مقامات أحمد الحسين - الأحنف العكبري شاعر المكدين والمتسولين

يعدُّ الأحنف العكبري واحداً من شعراء الكدية المشهورين، قال عنه الثعالبي: شاعر المكدين وظريفهم ومليح الجملة والتفصيل فيهم([1])، ونعته الصاحب بن عباد عندما أنشده بعض أشعاره: بأنه فرد بني ساسان في مدينة السلام([2]).
اسمه عقيل بن محمد بن عبد الواحد أبو الحسن التميمي النهشلي([3])، فهو من حيث الأرومة ينتسب إلى نَهْشَل، وهي إحدى بطون تميم، ويبدو أن سكناه المدينة وامتهانه الكدية والمسألة، وانتقاله بين البلدان والأمصار، أضعف علاقته بقومه وصلته بقبيلته، فلم نتبين من تلك العلاقة سوى صدى لفخر باهت، هو أقرب ما يكون للتعويض عن وضع اجتماعي يعيشه، وحاضر بائس يعاني منه ويكابد([4]):
وبيتٍ من المجد الرفيع سمكتهُ
ثَفَتْ لي أَثَافيهِ تميمٌ وخِنْدفُ

وما يدعم هذا الاستنتاج أن الأحنف في مواطن عديدة كان يهجو قومه ويذم قبيلته ويتمنى لو كان ينتسب إلى سواها من الأقوام ما دامت هذه القبيلة لم تمد له يد العون والمساعدة ودفع غائلة الفاقة والحرمان عنه([5]).
يا ليتني كنتُ من أنباطِ دَسْكرةٍ
بدير قُنَّى، ولي صفرُ الدنانيرِ
ولم أكْن نَهْشلياً من بني مُضرٍ
وكنتُ أنسبُ في أبناءِ سابورِ

ولقب عقيل بن محمد الأحنف ونسبته إلى عكبرا، وهي مدينة صغيرة من مدن العراق تقع على شرق دجلة في طريق الموصل قرب أرانا وصريفين بينها وبين بغداد عشرة فراسخ([6]) والأرجح أن ولادة الأحنف كانت بها، وأكثر إقامته كانت هناك، وبها توفي سنة 385 هجرية.
أما لقبه الأحنف فيرجع إلى عاهة أصيب بها وعيب خَلْقي في قدميه، والحَنَفُ كما تذكر معاجم اللغة: الاعوجاج في الرِّجل، وهو أن تقبل إحدى إبهامي رجليه على الأخرى. قال الأصمعي: الحنف أن تقبل إبهام الرجل اليمنى على أختها من اليسرى، وأن تقبل الأخرى إليها إقبالاً شديداً([7]).
وكثيراً ما كان الأحنف يذكر عاهته، ويرى فيها سبب فقره، ومبعث احتقار شأنه، ويسوغ بها امتهانه الكدية والاستجداء بين الناس([8]):
وأحمقَ أحول أضحى يُعيرني
بالعيبِ في قدمي والفقرِ والعَدمِ
مستقبحاً حَنَفي جهلاً فقلتُ لـهُ:
العيبُ في الرأسِ أدهى منهُ في القدم

وبالرغم من هذا التخريج للعاهة ومحاولة التقليل من تأثيرها النفسي عليه فإنه كان في أعماقه يشعر بنقص كبير ومرارة شديدة، عبّر عنها في أكثر من مناسبة فقال([9]):
إني أمرؤٌ قد أخَّرَ بي حنفي
قصَّرَ بي عن منازلِ الشرفِ

وكان يعزو تقصيره في طلب الرزق وعدم انتقاله وراء ذلك في مشارق الأرض ومغاربها إلى عاهته، ولولا ذلك ما استقر به مقام في بغداد، ولا رضي بالعيش محروماً فيها([10]).
وما سكنْتُ إلى بغدادَ مفتتحاً
بابَ المعيشةِ عن جهلٍ ولا مُوْقِ
بل عاقني حَنَفُ الرجلينِ عن طلبي
وجه المعاشِ بتغريبٍ وتشريقِ
بغدادُ دارٌ لأهلِ المال طيبةٌ
وللمفاليسِ دارُ الذلِ والضيقِ


مقاربة عامة:

