نقوس المهدي
كاتب
بين يدي في هذه المقاربة طبعة منقحة من كتاب أحمد فارس الشدياق: (الساق على الساق في ما هو الفارياق) الذي صدر للمرة الأولى عام 1855م في باريس. وهو من الكتب الأولى التي تعاملت مع الغرب، ونقلت لنا صورا من حياة الأوروبيين، نظرا لأن هذا الكتاب هو عبارة عن سيرة ذاتية لمؤلفه الذي لم يكن يستقر له قرار في أرض أو وطن، حيث سافر وجاب العديد من الأقطار العربية والأوروبية. وهو يصور ذلك كله في هذا الكتاب الذي عد بسببه أحد رواد فن المقامات في العصر الحديث، لما فيه من شبه في كثير من الوجوه بالمقامات .
وهذا ما تتاوله هذه المقاربة ، إذ تقف على ملامح المقامات في هذا الكتاب ، وتحاول ، وفق ما يسع المقام ، المقارنة بين أساليب الشدياق في كتابه هذا وبين فن المقامات عند بديع الزمان أوغيره من كتاب القامات .
أولاً : الإطار الفنَـي ..
أ- الطابع السردي ..
كتاب (الساق على الساق) هو عبارة عن سيرة ذاتية لمؤلفه (أحمد فارس الشدياق) ، ومن الطبيعي أن السير الذاتية تدخل في باب السرد ، وهذا هو الجامع الأول بين المقامات وبين (حكايات) الشدياق في هذا الكتاب .
كما أن الشدياق في هذا الكتاب لم يعمد إلى سرد أحداث حياته سرداً متصلاً ، بل جعلها عبارة عن حكايات قصيرة، لكل منها عنوان مستقل ، ولكل منها بداية ونهاية ، ويتناول كل منها حادثة بعينها من أحداث حياته ، يتم فيها التركيز على هذه الحادثة من جميع جوانبها . والكاتب يغلف هذه الحكايات بمظهر المقامات ، متخذاً من الأساليب والآليات المقامية وسيلة أدبية ليضفي –على ما يبدو- بعض الرمزية ، ويضيف أبعاداً جديدة لسيرة حياته .
سيرة الشدياق في هذا الكتاب إذن منفصلة متصلة ؛ منفصلة من جهة استقلال كل منها بحادثة معينة ، ومتصلة من جهة أنها تتضافر في النهاية لتشكل السيرة الكاملة لحياة مؤلفها الذي يبدأ بتعريفنا ببطله منذ أول يوم له في الدنيا، ويستمر في سرد أحداث حياته في طفولته، ثم في صباه وشبابه، وزواجه، وحياته الزوجية، وما تخللها من أفراح وأتراح، وأسفار وترحال وتطواف في البلدان، إلى أن بلغ السن منه مبلغاً مكنه من أن يجمع هذه الطرائف والنوادر والحوادث عنه.
ب- العناصر الثابتة ..
1- إن أي معرفة بسيطة بالمقامات تمكن من إيجاد العناصر التي تكاد تكون ثابتة في كل مقامة . وعلى رأس هذه العناصر : شخصيتا الراوي والبطل ، وهما شخصيتان ثابتتان عادة في العمل المقامي؛ فإذا اتخذ المؤلف للراوي اسم (زيد بن ضرغام) أو (عمرو بن تمَام)... أو غيرها من الأسماء، فإن هذا الراوي يكون راوياً للمقامات جميعاً، وكذلك الحال مع البطل.
وهذا العنصر الرئيس موجود بشكل بارز في كتاب (الساق على الساق). وقد عمد الشدياق هنا إلى حيلة طريفة بأن جعل من نفسه راوياً لهذه (الحكايات) ثم جرَد من نفسه أيضاً شخصية أخرى جعل لها دور البطولة، وهي شخصية (الفارياق)، وهو اسم منحوت من (فارس الشدياق) ؛ إذ الحروف الثلاثة الأولى من (فارس) ، والثلاثة الأخيرة من (الشدياق). ولعل هذا الاسم المنحوت فيه إيحاء بالرجوع إلى عصر المقامات، خاصة لما فيه من تلاعب لفظي .
وبالعودة إلى مادة (فرق) في المعاجم اللغوية، نجد أن (الفارق) هو كل ما يفرق بين الحق والباطل، و(الفاروق) هو الذي يفصل بين الأمور. و(الترياق الفاروق) هو أحد التراييق ، وأجل المركبات لأنه يفرق بين المرض والصحة . ويقال كذلك : (رجل فاروق) أي شديد الفزع. ولعل في اسم (الفارياق) إيحاء بما في هذه المعاني كذلك ، لأن هذا البطل يمثل شخصية الأديب المبدع الذي يفرق ويفصل بلسانه بين الحق والباطل ، بكل جرأة وصراحة ، ودون أن يخشى لوماً أو عنتاً ؛ فيفضح عورات بعض القسيسين ، وبعض الأمراء ، وكبار الشخصيات. وقد ساعده على ذلك ما كان يعمد إليه من تحوير وتحريف في الأسماء ، فكان هذا مما يجعله أكثر جرأة في مهاجمة تلك الشخصية أو غيرها.
أيضا يميل لتعرية مساوئ الرجال والنساء، وينتقد كثيراً من العادات والتقاليد. بل إنه يكشف عن مساوئه هو ذاته دون تحرج أو تردد .
ولكن هذا الأديب المفلق، رغم فصاحة لسانه، وروعة بيانه، وحسن منطقه، إلا أن حاله لم يكن كمنطقه، وأدبه لم يكن ليسعفه؛ فكان ضيق ذات اليد، تعيس الحظ، قبيح الهيئة، يلازمه النحس في جلَ أحواله، وفي حلَه وترحاله، كما جاء في كتابه.
