نقوس المهدي
كاتب
الفصل الثانى : مفرادات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية :
ج3 / ف 2 : عبادة الجنس وتأليه المرأة
كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى : مفرادات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية .
التصوف والزنا : عبادة الجنس وتأليه المرأة
استخدام الصوفية للشعر فى الدعوة للزعم بأن رب العزة يتجلى فى زنا العاشقين والعاشقات
ـ 1 ـ لم يكن منتظرا من جموع العامة أن تتفهم الاصطلاحات الصوفية الفلسفية الداعية للزنى، فكيف لأحدهم أن يفهم قول ابن عربى عن مراحل الشهود فى لحظة الجماع( إذا شاهد الرجل الحق فى المرأة كان شهودا فى منفعل ، وإذا شاهده فى نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده فى فاعل ،وإذا شاهده فى نفسه من غير استحضار صورة ماكان شهودا فى منفعل عن الحق بلا واسطة .. فشهود الحق فى النساء أعظم الشهود وأكمله)، ولم يكن منتظرا من فلاسفة الصوفية أن يطالبوا العامة بالصعود إلى برج التصوف الفلسفى ، ولكن ابن عربى لحاجته إلى التغلغل بين العامة نزل إلى مستواهم فألف طريقته الصوفية ( الطريقة الأكبرية) وكتب فلسفته عن تأليه المرأة وعبادة الجنس شعرا سهلا يمكن تداوله والتغنى به ، خصوصا وقد ركز فيه على أساطير الحب المشهورة مثل قيس وليلى وجميل وبثينة وكثير وعزة ، ومع شهرة هذا القصص بالعفة والعذرية إلا أن شهرته بين طبقات المجتمع واتصاله بالعواطف الإنسانية حفز الصوفية لاستغلاله ليكون موصلا لفلسفتهم الاتحادية فى موضوع العشق والجنس .
والشعر يتيح الشهرة للآراء التى يحملها ، خصوصا فى البيئات العربية ، لذا أغرم الصوفية به فاستخدموه فى تقريب عقائدهم للأغيار أى غير الصوفية ، ثم أضفوا اللمسة الصوفية الاتحادية على الجماع والمرأة .
2 ــ وفى دراسة سريعة لتائية ابن عربى: يقول عن حلول الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) حتى فى الحيوانات :
وفى الحيوان ، الكل أبرز ظاهرا = من الفيل حتى انتهى للبعوضة
ويكرر أقواله عن الحلول فى خلق آدم وحواء فيقول متحدثا عن الله تعالى :
فأظهـر إنسـانا تسـمى بآدم = وأسكن فى الجنات أرفع جنـة
وأبـرز حــــواء بحكــم إرادتــــى = ليحصل تأنيسا وذهب وحشـتى
فأعطـيُتها بعـض الصـــفات فشــرفت = بأن رجعت مستودعا نشر طينتى
وأظـــهر منى العالم الأنسى كلـــــه إلى النقل من بعد الظهور بقوتى
ثم يفترى أن الله هو الذى يحل فى الرجل والمرأة حين تبدأ الملامسة بينهما .