والواقع أن الإحاطة بجوانب السيرة الذاتية للأحنف العكبري مما يتعذر على الباحث أن يلم بها، فالمصادر التي انتخبت بعض قصائده ومقطعاتها القصيرة أهملت حياته الشخصية، وفي هذا المجال يبقى شعره خير وثيقة تسعفنا في تتبع خيوط حياته الشخصية العامة، دون أن تسعفنا بمعلومات دقيقة أو تفصيلية عن ولادته وأسرته ونشأته، ومراحل تعليمه وعلاقاته الاجتماعية.
وما نجده من إشارات في شعره هو من قبيل الاعترافات الذاتية، بما تحمل من العمومية، ولكنها بالرغم من ذلك تبقى هامة، لأنها تضيء جوانب محطات أساسية من جوانب حياته وسيرته العامة.
يصف الأحنف ذاته بأنه شاعر وأديب وعالم عرف علوم الفلسفة والفلك والحكمة، لكن سوء طالعه رمى به إلى زمن انصرف أهله عن العلم والأدب وناصبوا الأدباء والعلماء بالمناكدة والعداء([11]):
أشكو إلى اللهِ ما ألقاهُ من نفرٍ
يرونَ علميْ إذا ذاكرتهم خَرَفا
إن قلتُ قولاً حكيماً قال قائلُهم:
لقمانُ صيّرهُ من بعدهِ خَلفا
متى تمثّلتُ عن فهمٍ وفلسفةٍ
سبوا أبقراطَ من جهلٍ وما وَصَفا
أوفُهْتُُ عن أدبِ أو ذكرِ مكرمةٍ
سبّوا ابنَ قيسٍ وسبّوا الشعرَ والحنفا

ويبدو أن الأحنف انشغل في مرحلة من مراحل حياته بطلب العلم وانقطع إلى القراءة والأدب فوجد في ذلك ما يغني عن متعة الأنس والزاد والشراب فكان يقول([12]):
ومحِبْرةٍ تؤانسني بحبرٍ
أحبُّ إليَّ من أُنسِ الصديقِ
ورَزُمةِ كاغدٍ في البيتِ عندي
أحب إلي من عدِلْ الدقيقِ
ولطمةِ عالمٍ في الخدِّ مني
أحب إلي منْ شربِ الرحيقِ

ولكن مقومات هذه الصورة اهتزت حين اشتدت به الحاجة ولم يعد العلم يسعف حامله على تدبر أمور عيشه وأسباب دنياه، وصار الانقطاع إلى الأدب من سوء الطالع الذي لا يجلب سوى البؤس والفقر([13]):
حسبي مَن الحِرْفةِ أني امرؤٌ
مَعيشتي من باطنِ المِحبْره
ومنزلي مستهدمٌ مقفرٌ
منفردٌ في وَسَط المَقْبره

وكانت ذروة التحول في رؤية الأحنف عندما اكتشف أن القصيدة لا تغني عن رغيف الخبز. وأن الشعر لا يقوم مقام الدقيق في البيت وأن نداء المعدة الخاوية أقوى وأشد ضرامة من نداء العقل والخيال فقال([14]):
رأيْتُ الشعرَ لا يُغني فتيلاً
إذا ما البيتُ أعَوزهُ الدقيقُ
إذا نفد الدقيق فقدْتُ عقلي
ويبقى العقلُ ما بقيَ الدقيقُ

وإذا كان الأحنف يروي في ديوانه الكثير من تجاربه اليومية والأحداث التي تقع في حياته، فإنه قليلاً ما يتحدث عن أهله أو أسرته، ومن خلال شعره نتبيّن أنه مر بتجارب أسرية مخفقة، وأن له زوجة مشاكسة قال فيها([15]):
وإنَّ إلهي قدْ بَلاني بزوجةِ
وركَّبَ فيها ما يضرُّ ويفسدُ
نقارٌ وتعبيسٌ ووجهٌ مكلحٌ
وتبصقُ في وجهي، فوجهي مسوّدُ

وكان ما يتمناه([16]):
مُنايَ من الدنيا على الله زوجةٌ
من البيضِ حسناءُ الخلائق والخَلْقِ
ودودٌ ولودٌ برَّةٌ ذاتُ عِفْةٍ
تُعينُ وتجدي عند مُتسعِ الخَرقِ