أما الشخصية الثانية في هذا الكتاب فهي شخصية (الفارياقيَة) زوجة الفارياق ، التي اقتسمت معه بطولة الجزأين الثالث والرابع من هذا الكتاب . وهي – كزوجها – شخصية طريفة ، اتخذ منها المؤلف طريقاً لبيان كثير من وجهات نظره عن طريق الحوار الذي كان يدور بينهما ، والذي ساعد كثيراً في تغيير وتحويل السرد المباشر إلى الحوار الذي يبعد الملل عن القارئ . كذلك أوضح من خلالها كيف ترتقي المرأة في الدراية والمعارف ، بحسب اختلاف الأحوال عليها . فإنها "بعد أن كانت لا تفرَق بين الأمرد والمحلوق اللحية ، وبين البحر الملح وبحر النيل ، تدرجت في المعارف بحيث صارت تجادل أهل النظر والخبرة ، وتنتقد الأمور السياسية والأحوال المعاشية والمعادية في البلاد التي رأتها ، أحسن انتقاد ..." كما عبَر المؤلف .
2- وكانت هذه الأحداث والحوارات وغيرها تدور كلها في جو تسوده روح الفكاهة والدعابة رغم ما تمتلئ به حياته من المآسي والمواقف الأليمة والموجعة. ولا يخفى أن الفكاهة كانت عنصراً شبه ثابت في المقامات (خاصة عند البديع والحريري) ، فضلاً عما سبق ذكره عن وجود شخصيات ثابتة . ويلاحظ هنا الشبه بين (الفارياق) وبين (أبي الفتح الإسكندري) أو (أبي الزيد السروجي) من حيث كونهم جميعاً أدباء ، لسناء ، ذوي منطق وبيان وحجة وبرهان ، وفي الوقت ذاته هم فقراء ، رحالون في الأرض يبتغون الرزق (مع اختلاف الوسيلة لدى كل منهم) .
3- وإن استقلال كل حكاية من هذه الحكايات بعنوان مستقل ، وتفردها بعرض حدث واحد ، هو عنصر ثابت هنا وفي المقامات كذلك .
4- مزج النثر بالشعر هي خاصية من أبرز خواص المقامات ، وقد التزم بها المؤلف في (حكاياته) ؛ إذ يأتي الشعر معاضداً للنثر ، مسانداً له ، مؤكداً معناه . كما أن فيه بعداً عن رتابة النثر وما فيه من سرد أو غيره ، فضلاً عما يؤديه مزج الشعر بالنثر من إظهار لبراعة الكاتب ، وبيان لقدرته وتمكنه من فني القول : الشعر والنثر .
5- أخيرا يلاحظ أن اللغة التي يستخدمها المؤلف في (الساق على الساق) هي لغة قريبة جداً من اللغة المستعملة في المقامات ، وكذلك معظم الأساليب والسمات اللفظية، التي سيتناولها الجزء الثاني من هذه المقاربة.
ثانيـــاً : اللغة والتقنيات ..
إن من أبرز ما تتميز به المقامات عن غيرها من فنون السرد : اللغة السائدة والمستعملة فيها، بما تحويه من فنون بلاغية، ومحسنات بديعية، وإكثار من المترادفات، وغير ذلك مما عده البعض الغرض الأول من كتابة المقامات عند مخترعها بديع الزمان الهمذاني. حيث شاع أن الغرض من صناعة المقامات هو غرض تعليمي ، يقول شوقي ضيف: "والمقامة على كل حال ليست قصة ، وإنما هي حديث أدبي بليغ ، وهي أدنى إلى الحيلة منها إلى القصة ، فليس فيها من القصة إلا ظاهرها ، أما حقيقتها فحيلة يطرفنا بها البديع وغيره لنطلع من جهة على حادثة معينة، ومن جهة ثانية على أساليب أنيقة ممتازة . ومن هنا جاءت غلبة اللفظ على المعنى في المقامة ، فالمعنى ليس شيئاً مذكوراً ، إنما هو خيط ضئيل تنشر عليه الغاية التعليمية".
وإلى هذا يشير الحريري في مقدمة مقاماته بقوله في التعريف بها : "تحتوي جد القول وهزله ، ورقيق اللفظ وجزله ، وغُرر البيان ودُرره ، ومُلح الأدب ونوادره ، إلى ما وشحتها به من الآيات ، ومحاسن الكنايات ، ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية ، والأحاجي النحوية ، والفتاوى اللغوية ، والرسائل المبتكرة ، والخطب المحبرة ...".
ويصرح الشدياق في مقدمة كتابه هذا (الساق على الساق) بأن أحد غرضيه من تأليفه هو : "إبراز غرائب اللغة ونوادرها ، فيندرج تحت جنس الغريب نوع المترادف والمتجانس...وقد ضمنت منهما هنا أشهر ما تلزم معرفته وأهم ما تمس الحاجة إليه، على نمط بديع ، ولو ذكر على أسلوب كتب اللغة مقتضباً عن العلائق لجاء مملاً..." .
وأما الغرض الثاني فهو ذكر محامد النساء ومذامهن ؛ لأن سائر البدائع كان أصل استنباطها مسبباً – كما يقول – عن النساء .
وعلى الرغم من أن لغة المقامات تشيع في الكتاب كله ، إلا أنها تظهر أكثر ما تظهر في أربع (حكايات) من حكايات الكتاب عنونها الكاتب بعنوان (المقامات) ، وصرَح في أولاها بأنه يتعمد أساليب المقامة اللغوية ويتكلفها تكلفاً ، كما صرَح بأنها ستكون أربع مقامات موزعة على فصول الكتاب ، يقول : "قد مضت عليَ برهة من الدهر من غير أن أتكلف السجع والتجنيس ، وأحسبني نسيت ذلك . فلا بد أن أختبر قريحتي في هذا الفصل فإنه أولى به من غيره ؛ إذ هو أكثر من الثاني عشر وأقل من الرابع عشر ، وهكذا أفعل في كل فصل يوسم بهذا العدد حتى أفرغ من كتبي الأربعة فتكون جملة المقامات فيما أظن أربعاً ..."