ومالمست فى الكون كفا للامس = سواها فلا تحجبك عنها بخمسة
ثم يقول :
وما مدرك فى الكــون إلا جمــالهـا = ولا مـــدرك إلا جمــــال بثـــينة
وليـس جـمـيل من بثــينة غـيرهـا = فــــلا تنسـب يومــــا إلى الثنـوية
أى يرفض ( الثنوية ) أى الفصل بين الخالق جل وعلا والمخلوقات ، ويدعو لوحدة الوجود ، أى ان الخالق هو المخلوق . وهو يرى أن الله هو الجمال الحقيقى فى الأشياء وفى الكون وفى النساء العاشقات وعشاقهن ، مثل جميل وبثينة، ويتهم بالثنوية من يفصل بين الخالق والمخلوق ولا يؤمن بوحدة الوجود، والثنوية هى عبادة إلهين، وإلى هذا الحد تبلغ مغالطة ابن عربى ، ثم يقول داعيا العشاق للانحلال:
فيامعشر العشاق موتوا صبابة = ففى مثل هذا منيتى بمنيَتى
ثم يكرر دعوته لشهود الله أو تخيل الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) فى المرأة عند الجماع الجنسى فيقول :
ومن نظر العشاق بالنقد إنما = رأى حالهم لكن بعين سقيمة [1]
3 ــ وعلى نفس النسق كان إبراهيم الدسوقى يقول :
تجلى لى المحبوب فى كل وجهة = فشاهدته فى كل معنى وصورة
وبعد أن يتحدث عن وحدة الوجود والحلول والاتحاد ، يقول عن عبادة المرأة والجنس وتجلى الاله فى النساء المعشوقات :
بذاتى تقوم الذوات فى كـــل ذروة = أجدد فيـها حلـة بعـد حلـة
فـليلى وهنـد والربــاب وزيـنب = وعلوى وسلمى بعدها وبثينة
عبـارات أسمـاء بغـير حقيقـــــة = ومالوحوا بالقصد إلا لصورتى[2]
4 ــ وكان ابن الفارض أشهرهم خصوصا فى تائيته المعروفة بنظم السلوك ، والتى إهتم الصوفية بترتيلها وشرحها، يقول:
وصرح بإطـلاق الجمـال ولاتقل = بتـقييده ميـلا لزخرف وزينــة
فـكل مليـح حسنه من جمالهـا = معار له ، بل حسن كل مليــحة
بها قيس لبنى هام، بل كل عاشق = كمجنون ليـلى أو كثـير عــزة
ومـاذاك إلا أن بدت بمظاهــر = فظنوا سواها ، وهـى فيها تجـلت
ففى النشأة الأولى تـراءت لآدم = بمظهر حوَا قبل حكم الأمومـــة
فهـام بها كيما يكـون بها أبـا = ويظهــر بالزوجين حكــم البنوة
وكان ابتداء حب المظاهربعضها = لبعض ولاضد يصــد ببغضـــه
ومابرحت تبـدو وتخفـى لعلـة = على حسـب الأوقـات فى كل حقبة
وتظـهر للعشاق فـى كل مظهر = من اللبس فى أشكال حسـن بديعـة
ففى مرة لبنى وأخرى بثينــة = وآونة أدعى بعـزة عــــــزة
ولسنا سواها ولكن غيرهــا = وما إن لها فى حسنـها من شريكة
كذلك بحكم الاتحاد بحســنها = كما لى بدت فى غيـرها وتـزيت
بدوت لها فى كل صب متيـــم = بــأى بديــع حســنه وبأيـة
وماالقـوم غيرى فى هواها وإنما = ظـهرت لهم للبـس فى كل هيـئة
ففى مرة قيسا وأخرى كثيــــرا = وآونـة أبـدو جميـــل بثينــة
تجليـت فيهم ظـاهرا أو احـتجبت = باطنا بهم فأعجب لكشـف بصـيرة
فكل فتـى حـب أنا هو، وهى حب = كل فتى، والكل أسمـاء لبســـة
أســــام بها كنت المسمى حقيقة = وكنت لى البادى بنفس تخفــــت
ومازلــــت إياها وإياى لم تزل = ولا فرق بل ذاتـى لذاتـى أحبـت[3]
أى أنه يجعل الله ( تعالى) يحل فى ذات العاشق والمعشوق معا فهو ( أى الله تعالى يحل فى كل عاشقين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
5 ــ وهلك ابن الفارض فى مصر قبل العصر المملوكى ، ولكن العصر احتفظ له بتقديس هائل تمثل فى إقامة أضرحة على ذكراه ، وطريقة صوفية حملت إسمه، واضطهاد للمنكرين عليه كما حدث مع البقاعى فى أواخر القرن التاسع ، ولايزال لابن الفارض قدسيته فى قلوب معظم المصريين ولقبه حتى الآن هو (سلطان العاشقين) الذى استحقه بسبب تائيته تلك ، وأشعاره الأخرى التى دارت حول مايعرف بالعشق الإلهى .
عقيدة العشق الالهى عند الصوفية
1 ــ تركيز الصوفية على ( العشق الالهى ) يؤكد رؤيتهم الجنسية لرب العزة تعالى عن ذلك علوا كبيرا . فالحب قد يكون عفيفا طاهرا ، ولكن مصطلح ( العشق ) هو للعلاقة الجنسية المحرمة .
