقت.

تلوذ بكتابك كمن يلوذ بمعبد، الأخوة الأعداء يبحثون عن دموعك تحت ظلال الزيزفون كي يشربون معك الألم، ويشاركونك في ارتشاف هذا الرحيق الذي ظهر على اثر احتكاك عينيك بالصفحات. ولكن ما يختلفون معك حوله، لن يختفي كالسراب، ستقام أعمدة هناك، في سوء الفهم، تشبه أطلال الكبت، ستقام هناك على باب البحر خيام كي تستر عري الأفكار.

الهواء شاغر، إملأ قبضتيك بالفواصل والنقاط، وانثرها في ريح النسيان، ولذ بكتابك كمن يلوذ إلى الرحمة، الكلمات الشقراء اصفع بها خد الحديد، اللعثمة التي صارت تتقدم خطواتك، تفسح لك حفراً في القلوب وزوايا خافتة في العيون، ودمعة تجري على اللسان.

تردد، فالأكيد هنا هو الأكثرية، اختفِ، فالحضور هنا كأي شوكة، احترق من قال إن الماء وحده مَنْ يغسل الأفكار، متى، مَنْ قال إن الموتى لا يعودون من ذلك الفتات.

6

غرقت في كتب المعصية، وصاحبت كتب الأناشيد، وأخذتك الأسئلة إلى شارعها الخلفية، والسطور إلى مدنها اللامرئية والأمواج إلى المكتبة التي يظهر الساحل في نوافذها كالكحل الأبيض.

المرارة سُحقت تحت خطوات الطيش الراقصة، وما اعتبرته جرحاً ظلَّ حصاة تتقرقع في صندوق الروح. هي وحدها التي تحملُ العيون إلى مرآتها تشفي الجسد من عطش الأخاديد، هي وحدها التي تقبض على الاحساس فيك تعرف كيف تُمسِّد شعر الروح.

راحت الكتب تصب في نواحي الشلال، صارت الأمواج كبيرة في نظر الليل الدائخ، صارت السماء داجنة في مزرعة اللا هوية المتلاطمة، اركب قارب كل كتاب وابحر في الأنهار المجهولة والخفية، افتح في الدفاتر حساب مع الطيور، قل للأشجار أوراقك بحاجة إلى خيط، وجذورك إلى محيط، والظل الذي تركبين حماره إلى حشيش، ابدأ الحكاية، وستجدك في الأخير واقفاً هناك عند المحطة التي ستعيدك إلى الحياة.

الانفصال غاية، والفراقات جمل من قصيدة الأمل، وهذا الكسل الإلهي الذي تلبس قميصه قادر على تحمل قاذورات الطقس.

7

جمعت الكتب من الكتاب الأول وجمعت الكتب من النوافذ المغلقة وجمعت الكتب من الصناديق المزخرفة وجمعت الكتب من القمامة ومن الهدية ومن البيع والشراء والحج والتوبة والشبع والغرور.

جمعت الكتب من المدارس والمعارض، من الذين خدعتهم نرجسيتك، ومن الذين صدّقوا وعودك، جمعت الكتب من السرقة والاختلاس، من خفة العين، والحقيبة التي تحمل فيها دوماً أدوية الضجر.

جمعت الكتب من الكتب، من الأفكار التي صارت تنتشر في رأس كالجراد، ومن الحدس الذي يحفر تحت العنوان ويكتشف الجثة، جمعت الكتب من هناك ومن هنا، وجاءت إليك الكتب وجئت إليها، ولم تتحمل كل ذلك الصمت، فأطلقت باءتها للريح، ولم تصدق الطاولة أن هذا السكران قد امتلأ حتى الفزع بفراغ الصفحات.

وتكاثرت الكتب في البيت، في الرأس، في الأحلام، في البرامج التي لا تنفذ، في الشيء الذي تبدؤه ولا تنهيه، في الشيء الذي تتوقف عند كأسه تاركاً الدفان كلها للمحتسين.

في الطريق إلى الكتابة، إلى الحياة، في الطريق إلى العمل، إلى المرأة، إلى الموجة، في الطريق إلى النشوة والرغبة، في الطريق إلى الامتلاء، إلى ادعاء الانسجام، إلى قوة الدليل، إلى تخصيب حقل الكلام، إلى تعميق وادي الهواجس، إلى السباحة في بحر التصورات، إلى الاسترخاء تحت يد الفكرة المنقذة، إلى الارتعاش من الصورة المفاجئة، إلى الالتذاذ من دوران السرد على نفسه، إلى الارتداد كل مرة بقوة نحو الحائط الذي دفعك إلى الهاوية، جمعنا الكتب.

في الطريق إلى الموت، إلى التحلل، إلى الانمحاء، في الطريق إلى النكبات والمنافي والحرائق والنوم والتعب والغثيان والانسحاق والنهاية، جمعنا نحن مدّعي القراءة عشرات الكتب.

8

متى سأقرأ كل هذه الكتب؟ أحتاج إلى أعمار أخرى، هل عليَّ حقيقة قراءة كل هذه الكتب؟ كتاب، كتابين، ثلاثة، ربما تكفي جوعي، كتاب، كتابين، ثلاثة، من الكتب التي قرأت، أو من الكتب التي لم أقرأ قد تكفي روحي.

إلى أين أذهب بكل هذه الكتب؟ هل أوزعها على الجوعى، أين أجد الجوعى؟ إلى أين أذهب بالوقت القليل، أقرأ كتاب، أم أكتب قراءة، أم أتمرجح في الحياة بين هاتين الهاويتين.

إلى أين أذهب بكل هذه الكتب؟ لن يأتي البحر إلى البيت ويأخذها معه إلى الموانئ التي تنقصها الكتب، سيجيء الحريق، سيدخل إلى البيت كلص، ومن ثم يبدأ في إطلاق دخانه.

تحترق الستائر، الكتب التي تجاور الستائر، الكتب القريبة، الكتب الموضوعة على الخشب، الكتب النادرة التي وضعت في البهو كي تتصفحها الشمس، الكتب الثقيلة التي يأكل المرء من صحونها المعجَّمة لقمة كل مرة ومن ثم يدور في الحياة حتى يتعب ومن ثم يعود لهضم لقمة أخرى. الكتب الملونة بأحراش النفس البشري، والكتب التي لا تُُحمل إلا إلى أقرب مقعد، جاء الحريق مهب عليها، وأذاب صفحاتها البيضاء الخشنة حتى صارت رماد، ماء أسود، آلام في الحجر.

موجع أن يأكل الحريق كتبك حتى ولم تقرأها، حتى ولو لن تقرأها، دع الكتب تعيش معك مطمئنة في البيت، وأغلق النوافذ على الحرائق والبحر، دع عنك سؤال ومتى ستقرأ كل هذا، يكفي أن الكتب التي وصلت إليك، وتعيش في بيتك هي التي تقرؤك.


خير جليس
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...