وهو يتخذ لراويه في هذه المقامات اسم (الهارس بن هثام) الذي يمر بمشكلة ، أو تعسر عليه مسألة فيجد في طلب الحل الذي لا يجده إلا عند (الفارياق) بطل المقامات وأديبها الفطن اللَسن الذي يرشده إلى الصواب بحسن منطقه (وهذه الكلمة هنا نستعملها على اعتباريها اللفظي والاصطلاحي: أي (القول) و(علم المنطق والفلسفة والكلام) .
ويبدأ الشدياق كل مقامة من هذه المقامات بقوله: "حدَس الهارس بن هثام" ولا يخفى ما بين هذا الاسم وبين (عيسى بن هشام) أو (الحارث بن همام) من شبه ، على أنه يستعمل هنا (حدَس) بدلاً عن (حدَث) ، ويبدو أن ذلك بسبب ما يعتمل في فكر الراوي من تفكير وتدبير ومساءلات ومداولات يحاول فيها أن يرجح بين أحد الحلول، و(الحدس) نمط من أنماط الاستنباط كما هو معروف . أو لعلها مجرد سمة لفظية في نطق الثاء سينا على عادة أهل مصر والشوام.
وتدور فكرة المقامة الأولى حول الترجيح بين حالتي بؤس المرء ونعيمه ، وأيهما هو الغالب في حياة الإنسان . ويحاول (الهارس بن هثام) أن يفكر في حل هذه المسألة فلا يهتدي إلى جواب ، فيلجأ إلى مطران كان يسكن إلى جواره ، ثم إلى معلم للصبيان ، ثم إلى أحد الفقهاء ، وبعده إلى أحد الشعراء ، وأخيراً إلى كاتب الأمير ، فلم يجد لدى أحدهم ما يشفي نفسه ، وإذا به أخيراً يصادف (الفارياق) فيستشيره في المسألة ، ويحصَل عنده مراده ، ويعثر على ضالته .
وإذا تناولت (على سبيل المثال) وصفه لموقفه مع المعلم نجد تلك الصورة النمطية الشائعة للمعلم بما فيه من حمق وغفلة لطول معاشرة الصبيان ، وهي صورة نجدها أيضاً في مقامات الحريري الذي خص (المعلم) بإحدى مقاماته .
يقول الشدياق : "فلأستعملن بعده أكثر الناس حمقاً وهوجا . وما ذلك إلا معلم الصبيان الهجا ! وكان في البلد من اتصف بهذه الصفة ، وهو مع ذلك ذو كبر وعجرفة . فقصدت محله ، وألقيت عليه المسألة. فإذا به قام يصفق بيديه ، ويرارىء بعينيه . ويقول :"لقد سقطت على الخبير ، واهتديت برأي بصير ، إن شئت أن تعرف أي القولين أرجح ، وأصدق وأصح ، فزن الجدولين دون جلد الكتاب في ميزان ، فما رجح منهما فهو الراجح ما اختلف في ذا اثنان . فقمت من عنده غضبان نادما ، ولعنت الأرق الذي كان السبب في أن أكون لمعلمي الصبيان مكالما ، بعد أن قرأت في غير كتاب وسمعت من ذوي الألباب ، أنهم أسخف خلق الله عقلا ، وأكثرهم جهلا... " .
وبعيداً عن هذه الصورة الكاريكاتورية أو النمطية للمعلم ، فإن الشدياق هنا يعتمد كافة أساليب المقامات ، من التزام بالسجع ، وإكثار من المترادفات ، والميل إلى الجمل القصيرة المتوازنة موسيقياً ، والمتماثلة من جهة المعنى ، بحيث تكون الثانية مؤكدة للأولى ، أو مبينة لها : (لقد سقطت على الخبير ، واهتديت برأي بصير).
وأما الشتائم التي يكيلها بين حين وآخر لهذا (الجاثيلق) أو ذلك (القسيس) أو غيرهما ، فتذكر بما كان يرد في المقامات ، على مثال ما نجده في المقامة (الدينارية) لبديع الزمان أو غيرها ، ومن ذلك عند الشدياق ،على سبيل المثال، قوله : "وكان بعير بيعر ستهما ، جعظرا ، أحزقة ..." .
كذلك يلحظ لديه الإكثار من الاستطرادات اللغوية في الإتيان بالمترادفات ، وكانت هذه ميزة كبيرة في كتابه ، وقد حذر الشدياق من حذف هذه الاستطرادات أو بعضها ، بل واشترط على القارئ : "ألا يسطر شيئاً من الألفاظ المترادفة ... على كثرتها، فقد يتفق أن يمر به في طريق واحدة سرب خمسين لفظة بمعنى واحد أو بمعان متقاربة" إلى أن يقول : "و إلا فلا أجيز له مطالعته ولا أهنؤه به" . وكأنه يدرك ما سيقع في كتابه وفي هذه الألفاظ بالتحديد؛ فمحقق هذه الطبعة التي بين يدي قد تصَرف بما ظنه من منفعة القارئ بإبعاد الملل عنه وذلك عن طريق حذف معظم هذه المترادفات ، ولا شك أن هذه خسارة كبرى ، وتصرف ينافي أصول التحقيق العلمي .
ومن الأمثلة على هذه الاستطرادات التي تدل على ما لدى الكاتب من ثروة لغوية ومخزون لفظي عظيم قوله : "فمنهن من كانت تقعد بين يديه القرفصاء أو الهبقة أو الأربعاء أو الفرشحة ..." وقوله : "ومن قائلة : وقد صرت ضئيلاً ، وأخرى ما لسحنتك قد كلحت ، وغيرها ولطلعتك قد قبحت ، ولأسنانك قد قلحت ، وجبهتك قد لُتحت ، وأرنبتك فُطحت ، وأساريرك أزَحت ..." .