وفلسفة العشق الإلهى تحدث عنها الغزالى فى الاحياء ، ثم عبدالكريم الجيلى فى كتابه(الإنسان الكامل)[4] . والجيلى أحد فلاسفة التصوف القلائل فى القرن الثامن. ولسنا فى معرض التفصيل لفلسفة العشق الإلهى عند الصوفية ولكننا نلمح إليه من خلال عبادة الجنس وتأليه المرأةعند الصوفية باعتباره مدخلا للزنا عندهم.
2 ـ ويلفت النظر أن الشعر كان أهم مظهر حمل فلسفة العشق الإلهى ، ليس للغرام بالشعر وإمكانية حفظه وانشاده أو التراقص به فحسب ، ولكن أيضا لما يتيحه الشعر من ضرورات للشاعر ، ويستطيع الصوفى أن يتخفى وراء هذه الضرورات ويقول مايقول باعتباره شاعرا طفح به الوجد الإلهى ، ولن يجد إنكارا بل سيجد متعاطفين ومؤيدين ، كما أن الشعر يستطيع أن يتغلغل فى الوجدان الشعبى أيسر وأسهل . والتصوف قائم على الوجدان ومناقض للعقل ، ومن أجل ذلك انتشرت أشعار ابن الفارض وعاش حياته مصونا من الإنكار عليه ، واستمر شعره ومكانته بعد موته ، بينما حورب ابن عربى فى حياته وبعد موته وهدم قبره أكثر من مرة لأن أغلب انتاجه مصنفات لايقرؤها إلا الخاصة ، وأغلبهم فقهاء خصوم للصوفية .
3 ـ وفكرة " العشق الإلهى " تحقق غرضا هاما للصوفية هو إزالة الفوارق بين الخالق والمخلوق وتحقيق المساواة بينهما لتحقيق الوحدة فى الوجود، ولذلك اختاروا عن عمد لفظ العشق ، والعشق لايكون إلا لما(ينكح) أى لما يوصف باللقاء الجنسى ، وذلك ماذكره ابن الجوزى فى الرد عليهم : ( فإن العشق عند أهل اللغة لايكون إلا لما ينكح) ويضيف ( إن صفات الله عز وجل منقولة فهو يحب ولا يقال يعشق)[5]. أى أن صفات الله ينبغى أن ننقلها من القرآن ، وفى القرآن إن الله يحب وليس فيه إضافة وصف العشق لله تعالى ، لأن العشق الجنسى من صفات البشر ، وتعالى الله أن يوصف بصفة بشرية ، وهو الذى لم يلد ولم يولد والذى ما إتخذ صاحبة ولا ولدا . جل وعلا وتعالى عما يقولون علوا كبيرا..
4 ــ والذى لم يفهمه ابن الجوزى أن التصوف دين جديد له مصطلحاته الخاصة المختلفة عن مصطلحات ومفاهيم القرآن الكريم ودين الاسلام ، كما إن للتصوف عقائده الخاصة ووحيه المزعوم وطقوسه ، وإذا كان القرآن يؤكد على تنزيه الله بتكرار( سبحانه وتعالى ) فى مناسبات التعليق على أقاويل المشركين فإن الصوفية يؤكدون على محو الفوارق بين الخالق والمخلوق ، ومن وسائلهم ( العشق الإلهى) .
5 ــ وفى ذلك يقول السرى السقطى ثانى رائد للتصوف بعد معروف الكرخى ( مكتوب فى بعض الكتب التى أنزل الله تعالى : إذا كان الغالب على عبدى ذكرى عشقنى وعشقته)[6]. هنا افتراء منسوب زورا لرب العزة بزعم أنه نزل فى بعض الكتب المنزلة ، فالمصدر الذى استقى منه السرى السقطى ذلك الإفتراء هو ( بعض الكتب التى أنزل الله ) أى وحى شيطانى مفترى كالعادة فى دين البشر الذى يتسمح بالوحى الإلهى كذبا . وفيه مساواة بين العبد والرب وعشق جنسى متبادل بينهما. تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا .!! والعشق يعنى الإلتقاء الجنسى ، لذا ترددت فى أشعار العشق الإلهى الصوفى عبارات حسية جسدية ، بل أن مقامات العشق الإلهى عن الغزالى فى الإحياء كلها مراحل العلاقة البشرية بين الرجل والمرأة ، وقد جعلها عناوين فى كتابه .