ويذكر الأحنف أن له بنتاً تمنى موتها قبل موته، ليس كراهية لها، ولكن إشفاقاً عليها، وخوفاً أن تصير إلى زوج لئيم، يذلها ويشتم أهلها.
ويشير الأحنف إلى الأمراض والأوجاع التي أنهكت جسده، وأضعفت قواه فيذكر منها إلى جانب عاهة الحنف وضمور الساقين العمى الذي أصيب به في أخريات أيامه وعلل الشيخوخة التي أنهكت قواه الجسدية، وتركته عاجزاً عن قضاء حاجاته وتصريف شؤونه الحياتية([17]):
صروفُ الليالي صيَّرتني كما ترى
أدبُّ دَبيبَ السّخَلِ ساعةَ يولدُ
وألتمسُ الجدرانَ بالكفِ والعصا
وأحبو كما يحبو الوليدُ المبلَّد
ومَنْ عاشَ من بعدِ الثمانينَ أربعاً
تمنّى ورودَ الموتِ والموتُ يخلدُ

شعر الأحنف:

ولقد أشار البغدادي وابن الجوزي وأبو الفداء([18]) إلى شعر الأحنف وذكروا أن له ديواناً ضخماً ولكن مصادر الأدب والتراجم ومن بينها مؤلفات الثعالبي لم تحتفظ إلا بمادة قليلة من شعره لا تزيد في مجموعها عن بضع عشرات من المقطعات والنتف الشعرية.
وهكذا ساد ما يشبه الاعتقاد بضياع شعره، لكن اكتشاف نسخة مخطوطة من ديوانه بدد ذلك الاعتقاد، ووضع بين أيدي الدارسين والباحثين مادة شعرية على غاية من القدر والأهمية إذ قام الباحث السعودي سلطان بن سعد السلطان بتحقيق ديوان الأحنف([19]) وأصدر الطبعة الأولى من هذا الديوان سنة 1999، عن نسخة وحيدة محفوظة في مكتبة الملك فهد الوطنية، وكانت هذه النسخة من مجموعة مكتبة الأستاذ جميل أبو سليمان، التي جمعها أثناء إقامته في المغرب العربي، ومنها هذا الديوان المنسوخ في بغداد سنة 595ه‍، وناسخها هو محمد بن علي بن إبراهيم بن محمد الكاتب، وتحتوي أكثر من 825 نصاً تراوحت بين قصائد ومقطعات، ضاعت من بينها نصوص قافية الهمزة، وحرف الخاء. وهذه النسخة لا تمثل كل أشعار الأحنف، فهنالك مقطعات وقصائد وردت في مصادر أخرى، ولم يتضمنها ديوانه المحقق، مما يدل على أن جزءاً من شعره مازال مفقوداً أو مجهول النسبة إلى صاحبه.
أما الأغراض التي طرقها الأحنف في شعره فهي: الفخر والمدح، والهجاء والرثاء، والغزل، والوصف، والعزلة (الغربة) والشكوى، والزهد، والكدية، والحكمة، وحين ننظر في هذه الأغراض نجدها تمثل ما عرفه الشعر العربي في عصوره المختلفة، ولكن النظرة النقدية لأغراض شعره تجعلنا نقول: إن الأحنف في فخره ومدحه، وهجائه ورثائه وغزله ومجونه، وزهدياته لم يستطيع أن يحلق أو يبدع سواء من حيث الصياغة الفنية والإبداعية، أو من حيث المعاني والأفكار، وهو في هذا الجانب دون شعراء عصره الكبار، ولا يمكن أن يقارن بهم.
ولهذه الأسباب نتجاوز شعره في الأغراض السابقة بالرغم من أهميته، ونحاول أن نركز على موضوعات جديدة، كانت أكثر خصوصية في شعره صور فيها ذاته وآلامه وبؤسه وغربته وتشرده، ومهنته وقلة رزقه([20])، وبمعنى آخر ستكون وقفتنا عند تلك الجوانب من شعره التي صورت حياته، وتجواله وكديته، ونقده الاجتماعي، ومواقفه ورؤيته للناس والقيم والأخلاق في عصره، وهي موضوعات عالج بعض الشعراء الذين سبقوه قسماً منها، ولاسيما الشاعر أبو الشَمَقْمَق "مروان بن محمد" الذي كان كثير الشكوى من سوء حاله، وشدة فقره، وبؤس بيته، الذي كان فارغاً من كل شيء، فهجرته حتى الفئران ورحلت عنه الحشرات والدواب
شكوى الحال:
شكا الأحنف العاهة والبؤس وكساد الأدب، وتبدل الأخلاق، وانحراف القيم، وكثيراً ما كان يشكو سوء حاله وقلة حيلته([21]).
إني تفكرتُ في حُرفي على أدبي
وكلُّ شيءٍ لـهُ علمٌ وتسبيبُ
وجدتُ حظي من الدنيا وزينتِها
وكلُّ شيءٍ فمكتوبٌ ومحسوبُ
أقلُّ مِن حظِ قردٍ في وقاحتهِ
والقردُ ذو ذنبٍ والقردُ مقبوبُ