كذلك تؤشر هذه الاستطرادات لطول نفسه في الكتابة ، مثلها مثل الاستطراد المعنوي المعروف، بأن يخرج من معنى إلى غيره ثم يعود إلى الأول، والذي يكثر الشدياق من استخدامه أيضاً في (الساق على الساق) .
ولا يخلو الكتاب من اقتباسات من القرآن الكريم: "حدس الهارس بن هثام قال سوَل لي الخناس...الذي يوسوس في صدور الناس ، كل غميس وغماس..." ، وأيضاً من غير القرآن الكريم ، كالأمثال والحكم .
أيضا يكثر الكاتب من استعمال الطباق، كقوله : "في مقامة مقعدة" وهو عنوان اختاره لإحدى المقامات الأربع مستغلاً ما في كلمة (مقامة) من إيحاء بـ(القيام) ليقابله بـ(القعود) ، وذلك ليطابق بين هذا العنوان والعنوان الآخر: (في مقامة مقيمة).
ويكثر الشدياق أيضاً من استخدام التورية ، وخاصة في اختيار الأسماء : (بعير بيعر) ، (السوقي) ، (الخرجي) وغيرها من الأسماء التي تذكرنا بأساليب المقامات ، كما أنه يكثر من الترميز واستخدام الإشارات البعيدة ، ومن ذلك إطلاقه على نفسه صفة (المعبر) عندما عمل أو اشتغل بـ (تعبير) الأحلام ، كما أطلق تعبير (إصلاح البخر) على الوظيفة الأخرى التي اشتغل بها وهي إصلاح لغة أهل الجزيرة الذين يتكلمون العربية بلهجة فاسدة ، ومعروف أن البخر في الأصل هو رائحة الفم المنتنة.
ثالثــاً: النماذج الإنسانية :
أقف هنا وقفة قصيرة عند بعض النماذج الإنسانية التي اشتمل عليها هذا الكتاب، دون إطالة كي لا أبتعد بالورقة عن غرضها الرئيس. وإنما أشير إلى بعض هذه النماذج، لأنها في كثير من الأحيان تحمل رموزاً ودلالات مختلفة ..
وأولى هذه الشخصيات هي شخصية(الفارياق). هذه الشخصية هي رمز لما آل إليه حال الأدباء والعلماء في زماننا هذا من فقر، وضعة، وسوء عيش، واضطرار لتحمل الهوان والذل؛ فقد يضطر العالم أن يخضع لبعض الجهلة من علية القوم أو ملاَك الأموال، وقد يضطر الأديب الأريب أن يعمل ويشتغل في أحقر المهن للحصول على لقمة العيش؛ فقد كان (الفارياق) يعتقد "أن الرزق الذي يأتي من شقَ كشقَ القلم لا يكون إلا ضيَقاً" .
أما(الفارياقية) فكانت تعبيراً عن حال المرأة المحرومة من العلم والتعلم في مجتمع يجهل أن حرمانها من هذا الحق يجعلها تصرف همها للحيل والمكائد - كما يرى المؤلف - .
وهناك على سبيل المثال شخصية (القسيس) الذي يرمز إلى ذي اللوثة في الدين؛ فتدينه ليس عن عقل، بل عن جهل وحمق. و(الضوطار) الذي يمثل من اتخذ الدين مصلحة. و( القرزام ) الذي يمثل تلك الطائفة من أدعياء الأدب والشعر، وغيرهم.
ويلاحظ هنا كيف يختار المؤلف هذه الأسماء والألقاب بذوق (مقاميَ). وهو على كل حال يتخذ من هذه الشخصيات وسيلة لإبراز آرائه في الشذوذ والفضائل المزيفة "فكان يلبسها لباس التطرف فتبرز النقائض جلية واضحة. فإذا ما وصف مبشراً أوصله إلى الهوس واللوثة، وإذا وصف عاشقاً أدنفه في عشقه، وإذا أنطق مطرانا، أنطقه بجميع الركاكات؛ وهذه المبالغات تبدو، في الظاهر، وكأنها سبيل الكاتب إلى تفكهة القارئ وتسليته في الفصول المطولة فيأخذها مأخذ الهزل، ولكنها بالوقائع كانت دراسة للطبائع والسلوك في ظروف معينة، فالغرض غير المباشر هو إبراز الشذوذ عند بعض الناس، ووضع الأساس لصورة الإنسان الأفضل" .
أخيرا.
جدير هنا أن يطرح سؤال.. ماذا أضاف أحمد فارس الشدياق بكتابه هذا ؟
وقد أجبت فيما مضى عن جانب من جوانب هذا السؤال.. وأزيد هنا أن الشدياق لم يحبس نفسه داخل الشكل المقامي. ورغم أنه عارض أساليب المقامات إلا أنه لم يقيد نفسه بقيودها؛ فلا يشعر القارئ أنه أمام نسخة مكررة عن مقامات بديع الزمان الهمذاني أو الحريري، لأن الكاتب لم يكن مجرد مقلد، ولم يكن إحياء المقامات هو غرضه الأوحد من تأليف كتابه. وإذا كان الجانب اللغوي هو أحد أهم أغراضه في هذا الكتاب فقد أجاد توظيف هذا الجانب بما يخدم أغراضه الأخرى التي عرضنا لها سابقاً؛ وهي عرض سيرته الذاتية، وتوجيه النقد للعيوب الاجتماعية والأخلاقية، وغير ذلك كثير. إذن فإن غرضه في الاهتمام باللغة لم يبعده عن روح عصره، فلم يلجأ إلى حكايات يستلهمها من أعماق الصحراء، ويمتطي فيها البعير والجمل قاطعاً الطريق في المهامه والقفار. لا شيء من ذلك أبداً هنا عند الشدياق. وحتى اللغة التي استعملها ليس فيها التزام تام بالسجع مثلاً (وهو الميزة اللفظية أو الأسلوبية الأبرز في المقامات) إلا في المقامات الأربع التي أشرت إليها. ولذا يعد الشدياق بهذا الكتاب مجدداً، وليس مجرد مقلد؛ فقد أحيا فن المقامة ولكن ضمن إطار عصره وشروط زمانه.