6 ــ وبداية العشق فى تاريخ التصوف مرتبط بتاريخ عقائده ، فحين بدأ التصوف على إستحياء خوف الإنكار كانت رابعة العدوية التى تحمل لقب ( شهيدة العشق الإلهى) تقول كأنها تخاطب حبيبها من البشر:
أحبك حبين حب الهوى = وحبا لأنك أهل لذاك .
ثم بدأ القول بالحلول والاتحاد أى الوحدة الجزئية فكانوا يقولون ( أن الله اصطفى أجساما حل فيها ، بمعنى الربوبية وأزال عنها معانى البشرية ، ومنهم من قال بالنظر إلى الشواهد المستحسنات) ( ومنهم من قال حال فى المستحسنات، وقال أنا أعشق الله عزوجل وهو يعشقنى ، وقال القاضى أبويعلى: ذهبت الحلولية إلى أن الله يعشق )[7].
7 ــ وهذه الأقوال الصوفية التى ذكرها ابن الجوزى عن رواد التصوف لم تلبث أن تطورت مع تطور العقيدة الصوفية فى كتاب الإحياء للغزالى ، وقد ألمح كثيرا إلى وحدة الوجود حسبما ذكرنا، وكان لابد أن يلمح إلى الصلة بين الجنس وبين الإتحاد الصوفى بالله ، وهى الناحية التى ركز عليها ابن عربى فيما بعد ونظمها ابن الفارض شعرا .
الغزالى يقول ( فإن وجدت الصفة التى بها المعشوق ووجد العلم بصورة المشتاق إليه كان الأمر ظاهرا، وإن لم يوجد العلم بالمشتاق وجدت الصفة المشوقة حركت قلبك الصفة واشتعلت نارها أورث ذلك دهشة وحيرة لامحالة ، ولو نشأ آدمى وحده بحيث لم ير صورة النساء ، ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم لكان يحس من نفسه بنار الشهوة ولكن لا يدرى أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدرى صورة الوقاع ولايعرف صورة النساء. فذلك فى نفس الآدمى مناسبة فى العالم الأعلى واللذات التى وعد بها فى سدرة المنتهى والفراديس العلى ، إلا أنه لم يتخيل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذى سمع لفظ الوقاع واسم النساء ولم يشاهد صورة امرأة فقط ...)[8]. فالغزالى يقترب ويناور من النقطة التى صرح بها ابن عربى فيما بعد فى جعل النكاح المظهر الأسمى للآتحاد الصوفى بالإله.
ويحاول الغزالى الإقتراب بطريق آخر هو إضفاء الصبغة الدينية على عملية الجماع عند الصوفية فيقول( كان بعض الصالحين يكثر النكاح حتى لايكاد يخلو من اثنتين أو ثلاث ، وأنكر بعض الناس على الصوفية أنهم ينكحون كثيرا .. وكان الجنيد يقول أحتاج الجماع كما أحتاج القوت). ثم لايكتفى الغزالى بهذا وإنما يمارس هوايته فى تأليف الأحاديث فيروى حديث ينسبه للنبى يقول( شكوت إلى جبريل ضعفى فى الوقاع فدلنى على الهريسة )[9].
8 ـ ثم جاء ابن عربى فنسج على منوال الغزالى وتوسع فأحل النساء جميعا ، وسار أتباعه على منواله كما سبق بيانه .
9 ــ وإن كان الجنس يمثل هذه النقطة الفاصلة فى العقيدة الصوفية وإذا كان للمرأة ذلك المركز الهائل فلابد أن تكون هناك طقوس دينية للزنا فى عصرنا المملوكى .. وذلك ماكان ..
[1] ـ تائية ابن عربى . مخطوط مكتبة الأزهر 166. أباظة 35، 38 ، 39
[2] ـ الطبقات الكبرى للشعرانى ج2 / 158 ط صبح .
[3] ـ ديوان ابن الفارض 50، 51 مكتبة القاهرة 1979.
[4] ـ الجيلى (الإنسان الكامل) ج1 /17، 18، 23، 24، 28، 31، 41، 45، 49، 51، 54، 55، 56، 57،/ج2/ 18، 31، 42، 59، 61، 68، 74، 77، 80.
[5] ـ تلبيس إبليس 165.
[6] ـ الرسالة القشيرية 176.
[7] ـ تلبيس إبليس 165.
[8] ـ الإحياء ج2 /260 ، 26.
