نقوس المهدي
كاتب
أثار تعدد زوجات النبي بعد أحادية زواجه من السيدة خديجة بنت خويلد اهتمام العديد من الباحثين في الشرق والغرب، ونظر بعض المستشرقين إلى هذا التعدد من زاوية الشهوانية الجنسية، في حين رأى آخرون أن محمداً كزعيم سياسي وديني أراد توطيد روابطه مع بقية القبائل في محيطه الجغرافي، فكان لكل زواج أسبابه وخصائصه السياسية والاجتماعية. يلاحظ المستشرق الإنجليزي مونتغمري واط (Montgomery Watt) (1909-2006) في كتابه “محمد في المدينة” أنه “لم يكن في حياة محمد الجنسية ما يحمل معاصريه على الحكم عليه بأنه لا يتفق مع نبوته، فمن المؤكد أنه كان يسيطر تماماً على عواطفه أمام النساء، وأنه لم يكن ليتزوج إلاّ إذا كان هذا الزواج مستحسناً سياسياً أو اجتماعياً”.
في “أزواج النبي: دراسة للعلاقة بين النبي وأزواجه، عرض ونقد للروايات” (دار جداول، بيروت، الطبعة الثانية، 2016) يقدم محمد بن فارس الجميل، الأستاذ المتخصص في تاريخ الحضارة الإسلامية في جامعة الملك سعود، مادة توثيقية تسعى إلى التعرف بأزواج النبي من حيث النشأة، وظروف زواجه بكل واحدة منهن، وتبيان العلاقات المتداخلة فيما بين الزوجات أنفسهن ثم علاقتهن بمحمد. أوْلى الكتاب اهتماماً بالروابط الزوجية بين الرسول وزوجاته مفسراً مشاكل الغيرة استناداً إلى حدة التنافس بينهن على حبه.
اعتمد الكاتب على مصادر وافية من بينها مرويات ابن سعد عن شيخه الواقدي، إضافة إلى مرويات ابن سعد نفسه عن رواة آخرين، واستعان بما جاء عند ابن زَبَالة وكذلك عند أبي عبيدة معمر بن المثنى، فهؤلاء يقدمون معلومات عن أزواج النبي، لا توجد أحياناً عند الواقدي أو تلميذه ابن سعد. ورجع الكاتب إلى ابن عبد البر، في كتابه الاستيعاب، الذي يتضمن وقائع لا توجد عند من سبقه من المهتمين بهذا الحقل، كما أخذ بمصادر الحديث النبوي الشريف لفهم بعض الإشكالات في ضوء ما تقدمه من معطيات، تكون مفقودة أحياناً عند المؤرخين.
يقصد بأزواج النبي “النساء اللائي توفي عنهن وهن في عصمته: سودة بنت زمعة، عائشة بنت أبي بكر، حفصة بنت عمر، أم سلمة المخزومية، جويرية بنت الحارث، زينب بنت جحش، صفيه بنت حُييِّ، أم حبيبة بنت أبي سفيان، ميمونة بنت الحارث”.
احتلت عائشة مع خديجة بنت خويلد موقع الصدارة في الدراسات والمراجع الحديثة. يعود ذلك لثلاثة أمور رئيسة: الأول: صغر سنها وقربها من محمد وحبه لها وغيرتها عليه؛ الثاني: حفظها لمجموعة كبيرة من الأحاديث النبوية؛ والثالث: حضورها السياسي في معركة الجمل إبان الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان.
لقد أحب محمد عائشة حباً كبيراً: سأل الصحابي عمرو بن العاص الرسول، من هو الشخص الذي تحبه أكثر في العالم؟ إنها عائشة أجاب الرسول، وألح عمرو متعجباً، ومن بين الرجال من هو الذي تحبه أكثر، ويجيء الجواب بأن الذي يحبه أكثر هو أبو بكر، والد عائشة، حبيبته. (المرنيسي، فاطمة: الحريم السياسي، النبي والنساء، الحريم السياسي، النبي والنساء، تعريب عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، الطبعة الثانية، 1993، ص ص، 86_ 87). عائشة الحبيبة، المدللة، والمتمردة، كانت شديدة الغيرة على محمد من بقية نسائه، وحين كانت الغيرة تدب بها كان الرسول يسألها: أغرت؟ فتجيب: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟ قادت عائشة ثورات ضد النبي، منها التآمر ضد زينب بنت جحش، والتآمر ضد مارية القبطية، والأسباب تعود إلى غيرتها، حتى إنها كانت تغار من خديجة، فقالت: “ما غِرت على أحد من نساء النبي كما غِرت من خديجة، وما رأيتها ولكن كان رسول الله يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدايق خديجة، وقلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلاّ خديجة، فيقول لها: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد” (الأفغاني، سعيد: الإسلام والمرأة، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1964، ص 65).