ويشكو جوعه وعريه، وبؤس منزله([22]):
سهرْتُ وما مثلي ينامُ ويرقدُ
وفي القلبِ مني جمرةٌ تتوقدُ
سهرْتُ ولم أطعمْ من الغمضِ لذةً
وكيفَ هجوعي والحشا ليسَ يبردُ
وذاكَ لأني ساكَنٌ في غُريفةٍ
وأُفرِدْتُ فيها والغريبُ يُفرَّدُ
عقاربُ فيها طائراتٌ ووقعٌّ
وحيّاتُ سوءٍ في السقوفِ ترددُ

ويصف ليله الطويل ومعاناته الشديدة مع زمهرير الشتاء القارس والبراغيث التي تلسع جسده، فلا تدعه يرقد أو ينام([23]):
بردُ الشتاءِ معذبٌ
يشقى به الرجلُ الفقيرُ
وحلٌ وريحٌ قاتلٌ
ونهارُهُ يومٌ قصيرُ
ليلُ الشتاءِ هو المماتُ
وفي صبيحتهِ النشورُ

كما يصف العيد فيقول([24]):
قالوا: أتى العيدُ، قلتُ: العيد عادتهُ
غمُّ الفقيرِ وتفريحُ المياسيرِ
يغدو الغنيُّ غداةَ العيدِ في طربٍ
وذو الخصاصةِ في همٍ وتقتيرِ

وقد شبه الأحنف حياته في شدتها وصعوبتها بمن يمشي إلى الوراء فلا يصل إلى غايته أو مبتغاه، ولهذا فهو يقول([25]):
كلَّ يومٍ إلى ورا
صرتُ أمشي كما ترى
ولشؤمي وحِرْفتي
شِخْتُ في أرضِ عُكْبَرا


ذم الزمان: (النقد الاجتماعي)

وقد صبّ العكبري نقداً شديداً على عصره وأهل عصره مشيراً إلى فساد القيم وغياب المكارم، وانحطاط منزلة الأدب ومكانة الأدباء فقال([26]):
زهدَ الناس في العلو
مِ وفي الشعرِ والأدبْ
وأتانا زمانُنا
بعجيبٍ من العجبْ
صار أعلاه سافلاً
فهو نكسٌ قد انقلبْ
كلُّ ما كان في الدما
غِ فقد صارَ في الذَنَبْ

وقد كان الأحنف وغيره من الأدباء ضحية هذه الانكسارات التي كالت قيم المجتمع وأخلاق الناس حيث غابت المروءة، وقلّ الصدق، وشاعت الأنانية، وسادت بين الناس مظاهر الخديعة والتلون والرياء([27]):
ذهبَ الوفاءُ ذهابَ أمسِ الذاهبِ
والناسُ بين مُخادعٍ ومُواربِ
يُبدونَ بينهم المودةَ والصَفا
وقلوبُهم محشوةٌ بعقاربِ

ويعاني الأحنف كغيره من شعراء عصره من صعوبة التواصل والتعامل مع أهل زمانه بسبب الاحتكام إلى نزعات الأهواء وغياب المنطق والمعايير الموضوعية، وهوان الهمم، وانهيار القيم([28]):
مَنْ طَالب الناسَ بالإنصافِ أحقدَهم
ومَنْ نَحاهم إلى الآدابِ عابوهُ
ومَنْ دعاهم إلى فحشٍ ومخزيةٍ
وسوءِ فعلٍ وتخليطٍ أجابوهُ

وقد أدى غياب القيم الفاضلة إلى الاستهانة بها وانتهاكها والجهر بسوء الفعل والخلق، حيث غاب الوازع الأخلاقي الذي يردع الناس عن ارتكاب القبيح من الأفعال والتصرفات([29]):
قد سقط العارُ فلا عارُ
وليس للأحرار أنصارُ
واسُتضعفُ الحقُ وقلَّ الحيا
وصارَ للجهال أنصارُ

ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تفكك المجتمع وفساده، وإلى غياب روح التكافل بين أفراده، وتحلل العلاقات الأسرية حيث خضع المجتمع لسطوة علاقات مادية أنانية، أصبح فيها الغني المترف لا يرى بؤس الفقير، وصار الأب لا يرأف بحال ابنه، والأبناء لا يمدون يد العون إلى آبائهم([30]):
نحنُ في دهرٍ على المُعد
مِ لا يُجدي أبوهُ
وعلى الوافدِ لا يفضلُ
إن عالَ بنوهُ
لو رأى الناسُ شريفاً
سائلاً ما وصلوهُ
وهم إنْ طَمِعوا في زا
دِ كلبٍ أكلوهُ

وفي هذا الواقع صار الأدب مجلبة للبؤس ومدعاة للتغرب والعزلة، وصار العاقل مضطراً تحت وطأة الحاجة إلى مجاراة أهل عصره في جهالاتهم، ومسايرتهم في حماقاتهم وإلا نبذوه، وسخروا منه وصوبوا سهام انتقاداتهم اللاذعة عليه([31]):
إذا كانَ الزمانُ زمانَ حَمَقى
فإنَّ العقلَ حِرمانٌ وشومُ
فكنْ حَمِقاً مع الحمقى فإني
أرى الدنيا بدولتهم تدومُ


العزلة والاغتراب:

والواقع أن الأحنف كان مسالماً في دعوته إلى نقد أهل عصره فظلت اعتراضاته في إطار الحوار والنصيحة ولم تخرج عن ذلك إلى مستوى العنف أو الرغبة في التشفي والانتقام، ومن هنا كان يؤثر الوحدة والعزلة في لحظات اليأس والانسحاب([32]):
أروغُ عن كلِّ ضدٍ لي يخالفني
جهدي ويتبعُني في كلِّ أوطاني
فصرتُ قسراً ألاقي مَنْ يباغضني
بما ألاقي به أهلي وإخواني

وهو يرد على انتقادات أهل عصره له وتشهيرهم بفقره وخصاصة حاله بأن العاهة ولدت لديه القناعة والرضى بالقليل([33]):
إذا ما عابني أبناءُ جنسي
بنقصِ الحظِ والكسبِ الضعيفِ
وزادوا في الترفعِ واستطالوا
بطيبِ العيشِ عن ترفٍ وريفِ
بسطتُ لديهمُ بالضعفِ عذري
وعجزي بالقناعةِ بالطفيفِ

فلا عجب أن مال الأحنف إلى حياة الانزواء وآثر الارتحال والغربة ووجد فيها سبيلاً للراحة والخلاص مما يعاني منه ويشكو من أذى القول واللسان([34]):
ألفتُ التغربَ والغربَهْ
ففي كلِّ يومٍ أخا تربَهْ

وهكذا أصبحت العزلة والغربة فلسفة يؤمن بها الأحنف ويدعو إليها بعدما يئس من إصلاح الأمور واستقامة أخلاق الناس من حوله([35]):
تخلَّ عن الورى كرماً وطرفاً
فقد فسدوا وصار الوصلُ مَقْتا
ينافقك الصديقُ وفيهِ مكرٌ
ويبدي ظاهراً مقة وسمتا
فكنْ فرداً وحيداً سامرياً
ولا تَّردِ الوصالَ وأنتَ أنتَ

وقد لخص تجربته في الحياة والناس في تأكيده أن في عزلة المرء عن الآخرين راحة للبال والضمير وكسباً للسلامة من شرورهم وعداواتهم فقال([36]):
مَنْ أرادَ الملكَ والرا
حةَ من همٍ طويلِ
فليكنْ فرداً من النا
سِ ويرضى بالقليلِ
ويداري مرض الوحـ
ـدة بالصبر الجميلِ
يلزم الصمت فإن الصمـ
ـت تهذيبُ العقولِ
أي عيش لامرئ يصـ
ـبح في حال ذليلِ
بين قصدِ من عدو
ومدارات جهولِ
واعتلال من صديقٍ
وتجن من ملولِ
ومماشاة بغيضٍ
ومقاساة ثقيلِ
واحتراسٍ من ظنونِ السو
ء أو عذل عذولِ
أفِّ من معرفة النا
س على كل سبيلِ