وهذا ما تتاوله هذه المقاربة ، إذ تقف على ملامح المقامات في هذا الكتاب ، وتحاول ، وفق ما يسع المقام ، المقارنة بين أساليب الشدياق في كتابه هذا وبين فن المقامات عند بديع الزمان أوغيره من كتاب القامات .
أولاً : الإطار الفنَـي ..
أ- الطابع السردي ..
كتاب (الساق على الساق) هو عبارة عن سيرة ذاتية لمؤلفه (أحمد فارس الشدياق) ، ومن الطبيعي أن السير الذاتية تدخل في باب السرد ، وهذا هو الجامع الأول بين المقامات وبين (حكايات) الشدياق في هذا الكتاب .
كما أن الشدياق في هذا الكتاب لم يعمد إلى سرد أحداث حياته سرداً متصلاً ، بل جعلها عبارة عن حكايات قصيرة، لكل منها عنوان مستقل ، ولكل منها بداية ونهاية ، ويتناول كل منها حادثة بعينها من أحداث حياته ، يتم فيها التركيز على هذه الحادثة من جميع جوانبها . والكاتب يغلف هذه الحكايات بمظهر المقامات ، متخذاً من الأساليب والآليات المقامية وسيلة أدبية ليضفي –على ما يبدو- بعض الرمزية ، ويضيف أبعاداً جديدة لسيرة حياته .
سيرة الشدياق في هذا الكتاب إذن منفصلة متصلة ؛ منفصلة من جهة استقلال كل منها بحادثة معينة ، ومتصلة من جهة أنها تتضافر في النهاية لتشكل السيرة الكاملة لحياة مؤلفها الذي يبدأ بتعريفنا ببطله منذ أول يوم له في الدنيا، ويستمر في سرد أحداث حياته في طفولته، ثم في صباه وشبابه، وزواجه، وحياته الزوجية، وما تخللها من أفراح وأتراح، وأسفار وترحال وتطواف في البلدان، إلى أن بلغ السن منه مبلغاً مكنه من أن يجمع هذه الطرائف والنوادر والحوادث عنه.
ب- العناصر الثابتة ..
1- إن أي معرفة بسيطة بالمقامات تمكن من إيجاد العناصر التي تكاد تكون ثابتة في كل مقامة . وعلى رأس هذه العناصر : شخصيتا الراوي والبطل ، وهما شخصيتان ثابتتان عادة في العمل المقامي؛ فإذا اتخذ المؤلف للراوي اسم (زيد بن ضرغام) أو (عمرو بن تمَام)... أو غيرها من الأسماء، فإن هذا الراوي يكون راوياً للمقامات جميعاً، وكذلك الحال مع البطل.
وهذا العنصر الرئيس موجود بشكل بارز في كتاب (الساق على الساق). وقد عمد الشدياق هنا إلى حيلة طريفة بأن جعل من نفسه راوياً لهذه (الحكايات) ثم جرَد من نفسه أيضاً شخصية أخرى جعل لها دور البطولة، وهي شخصية (الفارياق)، وهو اسم منحوت من (فارس الشدياق) ؛ إذ الحروف الثلاثة الأولى من (فارس) ، والثلاثة الأخيرة من (الشدياق). ولعل هذا الاسم المنحوت فيه إيحاء بالرجوع إلى عصر المقامات، خاصة لما فيه من تلاعب لفظي .
وبالعودة إلى مادة (فرق) في المعاجم اللغوية، نجد أن (الفارق) هو كل ما يفرق بين الحق والباطل، و(الفاروق) هو الذي يفصل بين الأمور. و(الترياق الفاروق) هو أحد التراييق ، وأجل المركبات لأنه يفرق بين المرض والصحة . ويقال كذلك : (رجل فاروق) أي شديد الفزع. ولعل في اسم (الفارياق) إيحاء بما في هذه المعاني كذلك ، لأن هذا البطل يمثل شخصية الأديب المبدع الذي يفرق ويفصل بلسانه بين الحق والباطل ، بكل جرأة وصراحة ، ودون أن يخشى لوماً أو عنتاً ؛ فيفضح عورات بعض القسيسين ، وبعض الأمراء ، وكبار الشخصيات. وقد ساعده على ذلك ما كان يعمد إليه من تحوير وتحريف في الأسماء ، فكان هذا مما يجعله أكثر جرأة في مهاجمة تلك الشخصية أو غيرها.
أيضا يميل لتعرية مساوئ الرجال والنساء، وينتقد كثيراً من العادات والتقاليد. بل إنه يكشف عن مساوئه هو ذاته دون تحرج أو تردد .
ولكن هذا الأديب المفلق، رغم فصاحة لسانه، وروعة بيانه، وحسن منطقه، إلا أن حاله لم يكن كمنطقه، وأدبه لم يكن ليسعفه؛ فكان ضيق ذات اليد، تعيس الحظ، قبيح الهيئة، يلازمه النحس في جلَ أحواله، وفي حلَه وترحاله، كما جاء في كتابه.