يطرح صاحب “نساء حول النبي: دراسة للعلاقة بين النبي ونساء مجتمع المدينة” السؤال الآتي: “ما سبب إلحاح النبي على الاقتران بأم سلمة، هل الأمر له علاقة مباشرة بجمالها؟ أم لعراقة نسبها إذ إنها من بني مخزوم؟ يرى الكاتب أن لا علاقة للأسئلة السابقة برغبة رسول الله بالاقتران بأم سلمة، بل أن هناك أسباباً تبدو أكثر وجاهة هي التي دفعت الرسول لإظهار رغبته الأكيدة بالزواج منها. وهي دوافع يظهر أنها كانت محاولة من النبي لأن يكافئ أبا سلمة [ أصيب أبا سلمة يوم أحُد، وتوفي في جمادي الآخرة سنة 4 هــــ 625 م]، وأم سلمة على ما قدماه من تضحيات في سبيل الإسلام. علماً أن أبا سلمة وزوجه قد هاجرا الهجرتين إلى بلاد الحبشة، وتذوقا هناك مرارة الغربة وفراق الأهل ومعاناة حياة المنفى” (أزواج النبي، ص 79-80).
لا يتطرق الكاتب إلى دور أم سلمة، المرأة الارستقراطية في نزول الآية 35 من سورة الأحزاب. لقد سألت يوماً الرسول قائلة: “ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال” (المرنيسي، فاطمة، الحريم السياسي، ص 149). وانتظرت مع النبي الوحي، فأنزل الله آيته، التي تلاها محمد في الجامع وسمعتها أم سلمة {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (سورة الأحزاب/ الآية 35). تتساءل عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015)، هل كانت النساء الأخريات يشاركن أم سلمة اهتماماتها، أم أن الأمر يتعلق بمبادرة فردية محضة، ورغبة خاصة من جانب أرملة ارستقراطية طموحة ومتعالية؟ أم أنها على عكس من ذلك كانت تياراً لرأي عام بين نساء المدينة؟
ترجِّح المرنيسي الإشكالية الثانية، على قاعدة الاعتقاد بوجود حركة احتجاجية نسائية، وتقول بعض النصوص أن المبادرة جاءت من نساء الجماعة: “جاءت نساء إلى زوجات النبي وقلن لهن: “تكلم الله عنكن بنوع خاص في القرآن ولكنه لم يقل شيء عمّا يتعلق بنا، أفلا يوجد فينا إذن شيء يستحق الإشارة إليه؟” وتتابع المرنيسي: “ليس فقط أن النساء كنّ يشاركن أم سلمة اهتماماتها، بل التمسن جواب السماء هذا لأنه كان يشكل: القطع مع ممارسات الجاهلية، وإعادة بحث في العادات التي كانت تحكم العلاقات بين الجنسين، ومهما كانت تلك التقاليد، فإن النساء حسبما يبدو كن مسرورات من التغيير وكن يتطلعن إلى التغيير مع الإله الجديد. ويتمثل نصرهن في أن إحدى السور الكبيرة في القرآن حملت اسمهن، إنها السورة الرابعة، سورة النساء، التي تحوي قوانين الإرث الجديدة التي تجرد الرجال من امتيازاتهم. ليس فقط أن المرأة لم تعد تُورَّث كما تُورَّث أشجار النخيل بل صار لها الحق بأن ترِث { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } (سورة النساء، الآية 7).
