دراسة صالح هشام - مقاربة نقدية: حول قصة "عنق الزجاجة" للقاص فلاح العيساوي

*التمهيد:
يقول كافكا: "الكتابة عبارة عن طرد الأشياء من داخلنا وهي نوع من تغميض العينين".سأنطلق في هذه المقالة النقدية من هذه القولة التي أرى أنها تلخص، هموم الكتابة وأوجاعها، وإن اختلفت الحقول، التي تمارس فيها الكتابة بصفة عامة، سواء تعلق الأمر بالشعر أو النثر، فهي ضرورة ملحة للتعبير عما بداخلنا، وعما نعيشه من تناقضات داخلية، فالكتابة نوع من التفريغ، والتخلص من تلك الهواجس التي تؤرق النفس، وهي تغميض العينين أي أنها انزياح عن الحقيقة، ومحاولة إفلات منها فليست لنا الجرأة للتعبير عن الحقيقة كما هي، بل نعبر عنها من خلال التحليق فوق الواقع عن طريق المحاكاة أو المجانسة أو المماثلة، فليس المهم هو كيفية تفريغ هذه الأشياء وإنما المهم هو طرد هذه الأشياء، وقد اختلفت الوسائل عبر الأجيال وعلى مر العصور.
فكانت الأسطورة والملحمة، وكان الأدب الحديث ومن بينه القصة القصيرة، كجنس أدبي حديث النشأة، لكنها لاتقل أهمية عن باقي الفنون الأدبية الأخرى.
وسأحلق مع القاص فلاح العيساوي في أجواء قصته (عنق الزجاجة) والتي لازلت أراها إلى الآن على شكل كتلة بيضاء لاتخلو من خربشات متناثرة هنا وهناك، لذلك من الضروري أن نغوص في أعماق الغموض فيها، وحتى نقف على حقيقة جمالياتها، وربما من خلالها سنكتشف نوعا جديدا من الكتابة في ميدان القصة القصيرة ومن يدري.. فالإبداع لا يعطيك ما به حتى تعطيه نفسك بالكامل وتتفاعل معه وتمنحه كل وقتك، وسأنطلق كالعادة من عنوان هذا النص باعتباره المفتاح السحري للنص.

*العنوان:
سبق أن قلت في إحدى دراساتي النقدية أن العنوان، ضرورة ملحة يجب على الكاتب أخذها بعين الاعتبار لما له من أهمية قصوى في الكتابة السردية وغيرها قد تسأل شخصا يشرب قهوة الصباح، ويتلاعب بجريدة بين يديه، فتقول له:"ماذا تفعل يا هذا؟"! حتما سيجيبك إني أتصفح العناوين. فلماذا العناوين؟! لماذا لا يقرأ الجريدة من أولها إلى آخرها، وقس على ذلك بالنسبة لقراءة مجموعة قصصية معينة، فإننا نقرأ النص الذي يثيرنا عنوانه ويشدنا إليه، فهو أشبه باللوحة الإشهارية التي تسيل لعابك، قبل أن تعرف نكهة المنتوج، وهذا بالفعل ما نلاحظه بالنسبة لهذا النص الجميل، يتضح من خلال العنوان (عنق الزجاجة) أن هناك مآزق ما، أو مشاكل ما، او، او، او، او، يتبادر إلى آذاننا هذه التخمينات انطلاقا من مخزوننا المعرفي وما يوحي به هذا العنوان، فقد نقول: إن فلان خرج من عنق الزجاجة. بمعنى أنه تجاوز المحنة بصعوبة بالغة، أو نقول سأخرجك من عنق الزجاجة، وتعني أني ساعتصرك وأبالغ في ذلك، لكن ماذا يعني (عنق الزجاجة) في قصة فلاح العيساوي، كعنوان، يشد القاريء للغوص في ثنايا النص.