أما الشخصية الثانية في هذا الكتاب فهي شخصية (الفارياقيَة) زوجة الفارياق ، التي اقتسمت معه بطولة الجزأين الثالث والرابع من هذا الكتاب . وهي – كزوجها – شخصية طريفة ، اتخذ منها المؤلف طريقاً لبيان كثير من وجهات نظره عن طريق الحوار الذي كان يدور بينهما ، والذي ساعد كثيراً في تغيير وتحويل السرد المباشر إلى الحوار الذي يبعد الملل عن القارئ . كذلك أوضح من خلالها كيف ترتقي المرأة في الدراية والمعارف ، بحسب اختلاف الأحوال عليها . فإنها "بعد أن كانت لا تفرَق بين الأمرد والمحلوق اللحية ، وبين البحر الملح وبحر النيل ، تدرجت في المعارف بحيث صارت تجادل أهل النظر والخبرة ، وتنتقد الأمور السياسية والأحوال المعاشية والمعادية في البلاد التي رأتها ، أحسن انتقاد ..." كما عبَر المؤلف .
2- وكانت هذه الأحداث والحوارات وغيرها تدور كلها في جو تسوده روح الفكاهة والدعابة رغم ما تمتلئ به حياته من المآسي والمواقف الأليمة والموجعة. ولا يخفى أن الفكاهة كانت عنصراً شبه ثابت في المقامات (خاصة عند البديع والحريري) ، فضلاً عما سبق ذكره عن وجود شخصيات ثابتة . ويلاحظ هنا الشبه بين (الفارياق) وبين (أبي الفتح الإسكندري) أو (أبي الزيد السروجي) من حيث كونهم جميعاً أدباء ، لسناء ، ذوي منطق وبيان وحجة وبرهان ، وفي الوقت ذاته هم فقراء ، رحالون في الأرض يبتغون الرزق (مع اختلاف الوسيلة لدى كل منهم) .
3- وإن استقلال كل حكاية من هذه الحكايات بعنوان مستقل ، وتفردها بعرض حدث واحد ، هو عنصر ثابت هنا وفي المقامات كذلك .
4- مزج النثر بالشعر هي خاصية من أبرز خواص المقامات ، وقد التزم بها المؤلف في (حكاياته) ؛ إذ يأتي الشعر معاضداً للنثر ، مسانداً له ، مؤكداً معناه . كما أن فيه بعداً عن رتابة النثر وما فيه من سرد أو غيره ، فضلاً عما يؤديه مزج الشعر بالنثر من إظهار لبراعة الكاتب ، وبيان لقدرته وتمكنه من فني القول : الشعر والنثر .
5- أخيرا يلاحظ أن اللغة التي يستخدمها المؤلف في (الساق على الساق) هي لغة قريبة جداً من اللغة المستعملة في المقامات ، وكذلك معظم الأساليب والسمات اللفظية، التي سيتناولها الجزء الثاني من هذه المقاربة.
ثانيـــاً : اللغة والتقنيات ..
إن من أبرز ما تتميز به المقامات عن غيرها من فنون السرد : اللغة السائدة والمستعملة فيها، بما تحويه من فنون بلاغية، ومحسنات بديعية، وإكثار من المترادفات، وغير ذلك مما عده البعض الغرض الأول من كتابة المقامات عند مخترعها بديع الزمان الهمذاني. حيث شاع أن الغرض من صناعة المقامات هو غرض تعليمي ، يقول شوقي ضيف: "والمقامة على كل حال ليست قصة ، وإنما هي حديث أدبي بليغ ، وهي أدنى إلى الحيلة منها إلى القصة ، فليس فيها من القصة إلا ظاهرها ، أما حقيقتها فحيلة يطرفنا بها البديع وغيره لنطلع من جهة على حادثة معينة، ومن جهة ثانية على أساليب أنيقة ممتازة . ومن هنا جاءت غلبة اللفظ على المعنى في المقامة ، فالمعنى ليس شيئاً مذكوراً ، إنما هو خيط ضئيل تنشر عليه الغاية التعليمية".
وإلى هذا يشير الحريري في مقدمة مقاماته بقوله في التعريف بها : "تحتوي جد القول وهزله ، ورقيق اللفظ وجزله ، وغُرر البيان ودُرره ، ومُلح الأدب ونوادره ، إلى ما وشحتها به من الآيات ، ومحاسن الكنايات ، ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية ، والأحاجي النحوية ، والفتاوى اللغوية ، والرسائل المبتكرة ، والخطب المحبرة ...".
ويصرح الشدياق في مقدمة كتابه هذا (الساق على الساق) بأن أحد غرضيه من تأليفه هو : "إبراز غرائب اللغة ونوادرها ، فيندرج تحت جنس الغريب نوع المترادف والمتجانس...وقد ضمنت منهما هنا أشهر ما تلزم معرفته وأهم ما تمس الحاجة إليه، على نمط بديع ، ولو ذكر على أسلوب كتب اللغة مقتضباً عن العلائق لجاء مملاً..." .
وأما الغرض الثاني فهو ذكر محامد النساء ومذامهن ؛ لأن سائر البدائع كان أصل استنباطها مسبباً – كما يقول – عن النساء .
وعلى الرغم من أن لغة المقامات تشيع في الكتاب كله ، إلا أنها تظهر أكثر ما تظهر في أربع (حكايات) من حكايات الكتاب عنونها الكاتب بعنوان (المقامات) ، وصرَح في أولاها بأنه يتعمد أساليب المقامة اللغوية ويتكلفها تكلفاً ، كما صرَح بأنها ستكون أربع مقامات موزعة على فصول الكتاب ، يقول : "قد مضت عليَ برهة من الدهر من غير أن أتكلف السجع والتجنيس ، وأحسبني نسيت ذلك . فلا بد أن أختبر قريحتي في هذا الفصل فإنه أولى به من غيره ؛ إذ هو أكثر من الثاني عشر وأقل من الرابع عشر ، وهكذا أفعل في كل فصل يوسم بهذا العدد حتى أفرغ من كتبي الأربعة فتكون جملة المقامات فيما أظن أربعاً ..."