الكدية والاستجداء:

وراء كدية الأحنف واحترافه المسألة عوامل ذاتية وأسباب عامة يمكن استخلاصها مما سبق، وفي مقدمتها: العاهة الجسدية، وكساد صناعة الأدب وتراجع مكانة الشعر واختلال القيم([37]):
حسبي ضجرتُ من الأدبْ
ورأيتُهُ سببَ العطبْ
وهجرتُ إعرابَ الكلا
مِ وما حفظْتُ من الخطبْ
وتركتُ تفسيّرِ المعاني
وهو ديوانُ العربْ
ورهنْتُ ديوانَ النقا
ئضِ واسترحْتُ من التعبْ
لا تعجبي يا هندُ من
قولي فما فيه عَجبْ
إنَّ الزمانَ بمن تقد
مَ في النباهةِ منقلبْ
والجهلُ يضطهد الحِجَى
والرأسُ يعلوهُ الذْنبْ

ويدفع الأحنف عن نفسه لوم الآخرين له على احترافه الكدية وانخراطه في عالم المتسولين، حتى أصبح إمام الكدية في الشحذ والميزقة، وشيخ المكدين من بني ساسان([38]):
لائُمٌ لا مني أطالَ التعدي
لم يردْ بالملامِ إذْ لام رشدي
قال لي: أنتَ فيلسوفٌ حيولٌ
عالمٌ كيِّسٌ بحلٍّ وعَقْدِ
هاتِ قلْ لي: ولا تقلْ قولَ زورٍ:
لمَ تكدي؟ فقلتُ من ضعفِ جَدي

وصف العكبرى في أكثر من قصيدة وسائله في الاحتيال والمكر، ومخرقاته في عالم التسول واختراع العلل وابتكار العاهات، والادعاء بمعرفة الطالع وقراءة البخت، وكتابة العطوف فيقول بأنه([39]):
منجمٌ شاعرٌ لـه هممٌ
نِيطَتْ ببهرامهِ وكيوانِهِ

ويضيف أنه يطوف بين القرى والرساتيق، يقرأ للنساء البخت ويصف ما يلاقي حين تكذب الأيام مخرقاته وأكاذيبه فيقول ساخراً([40]):
وخضعْتُ فِي طلبِ المعا
شِ لكلِّ حانيةٍ مُسنه
أدعو النساءَ إلى النجومِ
مبشراً ببخو تهنه
يأخذنَ عني من الذي
سَخِنَتْ عليه عيونهنه
فإذا رجعت ولم يكن
ما قلت فيما نالهنه
يشتمنني بجنونهنه
سفاهة وأسبهنه

ويعترف العكبري أنه لا يحسن معرفة علم الفلك ولا يتقن صناعة التنجيم، ولكنه يمخرق بذلك طلباً للرزق، وأنه لا يؤمن بالتنجيم، وما تعاطاه إلا بسبب الحاجة والفاقة وكساد العلوم([41]):
ما تكسَّبْتُ بالتنجِيم حتى
صارَ طوعُ الأيامِ غيرَ مطيعِ

ويعترف الأحنف أن الكدية أصبحت مصدر رزقه وأن الناس يشاركونه هذه المهنة([42]):
قد كانتِ الكديةُ إقطاعي
فاستعصمَ الناسُ بأطباعي
قنعْتُ مضطراً لضعفِ القوى
عن نيلِ ما يدركه الساعي

كما يعترف بانخراطه في عالم الشحاذين ومخالطة فئاتهم، وإتقان لغتهم الاصطلاحية، والسكن في مصاطبهم وأماكن سكناهم ولهوهم، وأنه عاش حياة المكدين بكل ما فيها من جنوح وخصوصية، وافتخر بنسبته إلى عالم المتسولين وانتمائه إلى بني ساسان([43]) الذين تعددت الاجتهادات في تحديد شخصية ساسان والذي يبدو أنه شخصية غامضة نسب إليها أصحاب المهن والحرف وكل من يبتدع أنواع الحيل ويبتكر فنون العاهات ليكسب المال ويفوز به بالمخرقة والخديعة والاحتيال([44]):
على أني بحمدِ اللـ
ـهِ في بيتٍ من المجدِ
بفخري ببني ساسا
نَ أهلِ الشكرِ والحمدِ
ملوكٌ لهمُ الأرضُ
فمن غورٍ إلى نجدِ
همُ السادةُ والذاد
ةُ أهلُ الحلِ والشدِ
بهاليلٌ محاويلٌ
معاديلٌ عن المكدي
لهم أرضُ خراسانَ
وقاسانَ إلى السدِ
إلى الساحلِ فالزابـ
ـجِ والسندِ إلى الهندِ
إلى الشاماتِ والماها
تِ في قربِ وفي بُعْدِ
حذاراً لأعاديهم
من الأعرابِ والكردِ