[9] ـ الإحياء ج2/260، 26
ج3 / ف 2 : عبادة الجنس وتأليه المرأة
كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى : مفرادات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية .
التصوف والزنا : عبادة الجنس وتأليه المرأة
استخدام الصوفية للشعر فى الدعوة للزعم بأن رب العزة يتجلى فى زنا العاشقين والعاشقات
ـ 1 ـ لم يكن منتظرا من جموع العامة أن تتفهم الاصطلاحات الصوفية الفلسفية الداعية للزنى، فكيف لأحدهم أن يفهم قول ابن عربى عن مراحل الشهود فى لحظة الجماع( إذا شاهد الرجل الحق فى المرأة كان شهودا فى منفعل ، وإذا شاهده فى نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده فى فاعل ،وإذا شاهده فى نفسه من غير استحضار صورة ماكان شهودا فى منفعل عن الحق بلا واسطة .. فشهود الحق فى النساء أعظم الشهود وأكمله)، ولم يكن منتظرا من فلاسفة الصوفية أن يطالبوا العامة بالصعود إلى برج التصوف الفلسفى ، ولكن ابن عربى لحاجته إلى التغلغل بين العامة نزل إلى مستواهم فألف طريقته الصوفية ( الطريقة الأكبرية) وكتب فلسفته عن تأليه المرأة وعبادة الجنس شعرا سهلا يمكن تداوله والتغنى به ، خصوصا وقد ركز فيه على أساطير الحب المشهورة مثل قيس وليلى وجميل وبثينة وكثير وعزة ، ومع شهرة هذا القصص بالعفة والعذرية إلا أن شهرته بين طبقات المجتمع واتصاله بالعواطف الإنسانية حفز الصوفية لاستغلاله ليكون موصلا لفلسفتهم الاتحادية فى موضوع العشق والجنس .
والشعر يتيح الشهرة للآراء التى يحملها ، خصوصا فى البيئات العربية ، لذا أغرم الصوفية به فاستخدموه فى تقريب عقائدهم للأغيار أى غير الصوفية ، ثم أضفوا اللمسة الصوفية الاتحادية على الجماع والمرأة .
2 ــ وفى دراسة سريعة لتائية ابن عربى: يقول عن حلول الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) حتى فى الحيوانات :
وفى الحيوان ، الكل أبرز ظاهرا = من الفيل حتى انتهى للبعوضة
ويكرر أقواله عن الحلول فى خلق آدم وحواء فيقول متحدثا عن الله تعالى :
فأظهـر إنسـانا تسـمى بآدم = وأسكن فى الجنات أرفع جنـة
وأبـرز حــــواء بحكــم إرادتــــى = ليحصل تأنيسا وذهب وحشـتى
فأعطـيُتها بعـض الصـــفات فشــرفت = بأن رجعت مستودعا نشر طينتى
وأظـــهر منى العالم الأنسى كلـــــه إلى النقل من بعد الظهور بقوتى
ثم يفترى أن الله هو الذى يحل فى الرجل والمرأة حين تبدأ الملامسة بينهما .