وهو يتخذ لراويه في هذه المقامات اسم (الهارس بن هثام) الذي يمر بمشكلة ، أو تعسر عليه مسألة فيجد في طلب الحل الذي لا يجده إلا عند (الفارياق) بطل المقامات وأديبها الفطن اللَسن الذي يرشده إلى الصواب بحسن منطقه (وهذه الكلمة هنا نستعملها على اعتباريها اللفظي والاصطلاحي: أي (القول) و(علم المنطق والفلسفة والكلام) .
ويبدأ الشدياق كل مقامة من هذه المقامات بقوله: "حدَس الهارس بن هثام" ولا يخفى ما بين هذا الاسم وبين (عيسى بن هشام) أو (الحارث بن همام) من شبه ، على أنه يستعمل هنا (حدَس) بدلاً عن (حدَث) ، ويبدو أن ذلك بسبب ما يعتمل في فكر الراوي من تفكير وتدبير ومساءلات ومداولات يحاول فيها أن يرجح بين أحد الحلول، و(الحدس) نمط من أنماط الاستنباط كما هو معروف . أو لعلها مجرد سمة لفظية في نطق الثاء سينا على عادة أهل مصر والشوام.
وتدور فكرة المقامة الأولى حول الترجيح بين حالتي بؤس المرء ونعيمه ، وأيهما هو الغالب في حياة الإنسان . ويحاول (الهارس بن هثام) أن يفكر في حل هذه المسألة فلا يهتدي إلى جواب ، فيلجأ إلى مطران كان يسكن إلى جواره ، ثم إلى معلم للصبيان ، ثم إلى أحد الفقهاء ، وبعده إلى أحد الشعراء ، وأخيراً إلى كاتب الأمير ، فلم يجد لدى أحدهم ما يشفي نفسه ، وإذا به أخيراً يصادف (الفارياق) فيستشيره في المسألة ، ويحصَل عنده مراده ، ويعثر على ضالته .
وإذا تناولت (على سبيل المثال) وصفه لموقفه مع المعلم نجد تلك الصورة النمطية الشائعة للمعلم بما فيه من حمق وغفلة لطول معاشرة الصبيان ، وهي صورة نجدها أيضاً في مقامات الحريري الذي خص (المعلم) بإحدى مقاماته .
يقول الشدياق : "فلأستعملن بعده أكثر الناس حمقاً وهوجا . وما ذلك إلا معلم الصبيان الهجا ! وكان في البلد من اتصف بهذه الصفة ، وهو مع ذلك ذو كبر وعجرفة . فقصدت محله ، وألقيت عليه المسألة. فإذا به قام يصفق بيديه ، ويرارىء بعينيه . ويقول :"لقد سقطت على الخبير ، واهتديت برأي بصير ، إن شئت أن تعرف أي القولين أرجح ، وأصدق وأصح ، فزن الجدولين دون جلد الكتاب في ميزان ، فما رجح منهما فهو الراجح ما اختلف في ذا اثنان . فقمت من عنده غضبان نادما ، ولعنت الأرق الذي كان السبب في أن أكون لمعلمي الصبيان مكالما ، بعد أن قرأت في غير كتاب وسمعت من ذوي الألباب ، أنهم أسخف خلق الله عقلا ، وأكثرهم جهلا... " .
وبعيداً عن هذه الصورة الكاريكاتورية أو النمطية للمعلم ، فإن الشدياق هنا يعتمد كافة أساليب المقامات ، من التزام بالسجع ، وإكثار من المترادفات ، والميل إلى الجمل القصيرة المتوازنة موسيقياً ، والمتماثلة من جهة المعنى ، بحيث تكون الثانية مؤكدة للأولى ، أو مبينة لها : (لقد سقطت على الخبير ، واهتديت برأي بصير).
وأما الشتائم التي يكيلها بين حين وآخر لهذا (الجاثيلق) أو ذلك (القسيس) أو غيرهما ، فتذكر بما كان يرد في المقامات ، على مثال ما نجده في المقامة (الدينارية) لبديع الزمان أو غيرها ، ومن ذلك عند الشدياق ،على سبيل المثال، قوله : "وكان بعير بيعر ستهما ، جعظرا ، أحزقة ..." .
كذلك يلحظ لديه الإكثار من الاستطرادات اللغوية في الإتيان بالمترادفات ، وكانت هذه ميزة كبيرة في كتابه ، وقد حذر الشدياق من حذف هذه الاستطرادات أو بعضها ، بل واشترط على القارئ : "ألا يسطر شيئاً من الألفاظ المترادفة ... على كثرتها، فقد يتفق أن يمر به في طريق واحدة سرب خمسين لفظة بمعنى واحد أو بمعان متقاربة" إلى أن يقول : "و إلا فلا أجيز له مطالعته ولا أهنؤه به" . وكأنه يدرك ما سيقع في كتابه وفي هذه الألفاظ بالتحديد؛ فمحقق هذه الطبعة التي بين يدي قد تصَرف بما ظنه من منفعة القارئ بإبعاد الملل عنه وذلك عن طريق حذف معظم هذه المترادفات ، ولا شك أن هذه خسارة كبرى ، وتصرف ينافي أصول التحقيق العلمي .
ومن الأمثلة على هذه الاستطرادات التي تدل على ما لدى الكاتب من ثروة لغوية ومخزون لفظي عظيم قوله : "فمنهن من كانت تقعد بين يديه القرفصاء أو الهبقة أو الأربعاء أو الفرشحة ..." وقوله : "ومن قائلة : وقد صرت ضئيلاً ، وأخرى ما لسحنتك قد كلحت ، وغيرها ولطلعتك قد قبحت ، ولأسنانك قد قلحت ، وجبهتك قد لُتحت ، وأرنبتك فُطحت ، وأساريرك أزَحت ..." .
كذلك تؤشر هذه الاستطرادات لطول نفسه في الكتابة ، مثلها مثل الاستطراد المعنوي المعروف، بأن يخرج من معنى إلى غيره ثم يعود إلى الأول، والذي يكثر الشدياق من استخدامه أيضاً في (الساق على الساق) .
ولا يخلو الكتاب من اقتباسات من القرآن الكريم: "حدس الهارس بن هثام قال سوَل لي الخناس...الذي يوسوس في صدور الناس ، كل غميس وغماس..." ، وأيضاً من غير القرآن الكريم ، كالأمثال والحكم .
أيضا يكثر الكاتب من استعمال الطباق، كقوله : "في مقامة مقعدة" وهو عنوان اختاره لإحدى المقامات الأربع مستغلاً ما في كلمة (مقامة) من إيحاء بـ(القيام) ليقابله بـ(القعود) ، وذلك ليطابق بين هذا العنوان والعنوان الآخر: (في مقامة مقيمة).
ويكثر الشدياق أيضاً من استخدام التورية ، وخاصة في اختيار الأسماء : (بعير بيعر) ، (السوقي) ، (الخرجي) وغيرها من الأسماء التي تذكرنا بأساليب المقامات ، كما أنه يكثر من الترميز واستخدام الإشارات البعيدة ، ومن ذلك إطلاقه على نفسه صفة (المعبر) عندما عمل أو اشتغل بـ (تعبير) الأحلام ، كما أطلق تعبير (إصلاح البخر) على الوظيفة الأخرى التي اشتغل بها وهي إصلاح لغة أهل الجزيرة الذين يتكلمون العربية بلهجة فاسدة ، ومعروف أن البخر في الأصل هو رائحة الفم المنتنة.
ثالثــاً: النماذج الإنسانية :
أقف هنا وقفة قصيرة عند بعض النماذج الإنسانية التي اشتمل عليها هذا الكتاب، دون إطالة كي لا أبتعد بالورقة عن غرضها الرئيس. وإنما أشير إلى بعض هذه النماذج، لأنها في كثير من الأحيان تحمل رموزاً ودلالات مختلفة ..
وأولى هذه الشخصيات هي شخصية(الفارياق). هذه الشخصية هي رمز لما آل إليه حال الأدباء والعلماء في زماننا هذا من فقر، وضعة، وسوء عيش، واضطرار لتحمل الهوان والذل؛ فقد يضطر العالم أن يخضع لبعض الجهلة من علية القوم أو ملاَك الأموال، وقد يضطر الأديب الأريب أن يعمل ويشتغل في أحقر المهن للحصول على لقمة العيش؛ فقد كان (الفارياق) يعتقد "أن الرزق الذي يأتي من شقَ كشقَ القلم لا يكون إلا ضيَقاً" .
أما(الفارياقية) فكانت تعبيراً عن حال المرأة المحرومة من العلم والتعلم في مجتمع يجهل أن حرمانها من هذا الحق يجعلها تصرف همها للحيل والمكائد - كما يرى المؤلف - .
وهناك على سبيل المثال شخصية (القسيس) الذي يرمز إلى ذي اللوثة في الدين؛ فتدينه ليس عن عقل، بل عن جهل وحمق. و(الضوطار) الذي يمثل من اتخذ الدين مصلحة. و( القرزام ) الذي يمثل تلك الطائفة من أدعياء الأدب والشعر، وغيرهم.
ويلاحظ هنا كيف يختار المؤلف هذه الأسماء والألقاب بذوق (مقاميَ). وهو على كل حال يتخذ من هذه الشخصيات وسيلة لإبراز آرائه في الشذوذ والفضائل المزيفة "فكان يلبسها لباس التطرف فتبرز النقائض جلية واضحة. فإذا ما وصف مبشراً أوصله إلى الهوس واللوثة، وإذا وصف عاشقاً أدنفه في عشقه، وإذا أنطق مطرانا، أنطقه بجميع الركاكات؛ وهذه المبالغات تبدو، في الظاهر، وكأنها سبيل الكاتب إلى تفكهة القارئ وتسليته في الفصول المطولة فيأخذها مأخذ الهزل، ولكنها بالوقائع كانت دراسة للطبائع والسلوك في ظروف معينة، فالغرض غير المباشر هو إبراز الشذوذ عند بعض الناس، ووضع الأساس لصورة الإنسان الأفضل" .
أخيرا.
جدير هنا أن يطرح سؤال.. ماذا أضاف أحمد فارس الشدياق بكتابه هذا ؟
وقد أجبت فيما مضى عن جانب من جوانب هذا السؤال.. وأزيد هنا أن الشدياق لم يحبس نفسه داخل الشكل المقامي. ورغم أنه عارض أساليب المقامات إلا أنه لم يقيد نفسه بقيودها؛ فلا يشعر القارئ أنه أمام نسخة مكررة عن مقامات بديع الزمان الهمذاني أو الحريري، لأن الكاتب لم يكن مجرد مقلد، ولم يكن إحياء المقامات هو غرضه الأوحد من تأليف كتابه. وإذا كان الجانب اللغوي هو أحد أهم أغراضه في هذا الكتاب فقد أجاد توظيف هذا الجانب بما يخدم أغراضه الأخرى التي عرضنا لها سابقاً؛ وهي عرض سيرته الذاتية، وتوجيه النقد للعيوب الاجتماعية والأخلاقية، وغير ذلك كثير. إذن فإن غرضه في الاهتمام باللغة لم يبعده عن روح عصره، فلم يلجأ إلى حكايات يستلهمها من أعماق الصحراء، ويمتطي فيها البعير والجمل قاطعاً الطريق في المهامه والقفار. لا شيء من ذلك أبداً هنا عند الشدياق. وحتى اللغة التي استعملها ليس فيها التزام تام بالسجع مثلاً (وهو الميزة اللفظية أو الأسلوبية الأبرز في المقامات) إلا في المقامات الأربع التي أشرت إليها. ولذا يعد الشدياق بهذا الكتاب مجدداً، وليس مجرد مقلد؛ فقد أحيا فن المقامة ولكن ضمن إطار عصره وشروط زمانه.