وللأحنف أكثر من قصيدة ضمنَّها ألفاظ المكدين الاصطلاحية، من بينها: قصيدته الدالية السابقة وثلاث قصائد أخرى، واحدة منها في رثاه المشيع الكساح، ويبدو أنه من بهاليل المكدين، وأخرى في رثاء القاضي ابن دراج، وله قصيدة في الكدية يصف فيها علاقات المكدين وتجوالهم ومعاناتهم جاء فيها([45]):
إذا مرضتُ فعوادي ميازقةٌ
أولادُ ساسانَ أهلُ الضرِ والعجفِ
إني وطائفةٌ منهم على خلقٍ
من كل ممتحنٍ ينمي إلى سلفِ
هم الصعاليكُ إلا أنهم عدلوا
عن السلاح إلى الأخبار والنتفِ
مشردونَ حيارى في معايشهم
ليس الفقيرُ من الدنيا بمنتصفِ
الناسُ في الحَرِّ في خيشٍ وفي نِعمٍ
ونحنُ في الحر في القيعانِ كالهدفِ
يسقون في الخيش بالموزونِ إن عطشوا
ماءَ الثلوج وماءَ المُزْن في لطفِ
ونحنُ نشربُ ماءَ السجلِ في عطشٍ
شربَ الكلابِ بلا كوزِ لمغترفِ
فإن سكنَّا بيوتاً فهي مقفرةٌ
أو في المساجدِ أو في غامضِ الغرفِ

ولعلنا مما سبق نقول: إن الأحنف شاعر صور لنا عصره ومجتمعه في صورة دلت على اختلال القيم واختلاط المعايير، واضطراب الأوضاع العامة، وتراجع مكانة الأدب والأدباء، وجنوح طائفة منهم تحت وطأة الحاجة والمعاناة إلى امتهان الكدية والمخرقة والتظاهر بالتحامق والجنون.
وبالتالي فقد جسد في شعره مساحة واسعة للشكوى الذاتية والنقد الاجتماعي، الذي
لامس تشخيص الأسباب وتحديدها في رؤية نافذة كانت على قدر واسع من التحليل الفكري والسياسي([46]):
رأيتُ في النومِ دنيانا مزينةً
مثلَ العروسِ مشتْ بين المقاصيرِ
فقلتُ جودي فقالَت لي وقد حَسرَتْ
إذا تخلصتُ من أيدي الخنازيرِ

والواقع أن الأحنف كان شاعراً من طبقة أبي الشمقمق وأبي العيناء، وأبي فرعون الساسي العدوي، وأبي المخفف، وأبي دلف الخزرجي، وابن سكرة الهاشمي، وابن الحجاج([47])، وجحظة البرمكي وغيرهم من الشعراء، الذين مثلوا أدب القاع الاجتماعي، وصوت التذمر والشكوى، فكانوا بأدبهم الشعبي هذا قد رسموا صورة الوجه الآخر للحياة في المجتمع العباسي، كما مثلوا تيار الأدب غير الرسمي، الذي حفل بتصوير مكابدات المعدمين، واعتراضات المسحوقين والمنبوذين، التي نقلها إلينا أولئك الشعراء بعفوية مباشرة، وأحاسيس صادقة، من خلال أنماط القصائد القصيرة والنتف والمقطعات الشعرية، التي كانت تدور في أكثر الأحيان حول موضوع محدد، أو فكرة عابرة، يتناولها الشاعر المكدي من مشاهداته اليومية، وتجاربه الذاتية، ويسوغها بإيقاعات خفية وأوزان مجزوءة، ومفردات وصور مستمدة من بيئة العامة، وقاموس الحياة الاجتماعية والشعبية آنذاك.



*باحث من سورية.