*المقومات:
سأنطلق في التحليل النقدي لهذا النص، من خلال المقومات، والخصائص لأنها هي التي ستبين لنا ماهية القصة، باعتبارها مساحة محدودة وثلاثية الأبعاد يكون الكاتب ملزما بأن يخلق فيها عوالمه و ينحت فيها شخصياته، ويحلق بالقاريء في ذلك العالم الافتراضي، محققا متعة الإدهاش والتأمل، هذا باعتبار القصة فن بالغ الحساسية يستوجب إمكانيات عالية إن على مستوى التكثيف أو الاستعارات إلى غير ذلك من المميزات الجمالية للقصة وسأنطلق من:

*المكان:
إن التعريف التقليدي والمتعارف عليه بالنسبة للمكان هو ذلك الفضاء الذي تقع فيه الأحداث وتتحرك فيه الشخصيات، وتتعدد أو تتوحد حسب طبيعة كل نص على حدة، والزمن في هذا النص، يتخذ أبعادا مختلفة، تتأرجح بين المكان الذي يوحي بأنه واقعي، نذكر على سبيل المثال تلك (الحانة)، التي ستكون المحطة الأولى التي سينطلق منها البطل، وكذلك البيت، والشارع الذي سيبرق فيه أمل البطل بوقوع عينيه على أمل، التي ليست إلا بارقة أمل كما سنرى في هذا التحليل، إضافة إلى المشفى باعتباره من الأمكنة التي ستساهم بشكل أو بآخر في تنمية أحداث النص. وهناك مكان آخر فيه نوع من التمويه من طرف الكاتب إذ يوحي لك بأنه يتحدث عن مكان ما كغيره من الأمكنة المذكورة، وهو ذلك الوادي السحيق المليء بالأشلاء والمعطر برائحة الموت، هذا المكان هو مكان مستوطن تلافيف دماغ هذا البطل الذي يعيش نوعا من الانفصام الداخلي، مكان يمر بكل خصائصه في مخيلة الكاتب، في ذاكرته، في دماغه، وقد يتخيله القاريء مكانا حقيقيا، ومسرحا لأحداث النص، وهذا يحسب للكاتب لأنه يخلق هذا النوع من التساؤل والشك في ذهن القاريء وبالتالي خلخلة استقرار تفكيره، وهذا هو بيت القصيد في أي عمل إبداعي كما سنرى، فالتحليق به في عالم التساؤلات هو نوع من الرقي الذوقي والإبداعي للقارئ، كما سنرى في خاصية الإدهاش في هذا النص. اذن فلاح العيساوي يلعب على تعدد الأمكنة في هذا النص، منها ما هو ايجابي تجري فيه الأحداث ويتحرك فيه الأبطال، ومنها ما هو كامن فقط في ذلك الدماغ المثخن بالجراح، المتملص من ذلك الواقع الأليم الذي تعطره روائح الموت كما قال فلاح العيساوي في ذلك. والمكان في الفن السردي بصفة عامة، هو من بنات أفكار الكاتب، يخلقه ويؤتثه، على مقاس الشخوص، ووفق الأحداث، المفترض أن تجري عليه، الأمكنة إذن وكما سبق أن قلنا أكثر من مرة، تكون كما القصة باكملها افتراضية، مجانسة لأامكنة واقعية ، بدون هذا التحوير لا يقع الانسجام بين الكاتب والقاريء ، الذي يبحث عن كل ماهو غريب عنه ، لأنه سيكون مصدر المتعة، في القراءة.