يروي الكاتب نماذج عن المواقف التي واجهها الرسول من بعض زوجاته من بينها ما يعرف بمشكلة العسل، “وهي المشكلة التي أطنبت مصادر السيرة والحديث النبوي بالحديث عنها. فقد جاء عند الواقدي بسنده أن عائشة ذكرت أن رسول الله كان إذا دخل بيت أم سلمة احتبس عندها، فأبدت عائشة قلقها إلى صديقتها حفصة بنت عمر. وبعد التحريات اكتشفن أن سبب احتباس رسول الله لدى أم سلمة هو أن لديها عسلاً تقدم شيئاً منه إلى النبي إذا زارها، وهذا خلاف ما كنّ يتصورن، إذ كُنّ يحسبن أن سبب مكثه عندها هو أنه يخلو معها _أي يجامعها-. وبعد معرفتهن بأمر العسل وأن سبب مُكث رسول الله لديها زادت الغيرة في نفوسهن فقررن أن يحتلن في حرمان رسول الله منه. فقالتا: “ليس شيء أكره إليه من أن يُقال له نجد منك ريح شيء”، فاتفقتا على أنه إذا دنا من أي منهما أن تقول له: إني أجد منك ريح شيء. فلما دخل على عائشة ودنا منها، قالت: إني أجد منك شيئاً، ما أصبت؟ فقال: “عسل من بيت أم سلمة، فقالت: ” يا رسول الله! أرى نحله جرس عُرفُطاً”. ثم خرج من عندها فدخل على حفصة، فدنا منها، فقالت له مثل الذي قالت عائشة. فدخل على أم سلمة بعد ذلك، فأخرجت له العسل، فقال: “أخِّريِه عني لا حاجة لي فيه” (أزواج النبي، ص 187-188).
يركز الجميل على كيفية تعاطي الرسول مع زوجاته. لقد حرص على العدل بينهن على الرغم من مشاكل الغيرة الدائمة، والتي وصلت أحياناً إلى حد اعتزالهن، ولكن “لم يحدث أن انتهت علاقته مع أي من زوجاته التسع بالطلاق، وإن كان قد هَمّ أن يفعل في بعض الأحيان”.
اتخذت علاقة النبي بنسائه طابعاً مغايراً لما هو سائد في بيئته الجغرافية وظروفه التاريخية. ورد في صحيح مسلم كتاب الحيض: “حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، وَسُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ» وَلَمْ يَذْكُرْ زُهَيْرٌ فَيَشْرَبُ”. كان من عادات عرب الجاهلية النظر بكثير من الدونية إلى المرأة في مرحلة الحيض، والحديث المنقول عن عائشة، إن دلّ على شيء فعلى الرؤية الجديدة التي أرساها محمد في تعامله مع زوجاته ومع النساء المؤمنات.
كتاب أزواج النبي محمد بن فارس الجميل
كتاب أزواج النبي: دراسة للعلاقة بين النبي وأزواجه
ريتا فرج
في “أزواج النبي: دراسة للعلاقة بين النبي وأزواجه، عرض ونقد للروايات” (دار جداول، بيروت، الطبعة الثانية، 2016) يقدم محمد بن فارس الجميل، الأستاذ المتخصص في تاريخ الحضارة الإسلامية في جامعة الملك سعود، مادة توثيقية تسعى إلى التعرف بأزواج النبي من حيث النشأة، وظروف زواجه بكل واحدة منهن، وتبيان العلاقات المتداخلة فيما بين الزوجات أنفسهن ثم علاقتهن بمحمد. أوْلى الكتاب اهتماماً بالروابط الزوجية بين الرسول وزوجاته مفسراً مشاكل الغيرة استناداً إلى حدة التنافس بينهن على حبه.
اعتمد الكاتب على مصادر وافية من بينها مرويات ابن سعد عن شيخه الواقدي، إضافة إلى مرويات ابن سعد نفسه عن رواة آخرين، واستعان بما جاء عند ابن زَبَالة وكذلك عند أبي عبيدة معمر بن المثنى، فهؤلاء يقدمون معلومات عن أزواج النبي، لا توجد أحياناً عند الواقدي أو تلميذه ابن سعد. ورجع الكاتب إلى ابن عبد البر، في كتابه الاستيعاب، الذي يتضمن وقائع لا توجد عند من سبقه من المهتمين بهذا الحقل، كما أخذ بمصادر الحديث النبوي الشريف لفهم بعض الإشكالات في ضوء ما تقدمه من معطيات، تكون مفقودة أحياناً عند المؤرخين.
يقصد بأزواج النبي “النساء اللائي توفي عنهن وهن في عصمته: سودة بنت زمعة، عائشة بنت أبي بكر، حفصة بنت عمر، أم سلمة المخزومية، جويرية بنت الحارث، زينب بنت جحش، صفيه بنت حُييِّ، أم حبيبة بنت أبي سفيان، ميمونة بنت الحارث”.
احتلت عائشة مع خديجة بنت خويلد موقع الصدارة في الدراسات والمراجع الحديثة. يعود ذلك لثلاثة أمور رئيسة: الأول: صغر سنها وقربها من محمد وحبه لها وغيرتها عليه؛ الثاني: حفظها لمجموعة كبيرة من الأحاديث النبوية؛ والثالث: حضورها السياسي في معركة الجمل إبان الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان.
لقد أحب محمد عائشة حباً كبيراً: سأل الصحابي عمرو بن العاص الرسول، من هو الشخص الذي تحبه أكثر في العالم؟ إنها عائشة أجاب الرسول، وألح عمرو متعجباً، ومن بين الرجال من هو الذي تحبه أكثر، ويجيء الجواب بأن الذي يحبه أكثر هو أبو بكر، والد عائشة، حبيبته. (المرنيسي، فاطمة: الحريم السياسي، النبي والنساء، الحريم السياسي، النبي والنساء، تعريب عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، الطبعة الثانية، 1993، ص ص، 86_ 87). عائشة الحبيبة، المدللة، والمتمردة، كانت شديدة الغيرة على محمد من بقية نسائه، وحين كانت الغيرة تدب بها كان الرسول يسألها: أغرت؟ فتجيب: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟ قادت عائشة ثورات ضد النبي، منها التآمر ضد زينب بنت جحش، والتآمر ضد مارية القبطية، والأسباب تعود إلى غيرتها، حتى إنها كانت تغار من خديجة، فقالت: “ما غِرت على أحد من نساء النبي كما غِرت من خديجة، وما رأيتها ولكن كان رسول الله يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدايق خديجة، وقلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلاّ خديجة، فيقول لها: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد” (الأفغاني، سعيد: الإسلام والمرأة، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1964، ص 65).
يطرح صاحب “نساء حول النبي: دراسة للعلاقة بين النبي ونساء مجتمع المدينة” السؤال الآتي: “ما سبب إلحاح النبي على الاقتران بأم سلمة، هل الأمر له علاقة مباشرة بجمالها؟ أم لعراقة نسبها إذ إنها من بني مخزوم؟ يرى الكاتب أن لا علاقة للأسئلة السابقة برغبة رسول الله بالاقتران بأم سلمة، بل أن هناك أسباباً تبدو أكثر وجاهة هي التي دفعت الرسول لإظهار رغبته الأكيدة بالزواج منها. وهي دوافع يظهر أنها كانت محاولة من النبي لأن يكافئ أبا سلمة [ أصيب أبا سلمة يوم أحُد، وتوفي في جمادي الآخرة سنة 4 هــــ 625 م]، وأم سلمة على ما قدماه من تضحيات في سبيل الإسلام. علماً أن أبا سلمة وزوجه قد هاجرا الهجرتين إلى بلاد الحبشة، وتذوقا هناك مرارة الغربة وفراق الأهل ومعاناة حياة المنفى” (أزواج النبي، ص 79-80).