ومالمست فى الكون كفا للامس = سواها فلا تحجبك عنها بخمسة
ثم يقول :
وما مدرك فى الكــون إلا جمــالهـا = ولا مـــدرك إلا جمــــال بثـــينة
وليـس جـمـيل من بثــينة غـيرهـا = فــــلا تنسـب يومــــا إلى الثنـوية
أى يرفض ( الثنوية ) أى الفصل بين الخالق جل وعلا والمخلوقات ، ويدعو لوحدة الوجود ، أى ان الخالق هو المخلوق . وهو يرى أن الله هو الجمال الحقيقى فى الأشياء وفى الكون وفى النساء العاشقات وعشاقهن ، مثل جميل وبثينة، ويتهم بالثنوية من يفصل بين الخالق والمخلوق ولا يؤمن بوحدة الوجود، والثنوية هى عبادة إلهين، وإلى هذا الحد تبلغ مغالطة ابن عربى ، ثم يقول داعيا العشاق للانحلال:
فيامعشر العشاق موتوا صبابة = ففى مثل هذا منيتى بمنيَتى
ثم يكرر دعوته لشهود الله أو تخيل الله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) فى المرأة عند الجماع الجنسى فيقول :
ومن نظر العشاق بالنقد إنما = رأى حالهم لكن بعين سقيمة [1]
3 ــ وعلى نفس النسق كان إبراهيم الدسوقى يقول :
تجلى لى المحبوب فى كل وجهة = فشاهدته فى كل معنى وصورة
وبعد أن يتحدث عن وحدة الوجود والحلول والاتحاد ، يقول عن عبادة المرأة والجنس وتجلى الاله فى النساء المعشوقات :
بذاتى تقوم الذوات فى كـــل ذروة = أجدد فيـها حلـة بعـد حلـة
فـليلى وهنـد والربــاب وزيـنب = وعلوى وسلمى بعدها وبثينة
عبـارات أسمـاء بغـير حقيقـــــة = ومالوحوا بالقصد إلا لصورتى[2]
4 ــ وكان ابن الفارض أشهرهم خصوصا فى تائيته المعروفة بنظم السلوك ، والتى إهتم الصوفية بترتيلها وشرحها، يقول:
وصرح بإطـلاق الجمـال ولاتقل = بتـقييده ميـلا لزخرف وزينــة
فـكل مليـح حسنه من جمالهـا = معار له ، بل حسن كل مليــحة
بها قيس لبنى هام، بل كل عاشق = كمجنون ليـلى أو كثـير عــزة
ومـاذاك إلا أن بدت بمظاهــر = فظنوا سواها ، وهـى فيها تجـلت
ففى النشأة الأولى تـراءت لآدم = بمظهر حوَا قبل حكم الأمومـــة
فهـام بها كيما يكـون بها أبـا = ويظهــر بالزوجين حكــم البنوة
وكان ابتداء حب المظاهربعضها = لبعض ولاضد يصــد ببغضـــه
ومابرحت تبـدو وتخفـى لعلـة = على حسـب الأوقـات فى كل حقبة
وتظـهر للعشاق فـى كل مظهر = من اللبس فى أشكال حسـن بديعـة
ففى مرة لبنى وأخرى بثينــة = وآونة أدعى بعـزة عــــــزة
ولسنا سواها ولكن غيرهــا = وما إن لها فى حسنـها من شريكة
كذلك بحكم الاتحاد بحســنها = كما لى بدت فى غيـرها وتـزيت
بدوت لها فى كل صب متيـــم = بــأى بديــع حســنه وبأيـة
وماالقـوم غيرى فى هواها وإنما = ظـهرت لهم للبـس فى كل هيـئة
ففى مرة قيسا وأخرى كثيــــرا = وآونـة أبـدو جميـــل بثينــة
تجليـت فيهم ظـاهرا أو احـتجبت = باطنا بهم فأعجب لكشـف بصـيرة
فكل فتـى حـب أنا هو، وهى حب = كل فتى، والكل أسمـاء لبســـة
أســــام بها كنت المسمى حقيقة = وكنت لى البادى بنفس تخفــــت
ومازلــــت إياها وإياى لم تزل = ولا فرق بل ذاتـى لذاتـى أحبـت[3]
أى أنه يجعل الله ( تعالى) يحل فى ذات العاشق والمعشوق معا فهو ( أى الله تعالى يحل فى كل عاشقين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
5 ــ وهلك ابن الفارض فى مصر قبل العصر المملوكى ، ولكن العصر احتفظ له بتقديس هائل تمثل فى إقامة أضرحة على ذكراه ، وطريقة صوفية حملت إسمه، واضطهاد للمنكرين عليه كما حدث مع البقاعى فى أواخر القرن التاسع ، ولايزال لابن الفارض قدسيته فى قلوب معظم المصريين ولقبه حتى الآن هو (سلطان العاشقين) الذى استحقه بسبب تائيته تلك ، وأشعاره الأخرى التى دارت حول مايعرف بالعشق الإلهى .
عقيدة العشق الالهى عند الصوفية
1 ــ تركيز الصوفية على ( العشق الالهى ) يؤكد رؤيتهم الجنسية لرب العزة تعالى عن ذلك علوا كبيرا . فالحب قد يكون عفيفا طاهرا ، ولكن مصطلح ( العشق ) هو للعلاقة الجنسية المحرمة .