*الزمن:
إن الزمن في النص لايقل أهمية عن المكان، باعتباره متفاعل جدليا مع المكان، فلا مكان بدون زمن. والملاحظ أن الأستاذ فلاح العيساوي، قد ركز في هذا النص على زمنين متباينين، وهما الماضي والمضارع. تقع الأحداث بصفة عامة في الزمن الماضي، لكنه يحتضن أغلب الأحداث التي تتميز بالاستمرارية الزمنية، هذا يعني أن الأفعال المضارعة التي تم توظيفها ليست بالضرورة دالة دائما على الحال أو الاستقبال كما تعودنا على ذلك في قواعد الصرف العربي. لكن دائما السياق العام للنص والذي يحدد الغاية الزمنية التي استعمل من أجلها الفعل المضارع، فالمتأمل في توظيف هذه الأفعال يجد أنها وقعت في الماضي لكن مع استمرارية الحدث (يعتق /ينظر/يفوح/يعج/تغزوه/يحاول........) هذه أمثلة فقط عن المضارع باستعماله في الزمن الماضي ولكن بصيغة الإستمرارية في الحدث، وهناك بعض الأفعال المضارعة الدالة على الماضي لأنها استعملت منفية، (لا يتبقى) وهنا لا أقوم بعملية إحصاء وتصنيف لاستعمال الأزمنة بقدر ما آخذ نماذج لا أقل ولا أكثر للتدليل على نوعية الزمن المستعمل، فهو استعمال يتأرحجح بين الماضي والمضارع بين الماضي والاستمرارية في الأحداث، ويمكن توضيح ذلك أكثر عندما نكون بصدد دراسة، تقنية السرد في هذه القصة (عنق الزجاجة).

*الشخوص:
هي إذن القصة القصيرة الاقتصاد في كل شيء، في المكان وفي الزمن وفي الأحداث، وفي كل شيء، وليس هذا راجع بالضرورة إلى عامل التحجيم والاختلاف عن الرواية في الشمول والاستيفاء، فهي كما سبق أو كما يحلو للبعض أن يسميها: جغرافيا ضيقة يصنع فيها تاريخ طويل بشكل توسعي متسارع يشبه الانفجار الكبير. ركز الاستاذ فلاح العيساوي في هذا النص على ثلاث شخوص رئيسة، البطل والأم وأمل، وهناك شخوص لم تذكر في النص وإنما تم التلميح لها فقط، وهي شخوص قسم المستعجلات، تم توظيف كل هذه الشخصيات بشكل خجول، باستثناء الشخصية الرئيسة باعتبارها البطل في النص، وإن اختلفت أدوارها ووظائفها.

*الأحداث:
إن الأحداث في النص القصصي هي تلك التحركات التي تنتج عن الشخصيات سواء كانت ثانوية أو رئيسة، وهي هنا إجمالا، لا تربو عن أربعة أحداث رئيسة تنحصر ما بين المقهى والمشفى، ( التواجد في المقهى/العودة إلى البيت/الخروج إلى الشارع/احتضان المشفى أو (غرفة) العمليات الكبرى لأمل) ثم تأتي قفلة النص بغفوة أمل التي لاتخلو من أمل، وعودة البطل إلى حياة الأمل من جديد. أنا هنا أقوم بعملية تحديد الأحداث والتعريف بها ووصفها وليس تحليلها كما يعتقد البعض.