المصادر والمراجع:

(1) الأدب في ظل بني بويه: محمود غناوي الزهيري ـ مطبعة الأمانة ـ مصر، 1368ه‍.
(2) أدب الكدية في العصر العباسي: أحمد الحسين، دار الحصاد ـ دمشق، 1995م.
(3) البداية والنهاية: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل ابن كثير، مطبعة السعادة ـ مصر، 1977م.
(4) تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي، مطبعة الخانجي، القاهرة، والمكتبة العربية بغداد، 1931م.
(5) دائرة المعارف الاسلامية ـ ترجمة: الشنتناوي والفندي وخورشيد، مصر، 1933م.
(6) ديوان الأحنف العكبري، تحقيق سلطان بن سعد السلطان، الرياض طبعة أولى، 1420ه‍.
(7) لسان العرب: ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد ـ مطبعة دار صادر ـ لبنان، 1414ه‍.
(8) معجم البلدان: ياقوت الحموي شهاب الدين أبو عبد الله ـ دار صادر لبنان، 1399ه‍.
(9) المنتظم: ابن الجوزي، جمال تحقيق عبد العزيز مطر، دار المعرفة ـ مصر، 1358ه‍.
(10) يتيمة الدهر: أبو منصور الثعالبي عبد الملك بن محمد تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة دار السعادة، مصر، 1956ه‍.


([1]) يتيمة الدهر: الثعالبي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السعادة: مصر 3/122.
([2]) المصدر نفسه 3/122.
([3]) تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي: مطبعة الخانجي، القاهرة 12/301.
([4]) ديوان الأحنف العكبري ـ تحقيق سلطان بن سعد السلطان، الرياض، ط1 ص353، ثفت: بنت وأقامت، وخندف: امرأة من قضاعة صارت اسماً لقبيلة.
([5]) ديوانه ص265، الأنباط: قوم تسكن سواد العراق، الدسكرة: القرية، ديرقنّى: دير قرب بغداد، وسابور: من ملوك فارس.
([6]) معجم البلدان: ياقوت الحموي 4/142.
([7]) لسان العرب: ابن منظور مادة حنف.
([8]) ديوانه ص495.
([9]) ديوانه ص395.
([10]) ديوانه ص372، والموق: الحمق والغَباء.
([11]) ديوانه ص358.
([12]) ديوانه ص396، والكاغد: الورق والقرطاس.
([13]) ديوانه ص239.
([14]) ديوانه ص376.
([15]) ديوانه ص199.
([16]) ديوانه ص388.
([17]) ديوانه ص210، والسخل: ولد الشاة الذكر أو الأنثى.
([18]) تاريخ بغداد 12/103، المنتظم لابن الجوزي، تحقيق عبد العزيز مطر، دار المعرفة 7/185، والبداية والنهاية: أبو الفداء، مطبعة السعادة 11/318.
([19]) ديوانه ص39.
([20]) الأدب في ظل بني بويه: محمود غناوي الزهيري، مطبعة الأمانة، مصر ص217.
([21]) ديوانه ص101، والحُرف: الفقر والحرمان.
([22]) ديوانه ص195.
([23]) ديوانه ص252.
([24]) ديوانه ص264.
([25]) ديوانه ص283.
([26]) ديوانه ص117.
([27]) ديوانه ص129.
([28]) ديوانه ص95.
([29]) ديوانه ص217.
([30]) ديوانه ص530.
([31]) ديوانه ص469.
([32]) ديوانه ص518.
([33]) ديوانه ص366.
([34]) ديوانه ص123.
([35]) ديوانه ص139، والسامري: من لا يقترب من الناس ولا يقتربون منه.
([36]) ديوانه ص413.
([37]) ديوانه ص110.
([38]) ديوانه ص180.
([39]) ديوانه ص507، وبهرام: المريخ، وكيوان: زحل.
([40]) ديوانه ص524.
([41]) ديوانه ص336.
([42]) ديوانه ص319.
([43]) دائرة المعارف الاسلامية: ترجمة الشنتناوي والفندي وخورشيد، 11/46، وأنظر أدب الكدية في العصر العباسي: أحمد الحسين، دار الحصاد ص25.
([44]) ديوانه ص158.
([45]) ديوانه ص357، العواد: زائرو المريض، والميازقة: الشحاذون والمتسولون.

([46]) ديوانه ص253، والمقاصير: مفردها مقصورة، وهي الدار الواسعة المحصنة.

([47]) أدب الكدية في العصر العباسي، أحمد الحسين، دار الحصاد، دمشق، ص84 ـ 88.



 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...