لا يتطرق الكاتب إلى دور أم سلمة، المرأة الارستقراطية في نزول الآية 35 من سورة الأحزاب. لقد سألت يوماً الرسول قائلة: “ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال” (المرنيسي، فاطمة، الحريم السياسي، ص 149). وانتظرت مع النبي الوحي، فأنزل الله آيته، التي تلاها محمد في الجامع وسمعتها أم سلمة {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (سورة الأحزاب/ الآية 35). تتساءل عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015)، هل كانت النساء الأخريات يشاركن أم سلمة اهتماماتها، أم أن الأمر يتعلق بمبادرة فردية محضة، ورغبة خاصة من جانب أرملة ارستقراطية طموحة ومتعالية؟ أم أنها على عكس من ذلك كانت تياراً لرأي عام بين نساء المدينة؟
ترجِّح المرنيسي الإشكالية الثانية، على قاعدة الاعتقاد بوجود حركة احتجاجية نسائية، وتقول بعض النصوص أن المبادرة جاءت من نساء الجماعة: “جاءت نساء إلى زوجات النبي وقلن لهن: “تكلم الله عنكن بنوع خاص في القرآن ولكنه لم يقل شيء عمّا يتعلق بنا، أفلا يوجد فينا إذن شيء يستحق الإشارة إليه؟” وتتابع المرنيسي: “ليس فقط أن النساء كنّ يشاركن أم سلمة اهتماماتها، بل التمسن جواب السماء هذا لأنه كان يشكل: القطع مع ممارسات الجاهلية، وإعادة بحث في العادات التي كانت تحكم العلاقات بين الجنسين، ومهما كانت تلك التقاليد، فإن النساء حسبما يبدو كن مسرورات من التغيير وكن يتطلعن إلى التغيير مع الإله الجديد. ويتمثل نصرهن في أن إحدى السور الكبيرة في القرآن حملت اسمهن، إنها السورة الرابعة، سورة النساء، التي تحوي قوانين الإرث الجديدة التي تجرد الرجال من امتيازاتهم. ليس فقط أن المرأة لم تعد تُورَّث كما تُورَّث أشجار النخيل بل صار لها الحق بأن ترِث { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } (سورة النساء، الآية 7).
يروي الكاتب نماذج عن المواقف التي واجهها الرسول من بعض زوجاته من بينها ما يعرف بمشكلة العسل، “وهي المشكلة التي أطنبت مصادر السيرة والحديث النبوي بالحديث عنها. فقد جاء عند الواقدي بسنده أن عائشة ذكرت أن رسول الله كان إذا دخل بيت أم سلمة احتبس عندها، فأبدت عائشة قلقها إلى صديقتها حفصة بنت عمر. وبعد التحريات اكتشفن أن سبب احتباس رسول الله لدى أم سلمة هو أن لديها عسلاً تقدم شيئاً منه إلى النبي إذا زارها، وهذا خلاف ما كنّ يتصورن، إذ كُنّ يحسبن أن سبب مكثه عندها هو أنه يخلو معها _أي يجامعها-. وبعد معرفتهن بأمر العسل وأن سبب مُكث رسول الله لديها زادت الغيرة في نفوسهن فقررن أن يحتلن في حرمان رسول الله منه. فقالتا: “ليس شيء أكره إليه من أن يُقال له نجد منك ريح شيء”، فاتفقتا على أنه إذا دنا من أي منهما أن تقول له: إني أجد منك ريح شيء. فلما دخل على عائشة ودنا منها، قالت: إني أجد منك شيئاً، ما أصبت؟ فقال: “عسل من بيت أم سلمة، فقالت: ” يا رسول الله! أرى نحله جرس عُرفُطاً”. ثم خرج من عندها فدخل على حفصة، فدنا منها، فقالت له مثل الذي قالت عائشة. فدخل على أم سلمة بعد ذلك، فأخرجت له العسل، فقال: “أخِّريِه عني لا حاجة لي فيه” (أزواج النبي، ص 187-188).
يركز الجميل على كيفية تعاطي الرسول مع زوجاته. لقد حرص على العدل بينهن على الرغم من مشاكل الغيرة الدائمة، والتي وصلت أحياناً إلى حد اعتزالهن، ولكن “لم يحدث أن انتهت علاقته مع أي من زوجاته التسع بالطلاق، وإن كان قد هَمّ أن يفعل في بعض الأحيان”.
اتخذت علاقة النبي بنسائه طابعاً مغايراً لما هو سائد في بيئته الجغرافية وظروفه التاريخية. ورد في صحيح مسلم كتاب الحيض: “حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، وَسُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ» وَلَمْ يَذْكُرْ زُهَيْرٌ فَيَشْرَبُ”. كان من عادات عرب الجاهلية النظر بكثير من الدونية إلى المرأة في مرحلة الحيض، والحديث المنقول عن عائشة، إن دلّ على شيء فعلى الرؤية الجديدة التي أرساها محمد في تعامله مع زوجاته ومع النساء المؤمنات.
كتاب أزواج النبي محمد بن فارس الجميل
كتاب أزواج النبي: دراسة للعلاقة بين النبي وأزواجه
ريتا فرج