*الخصائص الفنية:
الانزياح وبلاغة الغموض:
الغموض إشكالية مركزية مؤسسة على العلاقة النوعية بين النص والمتلقي من جهة والنص والواقع من جهة أخرى، والغموض مصطلح زئبقي لأنه في كثير من الأحيان ما يتداخل مع الإبهام والتعقيد، هذه الخاصية التي عرفت في الشعر العربي. قديمه وحديثه، لكن هذا يعتبر من عيوب الكتابة، فهناك من النقاد من لجأ الى شرح السهل بالمبهم، كما هو الشأن بالنسبة لكمال (أبو ديب)، وقلت إن الإبهام والتعقيد من عيوب الكتابة لأنها تضيع على المتلقي، تحصيل الفهم للمعاني، ولا أريد هنا أن أدخل في هذه المتاهة التي خاض فيها النقاد منذ القديم، فقط أقصد بالغموض، الانزياح، الذي يعتبر من مقومات الكتابة في مجال السرد، والمقصصود بالانزياح: العمل على تكسير المألوف في اللغة لخلق غير المألوف والذي بدونه لا يمكن أن يحصل الإدهاش والإعجاب، في نفسية المتلقي، ويتم هذا التكسير على مستوى الإسناد وطريقة نظم السياق العام للجمل المستعملة في النص، مع ضرورة الحفاظ على قواعد اللغة على المستوى النحوي والصرفي، وهذا ما نلاحظه بشكل واضح في نص (عنق الزجاجة)، فمعظم الجمل في النص لا تخلو من بلاغة الغموض التي تخلق هذا النوع من الغرائبية على المستوى اللغوي، إذ يعمد الكاتب عنوة إلى إسناد كلمات أخرى لاتناسبها من حيث المعنى أو أنها لم تخلق لها أصلا أو تناقضها هذا الانزياح الذي يخرج اللغة من المباشرة المبتذلة والعادية والتي تنفر القاريء من متابعة الأحداث في النص، وأعطي هنا بعض الأمثلة على سبيل الاستئناس. يقول فلاح العيساوي في استهلال النص، (جلس في محراب عينيها يعتق الصهباء في كأسه الهلامي) دون أن يبين من يقصد بهذا الضمير (ها) وعلى من يعود، أهو عائد على الخمرة المعتقة أم على محراب حبيبة ما، وكذلك إسناد عطر إلى الموت، كلمتان متناقضتان تماما، وهكذا دواليك في النص بأكمله، فالغموض إذن ليس هو ما يكون حجر عثرة أمام فهم القاريء ويحول دون تمرسه بجماليات النص، فالخاصية الأساسية للنص السردي هي أنها تكون قائمة على التكثيف والإيحاء والترميز وهنا تتعدد المستويات الدلالية لبلاغة الغموض، فالطريقة التي نههجها فلاح العيساوي، تجعل القاريء متفاعلا مع النص، من خلال التساؤلات التي تجبره بلاغة الغموض على طرحها، فيتحول من قاريء عاد مستهلك الى قاريء واع ناقد، يشارك بشكل أو بآخر في إعادة صياغة النص، وتشكيله وهذا هو ديدن نجاح أي كاتب من الكتاب. لأن القبض على القاريء ليس بالأمر الهين، وتحضرني قولة جميلة جدا لرائد السرد العالمي، كابريال كارسيا ماركيز إذ يقول (القبض على أرنب أسهل من القبض على القاريء).

*السرد:
إن عملية السرد هي الكيفية التي تروى بها أحداث القصة عن طريق مؤثرات السارد، هذا العنصر الذي يعمل أساسا على صناعة الكلام المحكي في النص، وتوزيعه وترتيبه وإسناده إلى الشخوص، سواء الثانوية أو التي تلعب دور البطولة، فالسارد هو الذي يقوم برواية الأحداث، ونلاحظ هنا في هذا النص، ان السارد يستحوذ على سرد الأحداث، ولا يترك مجالا للشخصيات للتحرك وإنما يحركها كما لو كانت كراكيز في يده. فالصوت المهيمن إذن في النص هو صوت السارد إذ يتوسل في الكلام بضمير الغائب متنقلا بين الماضي والحاضر، وإن كان من حين لآخر يستعمل ضمير المتكلم والمخاطب ولكن بشكل جد خجول، والسارد في النص لا يتموضع داخل النص ويشارك في الفعل ويعلق عليه إلى غير ذلك وإنما، يوجه تحركات الأبطال خارج من خارج النص، ولا أريد هنا أن أركز على دراسة الخصائص النفسية للبطل من خلال، غوص السارد في أعماقه، إذ كان يعيش حالة انفصام ، ويأس قاتل، لكن سرعان ما سيعود له ذلك البصيص من الأمل بوجود أمل، وقد تعمد الكاتب توظيف الكلمتين لما بينهما جناس. وفي نهاية هذه الملاحظات أقول بأن قصة الأستاذ فلاح العيساوي (عنق الزجاجة) تجنح بهذا الأسلوب بجميع مقوماته إلى تحفيز التخييل عند المتلقي كما يعمل على إشراكه في صناعة النص، أو إعادة تشكيله، ما دام أصبح ملكا له يفعل به ما يشاء.