وفلسفة العشق الإلهى تحدث عنها الغزالى فى الاحياء ، ثم عبدالكريم الجيلى فى كتابه(الإنسان الكامل)[4] . والجيلى أحد فلاسفة التصوف القلائل فى القرن الثامن. ولسنا فى معرض التفصيل لفلسفة العشق الإلهى عند الصوفية ولكننا نلمح إليه من خلال عبادة الجنس وتأليه المرأةعند الصوفية باعتباره مدخلا للزنا عندهم.
2 ـ ويلفت النظر أن الشعر كان أهم مظهر حمل فلسفة العشق الإلهى ، ليس للغرام بالشعر وإمكانية حفظه وانشاده أو التراقص به فحسب ، ولكن أيضا لما يتيحه الشعر من ضرورات للشاعر ، ويستطيع الصوفى أن يتخفى وراء هذه الضرورات ويقول مايقول باعتباره شاعرا طفح به الوجد الإلهى ، ولن يجد إنكارا بل سيجد متعاطفين ومؤيدين ، كما أن الشعر يستطيع أن يتغلغل فى الوجدان الشعبى أيسر وأسهل . والتصوف قائم على الوجدان ومناقض للعقل ، ومن أجل ذلك انتشرت أشعار ابن الفارض وعاش حياته مصونا من الإنكار عليه ، واستمر شعره ومكانته بعد موته ، بينما حورب ابن عربى فى حياته وبعد موته وهدم قبره أكثر من مرة لأن أغلب انتاجه مصنفات لايقرؤها إلا الخاصة ، وأغلبهم فقهاء خصوم للصوفية .
3 ـ وفكرة " العشق الإلهى " تحقق غرضا هاما للصوفية هو إزالة الفوارق بين الخالق والمخلوق وتحقيق المساواة بينهما لتحقيق الوحدة فى الوجود، ولذلك اختاروا عن عمد لفظ العشق ، والعشق لايكون إلا لما(ينكح) أى لما يوصف باللقاء الجنسى ، وذلك ماذكره ابن الجوزى فى الرد عليهم : ( فإن العشق عند أهل اللغة لايكون إلا لما ينكح) ويضيف ( إن صفات الله عز وجل منقولة فهو يحب ولا يقال يعشق)[5]. أى أن صفات الله ينبغى أن ننقلها من القرآن ، وفى القرآن إن الله يحب وليس فيه إضافة وصف العشق لله تعالى ، لأن العشق الجنسى من صفات البشر ، وتعالى الله أن يوصف بصفة بشرية ، وهو الذى لم يلد ولم يولد والذى ما إتخذ صاحبة ولا ولدا . جل وعلا وتعالى عما يقولون علوا كبيرا..
4 ــ والذى لم يفهمه ابن الجوزى أن التصوف دين جديد له مصطلحاته الخاصة المختلفة عن مصطلحات ومفاهيم القرآن الكريم ودين الاسلام ، كما إن للتصوف عقائده الخاصة ووحيه المزعوم وطقوسه ، وإذا كان القرآن يؤكد على تنزيه الله بتكرار( سبحانه وتعالى ) فى مناسبات التعليق على أقاويل المشركين فإن الصوفية يؤكدون على محو الفوارق بين الخالق والمخلوق ، ومن وسائلهم ( العشق الإلهى) .
5 ــ وفى ذلك يقول السرى السقطى ثانى رائد للتصوف بعد معروف الكرخى ( مكتوب فى بعض الكتب التى أنزل الله تعالى : إذا كان الغالب على عبدى ذكرى عشقنى وعشقته)[6]. هنا افتراء منسوب زورا لرب العزة بزعم أنه نزل فى بعض الكتب المنزلة ، فالمصدر الذى استقى منه السرى السقطى ذلك الإفتراء هو ( بعض الكتب التى أنزل الله ) أى وحى شيطانى مفترى كالعادة فى دين البشر الذى يتسمح بالوحى الإلهى كذبا . وفيه مساواة بين العبد والرب وعشق جنسى متبادل بينهما. تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا .!! والعشق يعنى الإلتقاء الجنسى ، لذا ترددت فى أشعار العشق الإلهى الصوفى عبارات حسية جسدية ، بل أن مقامات العشق الإلهى عن الغزالى فى الإحياء كلها مراحل العلاقة البشرية بين الرجل والمرأة ، وقد جعلها عناوين فى كتابه .
6 ــ وبداية العشق فى تاريخ التصوف مرتبط بتاريخ عقائده ، فحين بدأ التصوف على إستحياء خوف الإنكار كانت رابعة العدوية التى تحمل لقب ( شهيدة العشق الإلهى) تقول كأنها تخاطب حبيبها من البشر:
أحبك حبين حب الهوى = وحبا لأنك أهل لذاك .
ثم بدأ القول بالحلول والاتحاد أى الوحدة الجزئية فكانوا يقولون ( أن الله اصطفى أجساما حل فيها ، بمعنى الربوبية وأزال عنها معانى البشرية ، ومنهم من قال بالنظر إلى الشواهد المستحسنات) ( ومنهم من قال حال فى المستحسنات، وقال أنا أعشق الله عزوجل وهو يعشقنى ، وقال القاضى أبويعلى: ذهبت الحلولية إلى أن الله يعشق )[7].
7 ــ وهذه الأقوال الصوفية التى ذكرها ابن الجوزى عن رواد التصوف لم تلبث أن تطورت مع تطور العقيدة الصوفية فى كتاب الإحياء للغزالى ، وقد ألمح كثيرا إلى وحدة الوجود حسبما ذكرنا، وكان لابد أن يلمح إلى الصلة بين الجنس وبين الإتحاد الصوفى بالله ، وهى الناحية التى ركز عليها ابن عربى فيما بعد ونظمها ابن الفارض شعرا .
الغزالى يقول ( فإن وجدت الصفة التى بها المعشوق ووجد العلم بصورة المشتاق إليه كان الأمر ظاهرا، وإن لم يوجد العلم بالمشتاق وجدت الصفة المشوقة حركت قلبك الصفة واشتعلت نارها أورث ذلك دهشة وحيرة لامحالة ، ولو نشأ آدمى وحده بحيث لم ير صورة النساء ، ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم لكان يحس من نفسه بنار الشهوة ولكن لا يدرى أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدرى صورة الوقاع ولايعرف صورة النساء. فذلك فى نفس الآدمى مناسبة فى العالم الأعلى واللذات التى وعد بها فى سدرة المنتهى والفراديس العلى ، إلا أنه لم يتخيل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذى سمع لفظ الوقاع واسم النساء ولم يشاهد صورة امرأة فقط ...)[8]. فالغزالى يقترب ويناور من النقطة التى صرح بها ابن عربى فيما بعد فى جعل النكاح المظهر الأسمى للآتحاد الصوفى بالإله.
ويحاول الغزالى الإقتراب بطريق آخر هو إضفاء الصبغة الدينية على عملية الجماع عند الصوفية فيقول( كان بعض الصالحين يكثر النكاح حتى لايكاد يخلو من اثنتين أو ثلاث ، وأنكر بعض الناس على الصوفية أنهم ينكحون كثيرا .. وكان الجنيد يقول أحتاج الجماع كما أحتاج القوت). ثم لايكتفى الغزالى بهذا وإنما يمارس هوايته فى تأليف الأحاديث فيروى حديث ينسبه للنبى يقول( شكوت إلى جبريل ضعفى فى الوقاع فدلنى على الهريسة )[9].
8 ـ ثم جاء ابن عربى فنسج على منوال الغزالى وتوسع فأحل النساء جميعا ، وسار أتباعه على منواله كما سبق بيانه .
9 ــ وإن كان الجنس يمثل هذه النقطة الفاصلة فى العقيدة الصوفية وإذا كان للمرأة ذلك المركز الهائل فلابد أن تكون هناك طقوس دينية للزنا فى عصرنا المملوكى .. وذلك ماكان ..
[1] ـ تائية ابن عربى . مخطوط مكتبة الأزهر 166. أباظة 35، 38 ، 39
[2] ـ الطبقات الكبرى للشعرانى ج2 / 158 ط صبح .
[3] ـ ديوان ابن الفارض 50، 51 مكتبة القاهرة 1979.
[4] ـ الجيلى (الإنسان الكامل) ج1 /17، 18، 23، 24، 28، 31، 41، 45، 49، 51، 54، 55، 56، 57،/ج2/ 18، 31، 42، 59، 61، 68، 74، 77، 80.
[5] ـ تلبيس إبليس 165.
[6] ـ الرسالة القشيرية 176.
[7] ـ تلبيس إبليس 165.
[8] ـ الإحياء ج2 /260 ، 26.
[9] ـ الإحياء ج2/260، 26