*الخاتمة:
ربما الذي ينقصنا نقاد وكتاب القصة هو أننا لا نعير عملية الشطب اي اهتمام، كما أننا نتسرع في عملية النشر، قبل التنقيح، ويمكن ان نستفيد مما ذكره الروائي أرنولد بينيت في مذكراته قال:"انهض بابتهال كل صباح، أجلس لمدة ثماني ساعات يوميا، والجلوس هو كل شيء، وفي خلال يوم العمل لمدة ثماني ساعات كتبت ثلاث جمل شطبت عليها قبل أن أغادر المنضدة". وأتمنى صادقا أن تواكب الحركة النقدية هذه الإبداعات الرائعة لهؤلاء الكتاب المرموقين، والذين تضيع إنتاجاتهم على صفحات المنابر الثقافية. ولنتجاوز أحكام القيمة المجانية أو المبالغة في الإطراء والمديح لأن ذلك يضر بالكاتب قبل النص.
صالح هشام/الرباط
الاربعاء 8 يوليوز 2015

صالح هشام/ المغرب


........................


النص المعتمد/"عُنقُ الزجاج"/للقاص فلاح العيساوي/العراق.

جلسَ في محرابِ عينيهْا يعتِّقُ الصهباءَ في كأسهِ الهلامي، ينظرُ نحو أفقِ الوادي السحيقِ، لا يجد ُفيه غيرَ أشلاءٍ بعثرَها الزمنُ، يفوحُ منِها عطرُ الموتِ الرهيبِ على حافةِ هاويةِ الإنهيارِ، ذلكَ الوادي يعجُّ بالنعيقِ، أشباحُ الريحِ تغزوهُ على شكلِ زوابع تطاولُ السماءَ المفتوحةِ، يحاولُ الانتحارَ داخلها، أو الطيرانَ نحو العدم ِالمجهولِ.
ليتَ أمي لم تلدني..!
دندنةُ قيثارةِ الوجدِ الأولى...
عوقُ الفكر ِاللامحدودِ، صمتُ الليالي الجديدةِ يتلاعبُ بالمحظورِ، ثأليلُ الروح ِتنغمسُ في الحضيضِ، لا وجودَ للفرصِ الضائعةِ، السماءُ تمطرُ أعاصير تعكسُ صور َالماضي، التعاسة ُوالنجاحُ في بوتقةٍ واحدةٍ، فقط السقوط ُيحققُ الحرية.َ
يسمع ُصوتَ زاحفٍ مِن خارجِ عالمِهِ يقولُ:
- سيدي حانَ الوقتُ لتصيرَ واقعاً خارجَ الحانة.
بالكاد تحملُه قدماه نحو الخارجِ، ساعدهُ ذلك النادلُ.
إلى حافةِ نهر النسيانِ ذهب يترنحُ، يكاد ُيلامسُ الأرضَ، أخيراً انبطحتْ ْمعهُ الذكرياتُ تلامسُ حواسَ الترابِ، استنشقَ الصعيدَ الذي اخترق َحجبَ تلافيفِ المعقولِ، فأسدلَ ستار َالعتمةِ على شبحِ جسدٍ مُسجى.
في الصباحِ الباكرٍ آفاقَ من سكرِ ِالهمومِ على أُنشودةِ المزاميرِ، وقفَ على قدميهِ، مَشى نحو الواقعِ الذي يعكسُ الحقيقةَ التي يأبى تصديقَها.
دخلَ إلى عنقِ الزجاجةِ يلوي على عجل يقصدُ الحماّم، في بدايةِ الممرِ تقفُ أمامَه تنظرُ إليه بقلبٍ منكسرٍ، قالتْ والكلماتُ تتدحرج مع الدمعِ المنهمرِ:
- بنُي إلى متى تبقى تقلبُ بكَ َالريحُ كأنَكَ هشيمٌ تذروه حيث تشاءُ؟.
- أمي.. وهل أنا موجودٌ؟.. هل ما زلتِ تأملينَ عودةَ ميتٍ دفُن مع الموتى؟.
- بني لكنك ما تزالُ تتنفسُ الهواء والإنصاف هو الرضوخ ُللواقع وتقبل الحقيقة مهما كانت الأسبابُ صادمة.
تركها تتُمتم بكلماتٍ، ثم وقفَ يغسلُ شعرَه الذي مُلأ بحبيباتِ الترابٍ، أخذ َيسألُ نفسَهُ: هل أنا حي؟.. أنا جسدٌ بلا روحٍ، روحي رحلتْ معها ومعهم نحو الغرب.. لكن لماذا أنا هنا بجسدي الممزق؟.. كم أنتَ غبي أيها الجسدُ اللعين، تركتهم يرحلونَ بأجسادِهم المقطعةِ، وأنتَ قاومتَ الموتَ السخيفَ الذي انهزمَ أمامكَ، يا ليت كنت معهم قرب َالجحيم المنفلقِ من ذلك الجسدِ اللعينِ الذي تناثر َقطعاً حديديةً قطَّعتْ أوصالَهم.
على رنينِ هاتفِه المحمول ِاستيقظ َباكراً، قادَ سيارتَه على أملِ الوصولِ إلى محلِ عملِهِ قبلَ ازدحامِ الطرقاتِ، فمدينةُ الأشباحِ ليلاً تعجُّ بالضجيجِ نهاراً، مع الجدرانِ (الكونكريتية) يستحيلُ الولوجُ إلى الطرقاتِ والخروجِ منها بيسرٍ، على بعد أمتار ٍيرى أملاً وهي تعبرُ الشارعَ, أتتْ سيارةٌ مسرعةٌ دهستها وهربتْ نحو َالمجهولِ, منظرها أعادَ ذاكرةَ الألم، نزلَ يعدو بسرعةٍ نحوها!.. فقدَ التركيزَ مع الذهولِ المجنونِ، وقفَ ينظرُ إليها... صاح هي.. هي..! حملها إلى سيارتِهِ، لم ينتظرْ سيارةَ الإسعافِ، انطلقَ بها إلى أقربِ مشفىً، حركةٌ تصاعديةٌ تعجُّ في ردهةِ الطوارئ، تلقفتها الأيادي.
جلسَ أمامَ بابِ غرفة العملياتِ الكبرى، دموعُهُ تتسللُ من محجريهِ، روحهُ تصارع ُرهبةَ الإنتظارِ، اتصلَ بأمِهِ:
- أمي لقد وجدتُها؟.
- منْ هيَ؟.
- أمل.
- بنُي خوفي أن تكون قد جنُنت لفراقها؟.
- أمي أنها عادتْ من جديدٍ وعادت معها روحي الميتة.
- ابني أين أنت؟.
- أمي أنتِ طاهرة، هي تحتاجُ إلى دعائكِ.
مضتْ عقاربُ الساعةِ وهي تلدغُ جسدهِ، تجاوزت ْمرحلةَ الخطرِ، فتحتْ عينيها، رأتْ وجهَه الشاحبَ، ابتسامتُهُ اختلطتْ مع دموعِ الفرحِ, همستْ إليه:
- أنتَ منْ أنقذني؟.
- القدرُ من أنقذكِ وأنا وسيطُ فقط.
ابتسمتْ وغفتْ على حلمٍ يغوصُ بالأملِ, يحققُ له السعادةَ بعد الفقدِ والضياعِ الرهيبِ.
 

المرفقات

  • صالح هشام.jpg
    صالح هشام.jpg
    14.7 KB · المشاهدات: 411
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى